الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ * وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ * فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ * وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:45-52].
أمر الله عز وجل نبيه صلوات الله وسلامه عليه بأن يستمسك بوحي الله سبحانه الذي أوحاه إليه، وأخبره أنه صلوات الله وسلامه عليه على هذا الدين العظيم وعلى صراط مستقيم، وأن هذا الدين فخر وشرف له ولقومه، وتذكرة وموعظة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، قال تعالى: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ [الزخرف:44]، ويوم القيامة يسأل الله نبيه عن هذا الدين العظيم، هل بلغه؟ وهل استجاب الناس له وأطاعوا الله سبحانه؟
وقيل: بل اسأل حقيقة الرسل وقد أسري به صلوات الله وسلامه عليه إلى بيت المقدس، قال الله سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا [الإسراء:1].
ولما وصل بيت المقدس صلى بالأنبياء فأمهم النبي صلوات الله وسلامه عليه، وقيل له: اسأل هؤلاء الأنبياء والرسل هل جعلنا قبلك من إله يعبد غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ وحاشا للنبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل عن ذلك، فقد علم أن الله سبحانه وحده الذي يعبد لا شريك له، وعلم من القرآن أن كل الأنبياء كانت دعوتهم واحدة أن يعبدوا الله: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59].
فلذلك قيل له ذلك على وجه المبالغة في تأكيد توحيد الله سبحانه تبارك وتعالى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم وعند المؤمنين، والجواب في كتاب الله عز وجل أن كل الرسل دعوا إلى توحيد الله سبحانه، قال تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:23]، وقال تعالى: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [الأعراف:65]، وقال تعالى: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:73].
فنبي الله إبراهيم عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام، دعا قومه إلى توحيد الله سبحانه فقال: أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:66-67].
وجاهد في الله حق جهاده، حتى أرادوا إحراقه، قال تعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:68-69].
وقال تعالى: وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [البقرة:132]، ودين التوحيد هو: دين آدم ونوح وإبراهيم ودين ذريته بما فيهم محمد صلوات الله وسلامه عليه، فكل الأنبياء دعوا إلى توحيد الله سبحانه، وما دعا أحد منهم إلى الشرك بالله سبحانه، وحاشا لهم أن يدعوا إلى ذلك.
وقوله تعالى: مِنْ رُسُلِنَا [الزخرف:45]، بضم السين قراءة الجمهور، و مِنْ رُسْلِنَا ، بتسكينها قراءة أبي عمرو .
وقوله تعالى: أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف:45] هل أمرنا أحداً أن يشرك بالله أو يدعو إلى غير الله سبحانه تبارك وتعالى؟ والجواب: لم يحدث ذلك.
ذكر الله عز وجل عناد المشركين من قريش، فقد جاءهم القرآن ذكراً لهم، فهو تذكرة وموعظة، وشرف، وفخر لهم، ونزل بلغتهم ووعدهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسودوا الخلق بهذا الدين العظيم، وأن يجعلهم الله عز وجل الحكام المتبوعين وغيرهم يكونون أتباعاً لهم، لو أنهم اتبعوا دين رب العالمين سبحانه، فرفضوا: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31].
فنظروا للنبي صلى الله عليه وسلم نظرة ازدراء واستهزاء واحتقار بسبب نزول القرآن عليه ولم ينزل على رجل أعظم منه مالاً أو جاهاً، والعظمة التي يعنونها ليست في الشرف والنسب، فهو صلى الله عليه وسلم أفضلهم وأشرفهم صلوات الله وسلامه عليه، وأعدلهم عليه الصلاة والسلام، وأصدقهم وأعظمهم أمانة.
والله له الحكمة العظيمة، فهو يجعل نبيه صلى الله عليه وسلم واحداً من الناس، ولم يكن ملكاً، ولم يكن من آبائه من ملك عليه الصلاة والسلام، حتى لا يساء فيه الظن فيقال: يريد ملك آبائه.
فلذلك الكفار قالوا: إن القرآن نزل على رجل من الناس ولم ينزل على رجل من عظمائهم، فاحتقروا النبي صلوات الله وسلامه عليه وازدروه في الظاهر، أما الحقيقة في الباطن فالغيرة والحسد مما أتى به صلوات الله وسلامه عليه.
فربنا يطمئن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس أول من قيل له ذلك، فنبي الله موسى عليه الصلاة والسلام قيل له أشد من ذلك، لذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يتأسى به فيصبر إذا أوذي، ويقول: (رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من ذلك فصبر).
فيتسلى صلوات الله وسلامه عليه بذلك، فإن في موسى أسوة حسنة، فموسى أوذي فصبر، والنبي صلى الله عليه وسلم أوذي فيصبر كما صبر موسى، فربنا يذكر النبي صلى الله عليه وسلم بقصة موسى القصة العظيمة التي هي من إعجاز القرآن العظيم، فقد تكررت القصة في القرآن عشرات المرات، وفي كل مرة فيها تفنن وتنوع بذكر شيء غير موجود في المرة الأخرى وبسياق يلائم الآيات التي هي فيها.
فقد أرسله الله بتسع آيات بينات مبصرة من رب العالمين سبحانه تبارك وتعالى، والتسع الآيات التي جاء بها موسى أخبرنا الله عز وجل عنها في كتابه، فقال: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ [الأعراف:130]، فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، وأرسله الله بآيتي اليد والعصا والمجموع تسع آيات أرسل الله عز وجل موسى بها إلى قومه.
ونزلت عليه التوراة من عند رب العالمين سبحانه فيها هدى ونور وبينات لهؤلاء الخلق، وجاءهم بالرسالة فرفضوا أن يتبعوا دين موسى عليه الصلاة والسلام، فجاءهم بالآيات البينات التي أجبرتهم أن يعترفوا بها وقت ما تأتيهم الآية ثم بعد ذلك يرجعون عن ذلك.
والتسع الآيات هي: أخذهم بالسنين ونقص من الثمرات، فأصابهم الله بالقحط، فكانوا في شدة فلا يجدون ما يطعمون به البهائم وضيق الله عليهم في الثمرات، ثم أرسل عليهم الطوفان، ففاض نهر النيل وأغرق بيوتهم، فيجأرون إلى موسى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ [الأعراف:134]، فيدعو ربه فيكشف عنهم ذلك، ويكفرون أشد من كفرهم السابق، فتنمو الثمار وهم على كفرهم فيرسل الله عليهم الجراد فتأكل كل الثمار، فيطلبون من موسى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الأعراف:134]، فيدعو ربه سبحانه فيكشف عنهم، فيصرون على ما هم فيه، ويجمعون ثمارهم وحبوبهم في أماكنها فيرسل الله عز وجل عليها ما يأكلها، فيجأرون إلى موسى: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الأعراف:134].
وفي كل آية من الآيات يطلبون من موسى أن يدعو ربه، فربنا يقول للنبي صلى الله عليه وسلم أنه من ختم الله على قلبه لن يؤمن وإن رأى الآيات.
ولا تحزن على أبي جهل وأمثاله، وليس كل أمر يطلبه الكفار تطلبه لهم، وإذا كان الله عز وجل أراد لهم الإيمان سيؤمنون، وإذا لم يرد ذلك فلن تقدر على أن تحولهم من كفرهم إلى الإيمان.
وموسى وحده ذهب إلى فرعون الذي نصب نفسه إلهاً: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، واستخف قومه، فقال له موسى: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الزخرف:46]، أي: رسول رب الخلق ورب العالم العلوي والعالم السفلي، وكل ما خلق الله سبحانه تبارك وتعالى، فالله خالق كل شيء، وهو رب كل شيء ومليكه سبحانه.
ولما جاءهم موسى بآيات الله، سأل فرعون موسى عليه الصلاة والسلام: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:26-27]، قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24].
فموسى يجيب فرعون بالعقل، بأنه إنسان مخلوق لا يقدر على شيء، وربنا هو الذي خلقه وأوجده، فسيتهزئ فرعون بموسى أمام الناس، ويظهر لهم أنه كذاب في دعواه أن الله رب العالمين، فينتقل من المناقشة بالعقل إلى أسلوب القهر والقوة والسلطان، فقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29].
وكل الفراعنة على هذا الشيء، ومن اقتدى بهم، أو تشبه بهم، فإنهم يستخدمون أسلوب القهر، وهذه عادة في هؤلاء الفراعنة من الماضي، أما المناقشة بالعقل فلا يوجد عندهم عقل أصلاً، ولا يعرفون دين الله سبحانه، ولا يأبهون لذلك، ولا يتركون ما هم فيه من الكفر، ويضحكون على الآيات التي أبكتهم، والتي جعلتهم يسألون موسى أن يدعو الله أن يكشفها عنهم.
والإنسان الظالم أو المتكبر المتجبر عندما تأتي إليه آية ولا يعرف ردها فإنه يضحك منها ويستهزئ بها.
وحين أراهم موسى آية اليد فأدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء كالشمس، إذا بفرعون يسخر من موسى ويضحك ويقول: هذا ساحر.
ولما ألقى أمامه العصا فتحولت إلى ثعبان فزع فرعون ثم تمالك نفسه وضحك وسخر من موسى وأحضر له السحرة من أقصى الأرض ومن أدناها.
قال الله سبحانه: وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[الزخرف:48]، أي: بهذه الآيات التي سبق ذكرها، ومن العذاب إرسال الضفادع تخيفهم، والدم يبتليهم به ويخيفهم ويفزعهم، والقمل والطوفان.
فيقولون له: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الزخرف:49]، الذي علمك ذلك أن يكشف عنا ما نحن فيه.
فموسى بلغهم رسالة رب العالمين، أن من آمن هداه الله وأمنه، فقالوا لموسى: ادع الله بما عهد عندك أن يكشف عنا ما نحن فيه ونحن سنؤمن بالله تعالى ونتبعك ونكون من المهتدين.
وقوله تعالى: إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ [الزخرف:50]، إذا هم يغدرون ويرجعون، وينقضون، ولا يوفون بما عاهدوا عليه موسى عليه الصلاة والسلام.
بل تمادى فرعون فنادى قومه فقال: يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ [الزخرف:51].
كأنه يناقشهم بالعقل مثلما موسى يناقشهم ويكلمهم بالعقل، كيف يكون فرعون رباً؟ وكيف يكون كذا وكذا؟ وفرعون أيضاً يريد أن يقنع من حوله بما يقوله من كلام فارغ.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر