إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [61]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أخبرنا الله تعالى في كتابه أنه اتخذ إبراهيم خليلاً، وجاء عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه خليل الرحمن، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم المرسلين صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده حباً يليق به سبحانه، وحبه تعالى ليس لأنه محتاج إلى أحد من عباده، بل هو كرم منه سبحانه وتعالى، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من خلة أحد من البشر حتى لا يشارك أحدٌ ربه عز وجل في خلته صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    ثبوت خلة النبي صلى الله عليه وسلم لربه

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ولـمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) ].

    قوله: (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) البراءة: هي الابتعاد عن الشيء والتخلص منه نهائياً، بحيث لا يقرب. والخلة: هي أعلى مراتب الحب، ليس بعدها شيء من مراتب الحب، سميت خلة؛ لأنها تتخلل جميع القلب، فلا يبقى في القلب موضع لغير الخليل، كما قال بعض الناس في امرأة يحبها:

    تخلل حبها الفؤاد مني ولذا سمي الخليل خليلا

    يعني: أنه ليس في فؤاده موضع خال عن حبها.

    الخلة أعلى مراتب الحب

    والله جل وعلا أخبرنا أنه اتخذ إبراهيم صلى الله عليه وسلم خليلاً، فالخلة الإلهية خاصة بإبراهيم وبخاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليهما، وفيه دليل على أن الله يحب من يشاء من عباده، حباً يليق به، وحبه جل وعلا ليس لأنه -تعالى وتقدس- بحاجة إلى شيء، بل هو كرم منه.

    والدليل على أن الخلة أعلى من الحب: أن الله جل وعلا ذكر أنه يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ [الصف:4]، وذكر أصناف كثير من المؤمنين وأنه يحبهم، ولم يذكر أنه اتخذ أحداً خليلاً إلا إبراهيم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم بين لنا أن الله اتخذه خليلاً، فصار هذا دليل على أن الخلة: أعلى مراتب الحب.

    1.   

    علو منزلة أبي بكر رضي الله عنه

    قول بعض الناس -الذين لا علم لهم-: إن الله اتخذ محمداً حبيباً! خطأ؛ لأن الخلة أعظم من المحبة، وقوله: (ولو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) يدلنا على أن أبا بكر رضي الله عنه هو أفضل الصحابة، وأقربهم إلى الله وسيلة وفضلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب ما يحبه الله جل وعلا.

    وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بأنه يحب أبا بكر ففي صحيح مسلم : (أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث عمرو بن العاص في سرية، ثم تخلف عمرو ليصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم الوقت الذي يليه هذا الوقت، فلما رآه قال: ألم أرسلك؟ قال: بلى، ولكن ذهب أصحابي وأردت أن أصلي معك ثم ألحق بهم، فأخبره صلى الله عليه وسلم أنه لا يدرك أجر اللحاق بهم بهذه الصلاة؛ لأن الذهاب في سبيل الله فضله عظيم، والشاهد: أن عمرو بن العاص سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أي الناس أحب إليك؟ والرسول صلى الله عليه وسلم لا يخشى أحداً، ولا يداري أحداً، ولا يجامل صلوات الله وسلامه عليه أحداً، فقال: عائشة ، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، ثم قال له: ثم من؟ قال: ثم عمر ، فسكت) فهذا نص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحب عائشة ، وأن عائشة أحب الناس إليه من النساء، وأن أباها أحب الناس إليه من الرجال، ثم يلي ذلك عمر رضي الله عنه، وهذا لا ينافي قوله: (لو اتخذت أحداً منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر) بل يدل هذا على معنى، وهذا على معنى، فدل على أن الخلة أعلى من المحبة، وهذا واضح.

    واستدل بهذا بعض العلماء على خلافة أبي بكر ؛ لأنه ما دام هو أفضل الصحابة، وأحب الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو الأولى بالخلافة، وهناك أدلة أوضح من هذا وأجلى، وهي ثابتة في الصحيح.

    منها: أمره صلى الله عليه وسلم له بأن يصلي بالناس، والصلاة هي أعظم ما يجتمع عليه المسلمون من أمورهم، ولهذا فهم ذلك الصحابة وقالوا: رضيه لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟!

    ومنها: (أنه جاءته امرأة تطلب حاجة، فقال: ائتيني يوم كذا وكذا، أو بعد وقت كذا وكذا، فقالت: أرأيت إن لم أجدك؟ -يقول الراوي: تقصد الموت- قال: ائتي أبا بكر .. ).

    ومنها: ما ثبت في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رأيتني على قليب أنزع، فنزعت ما شاء الله أن أنزع -يعني: بالدلو لاستخراج الماء- فجاء أبو بكر ليريحني فنزع ذنوباً أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم جاء عمر فتحولت الدلو غربا -الغرب: معروف أنه الجلد الكبير الذي لا يخرجه إلا البعير أو ما أشبهه من البئر- فما رأيت عبقرياً ينزع نزعه، حتى شرب الناس وارتووا وضربوا بعطن) فهذا أيضاً واضح بأن المقصود به الخلافة.

    ومنها: ما ثبت في الصحيح أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر رؤيا رآها، فقال: إني رأيت سبباً أدلي من السماء فتعلقت به أنت فذهبت، ثم تعلق به أبو بكر ، فصعد، ثم تعلق عمر فصعد، ثم تعلق عثمان فصعد، ثم تعلق علي فنشب فأصابه كذا وكذا -يعني: أشياء - عند ذلك تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم } وأحاديث كثيرة كلها تدل على المعنى الذي أردناه.

    1.   

    خلاف العلماء في خلافة أبي بكر هل هي نص أم إشارة

    اختلف العلماء: هل خلافة أبي بكر نص أو أنها إشارات وإيماء؟ فمنهم من قال: إنها منصوص عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من قال: هي إشارات، وهذا هو الواقع، والإشارات هذه قريبة من التصريح، وأما ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في مرض موته: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً أن لا تضلوا بعدي، فاختلفوا فمنهم من يقول: نأتي بالكتاب، ومنهم من يقول: هل قال هذا من شدة المرض أو أنه يقصد ذلك، فلما اختلفوا قال: قوموا عني فما أنا فيه خير مما أنتم فيه) فلم يكتب، وقال ابن عباس : (الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الكتابة)، وقالوا: إن هذه الكتابة هي كتابة بالخلافة، والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يكتب شيئاً لم يمنعه أحد من الكتابة، ولأمر أن يكتب، ولهذا جاء في رواية: (أنه صلى الله عليه وسلم قال لـعائشة : ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما لئلا يقول قائلٌ، ثم بعد ذلك قال: ولكن يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر فترك الكتابة) فرأى أن تركهم بدون كتابة واجتماعهم عليه بالاتفاق أحسن وأولى، كما قال: (يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)

    قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك) المقصود بالقبور هنا: عموم القبور؛ لأن نهي النبي إذا كان موجهاً إلى قبور الأنبياء فقبور غير الأنبياء أولى بأن يوجه النهي إليها، وأن يمنع من اتخاذها مساجد، ثم ليس معنى ذلك: أن تبنى عليها المساجد وتقصد، بل المقصود أن لا يصلى عندها؛ لأن كل مكان صليت فيه فهو مسجد، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي إنسان أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) وهذا من خصائص هذه الأمة، فأي موضع يصلي فيه الإنسان يكون مسجداً، فمعنى ذلك: أنه لا يجوز أن يصلى عند القبور؛ لأنه منهي عنه، ولهذا نص العلماء: على أن الصلاة لا تصح في المقبرة، أو عند القبر، مطلقاً، بل قالوا: لا تنعقد أصلاً لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إيقاعها في لك الموضع.

    وأما ما جاء من أنه صلى الله عليه وسلم صلى على بعض القبور فإن هذا خاص بالصلاة على الجنازة، وقالوا: إذا كان في المقبرة حائل فيجوز أن تصلي على الميت خاصة، أما غير صلاة الجنازة فلا يجوز مطلقاً؛ لهذه الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا سيما وهي أحاديث قالها وهو في مرض موته صلوات الله وسلامه عليه، ولا يمكن أن يقول قائل: إن هذه منسوخة، أو إنها خاصة، بل هي عامة وظاهرة في أنه قصد بها المنع من الصلاة عند المقابر.

    ولـمسلم عن جندب بن عبد الله قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل؛ فإن الله قد اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك)

    1.   

    قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن الله قد اتخذني خليلاً)

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله: (عن جندب بن عبد الله ) أي: ابن سفيان البجلي وينسب إلى جده، صحابي مشهور، مات بعد الستين.

    قوله : (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل) أي: أمتنع عما لا يجوز لي أن أفعله، والخلة فوق المحبة، والخليل هو المحبوب غاية الحب، مشتق من الخَلة ـ بفتح الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، كما قال الشاعر :

    قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا

    هذا هو الصحيح في معناها كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم رحمهم الله تعالى.

    قال القرطبي : وإنما كان ذلك؛ لأن قلبه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع خلة غيره.

    قوله: (فإن الله قد اتخذني خليلاً) فيه بيان أن الخلة فوق المحبة.

    قال ابن القيم رحمه الله : وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة، وأن إبراهيم خليل الله، ومحمداً حبيب الله؛ فمن جهلهم، فإن المحبة عامة، والخلة خاصة، وهي نهاية المحبة. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الله قد اتخذه خليلاً، ونفى أن يكون له خليل غير ربه، مع إخباره بحبه لـعائشة ولأبيها ولـعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وغيرهم رضي الله عنهم، وأيضاً جاء أنه يحب التوابين، ويحب المتطهرين، ويحب الصابرين، أما خلته فخاصة بالخليلين.

    قوله: (ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) فيه بيان أن الصديق أفضل الصحابة، وفيه: الرد على الرافضة وعلى الجهمية، وهما شر أهل البدع، وأخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد، قاله المصنف رحمه الله، وهو كما قال بلا ريب.

    وفيه: إشارة إلى خلافة أبي بكر ؛ لأن من كانت محبته لشخص أشد، كان أولى به من غيره، وقد استخلفه على الصلاة بالناس، وغضب صلى الله عليه وسلم لما قيل: يصلي بهم عمر ، وذلك في مرضه الذي توفى فيه صلى الله عليه وسلم.

    واسم أبي بكر : عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة .

    الصديق الأكبر، خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفضل الصحابة بإجماع من يعتد بقوله من أهل العلم. مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة، وله ثلاث وستون سنة رضي الله عنه].

    1.   

    معنى قوله: (كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد)

    قوله : (ألا) حرف استفتاح، (إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ...) الحديث قال الخطابي : وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم صنيعهم هذا مخرج على وجهين:

    أحدهما: أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيماً.

    الثاني: أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والتوجه إليها حالة الصلاة، نظراً منهم بذلك إلى عبادة الله، والمبالغة في تعظيم الأنبياء، والأول: هو الشرك الجلي، والثاني: الخفي؛ فلذلك استحقوا اللعن ]

    وقد عرفنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرص على سلامة عقيدة أمته من أن يدخلها شيء يكون حارفاً لها أو صارفاً لها عن أن تكون العبادة كلها لله جل وعلا، لأن هذه هي المهمة التي أرسل بها صلوات الله وسلامه عليه؛ ليُعبد الله وحده ويكون الدين كله لله، ولا يكون الدين موزعاً بين الله وبين خلقه، وإنما يخلص من الشوائب كلها، ويكون لله وحده، وليس فيه شيء للأنبياء، ولا للملائكة، ولا للجن، ولا لمخلوق من المخلوقات؛ لأن هذا حق خالص لله جل وعلا، الذي لا يقبل من العبد عملاً إلا إذا كان خالصاً له، فحرص صلوات الله وسلامه عليه على التنبيه على ذلك حتى في آخر لحظاته من الدنيا، وكان يكرر هذا ويبينه، ويلعن اليهود والنصارى؛ لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد؛ ليبين أن من فعل ذلك من أمته فهو ملعون مثلهم، أو أشد؛ لأن من خالف أفضل الرسل، وخير الأديان يكون عذابه أفظع وأعظم، وهذا مقرر في كتاب الله، وفي قصص الأنبياء، وكذلك في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال في هذا الحديث: (ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد، ألا فلا تتخذون القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك).

    1.   

    أقسام المحبة

    وقبل هذا بيّن صلوات الله وسلامه عليه أن ربه اتخذه خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، والخلة: هي نهاية المحبة التي ليس بعدها محبة؛ لأن المحبة درجات الواحدة فوق الأخرى، فأولها العلاقة، ثم الصبابة، ثم ترتقي شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى الخلة، غير أنه ينبغي أن يعلم أن المحبة تنقسم إلى قسمين:

    محبة عامة مشتركة بين الخلق، مثل: محبة الألفة، ومحبة الحنو والشفقة، ومحبة التوقير والتقدير، فالأولى: مثل محبة الزملاء الذين يكون بعضهم مع بعض، أو المتصاحبين، فهذه المحبة تحصل حتى بين الحيوانات؛ لأنها أمر طبيعي.

    والثاني: مثل محبة الولد الصغير والضعيف، فهي محبة شفقة وحنو ورحمة.

    والثالث: مثل محبة الوالد وهي محبة التقدير والتوقير، وكذلك محبة الطبيعة، مثل: محبة الجائع للطعام، والظمآن للماء، وما أشبه ذلك، فهذه وما أشبهها مشتركة بين الناس وليس فيها شيء من العبادة، ولا ضير على من وقعت منه.

    القسم الثاني: محبة خاصة وهي المحبة التي تتضمن الذل والخضوع والتعظيم، وهذه لا يجوز أن تكون إلا لله جل وعلا؛ لأنها عبادة.

    1.   

    محبة الله لعباده فضل منه على عباده

    محبة الرب جل وعلا لعبده شيء لا نعقل كيفيته، ولكن نعرف أنها على خلاف ما للمخلوق؛ لأن الله جل وعلا هو الغني بذاته عن كل ما سواه، ولا يحتاج لأحد من الخلق، وكل الخلق لو كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضر ذلك الله جل وعلا، ولا نقص من ملكه شيء، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً، فهو جل وعلا الكامل بذاته وصفاته، المستغني بذلك عن كل ما سواه، فإذا حب عبده فليس حبه لأجل الحاجة تعالى وتقدس، بخلاف العبد، فإن عبادته لربه ضرورية لا يستغني عنها أبداً، وإن انفك عنها فإن ذلك علامة على عذابه وشقائه الأبدي الذي لا يفارقه أبداً.

    فاتخاذ الرب جل وعلا عبديه ورسوليه إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم خليلين هذا إكرام لهما، وإعلاء لشأنهما، وليس لأن الله جل وعلا بحاجة إليهما، بل هو الغني بذاته عن كل ما سواه، فهو مجرد كرم وجود، وفضل تفضل به عليهما.

    وكذلك محبته لعباده المؤمنين، ومحبته للتائبين، ومحبته للمجاهدين في سبيله، ومحبته للمتطهرين، ومحبته للصادقين والصابرين، كل ذلك مجرد كرم وفضل وجود وإحسان، وإلا فهو جل وعلا لا تزيده طاعة الطائعين. وكثرتهم شيئاً، ولا تنقصه معصية العاصيين وكثرتهم شيئاً، كما في الحديث القدسي حديث أبي ذر رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم وفيه أنه جل وعلا يقول: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم؛ فلا تظالموا -إلى أن قال: - ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانو على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد منكم مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر) في آن واحد! في مقام واحد! لو أعطاهم كلهم، من أولهم إلى آخرهم، إنسهم وجنهم، حسب طلباتهم وما تنتهي إليه أمنياتهم، ما نقص ذلك مما عنده شيء تعالى وتقدس.

    والمقصود أن هذه الخلة التي اتخذها الله ليست إلا لإبراهيم ومحمد فقط صلوات الله وسلامه عليهما، فلم يتخذ من الناس خليلاً غيرهما.

    وليس معنى ذلك أن خلة الله على وفق ما يتصوره الإنسان مما يجده من نفسه، أو يعلمه من غيره من الخلق، فصفات الله لا تشبه صفات الخلق، كما أنه جل وعلا لا يشبه خلقه، بل يجب أن يعلم أن الله غني كريم جواد، وأنه ليس بحاجة لأحد، فهو غني عن خلقه، وكونه اتخذهما خليلين هو مجرد إكرام لهما، وإحسان إليهما، وكذلك كونه يحب العبد التائب، ليس ذلك لأنه يحتاج إلى توبته، وإنما هو مجرد فضل وجود، مع أنه جل وعلا شديد العقاب، ولهذا يقول جل وعلا لرسوله: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ [الحجر:49-50]، فليس هناك أحد أشد عذاباً من الله، فإذا عذب عبده فلا يبالي به، فقد يرميه في جهنم ولا يبالي، ولهذا كان أحد السلف يكثر من الاجتهاد في العبادة ويبكي، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف أن يرميني في جهنم ولا يبالي.

    فالرب جل وعلا غني عن جميع الخلق، فإذا أحب التائب فلكرمه وجوده، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لفرح الله عند توبة عبده -وهذا لا يستطيع أهل البدع سماعه فضلاً عن أن يقولوا به؛ لأنهم يحسبون أن هذا تشبيه؛ فهم لم يعرفوا من صفات الله جل وعلا إلا ما عرفوا من أنفسهم، حيث شبهوا أولاً، فكان التشبيه مستقراً في نفوسهم، ثم حملهم هذا التشبيه على نفي صفات الله جل وعلا- فقال صلوات الله وسلامه عليه: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب، من أحدكم يضل راحلته في الأرض المهلكة، عليها متاعه فيطلبها فلا يجدها، فييأس من وجودها، فيأوي إلى شجرة ويجلس تحت ظلها ينتظر الموت قد أيس من الحياة، فيضع رأسه لانتظار الموت، فبينما هو كذلك إذ راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح) (الله أشد فرحاً لتوبة عبده التائب من هذا)، هل لأنه يحتاج إلى طاعة العبد أو إلى توبته؟!

    كلا؛ ولكن لكرمه وجوده، ولهذا لا يدخل أحداً النار إلا إذا أعذر منه، فهو يدعو خلقه -بفضله وجوده وإكرامه- ولكنهم يأبون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كلكم يدخل الجنة إلا من أبى -فهناك من يدعى إلى الجنة، ويقال له: تعال ادخل الجنة، ويقول لا! لا أريدها!- قالوا: ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى).

    وكثير من الخلق يستبعد يوم القيامة؛ لأنهم لم يشاهدوا ما أخبرهم الله جل وعلا به، بل كثير منهم لا يؤمن بالله؛ لأنه لا يؤمن إلا بالمحسوسات المشاهدات، وقد وجد نفسه بين أمور اعتيادية، ليل يأتي ونهار يعقبه، وهو يأكل ويشرب... إلخ، فتصور أن هذه الأمور تتوقف عند هذا الحد، وأنه ليس بعد ذلك شيء.

    1.   

    فوائد إخباره صلى الله عليه وسلم بخلة الله له

    والخلة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فيها فوائد:

    الفائدة الأولى: جواز إخبار الإنسان عما لديه من الفضل والرفعة إذا كان ذلك لا يعلم إلا من جهته، وكان فيه مصلحة، مع أننا لا نقيس غير الرسول صلى الله عليه وسلم بالرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يفهم من ذلك؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).

    الثانية: براءته صلوات الله وسلامه عليه أن يكون أحد من الخلق خليلاً له، فإنه قال: (إني أبرأ إلى الله أن يكون أحد منكم خليلاً لي، فإن الله اتخذني خليلاً) والبراءة معناها: الخلاص من الشيء نهائياً؛ لئلا يكون داخلاً فيه أو عنده منه شيء، فهو يتخلص من ذلك ويبتعد عنه، هذا معنى البراءة.

    الأمر الثالث: فضل أبي بكر الصديق ، وأنه أفضل الصحابة على الإطلاق، حيث قال: (ولو كنت متخذاً -من الناس خليلاً - منكم خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً) ولكن الذي منع هذا هو كون الرب جل وعلا اتخذه خليل.

    الأمر الرابع: وفيه الإشارة إلى خلافة أبي بكر الصديق وهذا أمر واضح؛ لأن الفضل فيه ظاهر، ومن كان أفضل. وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب، فهو الذي ينبغي أن يكون خليفة له، والخلافة ليست هي الملك ، الخلافة خلافة النبوة، فالخليفة هو الذي يخلف من خلفه لتنفيذ أوامره، وإبلاغ ما كان يبلغه فقط؛ ولهذا خرج أبو بكر من الدنيا أفقر مما دخل في الخلافة بكثير، فما كان عنده شيء لما مات، كان عنده إداوة وقدح فبعث بهما إلى عمر ، فلما رآهما عمر بكى وقال: لقد كلفني الأمور الصعبة؛ ولهذا كان عمر رضي الله عنه يخطب الناس وفي درعه ما يقرب من ثلاثين رقعة، ولا يستعمل الأموال تأتيه، بل كان يقدم لنفسه ولأهله الطعام الناشف من شعير وما أشبه ذلك، ويجعل الأطعمة الطيبة للمسلمين.

    خرج يوماً من الأيام يعس في الليل حول المدينة بنفسه، فوجد خباءً فيه صبيان يتضاغون، وعندهم رجل يسكتهم ويقول: إن أمير المؤمنين مسئول عنكم؛ لأنه ليس لكم عشاء، فجاء إليه وقال: ما شأنك؟ قال: جئت من البر فلم أجد من يأويني ولا من يعشيني فقال: من المسئول عنك؟ قال: عمر ، قال: وما يدري عمر ؟ قال: عجيب! يتولى أمر المسلمين ولا يدري عني؟! فذهب عمر وحمل على ظهره دقيقاً وما يحتاج إليه، فجاء به إلى الرجل، وذهب يبحث عن الحطب، فأوقد القدر، فصار يطبخ وينفخ في النار، ويطير الرماد من جوانب لحيته والرجل لا يعرفه، حتى أنضج الطعام وقدمه للصبية وأكلوا وناموا، ثم بعد ذلك أعطاه ما يحتاج إليه وذهب، ثم عُلم به وقيل له: كيف تصنع هذا ولم تأمر غيرك؟! قال: غيري لا يتحمل وزري وذنبي، ولو عثرت بغلة في العراق في الطريق لخفت أن الله يسألني عن ذلك، لماذا لم تسوِّ لها الطريق؟! إلى هذا الحد كانوا يفعلون؛ لأنهم خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، ليسوا ملوكاً.

    فإذا كان أبو بكر أفضلهم فهو أولاهم بالخلافة، مع أن هناك أدلة واضحة جلية تدل على خلافته، ولهذا كثير من العلماء يقول: إن خلافته منصوص عليها نصاً، وقد جاء في مسند الإمام أحمد وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: (ادعي لي أخاك وأباك لأكتب لهما كتاباً؛ لئلا يقول قائل أو يجترئ مجترئ، ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) فترك الكتابة، وهذا صريح وواضح، فقد قاله في مرض موته صلى الله عليه وسلم.

    وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم للمرأة التي جاءت تطلب منه حاجة: (ائتيني يوم كذا .. قالت: أرأيت إن لم أجدك؟ قال: إن لم تجديني فأتي أبا بكر) إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الواضحة.

    وفيه أيضاً: أن الخلة غير المحبة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يحب عائشة ، ويحب أباها، ويحب معاذ ، ويحب عمر ، ويحب أناساً كثيرين من صحابته، ولكن بعضهم أحب من بعض، ففي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص

    رضي الله عنه: أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من؟ قال: ثم عمر فسكت) ولو زاد لزاد، وفي سنن الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال لـمعاذ : (يا معاذ ! إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك) ، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يحب الحسن والحسين وأنهما ريحانته من الدنيا، وأخبر أن علي بن أبي طالب يحبه الله ورسوله، والأحاديث في هذا كثيرة، أما الخلة فقد تبرأ أن يكون أحد منهم خليلاً له، فدل على بطلان من يقول: إن المحبة أكمل من الخلة كما ذكر المؤلف.

    والحديث يدل -أيضاً- على أمور منها:

    1.   

    نهى النبي عن اتخاذ القبور مساجد

    الأمر الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اهتم اهتماماً بالغاً في تصفية الدين، وتخليصه من شوائب الشرك، والتعلقات بغير الله، فنهى أن تتخذ المساجد على القبور.

    الأمر الثاني: أن اتخاذ المساجد على القبور من دواعي الشرك ووسائله، وأن فاعله عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى اتخاذ القبور مساجد أن تبنى عليها المساجد وتشيد وفقط، وإنما كل ما صلى فيه الإنسان سمي مسجداً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيّ رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) فالأرض كلها مسجد، والمسجد اسم لما يسجد فيه، ولهذا كل أماكن الصلاة التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سميت مساجد، وقد كان عبد الله بن عمر يتتبعها ويصلي فيها، ومن فعل ابن عمر هذا عرفت الأماكن التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه لم يوافقه على هذا أحد من الصحابة بل خالفوه، وممن خالفه أبوه، بل كلهم، ولا يعلم في الصحابة أحد سلك هذا المسلك إلا عبد الله بن عمر مع أنه ليس قصده ما يقصده الذين يتعلقون بالبقع والأماكن للتبرك فيها، ليس هذا مقصده، إنما مقصده التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يفعل الأفعال التي يفعلها، حتى إنه لما انصرف من عرفات، ووصل إلى الشجرة التي بال عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل فبال في ذلك المكان، وتوضأ وصب فضل وضوئه في قلب الشجرة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، ومثل هذا ليس تعبداً، ولكن مبالغة من عبد الله بن عمر في التشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم.

    أما الذين يعتنون بالآثار؛ لأجل البركة؛ ولأجل التعلق بها، فإنهم لا يفعلون ما يفعله عبد الله بن عمر بل إن قلوبهم متعلقة بغير الله، متعلقة بهذه البقع وهذه الأماكن، ويطلبون منها البركة والخير، والبركة والخير لن يكونا إلا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون إلا بطاعته وعبادة الله وحده، وأن يكون الدين كله لله، ليس فيه شيء لغيره جل وعلا.

    الأمر الثالث: أن اتخاذ المساجد على القبور ملعون فاعله، واللعن: هو الطرد عن الرحمة ومظانها، فمن لعنه الله ورسوله فهو المبعد عن كل خير، والرسول صلى الله عليه وسلم يلعن من يستحق اللعنة، وإذا لعن شيئاً فأقل ما يقال: إن هذا يدل على أن هذا من كبائر الذنوب.

    الأمر الرابع: أن ما فعلته اليهود والنصارى وذموا عليه -وجاء ذكر ذلك في كتاب الله وسنة رسوله- فإن ذلك من باب التحذير أن نقع فيما وقعوا فيه، وأن القصص التي قصت علينا في القرآن من قصص الأنبياء وغيرهم أننا معنيون، وأن الذي وقع لهم من العذاب -إذا فعلنا فعلهم- سيقع لنا، فهذا هو المقصود بذكر حال من كان قبلنا، وأما ما ذكره الخطابي رحمه الله، أن هذا يقع منهم على وجهين:

    أحدهما: أنهم يسجدون لقبور أنبيائهم، ويكون هذا هو الشرك الجلي.

    والثاني: أنهم يتخذونها معابد، وأن هذا هو الشرك الخفي، فليس هذا هو المقصود في الحديث، والمقصود أهم من هذا وأعم، وهو النهي عن أن يكون عندها تعبد مطلقاً، لا بسجود ولا بجعلها أماكن عبادة، فلا يفعل عندها ما يفعل عند المساجد من ذكر الله وتلاوة القرآن، والصلاة، وإظهارالشعائر الدينية، والتعبد لله عامة، هذا هو المقصود، وأن من فعل شيئاً من ذلك فقد حاد الله ورسوله، وصار مخالفاً مخالفة صريحة، ولا يجوز أن نقصره على السجود أو الركوع، بل هو عام مطلق.

    [ قوله: (فقد نهى عنه في آخر حياته) أي: كما في حديث جندب ، وهذا من كلام شيخ الإسلام وكذا ما بعده.

    قوله : (ثم إنه لعن -وهو في السياق- من فعله) كما في حديث عائشة .

    قلت : فكيف يسوغ بعد هذا التغليظ من سيد المرسلين أن تعظم القبور ويبنى عليها، ويصلى عندها وإليها؟! هذا أعظم مشاقة ومحادة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم لو كانوا يعقلون.

    قوله: (الصلاة عندها من ذلك، وإن لم يبن مسجد) أي: من اتخاذها مساجد ملعون فاعله، وهذا يقتضي تحريم الصلاة عند القبور وإليها.

    الأرض مسجد وطهور إلا ما استثني

    قال الشارح: [وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه مرفوعاً: (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم ].

    كون الأرض كلها مسجداً هذا أمر متفق عليه، وليس معنى ذلك أنها مباني تبنى، بل كلها يصح الصلاة فيها، وكل ما صحت الصلاة فيه فهو مسجد، وهذا من خصائص هذه الأمة التي أعطاها الله جل وعلا لنبيه إكراماً وتفضيلاً له على غيره، وإلا فكانت الأمم قبلنا لا يصلون إلا في أماكن معينة، في البيع والكنائس، يصلون فيها فقط، ولا يصلون في جميع الأرض، كما كانوا لا يصلون إلا بالطهارة ولا تكون إلا باستخدام الماء فقط، وتفضل الله جل وعلا على هذه الأمة وخصها بخصائص، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي: أحلت لي الغنائم، ونصرت بالرعب مسيرة شهر) وليس هذا خاص به صلوات الله وسلامه عليه، بل المقصود هو وأمته.

    قوله: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره) في أي مكان كان.

    وقوله: (أعطيت الشفاعة) والمقصود بالشفاعة: ما سبق ذكره من أنه صلوات الله وسلامه عليه يشفع للناس كلهم في الموقف؛ ليفصل الله بينهم ويحاسبهم، وهذه له فقط وخاص به.

    وقوله: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة) فهذه خمس خصائص، وله غيرها من الخصائص صلوات الله وسلامه عليه، ولكن هذه ظاهرة جلية، كان يذكرها وينشرها في الأمة.

    وقد تكاثرت الأحاديث في النهي عن الصلاة في المقابر وسواء كانت القبور كثيرة أو قليلة فالحكم واحد وهو عدم جواز الصلاة عندها، واستثني من البقاع التي يجوز فيها الصلاة الحمام، وهو: محل التحمم، وقيل له: حمام؛ لأن الغالب أن يكون الماء فيه حاراً، وإنما نهي عن الصلاة فيه؛ لأنه محل لكشف العورات، ولقضاء الحاجات وما أشبه ذلك.

    وكذلك المجزرة التي تذبح فيها البهائم، فتوجد فيها الدماء والقاذورات وغيرها، وكذلك قارعة الطريق: كالشوارع التي يسير عليها الناس والسيارات، لا يجوز أن يصلى فيها، فهذه الأماكن خصت من بين سائر الأرض، وهناك أمر خامس استثناه الفقهاء -مع أن وقوعه أندر من النادر- وهو الصلاة على ظهر بيت الله، فلا تصح صلاة الفريضة على ظهر الكعبة؛ لأن المصلي لا بد أن يستقبل شيئاً من البيت، والذي يكون على ظهر الكعبة لا يستقبل شيئاً منها، وهذا يدلنا على استقصاء العلماء، وأنهم لم يتركوا شيئاً من الأمور التي يمكن أن يحتاج إليها الإنسان إلا وبينوا حكمه.

    فهذه هي الأماكن التي لا تصح الصلاة فيها، وهي المستثناة من الأرض، أما ما عدا ذلك فالصلاة فيها جائزة ولا يتعين أن يكون هناك فراش، ولا يتعين أن يكون هناك بناء ولا غير ذلك، فإذا أدركت الإنسان صلاته صلى، سواء على أرض مصمتة أو مبلطة أو أرض فيها نبات، أو ليس فيها نبات، أو على جبل، أو في وادي، أو سبخة، أو رمل، أو غير ذلك، ما لم يكن هناك نجاسات، فإذا رأى النجاسة المعينة فإنه لا يجوز أن يصلي عليه، أما إذا لم يشاهد النجاسة وكان يظن وجودها فهذا لا يضر، فالأرض كلها طهور، والصلاة جائزة بنص الحديث.

    أما الأرض المغصوبة فلا تصح الصلاة فيها؛ لأنها مغصوبة، لا لأنها أرض، بل لأنها ملك للغير، وملك الغير لا يجوز التصرف فيه، فالنهي عن الصلاة فيها من هذه الناحية.

    1.   

    علة النهي عن الصلاة في المقابر

    قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن القيم رحمه الله : وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه، وفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاصده؛ جزم جزماً لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتين: صيغة ( لا تفعلوا ) وصيغة ( إني أنهاكم عن ذلك ) ليس لأجل النجاسة، بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة لمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه، واتبع هواه، ولم يخش ربه ومولاه، وقل نصيبه أو عدم من لا إله إلا الله، فإن هذا وأمثاله من النبي صلى الله عليه وسلم صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه، وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه، فأبى المشركون إلا معصية لأمره، وارتكاباً لنهيه، وغرهم الشيطان بأن هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم لها أشد تعظيماً وأشد فيهم غلواً كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد، ولعمر الله! من هذا الباب دخل الشيطان على عباد يغوث ويعوق ونسراً، ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة، فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم، فهدى الله أهل التوحيد لسلوك طريقتهم، وأنزلهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها: من العبودية، وسلب خصائص الإلهية عنهم.

    قال الشارح رحمه الله تعالى: وممن علل بخوف الفتنة بالشرك: الإمام الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الإسلام وغيرهم رحمهم الله وهو الحق الذي لا ريب فيه ]

    يقصد: أن بعض الفقهاء المتأخرين علل المنع من الصلاة في المقابر بأنها نجسة؛ لأن فيها صديد الموتى وما أشبه ذلك، وهذا تعليل عليل بل هو ميت؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قصد بذلك سد الذرائع؛ حتى لا تكون العبادة لغير الله تعالى، ولكن الذين لم يفهموا هذا، وكان عندهم من الأمور العالقة من حب التعلق بغير الله، وصرف شيء من العبادة لهم، قالوا هذا التعليل؛ حتى يصح لهم ما أرادوه من جواز التعبد عند المقابر، ولكن إذا سلم بالتعليل فكيف يسلم بالنصوص.

    ومن المعلوم أن الألفاظ وضعت للمعاني التي وضعت لها، وأن الإنسان يجب عليه أن يتعرف على مراد الله ورسوله، فإذا تبين مراهما فلا يجوز أن يعدل عنه بقول أحد من الناس، ولكن: ليس كل من قال قولاً من العلماء يؤاخذ به دون النظر إلى قصده؛ لأنه قد يخفى عليه المراد، فيقول قولاً -وعنده من النية الحسنة ما يثاب عليها- ويكون في قوله ذلك مخطئاً، ولا يجوز أن يتابع على هذا، ولذلك فإن الذي يعلم مراد الرسول صلى الله عليه وسلم يتعين عليه أن يحذر من ذلك وينهى؛ لأن النصيحة لله ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولعامة المسلمين، ولأئمتهم أمر واجب، وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم النصيحة ديناً، فقال: (الدين النصيحة، الدين النصيحة الدين النصيحة، فقيل لمن يا رسول الله؟ لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمتهم هم قادتهم، والنصيحة: مأخوذة من النصح وهو: الصفاء، أن تبذل لمن تنصح صافي قولك، وصافي ودك، وصافي محبتك، وهذه من صفات المؤمنين، فالمؤمن يود لأخيه ما يود لنفسه، فمن اطلع على شيء من أمور الشرع يتعين عليه إفشاء ذلك، وإظهاره والدعوة إليه، ومن أعظم الأمور التي ينبغي أن يتناصح الناس فيها: العبادات، والتعلق بغير الله جل وعلا: إما أن يكون مفسداً للعبادة نهائياً، أو يكون منقصاً لها ومذهب لكمالها، أما إذا كان مفسداً لها فمعنى ذلك أنه شرك، وأما إذا ذهب بكمالها ونقصها فهو من البدع فقط.

    والبدعة مردودة على صاحبها، ولكن لا يكون المبتدع كالمشرك، وإذا مات على بدعته فإنه يخاف عليه، ولكن لا يكون خارجاً من الإسلام إذا كانت البدعة ليست مخرجة من الدين، بل له حكم المسلمين، بخلاف المشرك الذي مات وهو يعبد مع الله غيره، ويجعل لغير الله شيئاً من العبادة التي أمر الله جل وعلا بإخلاصها له، فإن هذا غير مغفور له، نسأل الله العافية.

    فتعليلهم: بأنها مظنة للنجاسة غير صحيح، والمسلم لا ينجس حياً ولا ميتاً، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن المسلم لا ينجس)، وأما كونه يغسل إذا مات فليس للنجاسة، وإنما ليستقبل داراً جديدة بطهارة كاملة، وإن كان غير مكلف ولكن الشرع يجب أن يتبع.

    قوله: (فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجداً)، أي: لما علموا من تشديده في ذلك، وتغليظه النهي عنه، ولعن من فعله.

    قوله: (وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجداً)، أي: وإن لم يبن عليه مسجد، بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجداً، يعني: وإن لم يقصد بذلك اتخاذ ذلك المكان مسجداً، فإذا أوقع الصلاة عنده -من غير أن يقصد ذلك الموضع بخصوصه- صار بفعل الصلاة فيه مسجداً.

    قال الشارح رحمه الله: [ قوله : كما قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً) أي: فسمى الأرض مسجداً، تجوز الصلاة في كل بقعة منها، إلا ما استثني من المواضع التي لا تجوز الصلاة فيها كالمقبرة ونحوها.

    قال البغوي في شرح السنة : أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم، فأباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا؛ تخفيفاً عليهم وتيسيراً، ثم خص من جميع المواضع: الحمام والمقبرة والمكان النجس. انتهى].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756208780