يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر الأحبة! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حياكم الله وبياكم، وسدد على طريق الخير خطاكم، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجمعنا في دار كرامته إخواناً على سرر متقابلين، وأسأله سبحانه أن يحفظنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا هداة مهتدين لا ضالين ولا مضلين.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا ربنا أولى بذا كرماً شبنا على الرق فاعتقنا من النار
قال جل في علاه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].
فأمتكم هي خير أمة أخرجت للناس، وقد تكفل الله ألا تهزم هذه الأمة ولا تغلب، وأنها ظاهرة على الأمم كلها ما ابتغت إلى الله سبيلاً، وما سارت على طريق نبيها وطريق أصحابه، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا على خطاهم سائرين.
عنوان هذا اللقاء هو: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ [آل عمران:139] أي: بشرط أن تحققوا الإيمان بالله رب العالمين، ولذا قال: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139].
فبالإيمان تنال العزة والنصر والتمكين، وبالإيمان يكون الثبات، وبالإيمان تنال ولاية الله جل في علاه، فلا عزة إلا بالإيمان، وحيث لا يوجد الإيمان فلا مكان للعزة.
وقد واسى الله محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه بهذه الآية الكريمة فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ [آل عمران:1439-140] أي: يوم أحد، فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ [آل عمران:140] أي: في يوم بدر، وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] لحكمة إلهية ربانية عظيمة، وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:140-142]، فلا تظن أن الجنة رخيصة، بل الجنة غالية، وطريقها صعب وشاق، فمن أرادها فليقدم الثمن.
تمييز الخبيث من الطيب، فما أكثر الذين ينتمون إلى الصف حين الانتصار! فيوم أن انتصر المسلمون في بدر التحق بالصف من ليس منهم، فهؤلاء يعرفون حين تنقلب الموازين.
ثم إن الله أعد للمؤمنين في جنات النعيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولن يصلوا إلى ذلك إلا بالامتحان والابتلاء العظيم، قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142].
ثم من حِكَم الله جلَّ في علاه فيما حدث في ذلك اليوم العظيم: أن يبين للأمة من أقصاها إلى أدناها أن النصر ليس بوجود محمد صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144-145].
ثم بين أن هذه سنة لا تتغير ولا تتبدل فقال: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [آل عمران:146-147].
وعبودية الله لا بد أن تكون في السراء وفي الضراء، أما في الرخاء والسراء فالكل يدعي ذلك، فكان لا بد من إظهار العبودية في الشدة حتى يتميز الخبيث من الطيب.
وفي ذلك اليوم العظيم -يوم بدر- ذاق المسلمون طعم الانتصار، وفرحوا بذلك، وذكرهم الله بتلك النعمة العظيمة وبذلك الفضل الكبير فقال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ [آل عمران:123] أي: قلة قليلة مستضعفة تخافون أن يتخطفكم الناس فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123].
ثم في يوم أحد ذاق المسلمون مرارة الهزيمة لحكمة أرادها الله؛ وذلك حتى يعرفوا النصر ويأخذوا بأسبابه، وحتى يعرفوا الهزيمة ويتجنبوا أسبابها.
فحشدوا في ذلك اليوم أكثر من ثلاثة آلاف مقاتل، ومعهم سبعمائة بعير تنقل عتاد المعركة، وسبعمائة درع كقوة وقائية، وجعلوا ميزانية تلك الحرب هي القافلة التي استنقذت يوم بدر، وكان قوامها أكثر من خمسين ألف دينار ذهب، أي: ما يعادل اليوم أكثر من مليون ريال، وهو مبلغ كبير في ذلك الحين، وضعوا تلك القافلة وقفاً لإعداد الجيش في ذلك اليوم، وخرجوا بثلاثة آلاف، وما خرجت العرب بجيش مثله من قبل، وألبوا القبائل، وطلبوا المتطوعين من هنا ومن هناك، وخرجت النساء معهم يحرضنهم ويبثثن فيهم روح القتال والانتقام، ويذكرنهم بقتلاهم في بدر، والذل والهوان الذي لحقهم في ذلك اليوم.
حتى النساء يتكتمن على أخبار المسلمين، وتعلم أن القضية قضية تكتم وقضية سرية؛ لأن الأمر يعنيها، فهي تشترك معهم في العقيدة والإيمان، وهي تشترك معهم في الهدف وفي المنهج وفي الطريق، ومحمد كما أنه رسول الرجال فهو أيضاً رسول النساء.
فصلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة ثم دخل إلى داره ولبس لأمته ولبس كامل ثياب الحرب وخرج، فلما رأى الرجال أنهم قد أكرهوا النبي صلى الله عليه وسلم على الخروج قالوا: يا رسول الله! كأننا قد أكرهناك، فاعمل بالرأي الذي تراه، فقال بهمته العالية: (ما كان لنبي أن يضع لأمته حتى يحكم الله بينه وبين عدوه) أي: ما كان لنبي أن يتردد عن قتال أعداء الله بعد أن وضع عدة السلاح؛ وقد عمل ذلك حتى يبين لهم أنه لا تردد في هذا الطريق.
وهذه حكمة عسكرية كبيرة؛ لأنه لو تلاحم معهم في الصفوف والكفار على مقربة منهم لاشتعلت النار على المسلمين من كل الجهات.
فوضع القائد خطة كاملة تناسب ظروف المعركة، وقال للخمسين الرجل الذين جعلهم على قمة الجبل بعد أن أمرَّ عليهم عبد الله بن جبير : (لا تنزلوا ولو رأيتمونا تتخطفنا الطير)، وكان للأوامر الصارمة دور في بداية المعركة حيث إن المسلمين انتصروا في البداية بسبب الرماة، ثم كان الرماة أنفسهم هم سبب الهزيمة في النهاية، والسبب كما ذكر الله جل في علاه: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا [آل عمران:152] وهم الذين كانوا على قمة الجبل، قال تعالى: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152] وهم الذين كانوا في أرض المعركة.
صف النبي صلى الله عليه وسلم الرجال ثم أخذ يحثهم على القتال، وقال: (إن روح القدس نفث في روعي وقال: إن نفساً لن تموت قبل أن تستوفي رزقها وأجلها، وما من أمر يحبه الله ورسوله إلا أمرتكم به، وما من أمر لا يحبه الله ورسوله إلا نهيتكم عنه، فاتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، وأخلصوا جهادكم لله رب العالمين).
ثم جُعلت كلمة السر التي يتعارف بها الرجال في أرض المعركة: (أمت أمت).
وأخذ أبو دجانة يضرب بسيف النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثخنت فيهم الجراح.
وأما الزبير فصنع العجب العجاب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يراقبه في أرض المعركة وهو يبحث عن حامل راية المشركين طلحة بن أبي طلحة ، وراية المعركة هي شعار المعركة لكل فريق، وبنو عبد الدار هم حملة لواء قريش، فتتبعه الزبير ، فلما جاءه وهو على بعيره قفز الزبير على ظهر البعير فجلس معه، ثم مسكه من تلابيبه، ورماه على وجهه من ظهر الجمل، ثم دك وجهه وقصم ظهره، ثم اجتز رقبته وأسقط راية الكفار، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وهلل وكبر، وقال: (لكل نبي حواري وحواريي من هذه الأمة
وبدأت المعركة تسير على النظام الذي وضعه النبي صلى الله عليه وسلم، وكر الكفار على المسلمين في أول الأمر، فردهم الرماة، وكر خالد وعكرمة اللذان كانا على فرسان مكة، وردهم الرماة مرة ثانية، وكروا ثالثة فردهم الرماة، فكانت الخطة تسير كما ينبغي، والصفوف منظمة، والكلمة مسموعة، والهدف واحد.
وصنع حمزة العجب العجاب، وقتل من فرسانهم، فانهارت عزائمهم، وحمل بنو عبد الدار الراية مرة ثانية فقتل سعد بن أبي وقاص حامل الراية، ثم حملها ثالث فقتلوه، حتى حمل الراية منهم ستة فقتلهم الصحابة جميعاً، وأسقطوا راية الكفار ست مرات ولم تتزعزع راية المسلمين، وبدأ المشركون يفرون من أرض المعركة، وبدأت علامات الهزيمة تظهر عليهم، وبدأت الغنائم تتناثر في أرض المعركة هنا وهناك، حتى أخلى المشركون معسكرهم، وبدءوا يفرون يمنة ويسرة، ثم أتت النقطة التي قلبت موازين المعركة، عندما خولفت الأوامر، فتباً للمعاصي ماذا تصنع! وتباً لمخالفة الأوامر ماذا تصنع!
الأول: مخالفة الأوامر وحب الدنيا، وهذا هو المرض الذي نعاني منه اليوم الذي تداعت علينا فيه الأمم: (قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم كثير)؛ فهذه الأمة عددها مليار ولكنها لا تملك لنفسها طرف، (أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، وليوشكن الله أن ينزع من صدور أعدائكم المهابة، ويقذف في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت).
فكم أضلت الدنيا من عابد، وكم قتلت من زاهد، وكم أضعفت من مستقيم، وكم تزينت وكم فعلت.
فقال الرماة: الغنيمة الغنيمة، فدخلت في القلب أثارة من دنيا، قال تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ * مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:151-152]، فقال عبد الله بن جبير : قد سمعتم الأوامر، فلا يتحرك أحد من مكانه، سواء كانت المعركة لنا أو علينا، قالوا: قد حسمت المعركة وفر القوم، فخالفوا الأوامر، ونزلوا ولم يبق إلا قلة قليلة مع عبد الله بن جبير رضي الله عنه وأرضاه، فلما رأى خالد نزول هؤلاء استغلها فرصة، فدار بفرسانه من ناحية الجبل، وكان معه أكثر من مائتي فارس، فهاجموا القلة القليلة التي كانت على ظهر الجبل، فقتلوهم عن آخرهم؛ وبسبب مخالفة الأوامر قتل أكثر من سبعين من الصحابة، وبسبب مخالفة الأوامر كادوا أن يقتلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكادت الأمة أن تخسر نبيها في تلك اللحظات.
وفوجئ المسلمون بالقوم يأتونهم من أمامهم ومن خلفهم، واشتعلت النيران على المسلمين، واختلت الصفوف، فأصبح المسلمون في حيرة من أمرهم، ولم تعد هناك خطة تتبع، وفشلت تلك الخطة التي وضعها النبي صلى الله عليه وسلم، وما فشلت لأنها لم تكن على قدر أرض المعركة، لكن كان فشلها لأن الذين كلفوا بتطبيق تلك الخطة قد خالفوا الأوامر بسبب شيء من حب الدنيا.
والذين كانوا في معسكر الكفار أيضاً انقسموا إلى قسمين، وشاع الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، فانهارت العزائم، وخارت القوى، وضعفت الروح، ففريق منهم رجع يجر أذيال الهزيمة إلى المدينة فاستقبلتهم النساء، يقلن لهم: تفرون من الموت في سبيل الله، فقال الرجال للنساء: قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت النساء: موتوا على ما مات عليه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا ترجعوا إلينا تجرون أذيال الهزيمة، لضربة بالسيف على عز خير من حياة على ذل، فرجعوا وقاوم الرجال، وفي وسط المعركة تأتيهم الرماح والنبال من كل صوب.
لقد كان مصعب بن عمير أكثر الناس شبهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقتل ابن قمئة مصعباً الشاب الطاهر العفيف الذي كان له دور كبير في دخول الإسلام إلى المدينة، مات مصعب ولم ير عز الإسلام وانتصار المسلمين، وما نقص هذا من أجره شيئاً، لكنه قد فاز، حيث تستقبله الحور العين في جنات النعيم، وعندما قتل الكفار مصعباً وكان شبيهاً بالنبي صلى الله عليه وسلم ظنوا أنهم قد قتلوا محمداً وشاع الخبر يمنة ويسرة، وما كان قد بقي من قوة في المسلمين خار وانهار عند سماع هذا الخبر، فإذا بـأنس بن النضر الذي كان مع المسلمين في معسكر الكفار يسمع الخبر، فوقف في أرض المعركة يقول: إلى أين يا قوم؟! قالوا: قد مات محمد صلوات ربي وسلامه عليه، قال: إن كان محمد قد مات فرب محمد حي لا يموت، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع هؤلاء، وأعتذر إليك مما فعل هؤلاء - يعني المسلمين - ثم انطلق ليقاتل الكفار، فلقيه سعد بن معاذ فقال: إلى أين يا أنس ؟! قال: واه لريح الجنة يا سعد ! والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد، فخرج يقاتل القوم حتى قتل، يقول أنس: والله ما نرى إلا أنه نزل فيه قوله تبارك وتعالى: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا [الأحزاب:23].
وأما أبو دجانة فقد صنع العجب العجاب، فقد احتضن النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح ظهره ترساً للنبي صلى الله عليه وسلم يقول المؤرخون: إن ظهره أصبح كظهر القنفذ من كثرة الرماح والنبال التي ألقيت على ظهره! ولا زال القوم يقدمون على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من يردهم وهو رفيقي في الجنة؟)، فقام سعد بن الربيع يوم سمع هذه الكلمات، فالجنة هي التي بايعوا النبي عليه الصلاة والسلام من أجلها، وهاهي الآن تعرض عليهم بأرخص الأثمان.
ياحبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
فرمى بالدرع الذي كان يلبسه؛ لأنه كان يثقله، وانطلق يقاتل حتى قتل.
ولم يشترك من نساء المسلمين في تلك المعركة إلا امرأة، ولكنها بألف رجل، إنها أم عمارة رضي الله عنها وأرضاها، فلما رأت النبي صلى الله عليه وسلم في أرض المعركة قد تكالب عليه الأعداء من يمنة ويسرة رمت القراب التي كانت تسقي بها جرحى المسلمين، وأخذت تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم يا أختاه! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم عنها: (ما رأيت مثل ما رأيت من
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامعُ
وجاء أبي بن خلف عدو الله يقول: أين محمد؟ لا حييت إن حييا، فلم يتردد القائد أو يجبن أو يختفي خلف الصفوف، ولكنه أخذ رمحه ووجهه نحو عدو الله فأرداه قتيلاً في أرض المعركة.
وفي يوم أحد قتل حمزة رضي الله عنه وأرضاه، ولم يقتل وجهاً لوجه، وإنما قتل غدراً وخيانة، وما كان أحد يستطيع أن يواجه حمزة في تلك المواقف، قتله وحشي غدراً بعد أن قيل له: إن قتلته فأنت عتيق حر، فقتله وعاد إلى المعسكر، ولم يقتل أحداً غيره، ولم يفعل شيئاً إلا قتل حمزة .
وجمع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبدأ ينسحب بهم إلى ظهر الجبل، ثم بدءوا يلتفون من حوله حتى ظن المشركون أنهم قد حسموا المعركة، فارتقى النبي صلى الله عليه وسلم الجبل هو ومن معه، وخرجوا من أرض القتال لا انهزاماً، ولكن حفاظاً على البقية الباقية، وضبطاً وتنظيماً للصفوف، وفرح الكفار بما قد فعلوا، وظنوا أنهم قد أصابوا من المسلمين وما أصابوا؛ لأن الله وعدهم إحدى الحسنين: الموت أو الشهادة، قال تعالى: قُلْ هَلْ تَربَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ [التوبة:52].
ثم قال: أفيكم محمد؟ فقال: نعم يا عدو الله! حتى يغيظ الكافر، وكان بإمكان أبي سفيان ومن معه أن يغيروا على المدينة فهي خالية من الرجال، ولكن ألقى الله في قلوبهم الرعب والمدينة خالية من الرجال!
أما عبد الله بن حرام أبو جابر فقال لأم جابر : يا أم جابر ! إني أرى أني أقتل، وقال: أوصيك يا جابر! بأخواتك وأمك خيراً، وقتل عبد الله بن حرام مقبلاً غير مدبر، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم جابراً يبكي، فقال: (يا
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من يأتيني بخبر
وما وصى بمال ولا وصى بعيال، بل وصى بالقضية التي كانت تشغله، فلما سمع النبي صلى الله عليه وسلم بخبر سعد استعبر ودمعت عيناه، ثم توجه إلى القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال: (اللهم الق
وأما عمرو بن الجموح فسطر قصة عجيبة في ذلك الموقف، ففي ليلة أحد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريد الخروج، فرده أبناؤه، وقالوا: أنت أعرج من أهل الأعذار، وليس على الأعرج حرج، فقال بنبرة صادقة وعزيمة صادقة: والله لأطأن بعرجتي الجنة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خلوا بينه وبين ما أراد)، وكان له ذلك، فقتل شهيداً في ذلك اليوم.
فكم هي الأوامر التي خولفت اليوم؟! وكم هو إقبال الناس على الدنيا اليوم؟! فإنا لله وإنا إليه راجعون، لكن: قال تعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، فبالإيمان سيتحقق النصر والتمكين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره).
ومن فضائل هذه الأمة أن الله يبعث لها على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها، والجهاد ماض حتى تقوم الساعة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا تزال طائفة من أمتي منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله، ويقاتل منهم قومٌ الدجالَ).
وما كواكب الشباب التي نراها كل يوم تقبل على طاعة الله، وعلى المساجد، وعلى القرآن قلباً وقالباً إلا دليل على أننا الأعلون ديناً وعقيدة ومنهاجاً وطريقة، ومهما صنعوا فلن يستطيعوا أن يطفئوا نور الله، قال الله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21].
فعلينا أن نستفيد من الدروس الماضية، وأن نزرع الإيمان زرعاً في القلوب، ونسقيه بماء الإخلاص والثقة واليقين، ومهما بلغت قوتهم فإن القوة لله جميعاً، والأمر لله من قبل ومن بعد.
اللهم انصر دينك وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك الموحدين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يقاتلون من أجل إعلاء كلمة دينك.
اللهم صن أعراضهم، واحقن دماءهم، وفك أسرانا وأسراهم.
اللهم سدد رأيهم ورميهم، واكبت عدوك وعدوهم، واشدد وطأتك عليهم فإنهم لا يعجزونك يا قوي يا عزيز!
اللهم احفظ شبابنا وشاباتنا ونساءنا وشيبنا وأطفالنا.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!
ربنا اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر