هذا الحديث رواه علي بن الحسين الذي هو زين العابدين ، وهو من أفضل أهل زمانه، عن أبيه الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جده رسول الله صلى اله عليه وسلم أنه قال: (لا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم)، وفي هذا الحديث ما كان عليه السلف -وأهل البيت خاصة- من معرفة هذه السنة، فهذا الرجل جاء يتحرى الدعاء عند قبر الرسول فنهاه، وقال: لا تفعل، وجاء نظير هذا أيضاً عن ابن عمه الحسن بن الحسن أنه رأى رجلاً بهذه الصفة، يقول: جئت وهو يتعشى في بيت فاطمة ، فدعاني فقلت: لا أريده، فقال: ما لي أراك تأتي إلى القبر، فقلت: أسلم، فقال: لا تفعل، يعني: لا تتردد على القبر للسلام، ثم ذكر الحديث، وقال: ما أنت ومن بالأندلس إلا سواء، فسلم أينما كنت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تسليمك يبلغه، ودل هذا على أنه لا يجوز تحري الدعاء عند القبر، وإن قصد الإنسان الدعاء فليكن في روضة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يتجه إلى القبر ويدعو، بل يتجه إلى القبلة ويدعو ربه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة)، فهذا هو الذي يرجى فيه إجابة الدعاء، وينبغي أن يتحرى الدعاء فيها وليس عند القبر، والقبر ما كان في المسجد، بل كان خارج المسجد، ولكن الوليد بن عبد الملك أدخله المسجد لا استناناً بسنة، ولا امتثالاً لأمر عالم من العلماء، وإنما بمقتضى أمر الملوك وفعل الملوك فقط؛ لأنه ملك من الملوك يريد أن يظهر عمله، فعمله خطأ، لا وافق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا امتثل مشورة العلماء، بل جانب ذلك.
إذاً: القبر ليس مكاناً للدعاء، بل هو منهي عنه، هذا لو لم تأت النصوص الصرحية الواضحة فكيف وقد جاءت النصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فليس للمخالف في ذلك عذر، ويكون مرتكباً لإثم إذا خالف هذه النصوص، وفي هذا دليل على أن من كان في المدينة لا يتردد على قبر الرسول صلى الله عليه وسلم بالسلام كلما جاء إلى المسجد، وإنما إذا دخل المسجد يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان الصحابة يفعلون ذلك مع أنهم كانوا يتمكنون من الوصول إلى قبره، ولا شيء يحول بينهم وبينه، بخلاف اليوم لا يستطيع أحد أن يصل إلى القبر، وهذا من فضل الله جل وعلا، فإن الله جل وعلا حماه عن الجهال الذين لو تمكنوا منه لم يتركوا حتى من التراب شيئاً، التراب سيحملوه لو تمكنوا من ذلك، ولكن من فضل الله جل وعلا أن صانه وحماه.
فالمقصود أن السنة التي بينها صلى الله عليه وسلم للمسلمين أن يصلوا عليه أينما كانوا، وألا يترددوا على قبره ويجعلوه عيداً، فإنهم إذا فعلوا ذلك فإنهم يكونون مخالفين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما الأول : فرواه أبو داود وغيره من حديث عبد الله بن نافع الصائغ قال : أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره، ورواته ثقات مشاهير لكن عبد الله بن نافع قال فيه أبو حاتم : ليس بالحافظ، تعرف وتنكر، وقال ابن معين : هو ثقة، وقال أبو زرعة : لا بأس به، قال شيخ الإسلام رحمه الله : ومثل هذا إذا كان للحديث شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة، وقال الحافظ محمد بن عبد الهادي : هو حديث حسن جيد الإسناد، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الصحة.
وأما الحديث الثاني : فرواه أبو يعلى والقاضي إسماعيل والحافظ الضياء محمد بن عبد الواحد المقدسي في المختارة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم قرب النسب وقرب الدار؛ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا له أضبط. انتهى.
وقال سعيد بن منصور في سننه: حدثنا عبد العزيز بن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهل قال : رآني الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة رضي الله عنها يتعشى فقال : هلم إلى العشاء فقلت : لا أريده فقال : ما لي رأيتك عند القبر ؟ فقلت : سلمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : إذا دخلت المسجد فسلم ثم قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (لا تتخذوا قبري عيداً، ولا تتخذوا بيوتكم مقابر، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم، لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) ما أنتم ومن في الأندلس إلا سواء.
وقال سعيد أيضاً: حدثنا حبان بن علي حدثنا محمد عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تتخذوا قبري عيداً ولا بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني)
قال شيخ الإسلام : فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث، لا سيما وقد احتج به من أرسله، وذلك يقتضي ثبوته عنده، هذا لو لم يرو من وجوه مسندة غير هذين فكيف وقد تقدم مسنداً ].
في هذين الحديثين دليل على أن قصد القبر للسلام غير مشروع، وإنما المشروع قصد المسجد، وفيه كذلك أن علي بن الحسين والحسن بن الحسن أخبرا أن هذا يدخل في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تتخذوا قبري عيداً)، فاستدلا به على المنع من قصد القبر؛ ولهذا قال: لا تفعل، يعني: لا تأت إلى القبر للسلام، وهذا لم يكن الصحابة يفعلونه، قال عبيد الله بن عمر عن نافع أن ابن عمر كان إذا أتى من السفر جاء إلى المسجد فصلى ركعتين، ثم جاء إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال: السلام عليك يا أبا بكر ، ثم قال: السلام عليك يا أبتي، ثم ينصرف، يقول عبيد الله بن عمر : ولم أعلم أحداً من الصحابة كان يفعل ذلك غير ابن عمر .
فمن فعل مثل هذا اقتداء بـعبد الله بن عمر فلا بأس إذا قدم من سفر، أما أن يقصد القبر للسلام فقط فهذا داخل في النهي. وكذلك يدل الحديث على أن الإنسان إذا جاء إلى المسجد النبوي ليصلي فلا يشرع له أن يذهب ويسلم؛ لأنه قال: لا تفعل، وفهموا أن هذا داخل في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ ولهذا ما كان أحد من الصحابة يفعل ذلك، ومعلوم أنه لو كان ذلك خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم أولى الناس بفعل الخير، وأبعد الناس عن فعل البدع والباطل.
وكذلك فيه دليل على أنه لا يقصد القبر للدعاء عنده؛ ولهذا أنكر مالك رحمه الله على أهل المدينة أنهم إذا دخلوا المسجد يقصدون القبر للسلام وللدعاء، وقال: لم يكن أحد من السلف يفعل ذلك، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها.
ثم إنه يجب على الإنسان أن يكون عمله متقيداً بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يرد عمله، فإذا لم يكن العمل مقيداً بالسنة فإنه مردود؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الدين الإسلامي مبني على أصلين عظيمين:
أحدهما: أن يكون الدين كله خالصاً لوجه الله، لا يراد به غير الله.
والثاني: أن تكون العبادة قد جاءت بالنص، جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: أنه لا يأله ولا يعبد إلا الله وحده، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أنه رسول جاء من عند الله، وأنه لا يعبد الله إلا بما جاء به هذا الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وليس الأمر مطلقاً لكل من أراد أن يفعل شيئاً فعله أو استحسن شيئاً سلكه، وإذا رأى أحداً يفعل شيئاً مخطئاً سواء عن حسن قصد أو عن غيره فإنه لا يجوز له الاقتداء به.
وهذه المسألة الأخيرة وهي كونه لا يقصد القبر للدعاء؛ يقول عنها شيخ الإسلام ابن تيمية : ما أعلم فيها خلافاً بين السلف، يعني: أنها محل إجماع، لا أعلم فيها خلافاً بين السلف، هكذا يقول، وهذا يدل على أنها من البدع التي جاء به الخلوف.
وأما ما يذكر في كتب الفقه وغيرها من ذكر خلاف في المسألة، وبعضهم قد يرفع هذا الخلاف إلى بعض علماء السلف، أنه إذا سلم هل يدعو ويتجه إلى القبر أو يتجه إلى القبلة، فهذا لا يدل أن هذا محل دعاء، بل من قصد هذا المكان للدعاء فقد ابتدع وجاء بخلاف النص الذي نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا، وجعله من الذرائع التي يدخل منها الشيطان إلى الإنسان لإفساد عبادته، فمثل هذا يدخل في قاعدة: سد الذرائع، وحماية المصطفى صلى الله عليه وسلم لجناب التوحيد.
