وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ما من خير إلا وأرشدنا إليه، وما من شر إلا وحذرنا منه، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ورزقنا وإياكم اتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المؤمنون! ما يزال حديثنا موصولاً في موضوع المرأة والأسرة، وما يتصل ببناء المجتمع الإسلامي في هذا الشأن العظيم المهم من شئونه الاجتماعية.
وحديث اليوم يتصل بأمر من الأمور التي يكثر فيها مخالفة الناس لشرع الله، والتي يكثر فيها جهل الناس في ذلك الأمر بشرع الله، ويختلط عليهم كثير من حكمه وأحكامه.
هذا الموضوع بعنوان (الطلاق حِكم وأحكام)، فيه أمور مهمة، وهو في حد ذاته وما يتصل به في شأن الأسرة من أعظم وأهم الأمور التي يحتاج المجتمع الإسلامي إلى معرفة الأحكام والاطلاع على الحكم فيه، والبعد عن مخالفات شرع الله سبحانه وتعالى؛ لما يترتب على ذلك من تهديم الأسر، وتقويض البيوت، وتشتيت الأبناء، وتقطيع الأواصر بين أسر المجتمع الواحد.
والناظر بنظرة غير عميقة ولا مستقصية لحكم التشريع وأحكام الله سبحانه وتعالى، والذي يذعن ويسمع للشبهات المثارة حول هذا الأمر، يظن لأول وهلة أن الطلاق شر كله، والنساء على وجه الخصوص ينظرن هذه النظرة أكثر من الرجال، والحق أنه ليس في شرع الله عز وجل إلا الخير المحض، وإلا الصلاح التام، وإلا الكمال المطلق، ولا يأتي النقص ولا يظهر الشر إلا من سوء أفهام الناس ومن مخالفتهم لتشريع الله سبحانه وتعالى.
فلنقف هذه الوقفات المهمة في هذا الشأن الخطير من شئون الأسرة والمجتمع.
والمسيحية في بعض مذاهبها تمنع الطلاق؛ تزعم في ذلك أنها تقدس الطلاق، وتزعم في ذلك أنها تكرم المرأة وتحفظ حقها، ومع ذلك يشهد الواقع بأن مثل هذا الأمر غير مقبول على الإطلاق والدوام، وغير منضبط أو متحقق في سائر الأحوال والزيجات، ولابد أن هناك ما يستدعي وجود الطلاق، ولذا قال بعض أولئك الذين كانوا في ظلال المسيحية ثم أكرموا بنعمة الإسلام: لقد حرّمت المسيحية الطلاق، لكن في الوقت نفسه نجد أنظمة بلادها وقوانينها الرسمية تنص على إباحته، وفي المقابل أيضاً فإن الغرب الذي في بعض مذاهبه يمنع الطلاق فيه اليوم نسبة الطلاق أعظم بكثير وبأضعاف مضاعفة من نسبة الطلاق في مجتمعات المسلمين؛ لأن الطلاق في الإسلام له أحكامه وآدابه، التي لو التزمها أبناء الإسلام لما كثرت وفشت فيهم نسبة الطلاق.
إذاً: فإن هذا الأمر هو من الدواعي التي قد تقتضيها شئون الحياة، فلما كان كذلك مما تقتضيه الحياة ومما تقتضيه الفطرة جاء شرع الإسلام به.
إنما جُعل للرجل في مقابل ما كان منه من إنفاق في المهر ومن تكلفة في النفقة وغير ذلك.
كذلك الرجل بطبيعة خلقته وفطرته أكثر تحملاً للمشكلات، وأكثر صبراً على المعضلات، وأوسع صدراً فيما يتعلق بالمنغصات، وبالتالي فإن له خصيصة أخرى إذ هو أكثر تغليباً للعقل على العاطفة، وأكثر ترجيحاً لعواقب الأمور من أوائلها، ومن ثم فإن تقديره لما يترتب عليه الطلاق من مخاطر ومضار عليه وعلى زوجه وعلى أبنائه أكثر مما قد يكون من تقدير المرأة التي تغلبها عاطفتها، والتي قد تندفع عند غضبها، إذ لو كان الأمر لها لكان منها الطلاق في كل يوم ربما عدة مرات، كلما غضبت من زوجها في أمر أو قصر في حق أو لم يشتر لها ما تطلبه.
وهذه حكمة من حكم الله سبحانه وتعالى، مصلحتها للمرأة كما هي للرجل؛ إذ لو جعل الأمر للمرأة لتسرعت بحسب عاطفتها ثم تندمت، فما عسى الندم أن ينفعها حينئذ.
أما أهل الغرب الذين لا يدينون دين الإسلام فقد لفت نظرهم هذا التشريع الحكيم، فقال أحدهم وهو يحلل هذه الحكم التشريعية: والغرض من هذا التقييد للمرأة في المبادرة إلى الطلاق هو وضع حد لممارسة الطلاق؛ لأن الرجال يعتبرون أقل استهدافاً لاتخاذ القرارات تحت اللحظة الراهنة من النساء.
فالرجل ليس سريعاً في اتخاذ القرار عند أدنى عارض أو عند أدنى غضب، وهذه ميزة في الأصل، أما من خالف هذه الحكمة فليس هو حجة على دين الله، بل دين الله عز وجل حجة عليه، ومبين لخطئه وزللـه.
الجواب: كلا، فإن لها حق الخلع من زوجها، ولكن هذا لا يكون أيسر كما في الأمر الأول، بل له ضوابط منها: أنه ينبغي للمرأة أن تبدي الأسباب التي تستدعي الخلع للقاضي الذي يقضي بذلك ويعطيها حقها، وقد وقع ذلك في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ووقع في صورة تبين فيها رعاية الإسلام لحق المرأة ومراعاة مشاعرها وعواطفها، والحفاظ على حياتها وعلى استمراريتها على ما يترجح فيه مصلحتها.
فهذا ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره يقول: (إن امرأة
وفي الرواية الأخرى: (ولكني أكره الكفر في الإسلام).
قال بعض أهل الشروح من المحدثين: إنها تكره أن تكفر العشير؛ لما في قلبها من بغضه، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أتردين عليه حديقته؟ -أي: التي دفعها لها مهراً لها عند زواجه بها- قالت: نعم، قال: فردي عليه حديقته، وفسخ النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها).
فهذا يدل على هذا الحق، ولكن ليس الأمر مرسلاً ومطلقاً على ما قد تقتضيه أهوية النساء، أو تدفعهن إليه عواطفهن، فإن هذا الأمر جد خطير، إنه فصل لميثاق غليظ ولعقد عظيم قد عظمه الله عز وجل وعظم شأنه؛ فلذلك ينبغي ألا يكون هذا الأمر مفهوماً عند النساء أو عند المرأة على صورة ساذجة، كما قد تتأثر بوسائل الإعلام والتمثيليات، إذا كلمها زوجها كلمة ما قالت له: طلقني، أو قالت له: لا أستطيع الحياة معك، كلا، فقد ورد في الحديث عن ثوبان رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (أيما امراة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة) رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
قوله: (أيما امرأة سألت زوجها طلاقها من غير ما بأس) أي: إن كان هناك بأس وأمر مشروع فلها أن تطلب الطلاق، أما إن كان من غير ما بأس وإنما لمجرد التشهي والهوى، أو لمجرد الإغراء والإغواء، أو التأثر بالأجواء الاجتماعية والأعراف غير الشرعية؛ فإن هذا من أعظم الأمور وأخطرها.
ومن الأدلة على تبغيض الشرع للطلاق ما اشتهر بين الناس عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) وهذا الحديث لا يصح مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو حديث مرسل، وله شواهد من حديث معاذ ولكنه منقطع، ومن حديث علي ولكنه ضعيف، وإن كان معنى الحديث صحيحاً، وتشهد له أحاديث أخرى.
وهذا حديث بريدة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من خبب على امرئ زوجته أو مملوكه فليس منا) رواه الإمام أحمد بسند صحيح، وأخرجه ابن حبان في صحيحه.
قوله: (من خبب) أي: من أفسد.
وتأملوا في هذا الحديث، من أفسد المرأة على زوجها كما يحصل في واقع مجتمعات المسلمين، وكما يحصل في كثير مما يذاع ويشاع في وسائل الإعلام، مثل: اطلبي منه كذا، افعلي معه كذا، انظري إلى فلانة فهي كذا، حتى يفسدوا المرأة على زوجها؛ فيحصل الشقاق، وقد يتبعه الطلاق، لكن جعل الإسلام وجعل نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام هذا الأمر من الأمور الخطيرة، التي لا تمت للإسلام ولا لهدي رسوله صلى الله عليه وسلم بصلة.
وهذا حديث أبي هريرة أيضاً عند ابن حبان في صحيحه، ورواه أبو داود والنسائي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ليس منا من خبب امرأة على زوجها).
وقد أشار نبي الإسلام إلى أن شأن الطلاق هو من أعظم ما يفرح الشيطان، ومن أعظم ما يبلغ به الكيد بين الرجل والمرأة، ففي صحيح مسلم من حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه -أي: من الشياطين- فأدناهم منزلة منه أعظمهم فتنة -أي: الذي يكون عظيم الفتنة والإفساد بين عباد الله هو الذي يكون مقرباً إليه- فيأتون إليه فيقول أحدهم: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما فعلت شيئاً -يعني: هذه فتنة يسيرة ليست عظيمة- حتى يأتيه أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه إبليس منه ويقول: نعم أنت فيلتزمه)؛ لأنه عمل أعظم نتيجة إبليسية شيطانية في مجتمع المسلمين، وهي الإفساد ما بين الرجل والمرأة.
إذاً: الإسلام قد جعل هذا الأمر غير مرغوب فيه، وجعله من أساليب الشيطان ومن أعظم الفتنة، وجعل السعي فيه ليس من سمت المسلمين في شيء.
ولما جاءت المرأة كما في الصحيح تقول للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجال فضلوا علينا بالجهاد والغزو في سبيل الله عز وجل، فقال: إن حسن تبعل إحداكن لزوجها يعدل ذلك) فهذا التشريع هو الذي ينبغي أن نلتفت إليه، وقبل أن نلتفت إلى النهاية فلننظر إلى البداية.
وثمة أحكام عامة أخرى تتعلق بالطلاق وهي مهمة؛ فإن الطلاق ليس إلا مرحلة نهائية تسبقه مراحل عديدة وأدوية وعلاجات متنوعة، تسد الطريق إليه وتبعد الوصول إليه، فالله عز وجل يقول: والَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا * وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا [النساء:34-35].
هذه مراحل أربع: موعظة، تذكير بحق الزوج على زوجته، تذكير بطاعة الله عز وجل، باتباع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وعظ وتخويف بالآخرة، فإن لم يجد ذلك نفعاً فهجر في المضجع وإظهار للغضب، فإن لم يكن ذلك فضرب غير مبرح، يشعر بوجود الخطأ، ويهدف إلى التقويم والتهذيب والتأديب، فإن زاد الأمر عن حده فحكم من أهله وحكم من أهلها.
انظر إلى المراحل الثلاث فهي بين الرجل وزوجه لا يخرج عن إطار الخلاف بينهما، حتى لا يتسع ويتشعب، وتأخذ به أم المرأة شرقاً ويأخذ به أهل الزوج غرباً ثم يشيع، فإذا أراد أطراف النزاع اللقاء كان قد اشتبك النزاع وتوسع، فلم يعد للاثنين فيه خيار، وقد فرض عليهما استمراره من غيرهما؛ لذلك فالأصل أن يكون هذا النزاع أو الخلاف في دائرة الزوجين ابتداء، ثم إن أعياهم الأمر فلهما أن يختارا حكماً من أهله وحكماً من أهلها؛ للإصلاح وتقريب وجهات النظر وتأليف القلوب، ولفت النظر إلى أهمية الأسرة ورعاية الأبناء ونحو ذلك.
الطلاق كما قلنا وقدمنا: أمره جد خطير، وعندما ننظر إلى الحكم الشرعي في هذا الطلاق فإننا نقف وقفات وجيزة مع الدلائل الفقهية.
والمقصود بهذا الحديث أن الطلاق السني الشرعي الصحيح الذي شرعه الإسلام أن يطلق الرجل امرأته في حالة طهر لم يجامعها فيه، ولو أن الناس طبقوا هذا الحكم، بحيث إذا غضب الرجل وأراد أن يطلق امرأته وكانت حائضاً انتظر حتى تطهر؛ لذهب في أثناء هذا الانتظار ما كان من ثورة الغضب، ولذهب كذلك ما كان من عدم تقدير لمخاطر الطلاق، وغالباً ما يصرف النظر عنه، كذلك لو أراد أن يطلقها وكانت في طهر قد جامعها فيه فإنه يحتاج -ليلتزم السنة النبوية- أن ينتظر فراغها من الطهر ثم الحيض ثم طهر آخر حتى يمضي الطلاق، لكن جهل الناس بهذا الحكم، فجعلوا الأمر على غاربه، ولما سئل ابن عمر : (فهل حسبت تلك طلقة؟ قال: فمه؟) أي: أنه يقع الطلاق، ولكن فيه مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول عز وجل: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228] العدة ثلاثة قروء، وفسرها أهل العلم: إما ثلاث حيضات أو ثلاثة أطهار.
وهذه العدة قد بين الله عز وجل فيها الحكمة فقال جل وعلا: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
والحكم في العدة أن العقد باق كما هو، وأن الزوجية مستمرة كما هي، وأن المرأة ينبغي أن تقضي عدة طلاقها في بيت زوجها، فلو تصورنا بقاءها مدة ثلاثة أشهر في بيت زوجها وهي مطلقة، فإنها فرصة له ولها أن يراجعها، والمراجعة كما هو الراجح عند الفقهاء تقع ولو بدون إشهاد، والإشهاد فيها سنة، والمراجعة تقع بالمعاشرة دون التصريح بلفظ الرجوع، فهذا تضييق لإمضاء الطلاق حتى يمكن التراجع عنه، فهذه أولى، وقد تكون طلقة ثانية، فإذا جاءت الثالثة فإنها لا تحل له.
وإذا انتهت عدتها في الأولى فله أن يراجعها لكن بعقد ومهر جديد، فليس النساء لعبة في أيدي الرجال، وهذا التشريع الحكيم لو التزمه المسلمون لما وقعت هذه الفتن، والله سبحانه وتعالى لما بين هذه الأحكام ربطها بالتقوى والخوف منه عز وجل، وذلك للفت النظر إلى مراعاة حقوق الله ومراقبة الله في هذا الشأن العظيم، فقال سبحانه وتعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق:1]، قال: (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ) واليوم إذا طلقت المرأة أخذت عفشها وأبناءها ومضت إلى بيت أهلها، فوجدت الأبواب مفتوحة، والصدور مرحبة، وهؤلاء يفسدون ما بين الرجل وزوجته، ويسيئون إلى حياة ابنتهم، ولو كان الرجل عاقلاً لقال لابنته: إن شرع الله عز وجل يقضي أن تبقى المرأة في بيت زوجها، فإن هذا أدعى إلى حصول التوافق مرة أخرى، والرجوع والتراجع في حل هذه القضية، وحتى يعود الشمل ملتئماً على أسس واضحة من جديد بإذن الله عز وجل؛ لذا قال جل وعلا: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1].
فهذا شأن الطلاق بإيجاز، انظر إلى وقوعه، وانظر إلى العدة التي جعلت له، ثم انظر إلى التحذير في التلاعب فيه وإلى التهاون فيه، أخرج الحاكم في مستدركه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة).
مثال هذا التلاعب: أن يطلق الرجل ثم يقول: لا أقصد، وكنت أمزح، نقول: هذا التلاعب في هذا العقد العظيم، وفي هذه الأسرة المهمة، وفي هذا البناء العظيم المهم؛ لا يقبل بحال من الأحوال.
ورد في سنن ابن ماجة بسند حسنه بعض المحدثين عن أبي موسى رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقول أحدهم: قد طلقتك قد راجعتك قد طلقتك) والله جل وعلا قال في آية الطلاق: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [الطلاق:1].
إذاً: الأمر ليس لعباً ولا هوى وتسيباً كما يفعل كثير من الرجال اليوم وفقاً للأهواء أو وفقاً لبعض الأعراف، فإذا دعا ضيوفه حلف بالطلاق إلا أن يأكلوا، وإذا فعل أي أمر من توافه الأمور جعل الطلاق على لسانه، وكأنه كلمة عادية من الكلمات، ومن هنا وجد هذا الخلل الذي قد يقع في المجتمعات من مخالفات المسلمين لتشريع الإسلام.
نسأل الله عز وجل أن يحفظ أعراضنا، وأن يحفظ أزواجنا، وأن يحفظ أبناءنا، وأن يحفظ أسرنا، وأن يحفظ مجتمعنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه، أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاسغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي القاصرة بتقوى الله، فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد على مولاه، وإن من أعظم التقوى التي ينبغي أن يلتفت إليها الرجال، مراعاة الله عز وجل في معاملة أزواجهم، ورعاية حقوق النساء، وعدم التلاعب بهذا الشأن العظيم من شئون المجتمع والأسرة، والذي هو من حدود الله سبحانه وتعالى.
إن الصور التي نراها في واقع مجتمعات المسلمين كثيرة، وهذه الصور لا تمت إلى هذا التشريع الحكيم ولا إلى هذه الضوابط والحدود بشيء، فنرى -كما أسلفت- من يستهين بأمر الطلاق، فيطلق في كل لحظة وآن، وعند أي عارض وعند أي أمر أغضبه، وتجد بعض الرجال وقد فقد مروءته وشهامته ورجولته، فاستعمل الطلاق أسوأ استخدام، يهدد به زوجته في كل لحظة: إن فعلت كذا وإلا فسأفعل كذا، إن لم تفعلي كذا وإلا سأطلقك، فجعل الأمر كأنه تلاعب بحدود الله، وجعله كأنه سيف يرفعه على زوجه أم أبنائه ومربية أبنائه، كيف يمكن أن يكون هذا شأن رجل شهم كريم؟!
إن الرجل المسلم الشهم هو الذي يرعى حق زوجته، ويعرف عظمة عقد الزواج، ويعطي حدود الله عز وجل حقها؛ لا يمكن أن يكون بهذا الشأن.
وكذلك نسمع عن كثير من الناس في عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم الاجتماعية الحلف بالطلاق على كل شيء، أو إمضائه في كل أمر، فإذا زاد ملح الطعام طلق، وإذا نقصت برودة الماء طلق، فتراه يطلق في اليوم والليلة أكثر من مرة! هذا التشريع الذي جعل للرجل حكمته وعقله وصبره، أفسده أمثال هؤلاء الذين ليس فيهم من صفات الرجولة الحكمة والصبر والقوة والشهامة والنخوة.
والنساء اللاتي يخببن النساء على أزواجهن من أهلهن أو من بعض أقاربهن، أو من الأجواء الاجتماعية النسائية، فواحدة تقول لها: قولي له كذا، فإن لم يفعل فنكدي عيشه حتى يطلقك، ويسمعن ويشاهدن عبر الإذاعات والشاشات من مسلسلات وتمثيليات تخبيب وإفساد النساء على أزواجهن ما الله سبحانه وتعالى به عليم، حتى شاع بين النساء طلب الطلاق، حتى إذا عرض عارض أخذت نفسها إلى بيت أهلها، وهجرت زوجها مع أن الهجر حق للزوج، فضيعت بذلك أبناءها، وضيعت مستقبلها، وأفسدت حياتها، وبسبب هذا الشقاق والنزاع بين الأسر وجدت أسباب الرذيلة والفساد والانحلال في المجتمع، وكل هذا يقع بسبب الأعراف الاجتماعية والعادات الجاهلية والحملات الإعلامية الفاسدة.
ولو نظرنا إلى القواعد والضوابط والأحكام العامة والعلل الحكيمة في هذا التشريع لوجدنا أنه تشريع حكيم عالج الداء علاجاً ناجعاً، فلو سدت الأبواب أمام بقاء الأسرة فليكن الطلاق كما جاء في تشريع الله هو المخرج من هذا المأزق، وكما طبق ذلك صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وكما هو في الأحكام التفصيلية الفقهية، والأمر في هذا يطول، والمخالفات فيه كثيرة، وكم العناء والشقاء الذي جر على مجتمعات المسلمين؛ بسبب جهلهم بهذه الأحكام، وعدم التزامهم لهذه الحكم، وبسبب ذلك تفرقت الأسر وضاع الأبناء.
نسأل الله عز وجل أن يسلمنا من هذه الويلات، وأن يفهمنا شرع ربنا، وأن يعيننا على الاقتداء بهدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك التقى والهدى والعفاف والغنى.
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً يقربنا إليك يا ربنا.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم نلقاك وأنت راض عنا.
اللهم تول أمرنا، وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، واغفر ذنبنا، وبلغنا بما يرضيك آمالنا.
اللهم أقل عثراتنا، واستر عوراتنا، وامح سيئاتنا، واغفر زلاتنا، وضاعف حسناتنا، وارفع درجاتنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وارفع بفضلك كلمة الحق والدين، ونكس راية الكفرة والملحدين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بخير فوفقه لكل خير، ومن أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل دائرة السوء عليه، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا سميع الدعاء!
اللهم عليك بسائر أعداء الدين فإنهم لا يعجزونك.
اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، يا قوي يا عزيز يا منتقم يا جبار.
اللهم رحمتك ولطفك بعبادك المؤمنين المضطهدين والمعذبين والمشردين والمبعدين والأسرى والمسجونين والجرحى والمرضى، اللهم الطف بهم يا رب العالمين!
اللهم عجل فرجهم، وفرج كربهم، وقرب نصرهم، وادحر عدوهم.
اللهم ثبتهم على الإيمان واليقين، ولا تجعل ما قضيت عليهم فتنة لهم في الدين برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعل هذا البلد آمنا مطمئناً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم اصرف عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين الفتن والمحن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم اجعل عمل ولاتنا في رضاك، ووفقهم لهداك، وارزقهم بطانة صالحة تدلهم على الخير وتحضهم عليه، وتحذرهم من الشر وتنهاهم عنه برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر عبادك وجندك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين!
اللهم ثبت خطوتهم، وسدد رميتهم، ووحد كلمتهم، وأعل رايتهم، وقو شوكتهم يا رب العالمين، انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز يا متين.
عباد الله! صلوا وسلموا على رسول الله؛ استجابة لأمر الله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]
وترضوا على الصحابة الكرام، خصوصاً على أجلهم قدراً وأرفعهم شأناً، ذوي المقام العلي والقدر الجلي أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر