لقول الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31]، وتقدم تفسير هذا في أصل المصنف رحمه الله عند ذكر حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه].
في هذه الآية: أن الربوبية والإلهية متلازمتان، فيلزم من كون الإنسان يتأله ويعبد الله أن يكون هذا المعبود هو المالك المتصرف الذي يملك الأمر والنهي، وإذا لم يكن كذلك فلا يصلح أن تكون الإلهية والتأله له، وكذلك فإن الآمر والناهي هو الذي يجب أن يعبد وأن تكون العبادة له.
وكثير من الناس لا يعرف الفرق بين الإلهية والربوبية حتى أنكر بعض الجهلة الذين يتصدرون الناس ويزعمون أنهم علماء تقسيم التوحيد وقال: التوحيد هو توحيد الربوبية، وهذا أجهل من أبي جهل في الواقع؛ لأن أبا جهل يعلم أن الله هو الخالق الرازق المتصرف، ولكنه يقول: أعبد هبل واللات والعزى؛ لأنها تشفع لي وأتخذها واسطة! وهذا جهل، أما هذا المتكلم فاجتمع له الجهل باللغة والجهل بالشرع والجهل بالواقع، فصار جهلاً على جهل على جهل، فهو جهلٌ مركب، وهذه نهاية الجهل وليس وراء ذلك شيء من الجهل.
وهذا من علامات الساعة، أعني كون الجاهل جهلاً مركباً يتصدر الناس ويكتب الكتب فتطبع وتنشر في العالم الإسلامي، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن يرفع العلم ويفشو الجهل)، مع أنه جاء في الحديث: (إن من أشراط الساعة فشو العلم وفشو القلم وفشو الكتابة)، يعني: ظهورها، والكتابة -كما هو معروف- لم تصل في وقت من الأوقات إلى ما وصلت إليه الآن.
والمقصود: أن الآية فيها بيان أن الربوبية والإلهية متلازمان، وأن الربوبية غير الإلهية، وهذا كثير جداً في القرآن، وجهله من أعظم الجهل.
قال المصنف: [وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر ).
قال الشارح: قوله: (يوشك) بضم أوله وكسر الشين المعجمة أي: يقرب ويسرع. وهذا القول من ابن عباس رضي الله عنهما جواب لمن قال له: إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لا يريان التمتع بالعمرة إلى الحج ويريان أن إفراد الحج أفضل، أو ما هو معنى هذا، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن التمتع بالعمرة إلى الحج واجب ويقول: (إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط فقد حل من عمرته شاء أم أبى، لحديث سراقة بن مالك رضي الله عنه حين أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلوها عمرة، ويحلوا إذا طافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة، فقال سراقة : (يا رسول الله! ألعامنا هذا أم للأبد؟ قال: بل للأبد)، والحديث في الصحيحين.
].
يعني: أنه يرى أنه يتحتم على الحاج إذا لم يسق الهدي من الحل إلى الحرم أن يكون متمتعاً ولو لم ينو ذلك، فإذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة وجب عليه أن يقصر من رأسه ويلبس ثيابه ويحل الحل كله، ويقول: لا يسعه إلا ذلك؛ لأن هذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب طائفة من العلماء منهم أهل الظاهر وبعض المحدثين وغيرهم.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: اتفق العلماء على أن الإنسان إذا كان يرتاد مكة في السنة -يعني: قد جاء بالعمرة في هذه السنة التي يحج بها- أن الأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، هذا بالاتفاق، ثم ذكر قول أبي بكر وعمر وأنهم أرادوا أن يأتي الإنسان في السنة نفسها بعمرة، ثم يأتي بالحج مفرداً وذلك حتى يكثر رواد البيت وطوافه، والآن في هذه الأوقات والحمد لله لكثرة الخير والأمن والسعة للناس صار كما هو معلوم.
بل إن الإنسان يخشى على نفسه من كثرة الزحام عند البيت في الطواف وغيره، فإذا أتى الإنسان بالحج والعمرة مفرداً فبها، وإن أتى بالحج متمتعاً فهذا أولى وأفضل له، أما إذا كان يعتمر في رمضان أو في غير رمضان من السنة فالأفضل في حقه أن يأتي بالحج مفرداً، وقد قال كثير من المفسرين من الصحابة وغيرهم في قول الله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، قالوا: إتمام الحج والعمرة: أن تأتي بكل واحد منهما بسفرة تامة، فهذا إتمامها.
قوله: (لا عذر لمن استفتي) يعني: أن الإنسان إذا سئل عن مسألة وكان يعرف النص فيها فهذا لا إشكال فيه، ولكن إذا كان لا يعرف النص وإنما يستنبط استنباطاً، ومعلوم أن الحوادث من أفعال الناس لا حصر لها ولا تنتهي، وليس بلازم أن يكون منصوصاً على كل فعل يفعله الناس، وإنما الشرع كليات وجوامع وقواعد يدخل تحتها ما لا حصر له من الأمور، بل يكفي لعمل الناس إلى يوم القيامة، ولكن يحتاج إلى فقه وإلى علم، فإذا سئل الإنسان عن حادثة ما: فإذا كانت لا نص عليها من كتاب الله وسنة رسوله فيجب أن يجتهد في النظر في أقوال العلماء فيها ويبحث عن أقرب قول إلى الدليل وأصوبه، ثم يفتي بذلك مجتهداً، هذا إذا كان أهلاً للاجتهاد، أما إذا كان ليس عنده ملكة، ولا يميز بين الأقوال الصحيحة من غير الصحيحة، فهذا يجب أن يقول: لا أدري، ويسأل غيره.
فبدأ بالأسهل، ثم بما هو أعظم، ثم بما هو أكبر، وختم الأمر بالقول عليه بلا علم وجعله بعد الشرك، فدل على أن القول عليه بلا علم أعظم من الشرك نسأل الله العافية، فإن كان الشرك عظيماً فهذا أعظم؛ لأنه يتضمن الشرك وزيادة، نسأل الله العافية.
قال الشارح: [ وللبخاري ومسلم وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت، ولولا أن معي الهدي لأحللت) هذا لفظ البخاري في حديث عائشة رضي الله عنها، ولفظه في حديث جابر : (افعلوا ما أمرتكم به، ولولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم)، في عدة أحاديث تؤيد قول ابن عباس ].
قال هذا صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفوسهم، ولئلا يحتج بالاقتداء به ويقال: إنك ما حللت.. إنك بقيت على حجك! فأخبر أن المانع له هو سوق الهدي، وأنه لو لم يسق الهدي لحل معهم، فدل هذا على أن الذي يسوق الهدي أي: يأتي به من الحل، أنه يلزمه أن يكون قارناً وأن يبقى محرماً حتى ينتهي من حجه، أما الذي ليس معه هدي فإنه يتعين عليه إذا طاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة أن يحل من إحرامه ويتمتع بالحل، والتمتع: هو الحل من الإحرام، وسمي تمتعاً؛ لأنه يترك الإحرام ويصبح حلالاً يتمتع بما أحله الله جل وعلا.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: أجمع العلماء على أنه من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: (ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)، وكلام الأئمة في هذا المعنى كثير.
وما زال العلماء رحمهم الله يجتهدون في الوقائع، فمن أصاب منهم فله أجران ومن أخطأ فله أجر كما في الحديث، لكن إذا استبان لهم الدليل أخذوا به وتركوا اجتهادهم، وأما إذا لم يبلغهم الحديث أو لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عندهم فيه حديث أو ثبت وله معارض أو مخصص ونحو ذلك فحينئذ يسوغ للإمام أن يجتهد، وفي عصر الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى إنما كان طلب الأحاديث ممن هي عنده باللُقي والسماع، ويسافر الرجل في طلب الحديث إلى الأمصار عدة سنين.
ثم اعتنى الأئمة بالتصانيف ودونوا الأحاديث ورووها بأسانيد وبينوا صحيحها من حسنها من ضعيفها، والفقهاء صنفوا في كل مذهب، وذكروا حجج المجتهدين، فسهل الأمر على طالب العلم، وكل إمام يذكر الأمر بدليله عنده.
وفي كلام ابن عباس رضي الله عنها ما يدل على أن من بلغه الدليل فلم يأخذ به تقليداً لإمامه فإنه يجب الإنكار عليه بالتغليظ؛ لمخالفته الدليل.
وقال الإمام أحمد حدثنا أحمد بن عمر البزار قال حدثنا زياد بن أيوب قال حدثنا أبو عبيدة الحداد عن مالك بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي اله عنهما قال: (ليس منا أحد إلا ويؤخذ من قوله ويدع، غير النبي صلى الله عليه وسلم).
وعلى هذا فيجب الإنكار على من ترك الدليل لقول أحد من العلماء كائناً من كان، ونصوص الأئمة على هذا، وأنه لا يسوغ التقليد إلا في مسائل الاجتهاد التي لا دليل فيها يرجع إليه من كتاب ولا سنة فهذا هو الذي عناه بعض العلماء بقوله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، وأما من خالف الكتاب والسنة فيجب الرد عليه كما قال ابن عباس والشافعي ومالك وأحمد وذلك مجمع عليه كما تقدم في كلام الشافعي رحمه الله تعالى].
معلوم أن مسائل الاجتهاد هي المسائل التي تستنبط من النصوص، وليس فيها نصوص بعينها، أما إذا جاء الدليل فلا اجتهاد فيه، فإذا دل الدليل على مسألة بعينها فلا يجوز الاجتهاد في ذلك، وإنما يجب أن يؤخذ بالدليل، فإن خالف الإنسان ذلك عامداً فهو في الواقع عاص، وإن لم يبلغه الدليل فله عذره حتى يبلغه الدليل.
قول الإمام أحمد رحمه الله يشبه قول ابن عباس .
يعني: أن الإنسان إذا بلغه الحديث وعرف صحته بالسند فإنه لا يسوغ له تركه لقول أحد من الناس.
وسفيان المقصود به: سفيان الثوري الإمام المشهور، فهو من كبار الأئمة وكان له أتباع إلا أنه لم تحفظ أقواله ولم يعتن بها أصحابه فانقرضت أقواله إلا أنها موجودة في الكتب التي تذكر أقوال العلماء، وهو نظير الإمام مالك ونظير الإمام أحمد والشافعي وأبي حنيفة رحمهم الله.
والمقصود أنه قيل له: إن قوماً يعتنون بقوله ويدعون الحديث، فقال: عجبت لهم؛ لأنهم يخالفون مخالفة ظاهرة، والله جل وعلا يقول: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]، أي: عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم:أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، يقول الإمام أحمد : أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: هي الشرك. لعله إذا رد بعض قوله -يعني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم- أن يزيغ قلبه فيهلك.
يعني: أن يرد قوله إما بهواه وإما لقول شخص من الناس يعظمه فيكون في ذلك زيغه وهلاكه؛ لأنه اتخذ هذا الشخص أو الهوى رباً كما في الآية التي استدل بها المصنف، وهذا هلاك ليس بعده هلاك، وأما قوله: أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فالمقصود به: أن يعاجله بعذاب في الدنيا؛ لشدة المخالفة، وهذا يوافق قول ابن عباس : (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء).
فالآية تنص على هذا، وهذا يدلنا على فقه ابن عباس رضي الله عنه، وهذا شيء معروف ومعلوم فقد دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا سمي حبر الأمة وترجمان القرآن؛ لأنه دعا له الرسول صلى الله عليه وسلم بالفقه في الدين ومعرفة التأويل -أي: التفسير- فالآية تدل على أن من خالف أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يخاف عليه أن يقع في الشرك، وزيادة على ذلك أن يصاب بعذاب عاجل في الدنيا.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد: نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاث وثلاثين موضعاً، ثم جعل يتلو: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ.. [النور:63]، الآية، فذكر من قوله: الفتنة الشرك -إلى قوله- فيهلك، ثم جعل يتلو هذه الآية: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].
وقال أبو طالب عن أحمد : وقيل له: إن قوماً يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره، فقال: أعجب لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الإسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره! قال الله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الكفر، قال الله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ [البقرة:217]، فيدعون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي، ذكر ذلك عنه شيخ الإسلام رحمه الله تعالى.
قوله: (عرفوا الإسناد) أي: اسناد الحديث وصحته، فإذا صح إسناد الحديث فهو صحيح عند أهل الحديث وغيرهم من العلماء.
وسفيان هو الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه، وكان له أصحاب يأخذون عنه، ومذهبه مشهور يذكره العلماء رحمهم الله في الكتب التي يذكر فيها مذاهب الأئمة كالتمهيد لـابن عبد البر والاستذكار له وكتاب الإشراف على مذاهب الأشراف لـابن المنذر والمحلى لـابن حزم والمغني لـأبي محمد عبد الله بن قدامة الحنبلي وغير هؤلاء.
فقول الإمام أحمد رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته.. إلى آخره إنكار منه لذلك، وأنه يئول إلى زيغ القلوب الذي يكون به المرء كافراً].
ويقول: هذا الذي قلدته أعلم منك بالحديث وبناسخه ومنسوخه، ونحو ذلك من الأقوال التي غايتها ترك متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، والاعتماد على قول من يجوز عليه الخطأ، وغيره من الأئمة يخالفه ويمنع قوله بالدليل، فما من إمام إلا والذي معه بعض العلم لا كله.
فواجب على كل مكلف إذا بلغه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معنى ذلك: أن ينتهي إليه ويعمل به وإن خالفه من خالفه، كما قال الله تعالى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ [الأعراف:3]، وقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51]، وقد تقدم حكاية الإجماع على ذلك، وبيان أن المقلد ليس من أهل العلم، وقد حكى أيضاً أبو عمر بن عبد البر وغيره الإجماع على ذلك].
يقصد بقوله: (نصبوا الحبائل في الصد عن الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) الذين يضعون الكتب في المذاهب ويبنون المسائل على الآراء والأقيسة التي تلقوها عن بعضهم، ومعلوم أن الرأي إذا كان غير مستند إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن ننسبه إلى الشرع؛ لأنه محل للخطأ، وقد يصيب في بعض المسائل، ولكن يوجد فيه خطأ بلا شك؛ لأن الله جل وعلا يقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، فدل هذا على أن كل كلام ليس من الرسول صلى الله عليه وسلم ولا من الوحي الذي أوحي إليه أنه لابد أن يكون فيه اختلاف، فالآراء لا يجوز أن تؤخذ مجردة عن الدليل.
فيقصد بهذا كتب الفقه التي توضع في المذاهب، فيقال: إن حكم المسألة كذا وكذا وليست معتمدة على الدليل، فإذا جيء بالأدلة وقيل إن الدليل يدل على خلاف هذا، قالوا: أنت خارج عن مذهب المسلمين، وقد يقولون له: أنت جئت بمذهب خامس ويخطئونه ويقولون: لا يجوز للإنسان أن يأخذ فقهه من كتاب الله؛ لأن هذا يحتاج إلى اجتهاد والاجتهاد يزعمون أنه منقطع من زمن الأئمة، وهذه من دسائس الشيطان؛ لأن الاجتهاد لا ينقطع كما قال الإمام أحمد مستدلاً على أن الاجتهاد يبقى إلى يوم القيامة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فهؤلاء فيهم أهل الاجتهاد؛ لأن النصرة وكونهم على الحق دليل على أنهم مجتهدون.
ومعلوم أن كتاب الله ميسر للذكر: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] ، يقول العلماء: هل من طالب علم فيعان عليه، يعني: لأنه ميسر.
فكل من عرف اللغة العربية وتلقى هذا الكتاب لابد أن يدرك ما يدرك وإن اختلف الناس، فهذا أمر معلوم.
ولهذا إذا تأمل الإنسان في القرآن -وإن كان عامياً- فإنه يجد فيه من المعاني ويفهم فيه من الخطاب ولو في العموم، ولكن إذا جاء الإنسان دليل من قول الله وقول رسوله فيجب أن يترك قوله أو قول الآخرين لهذا الدليل، هذا هو المقصود وهذا مراده، يقول: لا يجوز أن نعارض كلام الله أو كلام رسوله برأي الإمام أحمد أو برأي الإمام مالك أو برأي الإمام أبي حنيفة أو الشافعي فضلاً عن غيرهم، بل لا يجوز أن نعارض قول الله وقول رسوله بأقوال الصحابة الذين هم أفضل من هؤلاء، وقد مر معنا قول ابن عباس : (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ).
فالذين ينصبون الحبائل ويصدون عن كتاب الله، يعني أنهم يعتلون بأن الناس اليوم كلهم أهل تقليد وأنه يجب أن يقلد الإنسان الإمام فلاناً أو الإمام فلاناً، وهذا صد عن تدبر كتاب الله وفهمه والتعلم منه وسد للباب في هذا، وهذا إنما جاء به الشيطان، وأحياناً يذكرون أشياء عجيبة كما هو مذكور الآن في بعض الكتب يقولون: لا يجوز أن يعتمد الإنسان في استنباطه على الكتاب أو السنة إلا بشروط:
منها أن يكون عالماً باللغة، عالماً بأسباب النزول، عالماً بالناسخ والمنسوخ، عالماً بالخاص والعام، عالماً بالمقدم والمؤخر، إلى ما يقرب من أربعين شرطاً وسيأتي أن المصنف رحمه الله يقول: هذه الشروط لعلها لا تجتمع في أبي بكر يعني: لا توجد مجتمعة في أحد من الناس.
قسم: يقولون ذلك في مسائل الفقه الاجتهادية، فإذا جاء إنسان يستدل على مسأله اجتهادية بالدليل عابوا عليه وقالوا: أنت خالفت الأئمة.. خالفت قول الفقهاء.. خالفت الإمام فلاناً ونحن نأخذ بأقواله، مع أن الأقوال التي توجد الآن في كتب الفقه المتأخرة ليست أقوال الأئمة وإنما هي تفريعات عن أقوالهم وتخريجات لأصحابهم وقد يكونون متأخرين.
القسم الثاني: ما هو أشد من هذا وأعظم، وهم أصحاب الكلام الذين وضعوا كتباً صدوا بها الناس عن معرفة الله جل وعلا ووصفه بما وصف به نفسه وقالوا: لابد للإنسان أن يأخذ التوحيد من هذه الكتب ويسمونها علم الكلام أو علم التوحيد، وهي مبنية على آراء وقواعد قعدها أناس حسب آرائهم وعقولهم أو حسب المنطق اليوناني الذي أخذوه من كتب اليونان وغيرها، معرضين بذلك عما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن الذي جاء في الكتاب والسنة نصوص ظاهره لا تدل على يقين وإنما تدل على ظنون، والظن لا يجوز أن يعمل به في مسائل الاعتقاد، بخلاف هذه القواعد التي نقعدها والكتب التي نؤلفها فإنها مبنية على العقليات والقطعيات! ويجعلون العقليات أموراً قطعية وهي في الواقع مبنية على قياس وشبه، ولا تزيد من تعمق فيها إلا شكوكاً وضلالة وبعداً عن الحق.
وبهذا صد الشيطان الناس عن الاهتداء بهدى الله جل وعلا الذي أنزله ليهتدي به الناس، وأخبر أنه هدى وشفاء لأمراض الشبهات والشكوك، وهدى لمن عمل به ليصل إلى الحق، أما هذه فهي بضد ذلك، وهذا أعظم مما ذكره المؤلف ولكنه يذكر الشيء الذي انتشر في وقته، فإن الشيخ رحمه الله لما دعا الناس إلى الأخذ بكتاب الله وسنة رسوله إذا بأناس يقولون: أنت خارج عن الإجماع وأنت جئت بمذهب خامس وأنت مخالف للأئمة، فإن هذه كتب الأئمة بيننا فليس فيها شيء مما تقوله، وهو يقول: قال الله وقال رسوله ولم يقل: هذا رأيي أو هذا رأي فلان وفلان.
وأما علم الكلام الذي يعتمده أصحابه ويصدون به عن كتاب الله فهذه عافى الله جل وعلا منه من قام بالدعوة فيهم، ولم تصل إليهم شبهات أولئك وإلا فأمرها شديد، ومع ذلك فقد بين أن هذا مما ينافي الإيمان بالله وبرسوله، وسيأتي في الباب الذي بعد هذا: أنه لابد من تحكيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يطرأ للإنسان من خلاف أو من رأي أو غير ذلك، ولابد أن يرجع إلى حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا لم يكن مؤمناً.
وهذه المسألة ليست من مسائل الخلاف أو من المسائل الفرعية التي يكون فيها سعة، ولكنها مسألة إيمان وكفر نسأل الله العافية، فإنه لابد من تحيكم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء، هذا بالنسبة لأهل العلم الذين يدركون الدليل ويستطيعون أن يفهموا الأدلة.
أما بالنسبة لعامة المسلمين فليس هذا بلازم؛ لأنه لو كلف مثلاً غير طالب العلم أن يستنبط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله ما استطاع؛ لأن هذا ليس من شأنه، وإنما عليه أن يتابع العلماء وإذا أشكل عليه شيء يسألهم، والدليل على هذا قول الله جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فجعل الواجب على الذين لا يعلمون سؤال أهل الذكر، وأهل الذكر: هم العلماء.
والكلام الذي ذكره الإمام أحمد يشير إلى هذا؛ لأنه قال: عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان ويدعون الحديث، فمعنى ذلك: أن الذي ما عرف الإسناد ولا عرف صحة الإسناد يجوز له أن يذهب إلى قول فلان وفلان من العلماء ولكن العارف الذي عرف الإسناد لا يجوز له.
وذلك إنما نشأ عن الإعراض عن تدبر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والإقبال على كتب من تأخر والاستغناء بها عن الوحيين، وهذا يشبه ما وقع من أهل الكتاب الذين قال الله فيهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، كما سيأتي بيان ذلك في حديث عدي بن حاتم ].
وقوله: إنه في الواقع مخالف للأئمة؛ لأن الأئمة حذروا من تقليدهم وترك الدليل، وقد صح عن الأئمة التحذير من ذلك، فـالشافعي رحمه الله يقول: (إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا وجدتم الحديث يخالف قولي فدعوا قولي وخذوا بالحديث)، وكذلك الإمام مالك قال: (كلنا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم) يعني: أن الحق الكامل مع الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، أما من عداه فيجوز أن يقع عليه الخطأ وأن يُرد ويَرد، وكذلك قول أبي حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال الصحابة فعلى الرأس والعين، وإذا جاءت أقوال التابعين فنحن رجال وهم رجال) يعني: لا يلزمنا قول التابعين، ولكن قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يعارض برأي، وكذلك قول الإمام أحمد كما سمعنا.
فالذي يقلد الأئمة ويترك الحديث مخالف لهم؛ لأن هذه أقوالهم تخالف هذا المذهب، فهو غير متبع لهم في الواقع.
قال الشارح: [فيجب على من نصح نفسه إذا قرأ كتب العلماء ونظر فيها وعرف أقوالهم، أن يعرضها على ما في الكتاب والسنة، فإن كل مجتهد من العلماء ومن تبعه وانتسب إلى مذهبه لابد أن يذكر دليله، والحق في المسألة واحد، والأئمة مثابون على اجتهادهم، فالمنصف يجعل النظر في كلامهم وتأمله طريقاً إلى معرفة المسائل واستحضارها ذهناً وتمييزاً للصواب من الخطأ بالأدلة التي يذكرها المستدلون، ويعرف بذلك من هو أسعد بالدليل من العلماء فيتبعه].
الأول والأجران هما: أجر الاجتهاد فيثاب على اجتهاده، وأجر الإصابة، فيثاب لكونه أصاب الحق، أما إذا أخطأ فإنه ليس له إلا أجر الاجتهاد والخطأ معفو عنه.
أما إذا كان ليس أهلاً للاجتهاد فإنه وإن أصاب فهو مخطئ، مثل الذي يقول في القرآن برأيه فهو مخطئ وإن أصاب، جاء في الحديث : (من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
فالمقصود: أن الصواب واحد وليس كل مجتهد مصيباً، بل المصيب من المجتهدين واحد والحق لا يتعدد، ولهذا ذكر الله جل وعلا أن صراطه واحد: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فجعل غير صراطه سبلاً متعددة كثيرة، وصراطه واحداً في جميع المسائل، وهذا هو قول أهل السنة، أما الذين يقولون كل مجتهد مصيب فهم أهل البدع، وهو خطأ، والأدلة على خلاف ذلك.
الحديث ضعيف ولا يجوز الاعتماد عليه، بل حكم بعض العلماء بأنه موضوع، ولكن العلماء الذين تكلموا في الأصول قالوا: شهرته تغني عن سنده، فقد علم أن معناه صحيح وقبله العلماء وقالوا به، يعني: بمعناه، فلا التفات إلى سنده وإنما الالتفات إلى المعنى، والمعنى دلت عليه النصوص الأخرى وقد جاء في سنن ابن ماجة أيضاً عكس هذا تماماً، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عرض لك قضاءٌ فلا تقض برأيك حتى تعرف الدليل أو ترفع ذلك إلي)، وهذا عكس هذا، ولكن هذا أيضاً ضعيف؛ لأن في سنده محمد بن سعيد المصلوب قيل: إنه أحد الكذابين الذين عرفوا بوضع الحديث، وإن قال ابن القيم رحمه الله: هذا أحسن سنداً من الأول، أي: هذا الذي رواه ابن ماجه أحسن سنداً من الأول وأجود سنداً من الأول، ولكن الأول دلت عليه قواعد ونصوص فأغنت كما يقول علماء الأصول؛ لأن هذا يذكر في كتب الأصول، وقبول العلماء له وأخذهم به واتفقاهم على الأخذ به يغني عن البحث في سنده، والاستناد على قواعد الشرع يغني عن إسناده وإن كان إسناده واهياً، فلا اعتماد على السند وإنما الاعتماد على المعنى وعلى القواعد.
قال الشارح: [وساق بسنده عن الحارث بن عمر عن أناس من أصحاب معاذ بن جبل رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن...) بمعناه.
والأئمة رحمهم الله لم يقصروا في البيان، بل نهوا عن تقليدهم إذا استبانت السنة، لعلمهم أن من العلم شيئاً لم يعلموه وقد يبلغ غيرهم، وذلك كثير كما لا يخفى على من نظر في أقوال العلماء.
قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال)].
معنى ذلك: أنه إذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يعارض ولا يجوز أن يخالف ويجب أن يؤخذ به ويعمل به، وكذلك إذا جاءت أقوال الصحابة نأخذ بها ولا نعارضها بآرائنا وأفكارنا، بل نقبلها ونسلم لها؛ لأنهم اهتدوا بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاهدوا نزول الوحي، وهم أهل اللسان الذين تعلموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقوا عنه، أما إذا جاء عن التابعين الذين بعد الصحابة فيقول: (هم رجال ونحن رجال) يعني: هذا اجتهاد ونحن نجتهد مثلهم.
فمعنى ذلك: أنه لا يأخذ أقوال التابعين ونحوهم إذا عارضها دليل من كتاب الله وسنة رسوله، هذا معناه.
قال الشارح: [وقال: (إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه فاتركوا قولي لكتاب الله، قيل: إذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، قيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال اتركوا قولي لقول الصحابة).
وقال الربيع : سمعت الشافعي رحمه الله يقول: (إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخذوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا ما قلت). وقال: (إذا صح الحديث بما يخالف قولي فاضربوا بقولي الحائط).
وقال مالك : (كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وتقدم له مثل ذلك، فلا عذر لمقلد بعد هذا، ولو استقصينا كلام العلماء في هذا لخرج عما قصدناه من الاختصار، وفيما ذكرناه كفاية لطالب الهدى].
معنى زاغوا: عدلوا عن الدليل.. وعدلوا عن القول الذي قيل لهم ومالوا، فالزيغ: هو الميل والعدول، زاغ عنه: إذا مال عنه وعدل عنه وتركه قصداً، أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف:5]، يعني: جعلها كارهة للحق قابلة للباطل جزاءً وفاقاً؛ لأن الجزاء من جنس العمل، قال جل وعلا: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام:110]، أي: جزاء أنهم لم يقبلوه أول مرة، وهذا واضح في أن من ترك الحق من أول وهلة يكون عقابه إزاغة القلب وعدم القبول، ويكون الإنسان ضالاً بذلك نسأل الله العافية وهذا أمر خطير جداً.
وعلامة المسلم أن يكون مستسلماً لقول الله جل وعلا ومنقاداً له ومتبرئاً من الشرك وأهله؛ لأن هذا هو الإسلام، فالإسلام: هو الاستسلام والطاعة والانقياد والخلوص من الشرك وتوابعه وأهله، ولا يكون الإنسان ناجياً، حتى يقبل الحق ممن قاله وإن كان عدواً له، فإذا جاء الحق وجب قبوله.
قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله في معنى قول الله تعالى: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ [النور:63]: فإذا كان المخالف لأمره قد حُذر من الكفر والشرك، أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضياً إلى الكفر والعذاب الأليم. ومعلوم أن إفضاءه إلى العذاب الأليم هو مجرد فعل المعصية، فإفضاؤه إلى الكفر إنما هو لما يقترن به من الاستخفاف في حق الآمر، كما فعل إبليس لعنه الله تعالى ا.هـ].
فإبليس لما أمره الله جل وعلا بالسجود استخف بالأمر وقال: أنا خير منه، وكان الأولى أن تأمره أن يسجد لي! لأنه خلق من النار وأما آدم فخلق من الطين، والنار أفضل من الطين على حد زعمه، فهذا استخفاف بأمر الله جل وعلا، وكذلك إذا رد الإنسان قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس صار هذا الإنسان الذي قبل قوله أعظم عنده من الله ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى إفضائه إلى الكفر، فيكون بذلك كافراً نسأل الله العافية.
وهذا فيه: أن هذا العمل ليس مجرد معصية؛ لأن الإنسان إذا عصى وهو يعلم أنه عاصٍ فإن هذا لا يكون كفراً، بل مجرد معصية، وإن خالف أمراً صريحاً وارتكب النهي الصريح وهو مقر على نفسه بأنه عاصٍ فمثل هذا يكون مذنباً فقط وليس بكافر، أما إذا كان مستخفاً بأمر الله وليس لأمر الله عنده قيمة فيقول: وإن أمرني الله فلا أبالي! فمثل هذا يخشى عليه أن يكون خارجاً من الدين الإسلامي نسأل الله العافية.
أي: يقول الكفر بلسانه فتضرب عنقه وهذا عقابه في الدنيا، وعقاب الدنيا سهل، ولكن المصيبة عقاب الآخرة، وكونه أظهر الكفر يدل على أن الكفر في قلبه فيموت كافراً فيكون خالداً في النار، وهذا أعظم من القتل، وهو المصيبة الكبرى.
قال الشارح: [قال أبو جعفر: أدخلت (عن) لأن معنى الكلام: فليحذر الذين يلوذون عن أمره ويدبرون عنه معرضين].
ذكر العلماء أن سبب نزول هذه الآية أن بعض الناس الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق اعتذروا بأعذار واهية يريدون أن لا يشاركوه في أمره فنزلت هذه الآية، ولهذا جاء فيها: أنه إذا استأذن المؤمنون لبعض شأنهم أمره بأن يأذن لهم ويستغفر لهم.
فحذرهم الله جل وعلا من ذلك أن يصيبهم العقاب العاجل قبل عذابه الأليم الذي يكون في الآخرة.
وإن كان سببها معيناً فالمقصود عموم اللفظ إلى يوم القيامة، فكل من صد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن سنته أو حاول ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا الأمر ويخشى عليه أن يقع في هذا العقاب.
أي: يخشى أن الله يكره إليه الحق ويزين له الباطل فيصبح من أنصار الباطل ويصبح مضاداً للحق وكارهاً له، ومن كان كذلك فهو منافق النفاق الخالص الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار نسأل الله العافية.
قال الشارح رحمه الله: [قوله: (أو يصيبهم) في عاجل الدنيا عذاب من الله موجع على خلافهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم].
قال الصنف رحمه الله تعالى: [عن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [التوبة:31] (فقلت له: إنا لسنا نعبدهم، قال: أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟ فقلت بلى، قال: فتلك عبادتهم)، رواه أحمد والترمذي وحسنه].
قال الشارح: [هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي .
قوله : (عن عدي بن حاتم) أي: الطائي المشهور، وحاتم هو: ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج -بفتح الحاء- المشهور بالسخاء والكرم ].
قدم عدي على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان سنة تسع من الهجرة فأسلم، وعاش مائة وعشرين سنة.
إذا أراد الإنسان أن يتكلم عن الحديث فيجب أن يجمع الطرق ويطلع عليها ولا يجوز له أن يحكم على حديث ولم يستقص طرقه، كما يصنعه كثير من طلبة العلم اليوم أو كثير من المتسرعين فإنهم يقعون في الخطأ الفظيع، وهم بذلك على خطر شديد جداً؛ لأنهم يأخذون طريقاً أو طريقين -فقط- فيحكمون عليها ويقولون: هذا الحديث ضعيف أو موضوع! ويوجد هذا بكثرة، قد تجرأ أحدهم وكتب كتاباً سماه: (ضعيف كتاب التوحيد) ذكر فيه أحاديث موضوعة اعتماداً على طريق من الطرق، وهذا من الجهل، بل هذا من الخطر الشديد؛ لأن الواجب على الإنسان إذا أراد أن يحكم على حديث بعينه أن يحيط بالطرق التي روي بها، ولهذا تجد بعض الأئمة يذكرون أحاديث صحيحة عن بعض الرواة الذين ضعفوا، والسبب في ذلك أن هذه الأحاديث صحت عندهم من طرق أخرى، وإن كان هذا الراوي ضعيفاً لو انفرد به فإن ذلك لا يضر لوجود طريق أخرى صحيحة، فأثبتوا الحديث، والشيء الذي أنكر على البخاري وعلى مسلم هو من هذا النوع، ولهذا فالحفاظ الكبار حكموا بأن الحق مع البخاري ومع مسلم رحمهم الله تعالى.
وهذا أمر لا يمكن الاجتهاد به الآن، وإنما يذكر كلام العلماء في ذلك، وقد يبلغه شيء وتغيب عنه أشياء كثيرة، فإذا كان لابد أن يحكم فليقل: هكذا تبين لي في هذا، والله أعلم.
ليس هذا خاصاً بالرهبان والأحبار، وسبق أن الأحبار هم العلماء، والرهبان هم العباد، ولكن هذا عام مطلق، إلا أنه في التحليل والتحريم، فإذا أطيع المخلوق في كونه أحل حراماً أو حرم حلالاً واتبع في هذا فهذه عبادة له، سواء كان عالماً أو غير عالم، فهو مطلق قيده بالعلم؛ لأن هذا هو الغالب؛ ولأن الناس لا يعتمدون على جاهل في التحليل والتحريم، إنما العلماء هم الذين يعتمد على أقوالهم ويستفتون، ولهذا ذكروا في ذلك وإلا فالمسألة عامة شاملة، ولهذا جاء في الحديث أنه: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، (إنما الطاعة بالمعروف).
قال الشارح: [ويظهر ذلك قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام:121]].
أي: أطعتموتهم في المجادلة التي يجادلون فيها، وجاء في سبب ذلك أن المشركين قالوا للمؤمنين: كيف تأكلون مما تذبحون أنتم ولا تأكلون مما يذبحه الله؟! أي: الميتة. فأخبر الله جل وعلا أن هذا من وحي الشيطان وأنه يوحيه إلى أوليائه المشركين ليجادلوا المؤمنين الذين آمنوا بالله، ثم قال: (وإن أطعتموهم) أي: في ذلك (إنكم لمشركون) لأن الواجب اتباع ما حكم الله جل وعلا به وما قاله.
قوله: [وهذا قد وقع فيه كثير من الناس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم الدليل إذا خالف المقلَّد، وهو من هذا الشرك، ومنهم من يغلو في ذلك ويعتقد أن الأخذ بالدليل -والحالة هذه- يكره أو يحرم فعظمت الفتنة، ويقول: هم أعلم منا بالأدلة ولا يأخذ بالدليل إلا المجتهد، وربما تفوهوا بذم من يعمل بالدليل! ولا ريب أن هذا من غربة الإسلام كما قال شيخنا رحمه الله في المسائل.
فتغيرت الأحوال وآلت إلى هذه الغاية، فصار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ويسمونها ولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقة، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين.
وأما طاعة الأمراء ومتابعتهم فيما يخالف ما شرع الله ورسوله فقد عمت بها البلوى قديماً وحديثاً في أكثر الولاة بعد الخلفاء الراشدين وهلم جرا.
وقد قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [القصص:50].
وعن زياد بن حدير قال: قال لي عمر رضي الله عنه: (هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالقرآن وحكم الأئمة المضلين) رواه الدارمي جعلنا الله وإياكم من الذين يهدون بالحق وبه يعدلون].
الأولى: تفسير آية النور].
وهي قوله جل وعلا: فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، معنى الآية: أنه تحذير من الله جل وعلا للذين يخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وأما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فالتحذير لمن خالف سنته، فيجب على المسلم أن يحذر وأن لا يقع في هذه المخالفة، فإن وقع فإنه على خطر عظيم، ويخشى أن يزيغ قلبه وقد يكون مشركاً بسبب ذلك، وقد يصاب بالعذاب العاجل؛ لأن الله جل وعلا يقول: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]، فالعذاب الأليم في الدنيا كما ذكر ذلك المفسرون، وكذلك أشار إليه ابن عباس بقوله: (يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء).
[الثانية: تفسير آية براءة].
وهي قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً [التوبة:31]، وتفسيرها كما مر: أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسرها وبين معناها في حديث عدي؛ بطاعتهم في معصية الله وطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال، فهذه عبادتهم.
[ الثالثة: التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي ].
العبادة التي أنكرها عدي هي ظنه أن العبادة هي السجود لهم ودعوتهم والتعلق بهم وسؤالهم فقال: ما نعبدهم، فبين له الرسول صلى الله عليه وسلم أن العبادة أعم من ذلك وأنها ليست مقصورة على هذا، بل لو أطعتهم في معصية الله فتلك عبادة لهم.
[الرابعة: تمثيل ابن عباس بـأبي بكر وعمر وتمثيل أحمد بـسفيان ].
يعني بتمثيل ابن عباس قوله: (إنه يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ) ومقصوده فكيف بالذي يقول: قال الشيخ الفلاني أو قال فلان؟! هل بين هذا الشيخ وبين أبي بكر مقارنة؟! لا مقارنة بينهما، إذاً: فاتباع من دون أبي بكر والتعصب لقوله أعظم وأخطر من قول القائل: نترك متعة الحج؛ لأن أبا بكر يأمر بخلافها، هذا مقصوده.
وكذلك قول سفيان الثوري وسفيان من كبار الأئمة المعروفين بالتقى والورع والعلم ومع ذلك يقع في الخطأ، وإن كنا نعلم أنه لا يتعمد الخطأ ولا يتعمد خلاف الحق لكنه يقع في الخطأ، ولذلك لا يجوز أن يأخذ الإنسان بقوله تاركاً قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن فعل ذلك فهو كما قال الإمام أحمد: يوشك أن يقع في الشرك ويصاب بالعذاب الأليم.
[الخامسة: تغير الأحوال إلى هذه الغاية، حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال وتسمى الولاية، وعبادة الأحبار هي العلم والفقه، ثم تغيرت الحال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين، وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين].
قصده بالولاية هنا طاعة العباد، وبعضهم قد يزعم أنه عابد وأنه فقيه، وهو في الواقع ليس كذلك وإنما يدعي الولاية وهو ليس بولي، ومع ذلك يطيعونه في المعاصي، وقد يرونه يرتكب معصية فيقولون: ليس عليه إثم في ذلك؛ لأنه ولي والإثم مرفوع عنه، وهذا في الواقع خطر شديد، وهذا شبيه بفعل اليهود الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
أما المعنى الثاني فهو عبادة العلماء، بمعنى: أنه تركت الأدلة لأقوالهم وأخذ بأقوالهم ولم يؤخذ بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا واضح في الآية التي ذكرها من سورة براءة، وكذلك الحديث الذي فسرها: حديث عدي وفيه: أن هذا عبادة.
قوله: (ثم تغيرت الأحوال) أي: فعبد بالمعنى الأول من ليس من الأولياء، بل هو من الأشقياء، ويشير بهذا إلى ما وقع في زمنه من أناس معينين معروفين مشعوذين يتلبسون بالنجاسات ولا يصلون، ويفعلون الفواحش الظاهرة ومع ذلك يزعمون أنهم أولياء فيخشى الناس مخالفتهم ويخافونهم، فعبدوهم بهذا.
وأما المعنى الثاني: وهو عبادة الجهلة، فإن كثيراً من المتأخيرن ليسوا كالمتقدمين علماً ولا عملاً، ويقصد بهذا الفقهاء المتأخرين الذين اعتمدوا على الرأي وعلى تحقيق المسائل من غير رجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا جاءت الأدلة من الكتاب والسنة قالوا: لا يلتفت إليها؛ لأننا لا نفهمها ولسنا أهلاً لفهم هذه الأدلة والأخذ بها، ولا يجوز لنا ولا لكم أن تأخذوا ذلك؛ لأن باب الاجتهاد قد انسد وانقطع، فالذي يقول مثل هذا القول ليس من العلماء، بل من الجهلة، ومع ذلك يعتمد على أقوالهم أكثر الناس مع أنها تعرض عليهم الأدلة! هذا مقصوده.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر