إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [130]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الكلام صفة ذاتية لله سبحانه، لا يشبهه فيها أحد من خلقه، دل على ذلك كتابه الحكيم وسنة نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام، وأجمع على ذلك الصحابة الكرام العدول الأمناء، ثم من بعدهم من القرون الفاضلة من سلف هذه الأمة. والله جل وعلا يكلم عباده الصالحين يوم القيامة كلام رحمة، ويكلم العصاة كلام عذاب وخزي، ويعرض عن أقوام فلا يكلمهم ولا ينظر إليهم، ومن هذا الصنف: من يكثر من الحلف والأيمان دون توقير لجناب الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    حديث: (خير القرون قرني...)

    القرون الثلاثة الأولى مفضلة تفضيلاً مطلقاً

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم -قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟ - ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)].

    هذا حديث من الأحاديث التي بلغت حد التواتر وقوله صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني) وهذا ليس في الأمة فقط، بل هو تفضيل مطلق.

    قوله: (ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) يقول عمران بن حصين راوي الحديث: فما أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً، أي أنه قال: ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم مرتين أو قال ثلاث مرات: ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد جاء في حديث ابن مسعود أنه ذكر بعد قرنه ثلاث مرات، وفي أكثر الروايات أنه لم يذكر ( ثم الذين يلونهم ) بعد قرنه إلا مرتين فقط، وهذا الذي يشهد له الواقع.

    وهذا صريح وظاهر في أن خير هذه الأمة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي يعتقده المسلمون الذين سلموا من الانحراف والضلال، فالذين شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقوا الإيمان منه، وقاتلوا معه وصلوا معه وامتثلوا لأوامر الله لا يمكن أن يكون من يأتي بعدهم مثلهم، هذه عقيدة المسلمين التي يعتقدونها.

    وقد أثنى الله عليهم في كتابه في آيات كثيرة وأخبر أنه راض عنهم والله جل وعلا لا يثني على من يعلم أنه سيكون مرتداً؛ لأنه علام الغيوب.

    وكذلك لا يمكن أن يكون أحد مثل الرسول في الدعوة والتأثير، والتعليم والبلاغ، فلو قلنا مثلاً: إن الصحابة ليسوا أفضل ممن أتى بعدهم، أو أنهم تركوا دينهم وارتدوا، للزم أن نقول: إن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فاشلة وليست ناجحة، وهذا معناه: أن قرنه شر القرون، فينعكس قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني).

    وقد اختلف العلماء في تحديد القرن، والمشهور أن القرن يقدر بمائة سنة، ولكن الذي رجحه كثير من العلماء أن القرن لا يلزم أن يكون مائة سنة، فقد يكون أكثر وقد يكون أقل، والذين قالوا: مائة سنة، قالوا: إن الصحابة منهم من بقي مائة سنة ثم مات، وهذا هو الذي سار عليه الناس، ولهذا يجعلون كل مائة سنة قرناً، ويقولون: نحن الآن في القرن الخامس عشر؛ لأنه مضى على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ألف وأربعمائة سنة وزيادة، هذا الذي توارثه الناس، ويكاد يكون إجماعاً منهم.

    فإذاً: يكون المقصود بالذين يلونهم الذين بعدهم في المائة الثانية، والذين يلونهم في المائة الثالثة، ثم بعد ذلك يحدث ما ذكر، وهو أن يأتي قوم يخونون ولا يؤتمنون، ويشهدون ولا يستشهدون، ويكثر فيهم السمن، ومعنى يخونون: تكثر فيهم الخيانة، وتقل أمانتهم، ويقدمون على الشهادة ولو لم تطلب منهم، وهذا هو معنى قوله: (يشهدون ولا يستشهدون) ومعنى هذا أن الديانة والأمانة والتقوى خفت عندهم بسبب قلة مخافتهم لله، وكثرت لديهم الرغبة في الدنيا وكثرت المخالفات والمعاصي وسهلت لديهم.

    فضل الصحابة في القرآن والسنة

    وقوله: (يكثر فيهم السمن) يعني: يصبحون سماناً، وهذا يدل على رغبتهم في الشهوات، وطلبهم إياها، وأنهم يطلبونها بما يستطيعون، وليس عندهم الخوف من النار الذي يمنعهم من السمن، كما منع الذين من قبلهم من الصحابة وغيرهم، الذين كان يقول أحدهم: منعني الخوف من النار النوم، ولم يكونوا يتعجلون طيباتهم في الدنيا، بل يرجون الآخرة، ويرغبون فيها أكثر من رغبتهم في الدنيا، وقوله: (خير القرون قرني) هذا نص صريح في تفضيل القرن الذي بعث فيهم النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة، ولا يلزم أن يكون كل من في هذا القرن أفضل ممن يأتي بعدهم، فقد يكون في هذا القرن من لا يستحق الفضل؛ ولكن الصحابة خصوا بالفضل، وقد صح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما حدث شجار بين بعض من تأخر إسلامه من الصحابة ومن تقدم إسلامه قال لهم: (لا تسبوا أصحابي فوالله لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) الخطاب هذا يوجه لبعض الصحابة الذين تأخر إسلامهم، فأسلموا بعد الفتح فقال لهم: (لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه) فكيف بمن يأتي بعد الصحابة؟ فلا يقاس بهم أبداً ولا يكون قريباً منهم.

    وقد حذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم من بغضهم، وقال: (الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومن أحبهم فبحبي أحبهم) والله جل وعلا يقول: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ [الفتح:29]يعني: يغيظ بأفعالهم الكفار، ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: من أغاظه فعل الصحابة فليس بمؤمن، وليس له من الغنيمة نصيب، لقوله جل وعلا: لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وكذلك أثنى جل وعلا على المهاجرين لما ذكر الفيء وذكر الغنائم قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فوصفهم بأنهم فقراء وأنهم مهاجرون: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8] ثم بعد ذلك جاء دور الأنصار فأثنى عليهم: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الحشر:9] ثم أثنى على الذين يأتون من بعدهم ويدعون لهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10] هؤلاء هم الذين يثني الله جل وعلا عليهم، ويحبون من سبقهم بالإيمان، ويدعون لهم بالمغفرة، ويدعون ألا يكون في قلوبهم غلاً وبغضاً لهم.

    وأخبر الله جل وعلا في آيات كثيرة جداً عن هذه المعاني، فلهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم) ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم مباشرة، ثم يليهم في الخيرية الذين بعدهم، ثم بعد ذلك لا يتوقف الخير، بل هو كثير ولكن يغلب الشر في هذه الأمة، بخلاف القرون المفضلة الثلاثة فإن الخير أغلب، والجهاد ظاهر وقائم، والعدو مقهور ومدحور، ومن رفع رأسه من الأشرار قمع، هذا معنى الخير في القرون السابقة.

    وأما ما بعدهم من القرون فقد صار الشر له قوة وسلطان وأنصار وأعوان، يظهرون ويتسلمون زمام الأمور، وقد يكون لهم حكم، وقد يزيد حكمهم ويغلب وقد ينقص، هذا هو المقصود، ولا يقال: إنه بعد القرون الثلاثة انعدم الخير وانتهى، بل قد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) يعني: حتى تقوم الساعة وهم على هذا والطائفة تصدق على ثلاثة، وتصدق على رجل واحد، كما أن لفظ (الأمة) يصدق على رجل واحد، كما قال الله جل وعلا: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (إن معاذ بن جبل أمة قانتاً لله) فلما قال له: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ [النحل:120] قال: كنا نشبه معاذ بن جبل بإبراهيم، والمقصود أن الأمة تطلق على الرجل الواحد.

    فإذاً: قوله: (طائفة من أمتي) يصدق على جماعة سواءً كانوا ثلاثة أو عشرة أو مائة أو ألفاً.

    يقول العلماء: هذه الطائفة قد تكثر وتقوى، ويكون لها سلطان وقوة وشوكة تحارب العدو، وقد تضعف وتكون متفرقة في بلاد شتى، بين داع إلى الله، وبين عالم يظهر بالحجج، ويبطل الباطل، وبين منفق في سبيل الله، وبين مجاهد في سبيل الله، وما أشبه ذلك، ولا يلزم أن يكونوا على طريقة واحدة، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، ولا يلزم أن يكونوا في بلد معين، بل قد يكونون في وقت من الأوقات في هذا البلد، وفي وقت آخر في بلد آخر، وهكذا.

    المقصود: أنه لابد أن تبقى هذه الطائفة في هذه الأمة على الحق، ولهذا يقول العلماء: إن الإجماع حجة قاطعة لهذا الحديث وما أشبهه؛ لأن الطائفة المنصورة على الحق تكون بهذا الإجماع.

    حقيقة الخيرية المذكورة للقرون الثلاثة

    قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وفي الصحيح) أي: صحيح مسلم ، وأخرجه أبو داود والترمذي ، ورواه البخاري بلفظ: (خيركم)

    قوله: (خير أمتي قرني) لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيه وكثر أهله، وقل الشر فيه وأهله، واعتز فيه الإسلام والإيمان، وكثر فيه العلم والعلماء.

    (ثم الذين يلونهم) فضلوا على من بعدهم: لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل؛ كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة.

    فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.

    قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟) هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه. والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء.

    فقال: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم.

    قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم، أو أكثرهم.

    قوله: (وينذرون ولا يوفون) أي: لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم.

    قوله: (ويظهر فيهم السمن) لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة، والعمل لها. وفي حديث أنس: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف.

    قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظماً ونثراً فنعوذ بالله من موجبات غضبه].

    الشاهد للباب من هذا الحديث قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون).

    قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)].

    قوله: (فيه) يعني: في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا فيه الإطلاق بأن الصحابة خير الناس، يعني: إذا كانوا خير الناس فلابد أن يخرج من ذلك الأنبياء والرسل، فهم أفضل الناس، لكن هل الناس المقصود بهم مطلقاً، أو الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟

    جاءت النصوص تدل على أن المقصود أنهم خير الناس مطلقاً، وأما الرسل فهم يخرجون من هذا بالنصوص الأخرى، وقد جاءت أحاديث في فضل القرن الأول منها: قوله: (أنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأفضلها)، ولا شك أن الخيرية لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، وبهم أجدى، إذ هم الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، وكذلك بلغوا دعوته بعده.

    والخيرية تنحصر في قبول الدين واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه وجد من يقبل دينه ومن يناصره عليه، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد لقوا العنت والمشاق، والأمور الصعبة التي تحملوها في سبيل ذلك، وصارت عندهم سهلة ميسورة في سبيل طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتفانوا في ذلك وأنفقوا أموالهم وبذلوا نفوسهم طاعة لله مغتبطين بذلك، وبذلك صاروا هم خير الناس، ثم الخيرية فيمن بعدهم تتفاوت لتفاوت القبول لهذا الدين، والتأثر به، والقيام به على حسب أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلما بعد بالناس العهد بالنبوة قل التأثر، وقل التقى واتباع الحق، إلى أن يكون شرار الناس هم من تقوم عليهم الساعة، كما جاء في صحيح مسلم : (شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة) وفي الصحيح عن أنس (ما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم يقول: سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

    ومعلوم أن الخيرية ليست في الذوات والأجساب، والتفاخر في الدنيا، والتكاثر فيها بالأموال والأولاد، وإنما الخيرية في طاعة الله وحبه ومعرفته، وهذا أمر لا يجادل فيه من يعرف الحق، ولا شك أن الصحابة أولى الناس بذلك، إذ هم الذين فهموا الوحي وقبلوه على الوجه الذي ينبغي، ثم إنهم قاموا ببذل أموالهم وأنفسهم في الذب عن دين الله، وبذل الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، مغتبطين بهذا راغبين فيه، فاستحقوا بذلك أن يكونوا خير الناس.

    والصحابي يطلق على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به.

    ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده رآه خلق كثير جداً وهم مؤمنون به، وذلك في حجة الوداع، وإن كانت مرة واحدة فهو يصدق عليهم اسم الصحابي.

    ذكر ما حصل للناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم

    ثم لما توفي صلوات الله وسلامه عليه حصل الارتداد لكثير من الناس، ولم يثبت على الدين الإسلامي إلا عدد قليل في مكة والطائف والمدينة وكذلك البحرين، أما بقية المدن فكلهم ارتدوا، وعلى هذا يحمل الحديث الذي جاء في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم وهو على حوضه يوم القيامة: (ليردن عليَّ الحوض رجال من أمتي أعرفهم بسيماهم) -لأنه أخبر أنه يذود عن حوضه من ليس من أمته- قالوا: كيف تعرفهم؟ قال: (يردون عليَّ غراً محجلين من آثار الوضوء)، وهذا من خصائص هذه الأمة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيحال بيني وبينهم فأقول أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم لم يزالوا مرتدين، فأقول: سحقاً سحقاً) وفي رواية: (فأقول كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم) فهؤلاء هم الذين ضعف إيمانهم، وقد شاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم في آخر حياته مرة، ولكن إيمانهم لم يثبت.

    أما الذين صحبوه وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، فهؤلاء قد برأهم الله جل وعلا من ذلك، وطهرهم وأثنى عليهم الثناء الحسن الجميل، وأخبر أنه رضي عنهم ورضوا عنه في آيات كثيرة، ولا يثنى الله جل وعلا على من يعلم أنه سيرتد لأنه علام الغيوب.

    حال الصحابة مع أهل الردة

    ثم بعد ذلك قام خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر رضي الله عنه فجاهد الذين ارتدوا حتى رجعوا للإسلام.

    وقد كانت أسباب ردتهم مختلفة، فمنهم من منع الزكاة معللاً ذلك بأنه كالجزية التي تؤخذ من الكفار.

    ومنهم من قال: أخرجها أنا لمن أريد ولا أدفعها إلى خليفة النبي صلى الله عليه وسلم.

    ومنهم من أنكر نبوة النبي صلى الله عليه وسلم معللاً ذلك بأنه لو كان نبياً ما مات، وهؤلاء الذين لم يتمكن الإسلام من قلوبهم.

    ولم يفرق الصحابة بين هؤلاء، بل قاتلوهم جميعاً، بل لما تردد بعضهم في قتالهم وقالوا: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله)فقال لهم أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه.

    والعقال حبل تعقل به الإبل، فلو منعوه وكانوا يؤدونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، ثم كشف لهم عن وجه الحق والصواب فقال: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا بحقها)؟ يعني: بحق لا إله إلا الله وأن الزكاة من حقها، فأجمعوا على قتالهم، فقاتلوهم حتى استتب الأمر وعادت الجزيرة كلها إلى حظيرة الإسلام، ولم يقبض أبو بكر إلا وجزيرة العرب كلها مذعنة منقادة للإسلام وكانت خلافته قرابة سنتين وأشهر.

    ثم بعد ذلك امتثلوا أمر ربهم الذي جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، من الله جل وعلا بقوله: قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة:123] فبدءوا بقتال الكفار الذين يلونهم، وهم الفرس والروم، فبدأت الفتوحات في آخر عهد أبي بكر ، ثم توفاه الله جل وعلا وقام بالأمر بعده إخوانه بقيادة خيرهم وأفضلهم عمر رضي الله عنه.

    فهؤلاء هم الواسطة الذين بلغونا دين ربنا، الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين نقلوا إلينا القرآن، ومعاني القرآن، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وأقواله بالتواتر.

    والدين لم ينقله رجل واحد أو رجلان أو عشرة، فلو نقله رجل واحد لكان غير مأمون وغير موثوق به، وإنما نقله جميع الصحابة إلى من بعدهم، ثم الذين بعدهم نقلوه إلى من بعدهم، وهكذا إلى اليوم.

    ولهذا لا يمكن أن يقول أحد: إن الصلوات المفروضة ست صلوات أو يقول: صلاة المغرب أربع ركعات وليست بثلاث، أو يقول: إنها ركعتان، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا أمر نقل إلينا بالتواتر، ولم ينقله شخص واحد فيقال: ربما أنه أخطأ أو نسي أو وهم، بل نقلته أمة بأكملها، فهم الذين نقلوا إلينا ديننا، فالذي يطعن فيهم فهو إنما يطعن في الدين الإسلامي، والله جل وعلا أخبر أنه رضي عنهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنهم خير الناس.

    فإذا كانوا خير الناس فمن المحال أن يكون أكثرهم أو جلهم ارتد عن الدين الإسلامي، أو أنه منافق كان يظهر خلاف ما يبطن، هذا من المحال.

    ثم إن أفعالهم وقيامهم بالأمر بعد النبي صلى الله عليه وسلم تدل غاية الدلالة على أنهم خير الناس.

    ولهذا نقول: يجب على المسلم أن يطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه؛ لأن هذا مما يثبت الدين ويقويه، ويزيل الشبه التي قد يلقيها بعض الأعداء.

    قوله: (خير الناس قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم) كلمة (ثم) تدل على أن الذين أتوا بعدهم أقل منهم خيرية.

    وكذلك القرن الذي يلي قرن الصحابة أقل من الذين قبلهم خيرية، وهكذا، ثم تنتهي الشهادة للقرون بالخيرية.

    وفي هذا الحديث أن القرون أربعة، قرن الصحابة الذين فيهم النبي صلى الله عليه وسلم، وثلاثة بعده، ولكن أكثر الروايات الصحيحة الثابتة أنها ثلاثة قرون، والقرن الرابع لم يثبت لا في صحيح مسلم ولا في صحيح البخاري، ولهذا فالراجح أن الثلاثة قرون هي التي ثبتت، وهي قرن الصحابة، وقرنان بعده، ويشهد لهذا الواقع، فإن ظهور البدع وكثرة الخلافات والانحراف الجماعي لكثير من الناس، وغلبة الشر على الخير، حدثت بعد القرون المفضلة.

    فالخير في القرون المفضلة أكثر من غيرها، وقرن الصحابة هو خير القرون المفضلة، والخيرية فيه لجميع الناس، ولا يزال الخير موجوداً فيمن بعدهم ولكنه قليل.

    حال القوم الذي يأتون بعد القرون الثلاثة

    ثم وضح هذا وبينه بقوله: (ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا سببه ضعف تقوى الله عندهم، وضعف الوازع الديني، فيصبح أحدهم لا يبالي بالشهادة ولا باليمين، فيشهد وإن كانت الشهادة غير متيقنة، وغير معلومة، وكذلك يحلف وإن كان آثماً حانثاً، فمعنى: (تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) أنهم يبذلون الشهادة عند أدنى طلب، وكذلك اليمين فليس عندهم من الدين ما يمنعهم من بذله، بل الدين خف عندهم وضعف، بخلاف من يحفظ يمينه، ويوقر ربه، ويقدره حق قدره، ويخاف عقابه، ويرجو ثوابه، فإنه لا يكون بهذه المثابة.

    وكذلك في الرواية الأخرى أنهم يخونون ولا يؤتمنون، وهي بمعنى كونهم تكثر فيهم الشهادة وإن كانت زوراً، واليمين وإن كان كذباً، فهذا من الخيانة، وعدم الائتمان، فإذا لم يؤتمن الإنسان على دينه فهو لغيره أخون، فيكون معنى هذه الرواية والتي قبلها واحد.

    قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته)].

    قال الشارح رحمه الله: [وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد، فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملاً وأداء لقلة خوفه من الله، وعدم مبالاته بذلك، وهذا هو الغالب على الأكثر. والله المستعان].

    قوله: (تحملاً وأداءً) يعني: المسلم يجب عليه إذا شهد على الشيء أن يحمل الشهادة، وإذا طلبت منه أن يؤديها على الوجه الشرعي، وأن يقول الحق وإن كان على نفسه، وإن كان المقول عليه قريباً منه.

    أما التحمل فهو واجب، إذا حمل الشهادة وجب أن يحملها، يعني: إذا قيل له: اشهد، فإنه يشهد بالشيء الذي شاهد ورأى، وأداء الشهادة واجب إذا طلبت منه، وإن كتمها فهو آثم قلبه كما قال الله جل وعلا، ومعنى ذلك: أنهم مرتكبون جرماً عظيماً؛ لأنه حق جحد، وباطل ظهر، واستولي على الحق بسبب كتمان الشهادة، فيكون الذي كتم الشهادة قد ارتكب إثماً عظيماً بالنسبة للذي أكل الباطل، وبالنسبة للذي أخذ حقه، فتكون أوزارهم عليه.

    فالمقصود أن تحمل الشهادة وأداءها من الفروض على كل من شاهد شيئاً، فيجب عليه أن يؤديه إذا طلب منه كما شاهده وكما سمعه، ويجب عليه أن يقول الحق، وإن كان المقول عليه ذا قربى، وإن كان على نفسه.

    أما إذا صار يؤثر قرابته وأصدقاءه فمعنى ذلك أنه جعل دينه عرضة لأمر الدنيا، وهذا الصنف لم يكن موجوداً في القرون المفضلة، ولكنه جاء بعدهم، وأصبح يزداد حتى أصبح الناس يشهدون بالأجرة، فإذا بذل له شيء من المال شهد كذباً وزوراً، وهذه الشهادة قد جاء أنها تعدل الشرك بالله جل وعلا، وقد حذرنا الله جل وعلا منها، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن فاعل ذلك قد استحق غضب الله جل وعلا.

    قال الشارح رحمه الله: [فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف، فكن من الناس على حذر].

    والمقصود بصدر الإسلام: القرن الرابع والخامس، هذا الذي يقصده، وأنه قد وقع فيهم أن شهادة أحدهم تسبق يمينه، ويمينه شهادته، فكيف فيمن بعدهم من القرون المتأخرة التي يكون الناس فيها أقل ديانة، وأقل وازعاً يزعهم ويمنعهم من ارتكاب المحرمات؟! لأنه كلما ابتعد عهد الناس عن عهد النبوة يخف إيمانهم بلا شك؛ لأن الذي يؤثر في الإيمان هو رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    تربية السلف لأبنائهم على تعظيم شعائر الدين

    قال المصنف رحمه الله: [وقال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد، ونحن صغار].

    إبراهيم هو إبراهيم النخعي وهو من التابعين، يعني: في القرن الثاني الذي يلي قرن الصحابة، فكانوا في هذا القرن يضربون الصبيان إذا شهد أحدهم بالشهادة التي ليست على الوجه المطلوب، ومعلوم أن الصبي غير مكلف، ولكن يؤدبونهم ويدربونهم على الحق من الصغر، حتى يخرجوا وقد رسخ في قلوبهم بغض الباطل وكراهيته، وحب الحق وإيثاره، هذا المقصود وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) وأجمع العلماء على أن ابن عشر لا تجب عليه الصلاة، ومع ذلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يضرب عليها إذا تركها، فالأدب هو الذي يجعله يلتزم، أما الأمر والتدريب فيبدأ بابن سبع، تأمره وتدربه على الصلاة حتى تغرس حبها في قلبه، فيصير آلفاً لها، بخلاف ما إذا ترك يسرح ويمرح كيف يشاء، فإنه إذا بلغ وهو متروك عن التأديب بالصلاة وتعليمه عليها يصعب عليه الالتزام بعد ذلك.

    وكذلك هنا: يؤدبونهم من الصغر على حب الخير، وكراهية المكروه، والابتعاد عنه، وهذا واجب ولي الأمر لمن تحت يده، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راع في بيته ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيتها ومسئولة عن رعيتها، والإمام راع ومسئول عن رعيته) كل إنسان له مسئولية يسأل عنها يوم القيامة، فيجب أن يقوم بها حسب الأمر الشرعي، فالقرون المفضلة كانوا يهتمون بهذا الأمر كثيراً، فكانوا يضربون الصبيان على العهد أو الشهادة التي لا يكون لها أثر، إذ إن شهادة الصبي وحلفه ليس له أثر وغير مؤاخذ بها، ومع ذلك يؤدبونهم على هذا الشيء، حتى يشبوا وهم يألفون الحق ويبتعدون عن الباطل.

    1.   

    وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

    قال الشارح رحمه الله: [وذلك لكثرة علم التابعين، وقوة إيمانهم، ومعرفتهم بربهم، وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أفضل الجهاد، ولا يقوم الدين إلا به، وفي هذا رغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم، ونهيهم عما يضرهم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم].

    يعني: أن الأمر بالمعروف يكون من أفضل الجهاد، والجهاد المقصود به بذل الجهد في طاعة الله وفي أن يطيع الناس ربهم، ويتابعوا دينهم، هذا هو الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من هذا الباب، فيأمر الإنسان بالخير وبالإسلام وبالحق وبالهدى ويبذله للناس ويرشدهم إليه، وينهى عن ضد ذلك، ويبين لهم بالطرق المناسبة والأساليب اللائقة التي يمكن أن تقبل وأن تؤثر، فهذا من أفضل الجهاد، وقد عده بعض العلماء من أركان الإسلام، فجعلوا أركان الإسلام ستة: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطيع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) وفي رواية (ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) فبين أن هذا أمر واجب متعين على كل واحد، وهذا مأخوذ من قوله: (من رأى منكم منكراً) و(من) هذه للعموم والشمول، وكذلك الأحاديث الأخرى التي بينت هذا.

    فلا شك في وجوب الأمر بالمعروف على الأمة الأسلامية ولكن هذا من فروض الكفايات، إذا قام به البعض سقط عن البقية، وإلا أثم الجميع، وهذا في الأمور الظاهرة التي ترى وتشاهد، أما الأمور الخفية فيلزم إنكارها على من علمها، والأمور التي تكون في البيوت المسئول عنها قيم البيت، وهو الذي يسأل يوم القيامة، ولهذا جاء في الحديث: (أن الإنسان يتعلق بالآخر يوم القيامة، ويقول: يا رب! خذ بحقي من هذا، فيقول المتعلق به: يا رب! والله ما ظلمته، لا في مال، ولا في عرض، فيقول المتعلق: صدق ولكنه رآني على منكر فلم ينهني، فخذ لي بحقي منه) فالواجب على المسلم أن يسقط الواجب عنه اليوم قبل أن يسأله الله جل وعلا يوم القيامة، فيؤخذ من حسناته أو يؤخذ من سيئات غيره فتوضع عليه، ثم بعد ذلك يلقى في النار؛ لأن الأمة الإسلامية مثلها كمثل الرجل الواحد إذا مرض جزء منه أو عضو منه مرض الرجل كله، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

    فيجب على الأمة الإسلامية أن تكون قائمة على الحق، متعاونة على البر والتقوى، متناصحة فيما بينها، حتى لا تكون مسئولة أمام الله جل وعلا، وهذا أمر أوجبه الله علينا ولم يوجبه أحد من الخلق، ولهذا قال سبحانه: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]الخيرية هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا فليسوا خير أمة.

    1.   

    مسائل باب ما جاء في كثرة الحلف

    الوصية بحفظ الأيمان

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل:

    المسألة الأولى: الوصية بحفظ الأيمان].

    الوصية بحفظ الأيمان؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] وعرفنا معنى حفظ الأيمان، إما أن الإنسان لا يحلف خوفاً من المخالفة، وهذا الذي أراده المؤلف بحفظ الأيمان، وهذا يكون لمن خاف الله، فإنه يجتنب الحلف مطلقاً، إلا في ما ألزم به ودعت الحاجة إليه، فهذا قد يتعين عليه، مثل الذي تتوجه عليه اليمين عند القاضي إذا ادعى عليه مدعٍ بشيء غير صحيح، فإذا لم يقم المدعي البينة توجهت اليمين على المنكر، فإذا طلب منه اليمين يحلف إذا كان صادقاً، ولا ضير عليه.

    وكذلك إذا كان المقصود باليمين بيان الحق وتأييده، فإنها تكون مستحبة؛ لأن الله جل وعلا يقول: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7]فأمر الله جل وعلا نبيه أن يحلف بالله على البعث، وكذلك قوله جل وعلا: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]فأمره جل وعلا أن يحلف بالله، فإذا كان الحلف مقصوداً به بيان الحق وإيضاحه وتقريره وثبوته يحلف، وهو بهذا مأجور.

    أما إذا كان الحلف يراد به أمر من أمور الدنيا، فيجب عليه أن يحفظ اليمين عنه مطلقاً.

    أما إذا حلف الإنسان على شيء يريد الامتناع منه، أو يريد حض غيره على فعله كأن يحلف على غيره أنه لا يدخل بيته بسبب مشاكل بينهم، ثم بعد ذلك يتبين له أن عدم الحلف أولى، فهذا ينبغي أن يكفر عن يمينه، وأن يفعل الشيء الذي حلف على الامتناع منه؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا [البقرة:224]معنى الآية: أنكم إذا حلفتم على شيء ثم رأيتم أن هذا الذي حلفتم عليه خير من تركه فلا يمنعكم الحلف، كفروا عن أيمانكم وافعلوا هذا الذي حلفتم على عدم فعله، هذا معنى قوله: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224].

    وكذلك جاءت الأحاديث بمعنى هذه الآية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لـعبد الرحمن بن سمرة : (يا عبد الرحمن ! لا تطلب الإمارة، فإنك إن طلبتها وكلت إليها، وإن أتتك بدون طلب أعنت عليها) ثم يقول (وإذا حلفت على شيء ورأيت غيره خيراً منه فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير).

    وكذلك ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله إني إن شاء الله لا أحلف على الشيء فأرى غيره خيراً منه إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خير).

    أما الذي يحلف على أمور الدنيا مثل البيع والشراء والأخذ والعطاء، وما أشبه ذلك، فهذا الذي لا يجوز، وفاعل ذلك قد ضعف إيمانه، وضف تقدير الله عنده، فلهذا يكثر من الحلف، ومثل هذا لابد أن يقع في الإثم.

    الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة

    [المسألة الثانية: الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة].

    عرفنا معنى: (منفقة للسلعة) أنه إذا حلف ألا يبيع هذا الشيء إلا بكذا وكذا فيقدم عليها المشتري ويشتريها؛ لأن المفروض أنه صادق، وإذا حلف أنه اشتراها بكذا وكذا يقبل المشتري ويبذل زيادة ويأخذ السلعة.

    فإذاً: هذا وإن كان صادقاً لا يجوز له الحلف؛ لأنه جعل الحلف طريقاً لكسب المال، ومن جعل يمينه طريقاً لكسب المال فهو في الحقيقة يقدم حب الدنيا على قول الله، وعلى تعظيمه وتقديره؛ لأن الله يقول: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [المائدة:89] أما إذا كان كاذباً فالإثم عليه عظيم، ولكن هذا الحديث في الذي يحلف وهو صادق، وقوله صلى الله عليه وسلم: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب) لم يرد الحلف الكاذب، ولكنه أراد الحلف مطلقاً وإن كان صادقاً؛ لأنه طريق لإنفاق السلع والناس إذا سمعوه يحلف يقتنعون بذلك، فيقدمون على الشراء، فيصير بهذا المعنى منفقة لسلعته.

    ولكن النتيجة أنه يمحق البركة، والمحق هو إبطال الشيء وإزالته، وإذا محقت البركة فلا خير فيه.

    الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه

    [المسألة الثالثة: الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه].

    يعني: مطلقاً سواء كان صادقاً أو غير صادق.

    التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي

    [المسألة الرابعة: التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي].

    هذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله) وذكر منهم الأشيمط الزاني، والعائل المستكبر، فالأشيمط الزاني ضعفت قوة الشهوة عنده، فإقدامه على الزنا يدل على أنه يحب الفاحشة ويريدها، وليس هناك شيء يدفعه بالقوة ويغطي عقله عليه حتى يقدم على هذا الشيء، أما الشاب فإنه قد لا يستطيع كبح الشهوة، فيقدم على الفعل الشنيع، ثم إذا وقع فيه انكشف له الأمر، فندم وعاد على نفسه بالتوبيخ واللوم والتوبة، بخلاف الأشيمط الزاني فإنه ربما يفعل ذلك حباً لهذه الجريمة، فيكون عذابه مضاعفاً، فهذا يدل على أن من كانت دواعي الأفعال عنده قليلة، ثم فعل أن عقابه يتضاعف.

    ومثله العائل المستكبر يعني: الفقير المستكبر؛ لأن الفقر ليس دافعاً إلى التكبر، إنما يدل هذا على أن هذا خلق عنده، بخلاف الغني، فإن الغنى يدعو إلى البطر والتكبر كما قال الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] إذا رأى الغنى طغى.

    ذم من يحلف من غير أن يستحلف

    [الخامسة: ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون ].

    هذا في الذين جاءوا بعد القرون المفضلة فإنهم يحلفون بدون استحلاف، بل الواحد منهم يبذل الحلف لأدنى الأمور.

    [السادسة: ثناؤه صلى الله عليه وسلم على القرون الثلاثة أو الأربعة، وذكر ما يحدث ].

    يقصد: أن هذا من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم؛ فقد ظهر ذلك جلياً لكل من له نظر، ومن قرأ السير والتأريخ يظهر له هذا جلياً بارزاً جداً، فإنه قد ظهر ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ذم من يشهد دون أن يستشهد

    [السابعة: ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون ].

    يعني: أنهم يؤدون الشهادة ولم تطلب منهم، يعني: أنها تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته، وهذا دليل على الاستخفاف بشأن الشهادة، وشأن اليمين.

    [الثامنة: كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد ].

    يعني: تدريباً لهم كما عرفنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756536450