النفخ في الصور هو نقطة التحول الكبرى في هذا الكون؛ إذ به تبدأ سلسلة أهوال يوم القيامة المروعة!
والنفخ في الصور إيذان بخراب هذا الكون، وانتهاء الحياة الدنيا، وبداية الحياة الأخرى، التي أول أيامها يوم القيامة.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح للأمة، فكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
فاللهم اجزه عنا خير ما جزيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، وصل اللهم وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فحياكم الله جميعاً أيها الآباء الفضلاء! وأيها الإخوة الأحباب الكرام الأعزاء! وطبتم وطاب ممشاكم، وتبوأتم -جميعاً- من الجنة منزلاً، وأسأل الله العظيم الكريم جل وعلا الذي جمعنا في هذا البيت المبارك على طاعته، أن يجمعنا مع سيد الدعاة المصطفى في جنته، ودار كرامته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أحبتي في الله! في رحاب الدار الآخرة سلسلة علمية كريمة، تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بحقيقة الدنيا، وإيقاظهم من غفلتهم الطويلة؛ ليقدموا على الله جل وعلا قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون، وهذا هو لقاؤنا الثامن من لقاءات هذه السلسلة الكريمة.
وكنا قد أنهينا الحديث -بفضل الله جل وعلا- في اللقاءات الماضية عن علامات الساعة الكبرى التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الصحيح الذي رواه
مسلم من حديث
حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال: (
اطلع علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً ونحن نتذاكر، فقال: ما تذاكرون؟ فقالوا: نذكر الساعة يا رسول الله! فقال المصطفى: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، والدجال ، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج، وثلاثة خسوف: خسف بالمشرق، وخسف بالمغرب، وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم).
وبعد هذه العلامات تقوم الساعة مباشرة، بأمر الله جل وعلا لإسرافيل أن ينفخ في الصور؛ لتبدأ القيامة بأحداثها المسلسلة المروعة! وهذا هو حديثنا اليوم مع حضراتكم عبر هذه المراحل.
أسأل الله أن يسترنا وإياكم فوق الأرض، وتحت الأرض، ويوم العرض، إنه على كل شيء قدير.
وكما تعودنا فسوف ينتظم حديثنا مع حضراتكم -في هذه المرحلة من مراحل الساعة- في العناصر التالية:
أولاً: ما هو الصور؟ ومن صاحبه؟
ثانياً: نفخة الفزع.
ثالثاً: نفخة الصعق.
وأخيراً: نفخة البعث.
فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب! والله أسأل أن يتقبل منا جميعاً صالح الأعمال.
أولاً: ما هو الصور؟! ومن صاحبه؟
والجواب مباشرة من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح الذي رواه
أحمد و
أبو داود و
الترمذي وغيرهم عن
عبد الله بن عمرو بن العاص قال: (
جاء أعرابي إلى النبي فقال: يا رسول الله! ما الصور؟ فقال المصطفى: قرن ينفخ فيه)، والقرن هو البوق، ولا يعلم عظم هذا البوق إلا الملك.
وصاحب هذا القرن، أي: صاحب هذا الصور باتفاق أهل العلم: هو إسرافيل، ومن هو إسرافيل؟
هو ملك كريم من ملائكة الله جل وعلا، وكّله الله بالنفخ في الصور، فمنذ أن خلق الله الخلق خلق الصور فدفعه لإسرافيل، ووكله الملك بالنفخ فيه، لذا فإن إسرافيل ينظر دائماً إلى عرش الملك جل وعلا لا يطرف بعينه منذ أن خلقه الله، مستعد للأمر من الملك في أي لحظة من اللحظات.
روى
الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره
الذهبي وهو كما قال من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ما أطرف صاحب الصور منذ أن خلقه الله ووكله بذلك)، (ما أطرف) يعني: ما أغمض عينه طرفة واحدة، (
فهو ينظر إلى العرش متى يؤمر، مخافة أن يؤمر بالنفخة قبل أن يرتد إليه طرفه، كأن عينيه كوكبان دريان).
لم يغمض عينه ولم يطرف طرفة واحدة، يخشى إن أطرف فأغمض في هذه اللحظات أن يأتي الأمر من رب الأرض والسماوات، لذا فقد هيأه الله جل جلاله لأن يكون دائماً مستعداً، لذا يقول الحبيب المصطفى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -والحديث رواه
أحمد و
أبو داود و
الترمذي وصححه
الألباني بشواهده من حديث
أبي سعيد الخدري -: (
كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر متى يؤمر من الله جل وعلا؟!) أي: كيف أنعم بلذة العيش؟! كيف أنعم بلذائذ هذه الحياة وقد التقم صاحب القرن القرن؟! أي: صاحب الصور الصور، وأصغى سمعه وحنا جبهته، ينظر إلى عرش الرحمن! ينتظر متى يؤمر من الله في أيِّ لحظة من اللحظات، فثقل ذلك على أصحاب النبي وشق ذلك عليهم، فقالوا: فماذا نقول يا رسول الله؟ فقال لهم: (
قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)، وفى رواية: (
قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا).
بل وقد حدد لنا المصطفى صلى الله عليه وسلم اليوم الذي سيأمر الله فيه إسرافيل بالنفخ في الصور، ففي الحديث الذي رواه
مسلم من حديث
أبي هريرة رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (
خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها، وفيه تقوم الساعة)، وفي راوية أخرى: (
وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة عليّ).
اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا وحبيبنا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فيأمر الله إسرافيل بالنفخ في الصور في يوم جمعة، ومتى هو؟ الله أعلم، وقد ذكرنا أن القيامة لن تقوم إلا على شرار الخلق، على الكفرة المجرمين، إذ إن رب العالمين يرسل ريحاً طيبة باردة لتقبض أرواح المؤمنين على ظهر الأرض، حتى لو دخل المؤمن كهفاً أو جبلاً دخلت له هذه الريح لتقبض روحه! ولا يبقى في الأرض إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله.
اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام!
وأخيراً: نفخة البعث، وأرى عقارب الساعة بين يدي تطاردني، لذا فأنا مضطر لإرجاء الحديث عن نفخة البعث إلى اللقاء المقبل إن قدر الله لنا البقاء واللقاء، إذ إن هذه النفخة -كما سترون إن شاء الله- لا تحتاج إلى لقاء فحسب، بل تحتاج إلى لقاءات، وسأختصر الحديث عنها.
نفخة البعث: هي النفخة التي يأمر الله عز وجل فيها إسرافيل أن ينفخ في الصور، بعد أن يحييه الملك جل وعلا بعد موته، فإن أحياه أمره أن يلتقم الصور مرة أخرى، فإذا أمره الله بعد الأربعين التي لا يعلمها إلا رب العالمين نفخ إسرافيل في الصور، فقام أهل القبور بين يدي العزيز الغفور، قال المصطفى كما في صحيح
مسلم : (
كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق ابن آدم، ومنه يركب).
ما هو عجب الذنب؟
عظمة صغيرة دقيقة في آخر السلسلة الفقرية لكل إنسان على ظهر الأرض، هذه العظمة لا تزيد عن حبة العدس، عظمة صغيرة تسمى بعجب الذنب، كل الجسد في القبر يبلى إلا هذه العظمة، والله يعلم عظمة كل إنسان خلقه من آدم إلى يوم القيامة.
فيأتي الملك بهذه العظمة الدقيقة، ويخلق منها جسد صاحبها، كيف ذلك؟
الجواب في الشهر المقبل -إن شاء الله تعالى- إن قدر الله لنا البقاء واللقاء.
اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.. اللهم استرنا ولا تفضحنا، وأكرمنا ولا تهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.. اللهم لا تدع لأحد منا في هذا الجمع الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً بيننا إلا شفيته، ولا ديناً على أحد منا إلا قضيته، ولا هماً إلا فرجته، ولا عيباً إلا سترته، ولا ميتاً لنا إلا رحمته، ولا حاجة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.. اللهم اهدنا واهد بنا واجعلنا سبباً لمن اهتدى.
اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا، والصدق في أعمالنا، واليقين في أحوالنا، وباعد بيننا وبين الرياء والنفاق كما باعدت بين المشرق والمغرب يا أرحم الراحمين!
اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.. اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام وعز الموحدين.. اللهم احمل المسلمين الحفاة، واكس المسلمين العراة، وأطعم المسلمين الجياع، برحمتك وفضلك يا أرحم الراحمين!
اللهم اجعل مصر واحة للأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين.. اللهم لا تحرم بلدنا مصر من الأمن والأمان وجميع بلاد المسلمين.. اللهم ارفع عن مصر الفتن ما ظهر منها وما بطن وجميع بلاد المسلمين.. اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين.. اللهم اجعل مصر سخاء رخاء وجميع بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين!
أيها الأحبة الكرام! هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أكون جسراً تعبرون عليه إلى الجنة ويلقى به في جهنم، ثم أعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.