حفظ أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها ليست كثيرة، وعلى كل حال هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ابن بنته، وكان يحبه هو وأخوه الحسن ، ويجب محبتهما لقرابتهما ولصحبتهما ولتقواهما لله جل وعلا، وأما ما حدث له من الاستشهاد فهذا حدث من قوم فجرة، ولا يجوز أن ينسب هذا إلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما يقوله أهل البدع، ويضيفون قتله إلى الأمة عموماً، فإن الأمة مجمعة على أن من فعل ذلك فقد استحق من الله جل وعلا العذاب والنكال، ولكن ليس استشهاده رضي الله عنه وقتله ظلماً بأكثر من قتل أبيه رضي الله عنه، فإن أباه أيضاً أفضل منه وقد قتل أيضاً ظلماً،وهو أحد الخلفاء الراشدين، فلا يجوز أن يتخذ مقتله مأتماً ومناحاً ومثاراً للفتن وبثاً للبدع.
الإنسان إذا أصيب بمصيبة يجب أن يصبر ويحتسب ويسترجع، أما أن يتخذ هذا وسيلة لنشر البدع وإثارة الفتن فهذا من أكبر المفسدات التي ينهى عنها الإسلام، وقبل ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل ظلماً، وقتل وهو قائم يصلي، ولا يجوز أن نتخذ هذا المقتل أيضاً مناحاً ومأتماً، وكذلك الخليفة بعده عثمان رضي الله عنه قتل في بيته ظلماً، حصر ثم قتل ظلماً، وهو صابر محتسب، وأبى أن يقاتل عن نفسه حتى لا يكون سبباً في سفك دماء هذه الأمة، فهذه كلها من العظائم الكبيرة، ومع ذلك لا يجوز أن نتخذ هذه الأشياء مآتم ومناحات ومسارات بالنعرات الخبيثة التي تعزز الفساد والفتن، وإنما يتخذ ذلك أصحاب الأهواء الذين لهم مقاصد فاسدة.
قوله : فيدخل فيها فيدعو فنهاه، هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها].
ينهى عنه مطلقاً، ويدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا استدل به من استدل على المنع من ذلك، لقوله: لا تفعل، يعني: تأتي للسلام والدعاء، فإن هذا داخل في قوله: لا تتخذوا قبري عيداً.
قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى : ما علمت أحداً رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيداً، ويدل أيضاً على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه؛ لأن ذلك لم يشرع، وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل الإنسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك ]
ومن ذلك أيضاً التوجه إليه وهو في مكانه إذا دخل أو إذا أراد أن ينصرف، فبعضهم يتجه إلى القبر ويسلم، فإن هذا من البدع أيضاً، وكل بدعة ضلالة.
قال الشارح رحمه الله: [ ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها. وكان الصحابة والتابعون رضي الله عنهم يأتون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فيصلون، فإذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا، ولم يكونوا يأتون القبر للسلام، لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل، وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم عنه في قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني) فبين أن الصلاة تصل إليه من بعد وكذلك السلام، ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد، وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب ].
يعني: أنهم يتمكنون من الوصول إلى القبر ولا يفعلون ذلك؛ لأنهم ممتثلون لقوله صلى الله عليه وسلم، وهم أعلم الناس بمراده صلوات الله وسلامه عليه، ولم يكن الشيطان يطمع فيهم بأن يصدهم عما جاء به نبيهم صلى الله عليه وسلم كما طمع في بعض المتأخرين، وربما جاءهم في صورة ظاهرة؛ ولهذا يذكر من الحكايات الباطلة التي لا يجوز أن يعتمد عليها أشياء من هذا النوع، مثل أن فلاناً أتى فسلم وتكلم ودعا فخرجت يد من القبر وصافحته! وما أشبه ذلك من الحكايات التي إما أن تكون مكذوبة، أو تكون من الشيطان ليصد الناس عن الحق، فهذه لا يجوز أن تكون قاضية على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى سيرته ودعوته التي امتثلها صحابته؛ ولهذا ما حدث شيء من ذلك في زمن الصحابة، ولا كان أحد منهم يفكر أن يأتي إلى القبر يدعو أو يسأل صاحب القبر صلوات الله وسلامه عليه عن قضية من القضايا، أو عن حديث من الأحاديث أو ما أشبه ذلك؛ لأن الشيطان لم يطمع فيهم.
بخلاف من أتى بعدهم فقد طمع وأدرك منهم بعض الأشياء، وهذا أيضاً يحدث عند القبور الأخرى، كثير منهم يذكر أنه إذا جاء إلى القبر الذي يعتقد في صاحبه يقول: إنه يخرج صاحب القبر ويكلمه ويقضي حوائجه ويساعده في أشياء، والواقع أن الشيطان يتصور في صورة هذا المقبور، فيتمثل له ليفتنه؛ لأنهم يتعلقون بالمقبورين، وهذا هو سبب عبادة القبور، والسبب الذي دعا الناس إلى الاتجاه للقبور هو مثل هذه الأمور؛ ولذا نهى المصطفى صلوات الله وسلامه عليه عن قصد القبور خوفاً أن يقع مثل هذه الأشياء.
قال الشارح رحمه الله: [ قال: وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر، وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون عليه، لا للسلام ولا للصلاة، ولا للدعاء لأنفسهم، ولا لغيرهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاماً أو سلاماً فيظنون أنه هو كلمهم، وأفتاهم، وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عند قبره وقبر غيره، حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر، ويرونه خارجاً من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
والمقصود: أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف، وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر يفعله ].
هذا لم يرد إلا عن ابن عمر فقط كما قال عبيد الله بن عمر : ما أعلم أحداً من الصحابة فعل ذلك غير عبد الله بن عمر .
قال الشارح رحمه الله: [ قال عبيد الله بن عمر عن نافع : كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر ! السلام عليك يا أبتاه ! ثم ينصرف. قال عبيد الله : ما نعلم أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك إلا ابن عمر ، وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: لأن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة، وفي المبسوط: قال مالك : لا أرى أن يقف عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يسلم ويمضي، ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره ].
يعني عند السلام، ولكن الصواب إذا أراد أن يسلم يتجه إليه، ويسلم عليه، أما الدعاء فلا، وليس هذا مكاناً للدعاء، ولا ينبغي أن يقصد للدعاء، فإن هذا كما قال شيخ الإسلام بدعة.
عطف المشاهد على القبور ليس معنى ذلك أن هذه مغايرة، هذا من عطف الخاص على العام، ذلك أن المشاهد تكون خاصة لبعض من يعظموا القبور التي يبنى عليها القباب والأبنية التي تدل على التعظيم، سميت مشاهد؛ لأنها تشاهد من بعد، ومن شاهدها عرف أنها على قبر معظم، وهذه من أعظم البدع التي حدثت في الإسلام، وأول من فعل ذلك بنو عبيد القداح الرافضة الذين ملكوا مصر والمغرب، وزعموا أنهم من أبناء فاطمة ، وهذا كذب كما بينه العلماء، فليس لهم نسب يتصل بـفاطمة وإنما هم ملاحدة، يقول ابن الجوزي والباقلاني والغزالي : ظاهرهم الرفض، وباطنهم الكفر المحض.
فهم أول من فعل هذه الفعلة الخبيثة التي صدت كثيراً من الناس عن التوحيد، وأدخلتهم في الشرك، فهذه هي المشاهد، ثم وجد من الناس من يعظمها تعظيماً مبالغاً فيه، وكتبوا كتباً سموها حج المشاهد، وبعضهم فضل قصدها والذهاب إليها على قصد بيت الله الحرام! وهذه محادة ظاهرة لله جل وعلا ولرسوله.
وقد استفتي بعض العلماء فيمن يقصدها أو يحمل من يقصدها، فقال في الجواب: قصدها لأداء شيء من العبادة ردة عن الإسلام، أما حمل من يقصدها فهو من أعظم الكبائر، ويخشى على من فعل ذلك أن يكون مرتداً، هكذا أجاب عبد اللطيف بن حسن بن عبد الرحمن رحمه الله. والمقصود أن عطف المشاهد على القبور من عطف الخاص على العام.
قال الشارح رحمه الله: [ نص عليه مالك ، ولم يخالفه أحد من الأئمة، وهو الصواب لما في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) فدخل في النهي شدها لزيارة القبور والمشاهد، فإما أن يكون نهياً وإما أن يكون نفياً، وجاء في رواية بصيغة النهي، فتعين أن يكون للنهي؛ ولهذا فهم منه الصحابة رضي الله عنهم المنع، كما في الموطأ والمسند والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لـأبي هريرة وقد أقبل من الطور: لو أدركتك قبل أن تخرج إليه لما خرجت؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى) ].
الطور هو الجبل الذي ذكر الله جل وعلا أنه كلم موسى عنده، وذكر في القرآن أنه من الأماكن المباركة، فلا يشرع قصده تبركاً لهذا الحديث، وإنما المشروع قصده بإعمال المطي -يعني: بالسفر إليه بأي وسيلة كانت سواء كانت بالسيارات أو الأقدام أو غيرها- المساجد الثلاثة فقط لأجل أداء العبادة فيها، ليس لأجل زيارة قبور أو غيرها.
أما قصد المسجد الحرام فهذا فريضة على كل مسلم مستطيع، لا بد منه، إذا كان مستطيعاً؛ لأن الله افترض ذلك، وأما قصد المسجدين الآخرين مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى لأداء العبادة فيها فهو سنة؛ لأن العبادة تضاعف فيها، فقط لأجل ذلك، أما أن يكون مقصوداً لأجل الحضور عند القبور سواء كانت قبور الأنبياء كقبر إبراهيم الخليل أو قبر رسولنا صلى الله عليه وسلم فهذا من البدع، وهذا أيضاً يكون مخالفاً لنص الحديث، وليس معنى ذلك أن هذا ممنوع في كل سفر يقصد لأمور الدنيا، فإن أمور الدنيا لا تدخل في هذا، التجارة والسياحة والفرجة والعلاج وغير ذلك هذه ليست عبادة، وإنما المقصود الذي يسافر إليه تعبداً، فلا يجوز إلا لهذه المساجد الثلاثة.
قال الشارح رحمه الله: [ وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال : أتيت ابن عمر فقلت : إني أريد الطور فقال : إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، فدع عنك الطور ولا تأته، فـابن عمر وبصرة بن أبي بصرة جعلا الطور مما نهي عن شد الرحال إليه؛ لأن اللفظ الذي ذكراه في النهي عن شدها إلى غير الثلاثة مما يقصد به القربة، فعلم أن المستثنى منه عام في المساجد وغيرها، وأن النهي ليس خاصاً بالمساجد؛ ولهذا نهيا عن شدها إلى الطور مستدلين بهذا الحديث، والطور إنما يسافر من يسافر إليه لفضيلة البقعة، فإن الله سماه الوادي المقدس والبقعة المباركة، وكلم كليمه موسى عليه السلام هناك، وهذا هو الذي عليه الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، ومن أراد بسط القول في ذلك والجواب عما يعارضه فعليه بما كتبه شيخ الإسلام مجيباً لـابن الأخنائي فيما اعترض به على ما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وأخذ به العلماء، وقياس الأولى؛ لأن المفسدة في ذلك ظاهرة ].
سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن شد الرحال إلى القبور فأفتى بالمنع، وقال: ما أعلم أحداً من العلماء أجاز ذلك واستدل بالحديث: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، وأدخل في ذلك قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقام ابن الأخنائي فرد عليه، وقال: إن شد الرحال إلى قبر الرسول صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال، واستدل بأحاديث موضوعة، وأوضاع وجد الناس عليها، فحاول أن يخطئ شيخ الإسلام في ذلك، فرد عليه شيخ الإسلام بكتاب مطبوع الآن، ومتداول بين طلبة العلم، فيه البسط لهذه المسألة، وذكر كلام العلماء والأحاديث التي تبين أن قول هذا الرجل قول مخالف للكتاب والسنة ولإجماع السلف، وأنه قول باطل، فصار في هذا خير كثير لطلبة العلم وللمسلمين، وطبع الكتاب باسم: الرد على الأخنائي ، وسماه بعضهم (الجواب الباهر فيمن جوز زيارة المقابر ) أما شيخ الإسلام ابن تيمية ما كان يسمي كتبه، وإنما يسميها أصحابه والذين ينسخونها، وأحياناً يسمي وهذا نادر، وكل كتاب كتبه هو جواب سؤال، وليس له كتاب كتبه استقلالاً، جميع كتبه التي انتشرت على كثرتها وعلى كبر بعضها كلها أجوبة أسئلة، وكان مجاهداً في سبيل الله، دائماً يجيب السائلين، ويفتي المستفتين، ويبحث عن مشاكل المسلمين.
قال الشارح رحمه الله: [ وأما النهي عن زيارة غير المساجد الثلاثة فغاية ما فيها : أنها لا مصلحة في ذلك توجب شد الرحال، ولا مزية تدعو إليه، وقد بسط القول في ذلك الحافظ محمد بن عبد الهادي في كتاب (الصارم المنكي في رده على السبكي ) ]
وهذا ابن السبكي أيضاً بجانب ابن الأخنائي قام يرد على شيخ الإسلام ، فلفق أحاديث موضوعة وأشياء واهية لا قيمة لها، وزعم أن هذا مشروع، فرد عليه تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية ابن عبد الهادي في كتاب سماه ( الصارم المنكي في الرد على ابن السبكي )، وابن السبكي سمى كتابه: شفاء السقام في زيارة خير الأنام، وجعله رداً على شيخ الإسلام ابن تيمية ، ثم هذه المسألة توارثها من بعدهم إلى اليوم، كثير من الناس يرثون هذه المسألة بعضهم عن بعض، فأولهم هؤلاء، فجاء بعدهم من نمى هذه الأمور، وصار يكتب فيها إلى اليوم، ولهؤلاء القوم وارث، وكل تعلقهم إما أحاديث مكذوبة، أو أحاديث واهية، أو حكايات منامات، وأمور من هذا القبيل، أو أن فلاناً قال كذا، وفلاناً قال كذا، هذا كل ما تعلقوا به، وليس لهم حديث صحيح أو آية تدل على ذلك، إلا أن يحرفوه عن المقصود لأجل أن يوافق الهوى، وأهل البدع كلهم يسلكون هذا المسلك.
الأحاديث التي تنكر مثل قوله: (من زارني كنت له شفيعاً)، وهذا كذب عليه صلوات الله وسلامه عليه، ومثل قولهم: (من حج ولم يزرني فقد جفاني) وما أشبه ذلك، والعجيب أن الشوكاني رحمه الله في نيل الأوطار لما جاء إلى كتاب الجنائز وانتهى منه، قال: إن المجد ابن تيمية جد شيخ الإسلام لم يذكر زيارة القبور، ثم عقد فصلاً في الزيارة، وذكر كثيراً من هذه الأحاديث الواهية، وجعلها دليلاً على مشروعية ذلك، وهذا غريب من الشوكاني رحمه الله! لأن الشوكاني معروف أنه يتبع الدليل، ولكن الجواد قد يكبو، وكل أحد قد يخطئ، ولا يجوز متابعة المخطئ على خطئه.
قال الشارح رحمه الله: [ قوله : رواه في المختارة، المختارة : كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة عن الصحيحين.
ومؤلفه : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام، قال الذهبي : أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين، والورع، والفضيلة التامة، والإتقان، فالله يرحمه ويرضى عنه.
وقال شيخ الإسلام : تصحيحه في مختاراته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب، مات سنة ثلاث وأربعين وستمائة ].
الأولى : تفسير آية براءة ] .
سورة براءة المقصود بها قوله جل وعلا: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] ومقصوده بقوله: تفسير آية كذا: أن يفهم الإنسان معنى الآية؛ لأنه إذا لم يفهم معناها ما فهم مراد الشيخ وكلامه، فينبغي أن يفهم مراد الله ولو على سبيل الإجمال، أما سبيل التفصيل فقد يتطلب جهداً كبيراً، إذ كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام البشر، ففيه من الهدى والنور الشيء الذي لا ينتهي.
[المسألة الثانية : إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد ].
يعني: حمى التوحيد، أبعدهم عن الشرك بعداً كثيراً جداً؛ بأن نهاهم عن الوسائل التي يمكن أن تقربهم إلى ذلك، هذا معناه.
[ المسألة الثالثة: ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته ].
وقوله: هذا مأخوذ من الآية لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128]، فحرصه على هدايتنا يجعله يبعدنا كل البعد عن ذلك، ومعنى قوله: ( عزيز عليه ما عنتم ) أي: أنه يشق عليه الشيء الذي يشق علينا، ومعلوم أن الإنسان بطبيعته وبعقله يبتعد عن الأمور الشاقة، ويحذر منها، فكيف إذا كان أفضل الخلق وأعلم الخلق بالله جل وعلا؟! ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أوتي من المقدرة ومن العلم ومن البيان ما لم يؤت غيره صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك من النصح لأمته، ومن البلاغ الذي أمره الله جل وعلا به، كل هذا يقتضي أنه يقوم بهذا الجانب أتم القيام، فدل ذلك دلالة واضحة على منع الأمة من هذه الأمور.
[ المسألة الرابعة : نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص ، مع أن زيارته من أفضل الأعمال ].
النهي عن زيارته على وجه مخصوص يعني أن يتخذ عيداً، وهو كثرة الترداد إليه، أو أن يكون في وقت معين يقصده، وقوله: مع أن الزيارة من أفضل الأعمال، هذا سنده فيه ما جاء في سنن أبي داود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلم علي عند قبري سمعته)، فاستدل بهذا أن هذا من الفضائل، وقد اعترض على هذا القول بعض العلماء وقال: هذا فيه نظر، ولكن ما دام له سند صحيح لا يجوز أن ينظر فيه، وليس هذا من قول شيخ الإسلام ابن عبد الوهاب استقلالاً، بل هو أخذ هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ، فإنه قال هذا اللفظ تماماً، فتبعه في ذلك، ولكن المستند هو ما ذكرت من الحديث.
[ المسألة الخامسة : نهيه عن الإكثار من الزيارة ].
وهو مفهوم من قوله: (لا تتخذوا قبري عيداً)؛ لأنها إذا كثرت صار عيداً، فدل على النهي من الإكثار منها.
[ المسألة السادسة : حثه على النافلة في البيت ].
هو مأخوذ من قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) لأن النافلة في البيت أفضل منها في المساجد؛ لعلة أنها أقرب إلى الإخلاص، وأبعد عن الرياء.
[ المسألة السابعة : أنه متقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة ].
وهذا أيضاً مأخوذ من هذا الحديث في قوله: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً) فمعناه: لا تجعلوا بيوتكم شبيهة بالقبور، إذ إنه متقرر عندهم أنها ليست محلاً للعبادة، فهي مهجورة من العبادة، ولا ينبغي أن يهجر البيت فيكون شبيهاً بالقبر، فدل على أن هذا أمر متقرر عندهم، فهم يعرفون أن القبور ليست محلاً للتعبد.
[ المسألة الثامنة : تعليله ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد ، فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب ].
مثلما جاء صريحاً في قول الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء) يعني: إذا سلم الإنسان أو صلى على الرسول صلى الله عليه وسلم في أي مكان فإنه يبلغه الله جل وعلا إياه.
هذا أخذه من حديث: (إنه بلغه السلام)، وهذا يدل على أنه صلوات الله وسلامه عليه لا يعلم ما يجري حتى يبلغ إياه، يبلغ من الملائكة أو من ربه جل وعلا، كما أنه يدل على أنه حي في قبره، وهذا ليس خاصاً به صلوات الله وسلامه عليه، ولكن حياته صلوات الله وسلامه عليه أكمل من حياة غيره، وحياة الأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الآخرين من الناس، ولكنها حياة لا نعرف حقيقتها، حياة برزخية مخالفة للحياة الدنيا، وعقيدة أهل السنة أن الروح لا تموت، فهي حية، والإنسان إذا وضع في قبره يحيا، وقد جاء ذلك صريحاً في الحديث الذي في البخاري: (إذا وضع الميت في قبره أتاه ملكان، وأعيدت الروح إليه، فيجلسانه ويسألانه) وهو يخاطبهما، وهذا علمه عند الله جل وعلا، ومعلوم أن الإنسان يوضع في قبره ويبقى على الحالة التي هو عليها، فأمور البرزخ على خلاف ما نعهده نحن، يعني: يجوز إجلاسه وتكليمه وهو على وضعه الذي وضع عليه، وليس كما يقول الزنادقة المنكرين: نحن نضع الزئبق في عين الميت أو على رأسه ثم نأتي بعد وقت ونراه ما تغير من موضعه، فلا توجد حياة ولا حركة ولا سؤال، فهؤلاء لا يؤمنون إلا بالمحسوسات، ولكن هذا من أمور الغيب التي أمرنا بالإيمان بها ولا نعرف حقيقتها، وقد جاء في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لولا ألا تدافنوا لسألت الله أن يريكم عذاب القبر)، ولكن لو أرينا عذاب القبر ما استطعنا أن نقرب القبور، ولا استطعنا أن ندفن الموتى للهول العظيم، وقد يظهر الله جل وعلا شيئاً من هذا آية وموعظة لبعض الناس، وهذا كثير جداً، وقد شاهد الناس أشياء عجيبة، وليس الأمر مبني على هذه المشاهدات، ولكن مبني على النصوص التي جاءت في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ونؤمن بأنها حق ولو لم نشاهد شيئاً، فإذا جاءت المشاهدات والحكايات التي تحدث لبعض الناس يكون ذلك مؤيداً فقط، وأدلة على أدلة، وقد ألف الحافظ ابن رجب رحمه الله كتاباً في هذه المسائل سماه: أهوال القبور وأحوال أهلها إلى النشور، وكذلك كثير من العلماء ألفوا كتباً كثيرة، وذكروا فيها أشياء كثيرة من هذه الأمور.
والمقصود: أن الحياة البرزخية حياة حقيقية، ولكنها مخالفة للحياة التي نعرفها من حياتنا هذه، وهي من أمور الآخرة، فالقبر أول منازل الآخرة.
والقبر إما أن يكون روضة على صاحبه فيه من الحبور والسرور الشيء الذي يتنعم به، أو يكون حفرة من النار تلتهب على صاحبه، وبين هذين الشيئين أمور كثيرة على حسب حالة الإنسان ووضعه وذنبه، فقد يعذب عذاباً مؤقتاً ثم يزول، قد يبقى سنة، قد يبقى سنتين، قد يبقى عشر سنوات، قد يبقى مائة سنة، أو أكثر من ذلك وهو معذب، ثم ينقطع عذابه على قدر ذنبه، وقد يبقى عذابه إلى البعث، ثم يتصل عذابه بالوقوف بالموقف، والموقف ليس سهلاً، جاء أنه مقدار خمسين ألف سنة، وفي بعضها أنه ألف سنة، وفي بعضها أنه أربعون ألف سنة، وعلى كل حال هو وقوف طويل، وقد سماه الله جل وعلا يَوْمًا ثَقِيلًا [الإنسان:27]، وقد سماه يوماً عسيراً، وسماه عبوساً قمطريراً، فشره مستطير، وخوفنا منه كثيراً جل وعلا، وقد يتصل العذاب بعد ذلك ويكون في النار، وهي أشد العذاب نسأل الله العافية!
جاء في بعض الأحاديث أن الناس يشتد كربهم، فيسألون الفصل بينهم والقضاء بينهم ولو إلى النار؛ من شدة الوقوف، ويتصورون أن إلقاءهم في النار أسهل مما هم فيه، وليس كذلك، فأمور الآخرة كل شيء يأتي يكون أشد من الذي قبله، فالأمر ليس سهلاً، هذا الإنسان خلق لأمور هائلة جداً، ومع ذلك يلهو ويسهو ويلعب، وقد يعصي عن عمد؛ لأن الإنسان أمره عجيب جداً، هو جبار متكبر، وهو ضعيف أدنى شيء يعثره، فهو من أضعف خلق الله، الذرة تؤذيه، لو دخلت في أذنه أو في عينه آذته، وهو كذلك ظلوم، جهول، ومعاند، ولكنه سهل جداً بيد الله، والله جل وعلا يحلم على عباده ولا يعاجلهم بالعذاب؛ لأن مصيرهم إليه، وسوف يأتونه فراداً، كل واحد يأتيه كيوم ولدته أمه، عريان بلا ثوب، ولا نعل، ولا طعام، ولا ظل، ولا شافع، ولا نافع، ما يملكون شيئاً، وهذا ليس بعيداً، الله جل وعلا أخبر أنه قريب، بل أخبر أن قيام الساعة كلمح البصر، ليس الأمر بعيداً، فلا يجوز للإنسان أن يهمل هذا الأمر، يجب أن يعد ويستعد ويعمر بيته الذي يبقى فيه طويلاً أكثر من بقائه في عمارته التي يزوقها ويحسنها ويجلب إليها كل وسيلة مريحة، فيبقى فيها قليلاً، ثم يخرج منها بالقوة، لا يخرج هو، بل يُخرَج.
زار أحد السلف أبا ذر فما رأى في بيته شيئاً! لا إناء، لا فراش، لا سرير، قال: أين أثاثكم؟ فقال: لنا بيت نرسل إليه، بيت آخر نعمره، قال: ولكن لا بد لكم من شيء، قال: وهل أنتم سترتحلون؟ قال: لا، لا نرتحل ولكن نُرحل بالقوة، نزعج ونطرد طرداً من هذا، فنحن نعمر البيت الذي أمامنا وسنبقى فيه طويلاً، هذا هو الذي ينبغي أن يعمره الإنسان، وليس معنى ذلك أن الإنسان يعطل أمور دنياه نهائياً، لا، ما يعطلها، ولكن عليه أن يتقي الله، لا يفعل المحرمات، ولا يأكل المحرم، ويتقوى بالحلال على بقائه في هذه الدنيا، ويعرف أنه سيذهب إلى الله جل وعلا ليحاسبه، ثم إذا أدخل قبره ليس معناه أنه يكون نسياً منسياً، كلا، إما أن ينعم أو يعذب، فليستعد لهذا الأمر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر