قال الشارح رحمه الله: [قال شيخ الإسلام رحمه الله: الاستغاثة هي طلب الغوث، وهو إزالة الشدة، كالاستنصار: طلب النصر، والاستعانة: طلب العون، وقال غيره: الفرق بين الاستغاثة والدعاء: أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب، والدعاء أعم من الاستغاثة؛ لأنه يكون من المكروب وغيره، فعطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، فبينهما عموم وخصوص مطلق، يجتمعان في مادة، وينفرد الدعاء عنها في مادة، فكل استغاثة دعاء، وليس كل دعاء استغاثة].
يعني: أن الدعاء أعم وأشمل حيث تدخل فيه الاستغاثة، والاستغاثة دعاء خاص في حالة الشدة والكرب.
[وقوله: (أو يدعو غيره) اعلم أن الدعاء نوعان: دعاء عبادة، ودعاء مسألة، ويراد به في القرآن هذا تارة، وهذا تارة، ويراد به مجموعهما، فدعاء المسألة: هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر؛ ولهذا أنكر الله على من يدعو أحداً من دونه، ممن لا يملك ضراً ولا نفعاً، كقوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [المائدة:76]، وقوله: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:71]، وقال: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ [يونس:106].
قال شيخ الإسلام رحمه الله: فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة، وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة، قال الله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55]، وقال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:40-41]، وقال تعالى: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [الجن:18]، وقال تعالى: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [الرعد:14]، وأمثال هذا في القرآن -في دعاء المسألة- أكثر من أن يحصر، وهو يتضمن دعاء العبادة؛ لأن السائل أخلص سؤاله لله، وذلك من أفضل العبادات، وكذلك الذاكر لله والتالي لكتابه ونحوه، طالب من الله في المعنى، فيكون داعياً عابداً].
ومن هنا حرمت المسألة، أي: أن يسأل الإنسان أحداً من الخلق؛ لأنه يذل له قلبه، ويستكين له، ويخضع له، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لله جل وعلا؛ لأنه عبادة، فيكون تحريم المسألة صيانة للإنسان، وإكراماً له من الله جل وعلا، أكرمه الله بأن لا يخضع لمخلوق مثله، ويكون خضوعه لله وحده، ويكون استغناؤه بالله وحده، ويكون افتقاره إلى الله وحده، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وأعوذ بك من الفقر إلا إليك)، نستعيذ من الافتقار إلى المخلوق، والافتقار إلى الله عبادة، أما الافتقار إلى المخلوق فهو شرك.
فهذا معنى كون دعاء المسألة يتضمن العبادة، أما دعاء العبادة فإنه يستلزم دعاء المسألة، وذلك أن المصلي والمزكي والمتصدق والذاكر والتالي يطلب بفعله هذا الثواب، يطلب من الله أن يثيبه على ذلك، وهذا هو دعاء المسألة؛ لكونه يطلب الثواب أو يطلب الالتجاء والاستعاذة من العذاب.
ومن المعلوم أن المخلوق لا بد له من طلب النفع الذي ينفعه، ومن الهرب مما يضره، يضطر إلى هذا اضطراراً، ولا بد له من ذلك، وكذلك الأسباب التي تجلب له النفع هو بحاجة إليها، وكذلك الأسباب التي بها يدفع الضر والعذاب والألم وغيرها، فالعبد مضطر إلى ما ينفعه، ومضطر إلى دفع ما يضره، ومضطر إلى تحصيل السبب الذي به جلب النافع، وإلى تحصيل السبب الذي به دفع المضر، فهو بأمس الحاجة إلى هذه الأمور، وهذه كلها يجب أن تطلب من الله وحده، ولا تطلب من المخلوق.
فيتبين لنا أن الأمر كله بيد الله، وأن الإنسان يجب أن يكون خاضعاً لله، وأن يكون عبداً لله من جميع الوجوه، والدعاء داخل في هذا، سواء كان دعاء مسألة أو دعاء عبادة.
قال الشارح: [فتبين بهذا قول شيخ الإسلام : إن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة، كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة، وقد قال الله تعالى عن خليله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا * فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:48-49] ].
يعني: أن هذه الآية بينت أن الدعاء عبادة بأنواعه؛ لأنه -أولاً- قال: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ ، ثم بعد ذلك قال تعالى: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ فبين أن الدعاء عبادة، وأنهم إذا دعوا شيئاً فقد عبدوه، وهذا كثير في القرآن.
معنى قوله: عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا أي: أني إذا دعوت ربي فسوف يهب لي ما أريد ولن أشقى؛ لأن الذي يدعو ربه لا يخيب، ولا بد أن يحصل له النفع والخير، سواء في العاجل أو في الآجل.
وكذلك قول زكريا: وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ، فبدعاء الله جل وعلا لا يشقى الإنسان، فإذا دعا ربه فإنه يهب له ما دعاه، سواء كان عاجلاً أو آجلاً، فلن يشقى الداعي الذي يخلص دعوته لله.
قال الشارح رحمه الله: [وقد أمر الله تعالى به في مواضع من كتابه] يعني: أمر بالدعاء في مواضع كثيرة من كتابه، وكذلك جاءت الأحاديث الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم بالأمر بالدعاء، وأخبر أن الله إذا لم يدعوه الإنسان يغضب عليه، وهذا من كرم الله وجوده جل وعلا، فإن المخلوق إذا دعوته قد يغضب عليك، وقد يستثقل دعوتك ويكره ذلك؛ لأنه ضعيف وفقير، ومحتاج إلى ما في اليد، فلا يريد أحداً أن يأخذه منه، أو يطلب منه شيئاً.
أما الرب الجواد الكريم فإنه يدعو عباده إلى أن يدعوه، وإذا لم يدعوه غضب عليهم، ويحب الملحين بالدعاء، الذين يكثرون الدعاء ويبالغون فيه، يحبهم جل وعلا لكرمه وجوده.
قال الشارح رحمه الله: [كقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:55-56] ].
هذا التعليم من ربنا جل وعلا أن يكون دعاؤنا تضرعاً وخفية، يعني: أن يكون في الخفاء، يكون بين الإنسان وربه، وألا يرفع به صوته؛ ولهذا كان السلف يحرصون على إخفاء الدعاء، فيكون دعاؤهم همساً بينهم وبين ربهم جل وعلا؛ امتثالاً لأمر الله، وجاء عن بعضهم أن بين دعاء العلانية ودعاء الخفاء سبعون ضعفاً، فالدعاء في الخفية أفضل؛ لأنه أقرب إلى الإخلاص، فقد يعرض للإنسان عوارض في الدعاء المسموع الذي يسمعه غيره تعكر عليه إخلاصه؛ ولهذا أمره جل وعلا أن يخفيه: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ، أما التضرع فهو: الافتقار والذل والخضوع، أن يذل الداعي ويخضع ويظهر فقره لله جل وعلا، هذا هو التضرع إلى الله جل وعلا، وإذا كان الإنسان متصفاً بالتضرع والدعاء بالخفاء فلن تتخلف الإجابة إلا بأمر قدره الله جل وعلا.
وكذلك قوله: وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا فهذا أيضاً هذا من الآداب التي علمنا الله جل وعلا في الدعاء، فعلى الإنسان أن تكون دعوته بين الرجاء والخوف، يدعو الله وهو يرجو أن يجيبه، ويتعلق به، ويظن به الخير والإحسان والكرم، ولكنه يخاف من نفسه، يخاف أن تتخلف الإجابة بسبب نفسه؛ لكونه لا يخلص، أو لا يصدق في دعائه، أو كونه يأكل حراماً، أو كونه يكثر الذنوب، وما أشبه ذلك من العوارض التي لا يخلو منها إنسان، والمقصود الأدب مع الله جل وعلا في هذه العبادة التي يعلمنا الله جل وعلا إياها.
ويدخل في هذا الأفعال والأقوال جميعها، كل أمرٍ أمر الله جل وعلا به عباده إذا فعله الإنسان فهو يدعو الله جل وعلا دعاء عبادة؛ لأنه يفعله ويطلب به الثواب، ويخاف إذا لم يفعله من عقاب الله، وهذا هو معنى السؤال.
قال الشارح رحمه الله: [فإذا صرف من تلك العبادة شيئاً لغير الله فهو مشرك، مصادم لما بعث الله به رسوله من قوله: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي [الزمر:14]، وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى.
قال شيخ الإسلام رحمه الله في الرسالة السنية: فإذا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم -ممن انتسب إلى الإسلام- من مرق منه مع عبادته العظيمة، فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضاً من الإسلام؛ لأسباب منها: الغلو في بعض المشايخ، بل الغلو في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بل الغلو في المسيح، فكل من غلا في نبي أو رجل صالح، وجعل فيه نوعاً من الإلهية، مثل أن يقول: يا سيدي فلان! انصرني، أو أغثني، أو ارزقني، أو أنا في حسبك، ونحو هذه الأقوال.
فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل، فإن الله سبحانه وتعالى إنما أرسل الرسل، وأنزل الكتب، ليعبد وحده لا شريك له، ولا يدعى معه إله آخر، والذين يدعون مع الله آلهة أخرى، مثل: المسيح والملائكة والأصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق، أو تنزل المطر، أو تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدونهم، أو يعبدون قبورهم، أو يعبدون صورهم، ويقولون: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3] ، وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، فبعث الله سبحانه رسله تنهى عن أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة. ا هـ ].
يقول ابن تيمية : إنه يجوز أن يكون في وقتنا -ووقته في القرن السابع- من يمرق من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم بين ما كان في وقته من المروق من الدين وهو الغلو في المشايخ، يعني: في المقبورين، والغلو: هو تجاوز الحد؛ بأن يمدحهم أو يحبهم أكثر مما شرعه الله جل وعلا وأمر به، هذا هو الغلو.
ثم بين أن الغلو في هذا كثير، ولكنه يتفاوت، فهو عند بعضهم يكون في علي بن أبي طالب ، فجعلوا له نوعاً من الإلهية، وهذا وقع في زمن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فـعبد الله بن سبأ اليهودي الماكر الخبيث -الذي دخل الإسلام وتستر به حتى يتمكن من دس دسائسه على ضعاف العقول والأبصار وضعاف الإرادات من المسلمين، وتمكن من ذلك- كان يقول لأتباعه: إن علياً فيه جزء من الإلهية، وانطلى هذا القول على كثير من الناس، واعتقدوا هذا في حياة علي رضي الله عنه، حتى إنهم قابلوه، وقالوا له: أنت هو، وقال: ويلكم من أنا؟! قالوا: أنت إلهنا، يقولون له مقابلة، فقال: ويلكم ويلكم هذا الكفر! إن لم ترجعوا قتلتكم، وأمهلهم ثلاثة أيام فلم يرجعوا، فأمر بحفر تحفر، وأمر بالحطب أن يلقى فيها، فأضرمها ناراً، فأخذ من أمسك منهم وألقاهم في النار أحياء، حرقهم وهم أحياء، وذلك الماكر الخبيث فر منه، وقال: هذا دليل على أنه هو الإله؛ لأن النار لا يحرق بها إلا الله، فزاد البلاء بلاء، ولم يزل باق هذا الغلو في أتباع ابن سبأ إلى اليوم، فهم يعبدونه ويؤلهونه، وبعضهم يعتقد أنه نبي، وبعضهم يزيد ويعتقد أنه إله، ولما مات قالوا: ما مات، وإنما هو في السحاب وسوف يعود، وزعموا أن الرعد صوته، واعتقدوا الرجعة، أي: أنه يرجع إلى الدنيا فيقتل من زعم أنه مات.
يقول شيخ الإسلام : (بل الغلو في المسيح عليه السلام)؛ لأنهم جعلوا عيسى هو الله، ومنهم من قال: إنه ثالث ثلاثة، ومنهم من قال: هو ابن الله، كما ذكر الله جل وعلا ذلك في القرآن.
وهؤلاء الذين قالوا هذا القول، هم من بني آدم: لهم عقول، ولهم أبصار، ولهم أسماع، ومع ذلك اعتقدوا أن مخلوقاً مثلهم هو الذي يدبر، وهو الذي يملك الجنة والنار، ويملك ما في القلوب!
فعلى الإنسان أن يخاف على نفسه أن يخرج من الدين الإسلامي بأدنى سبب؛ لأن الله جل وعلا إذا أزاغ قلب الإنسان فإنه لا يملكه، وربما يزين للإنسان سوء عمله فيراه حسناً، فيصبح لا فائدة فيه، ولا حيلة فيه إلا أن يهديه الله.
لأن هذا هو شرك المشركين في الواقع، وهو الشرك الذي ذكره الله جل وعلا عن أول الأمم إلى آخرهم، في قصص الأنبياء التي قصها علينا في القرآن لنعتبر بها ونتعظ؛ لأننا نحن المقصودون بهذه القصص، أما الأمم السالفة انتهى أمرها، انتهى أهل الخير إلى الجنة، وأهل الشرك والشر إلى النار، ولا ينفعهم ذكرهم، وما جرى لهم، وإنما المقصود بقصصهم نحن؛ لنعتبر بها، وكل أمة من الأمم المشركة التي بعث إليها رسول من رسل الله جل وعلا بين الله جل وعلا أن شركهم في أنهم يدعون وسائط يطلبون منهم أن يقربوهم إلى الله، وأن يشفعوا لهم فقط، ما فيهم من يعتقد أن المدعو الذي يدعوه -سواء كان آدمياً، أو صورة أدمي، أو قبره، أو ملكاً من الملائكة، أو نبياً من الأنبياء أو غير ذلك- خلق السماء أو بعضها، أو خلق الأرض أو شيئاً منها، أو أنه يحيي أو أنه يميت، أو أنه ينزل المطر، أو يستطيع أن ينبت نباتاً، لا أحد يعتقد هذا أبداً، كلهم يقولون: إن الذي خلق الخلق، والذي يملك الموت والحياة، والذي يملك النفع والضر، هو الله وحده لا شريك له في ذلك، ولكن عبدوا من عبدوهم ليشفعوا لهم عند الله، عبدوهم ليدعوا لهم الله فقط، ويقولون: ندعوهم وهم يدعون الله لنا؛ لأن الله جل وعلا قربهم، ولأنهم لا ذنوب لهم مثلنا، ونحن مذنبون، فإذا سألناهم كان أنجح لمسألتنا وأقرب إلى الإجابة، هذا على حد زعمهم، وقاسوا الله على ما يقع لهم فيما بينهم، وضربوا لذلك مثلاً: إذا كان هناك رئيس أو كبير قوم، وكان الإنسان بعيداً عنه ويريد شيئاً منه، فإنه يقول: أذهب إلى من هو قريب منه: إلى وزيره أو صديقه أو أخيه، فأسأله أن يشفع لي، فيكون أقرب إلى إجابة طلبي، فهم قاسوا رب العالمين جل وعلا على هذا، فصاروا يسألون الشفعاء، ويجعلون الوسائط، وهذا هو شرك المشركين قديماً وحديثاً.
أما الآن فتجدهم يتجهون إلى الأولياء، ويقولون: إن الله ملكهم بعض الأشياء، وإن الله أكرمهم بأنهم إذا دعوا استطاعوا أن يجيبوا، وهذه دعوى مجردة لا برهان لها، ولا دليل لهم على ذلك إلا أنهم ادعوا هذا، وسوف يتبين لهم أن دعواهم هذه باطلة، فهي مثل شرك المشركين تماماً.
والمقصود أن هذا هو الشرك، وهذا هو أصله الذي وقع فيه الناس.
قال الشارح رحمه الله: [وقال أيضاً: من جعل بينه وبين الله وسائط، يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم، كفر إجماعاً، نقله عنه صاحب الفروع، وصاحب الإنصاف، وصاحب الإقناع وغيرهم، وذكره شيخ الإسلام في "مسألة الوسائط"، ونقلته عنه في الرد على ابن جرجيس في مسألة الوسائط.
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: ومن أنواعه -أي: الشرك- طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم، والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم، فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً، فضلاً لمن استغاث به أو سأله أن يشفع له إلى الله، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده، وسيأتي تتمة كلامه في باب الشفاعة إن شاء الله تعالى].
يعني: أن الشافع عبد من عباد الله، وكل شافع يشفع عبد لا يملك مع الله شيئاً، أما المشفوع عنده فهو الله القهار الذي بيده ملك كل شيء، وقد أخبر جل وعلا أنه لا يأذن بالشفاعة إلا لمن رضي قوله وعمله، وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وقال جل وعلا: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وأخبر جل وعلا أنه إذا قامت القيامة، وحضر الخلق بين يديه، وقامت الملائكة، فلا أحد يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً، وللآيات في هذا كثيرة جداً، وتبين أن هؤلاء ضالون، وأنهم مخطئون أعظم الخطأ، وأنهم قد وقعوا في الشرك، وأن قولهم هذا مجرد دعوى لا دليل عليها.
إن أريد به المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيماً، حتى الحج إلى قبره، والسجود له والطواف به، واعتقاد أنه يعلم الغيب، وأنه يعطي ويمنع، ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع، وأنه يقضي حوائج السائلين، ويفرج كربات المكروبين، وأنه يشفع فيمن يشاء، ويدخل الجنة من يشاء؛ فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك، وانسلاخ من جملة الدين].
يجب أن يكون التعظيم على حسب الشرع الذي أمر الله جل وعلا به، فتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم واجب، ولكن ليس بدعوته وعبادته والاستغاثة به، وإنما هو في تعظيم أمره، وتعظيم قدره، وكما أمر الله جل وعلا بطاعته واتباعه، فهذا هو تعظيمه، فيطيعه ويتبع سنته، ويدعو الخلق إلى دينه الذي جاء به، ويجتهد في ذلك، هذا هو الذي يرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يأمر به، أما أن يستغيث به أو أن يدعي له ما هو ملك لله فلا، كمن يقول:
يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً، وإلا فقل: يا زلت القدم
وما أشبه ذلك، فيكون هو المدعو وهو المستغاث به، فهذا في الواقع تعظيم على خلاف أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يوقع في الشرك، يقول محمد بن عبد الهادي رحمه الله: ليس للإنسان أن يعظم النبي عليه الصلاة والسلام على حسب نظره، وعلى وفق هواه، بل يجب أن يكون متقيداً بكتاب الله وبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، في قوله وفي فعله، وفي جميع ما يرجو ثوابه ويخاف عقابه، بمعنى: أن كل عبادة يجب أن يكون العابد فيها متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر متفق عليه، ولا خلاف فيه بين العلماء.
أما الذي يخالف في هذا فلا يعد من العلماء في الواقع، فكل العلماء يقولون: إن العبادة لها شرطان:
أحدهما: أن تكون على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون الإنسان متبعاً فيها.
الثاني: أن تكون خالصة لله جل وعلا، فإذا تخلف واحد من هذين الشرطين في العبادة فهي مردودة غير معتبرة.
والإنسان يقدم الشرع على هواه، ويجب أن يكون متقيداً بالشرع.
قال الشارح رحمه الله: [وفي الفتاوى البزازية -من كتب الحنفية- : قال علماؤنا: من قال: أرواح المشايخ حاضرة تعلم: يكفر].
يعني: بأرواح المشايخ: الأموات، ويعتقد بعد موتهم أن أرواحهم حاضرة عند الإنسان تعلم ما يقول وما يفعل، فمن قال هذا فهو كافر؛ لأنه ادعى ما لله جل وعلا لغيره من المخلوقين.
ومن المعلوم أن الأموات أضعف من الأحياء؛ لأن الحي يستطيع أن يتصرف، يستطيع أن يذهب ويأتي، ويستطيع أن يعمل، أما الميت لا يستطيع شيئاً، قد انتهى أمره، وأصبح مرتهناً بعمله، كما قال الله جل وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38].
وأخبر جل وعلا أن نفس الميت ممسوكة عنده، فالله يمسك من يتوفاهم كما في القرآن، أما كون الميت يسمع من يسلم عليه إذا جاء إلى قبره، فهذا لا يدل على أنه يستطيع أن يجيبه أو يستطيع أن يسأل له، أو يستطيع أن ينفعه، فأمر الموت أمر غيبي لا نعرفه، ولا نعرف حقيقته، ولكن قريب منه النوم، والإنسان في نومه لا يتصرف ولا يستطيع أن يعمل شيئاً، وإن كان يرى أنه يفعل شيئاً فهو في الواقع لا يفعل، والنوم نوع من الموت؛ ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم وقيل له: (أينام أهل الجنة؟ قال: لا)؛ لأن النوم قسم من الموت، وأهل الجنة لهم الحياة الكاملة، لا ينامون، وإذا كملت الحياة فلا يحتاج الإنسان إلى نوم، وإنما يحتاج إلى النوم ما دام ضعيفاً، وما دامت حياته ناقصة.
والمقصود أن دعوى: أن الميت يعلم أو يتصرف! من اعتقد ذلك أو قال به فهو على خطر عظيم، بل هو على شفا جرف هار في نار جهنم -نسأل الله العافية-.
وكون الميت يسمع لا يدل على أنه يتصرف، ولا يدل على أنه ينفع، وقد جاء في الحديث الصحيح: لما رُمي كبار الكفار من قريش في بئر بدر، وجاء عليهم ثلاثة أيام، فالرسول صلى الله عليه وسلم ركب راحلته، وقام على البئر، وصار يناديهم بأسمائهم: (يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! يا فلان ابن فلان! هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني وجدتُ ما وعدني ربي حقاً؟! فقال له أصحابه: يا رسول الله! ما تنادي من قوم قد جيَّفوا؟ -يعني: صاروا جيَفاً أمواتاً لا حراك لهم ولا حياة فيهم- قال لهم: ما أنتم بأسمع منهم لما أقول، إلا أنهم لا يستطيعون الإجابة) فبيَّن أنهم يسمعون ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا، ومناداته لهم وكلامه لهم من باب التبكيت والتهديد والتعذيب والتقريع، يقرعهم بذلك حيث كفروا بالله جلَّ وعلا بعدما جاءتهم البينات.
وفي الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا وضع الميت في قبره وولى عنه أصحابه، وهو يسمع قرع نعالهم -يسمع قرع نعالهم!- أتاه الملكان..) إلخ ، فكونه يسمع: أمرٌ لا نعرف حقيقته، ولكن نعلم علماً يقينياً بأنه لا يتصرف، ولا يملك شيئاً، ولا ينفع الداعي إذا دعاه، ولا يستطيع أن يشفع له، أو يقربه إلى الله، أو يكون واسطة له عند الله؛ لأن الشرع بين هذا وأوضحه غاية الإيضاح، فالذي يخالف في هذا، ويعتقد غير هذا لا عذر له بعد البيان والإيضاح الكامل من ربنا جلَّ وعلا، ومن رسولنا صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: فقوله في الآيات كلها: (مِنْ دُونِهِ) أي: من غيره، فإنه عام يدخل فيه من اعتقدتَه، من ولي وشيطان تستمده، فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يَمد غيره؟! ... إلى أن قال: إن هذا لقول وخيم وشرك عظيم... إلى أن قال: وأما القول بالتصرف بعد الممات، فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة، قال جلَّ ذكره: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] وقال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر:42] وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] وقال: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38]، وفي الحديث: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلَّا من ثلاث: ...) الحديث.
فجميع ذلك وما هو نحوه: دال على انقطاع الحس والحركة من الميت، وأن أرواحهم مُمْسَكة، وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة أو نقصان، فدل ذلك على أنه ليس للميت تصرف في ذاته فضلاً عن غيره، فإذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره؟! فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده، وهؤلاء الملحدون يقولون: إن الأرواح مطلقة متصرفة، قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ [البقرة:140].
قال: وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات، فهو من المغالطة؛ لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم به أولياءه، لا قصد لهم فيه ولا تحدٍّ، ولا قدرة ولا علم، كما في قصة مريم بنت عمران رضي الله عنها وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال: وأما قولهم: فيستغاث بهم في الشدائد، فهذا أقبح مما قبله وأبدع؛ لمصادمته قوله جلَّ ذكره: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ [النمل:62] وقال: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعَاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63-64]، وذكر آيات في هذا المعنى.]
وإيمانهم بالله: أنك إذا سألتهم، وقلت لهم: من خلق هذه الأشياء؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق مَن قبلكم؟ قالوا: الله، هو المتفرد بهذا الخلق.
وشركهم: أنهم يعبدون مع الله غيره.
ويقول جلَّ وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشَاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقَاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، أقروا بأن الله جلَّ وعلا هو الذي خلقهم، وهو الذي خلق مَن قبلهم، وهو الذي خلق الأرض وجعلها على هذه الصفة: يمكن الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي رفع السماء، وهو الذي ينزل من السماء الماء، فينبت به النبات الذي يأكلونه وتأكله أنعامهم فينتفعون منه، فلا يوجد أحد منهم ينازع في هذا أو ينكره، ولهذا قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادَاً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] تعلمون أنه جلَّ وعلا هو المتفرد بهذه الأشياء المذكورة، ليس معه أحد: لا ولي ولا نبي ولا ملَك ولا غير ذلك.
فما ذَكر عن هؤلاء -في الواقع- خلاف ما كان عليه القدامى من المؤمنين ومن المشركين، فهو شذوذ عقلي وفكري، لا يدل عليه عقل، ولا وضع، ولا فطرة، فضلاً عن الكتب التي نزَّلها الله جلَّ وعلا فإنه مصادَمةٌ لها.
وذكر بعض أمثلتها: كما وقع لـمريم بنت عمران حينما ذكر الله جلَّ وعلا أن زكريا كلما دخل عليها المحراب: وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقَاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:37] يعني: بلا سعي منها، وإنما يأتي به الله جلَّ وعلا، والمقصود بـ(المحراب): المسجد .. المصلى الذي يُصلى فيه .. مكان الصلاة.
وكذلك ما وقع لـأسيد بن حضير حينما خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة ظلماء وهو في المدينة، وكان بيده سوط فأضاء له السوط، وصار في رأسه ضوء يبصر به طريقه، ويراه واضحاً جلياً، وكان معه أحد الصحابة، فكان هذا السوط يضيء لهما كأنه السراج، ثم لما وصلا إلى مكان يفترقان فيه -كل واحد يذهب إلى بيته- افترق هذا الضوء، فصار لكل واحد منه نصيباً، حتى وصلا إلى بيتيهما، فهذه كرامة من الله جلَّ وعلا وليست منهما.
وكذلك ما ذكر أنه وقع لـأبي مسلم الخولاني ، أبو مسلم الخولاني من التابعين، وهو الذي قال له الأسود العنسي لما ادَّعى النبوة: أتؤمن بي؟
قال: لا أسمع.
قال: أتؤمن بمحمد؟
قال: نعم.
فأمر به أن يُلقى في نار، فصارت النار عليه برداً وسلاماً، كما كانت على إبراهيم. فهل هذا من صنع أبي مسلم ؟! ليس من صنعه، بل من صنع الله جلَّ وعلا ومن فعله، ولا دخل لـأبي مسلم فيه.
وكذلك لما ذهب في الجهاد في سبيل الله فاعترضهم البحر، فقال لهم: سيروا خلفي، فإننا عباد الله، وفي سبيله: باسم الله وعلى الله توكلنا، ولا حول ولا قوة إلَّا بالله، فخاض البحر على فرسه، وخاض الناس خلفه، فلما عبروه وقف وقال: هل أحد منكم فقد شيئاً فأدعو الله أن يأتي به؟
فقال رجل منهم: فقدت قدحاً، فسأل ربه، فالتفت فإذا هو قد تعلق في خلف راحلته.
هذا وما أشبهه من الكرامات التي يكرم بها جلَّ وعلا عباده هي من فعل الله جلَّ وعلا، وليست من فعل العباد، ولا تصرف للعباد فيها، وهي أيضاً من آيات الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه لا تكون إلَّا لأتباع الرسل، أما إذا كانت للعصاة، ولمن يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فهي من أمور الشيطان التي يلبِّس بها، فهي -في الواقع- إهانات وليست كرامات.
والمقصود: أن الملك كله لله، والعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يُسأل مخلوق من المخلوقات -سواءً كان نبياً أو ملَكاً أو ولياً أو غيرهم- شيئاً لا يقدرون عليه.
والخلاصة في هذا: أن المخلوق لا يُطلب منه إلَّا ما في مقدوره واستطاعته، والميت لا قدرة له، ولا استطاعة له، ولا تصرف له، وكذلك الغائب، مثل: الجني والملَك الذي لا يشاهَد ولا يُرى فإنه لا يُسأل ولا يُطلب منه، سواءً ادُّعي أنه ولي من أولياء الله، أو نبي من أنبياء الله، أو ملك من الملائكة أو غير ذلك، فإن الله جلَّ وعلا تعبَّد العباد بأنه يملك النفع ويدفع الضر، وأنه لا أحد من خلقه يشاركه في هذا.
وقد وقع له ما وقع يوم أحد، حينما شُج وجهه صلوات الله وسلامه عليه، وكُسرت رباعيته، ودخلت حلقة المِغْفَر في وجنته صلوات الله وسلامه عليه، وصار الدم يسيل على وجهه، فيسلته ويقول: (كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟! ) ثم صار يدعو على هؤلاء الذين فعلوا هذا الفعل الشنيع الفظيع دائماً في الصلاة، يقول: (اللهم العن فلاناً وفلاناً وفلاناً، وسادةُ الأولياء من صحابته خلفَه يؤمِّنون، ويقولون: آمين، مكث شهراً يفعل ذلك، فأنزل الله جلَّ وعلا عليه: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ [آل عمران:128]) ثم تاب الله جلَّ وعلا عليهم -على هؤلاء- فأسلموا.
فليس لأحد من الخلق مع الله تصرف، فالأمر كله بيد الله، والنفع بيد الله، فليس للأحياء شيء فضلاً عن الأموات، أما الميت فهو مرتَهَن بعمله، كما قال الله جلَّ وعلا: كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] (رهينة) يعني: محبوسة ومحتبَسة بعملها، وليست مطلقة متصرفة كما يقول هؤلاء الضُّلَّال، فإنه كذب على الله جلَّ وعلا وعلى دينه، وتدخل في ملكه وتصرفه وأمره.
وكذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع عمله ...) ينقطع وينتهي، فإذا كان ينقطع عمله لنفسه، فكيف يستطيع أن يعمل لغيره؟! وكيف يستطيع أن يغيث غيره؟!
ومعلوم أن الجزاء يقع على فعل الإنسان في حال حياته، أما إذا مات فقد انتهى الأمر، ولا يمكن أن يُستعتب الإنسان بعد موته ويُثاب عليه، ويَطلب المغفرة لنفسه فيُغفر له! قد انتهى الأمر، وقد جاء النذير إلى الناس، جاءهم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الحياة وبلغهم، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن من بلغه ذكره أنه قد وصل إليه البلاغ، ففي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يسمع بي أحمر أو أبيض ثم لا يؤمن بي إلَّا أقحمه الله النار) فعلَّق ذلك بمجرد السماع بذكره؛ لأن العاقل إذا سمع بذلك وجب عليه أن يبحث .. وجب عليه أن يتعلم دينه ويعرفه، وهو ميسور والحمد لله، وليس صعباً، وكذلك يقول الله جلَّ وعلا: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فمن بلغه القرآن -بلغته ألفاظُه- فقد وصلت إليه الحجة وقامت عليه، فعليه هو أن يجتهد في معرفة الحق، وقد جعل الله جلَّ وعلا في الناس عقولاً وأفكاراً، فيجب أن يستعملوا عقولهم وأفكارهم فيما ينفعهم، لا أن يستعملوها في أمر الدنيا فقط، فالدنيا أمرها سهل وميسور، وهي عابرة وزائلة بسرعة، ولكن الأهوال بعد الموت؛ لأن الإنسان ما خلق ليفنى .. وما خلق ليموت .. بل خلق للبقاء السرمدي الذي لا نهاية له، ففي حياته الدنيوية إما أن يكتسب السعادة، وإما أن يجلب إلى نفسه الشقاء الأبدي، وليس هناك طريق ثالث، لأن الاستقرار بعد حشر الناس وجمعهم يوم القيامة إما في الجنة وإما في النار، ولا توجد منزلة ثالثة، ثم دخول الجنة ودخول النار ليس مؤقتاً ولا محدداً بفترة، لا بألف سنة ولا بمليون سنة ولا بمائة مليون سنة، بل حياة إلى أبد الآباد: خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [هود:107]، والمصيبة أن الذي يوضع في النار لا يمكن أن يموت: لا يَمُوتُ فِيْهَا وَلا يَحْيَا [طه:74] كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودَاً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وكلما: للتكرار الذي لا نهاية له.
فإذا كان الأمر هكذا: فإنه يجب على العاقل أن يسعى في فكاك نفسه، وفي خلاصها من العذاب، وفي تحصيل السعادة الأبدية التي لا تشبهها أي سعادة يعرفها الإنسان في هذه الدنيا، فإن الإنسان إذا عمل بتقوى الله وبطاعته وبرضاه، وقبل الله منه ذلك، فإنه يكون جاراً لله جلَّ وعلا في الجنة، وملائكة الله تخدمه، وتدخل عليه مسلمة وتقول: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، فكيف يذهب العاقل يتعلق بمخلوق ضعيف مثله، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؟! هذا لا يليق بالعاقل، بل يجب أن يكون تعلقه بالخالق جلَّ وعلا .. بالرب الكريم .. بالجواد الرحيم .. بالذي بيده ملكوت كل شيء، وقد استدل ربنا جلَّ وعلا على المشركين في كونهم يقرون بأن الله جلَّ وعلا هو المتصرف وحده: بوجوب إخلاص العبادة له في آيات كثيرة سيأتي شيء منها إن شاء الله.
[فإنه جلَّ ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره، وأنه المتفرد بإجابة المضطرين، وأنه المستغاث لذلك كله، وأنه القادر على دفع الضر، القادر على إيصال الخير، فهو المتفرد بذلك، فإذا تعين هو جلَّ ذكره خرج غيره من ملَك ونبي وولي ... قال: والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية: في قتال أو إدراك عدو أو سبع أو نحوه، كقولهم: يا لَزيد! ويا لَلمسلمين! بحسب الأفعال الظاهرة بالفعل، وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير، أو في الأمور المعنوية من الشدائد: كالمرض، وخوف الغرق، والضيق، والفقر، وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله، لا يُطلب فيها غيره ... قال: وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم، كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجُهَّال، وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات، فمن اعتقد أن لغير الله -من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك- في كشف كربة أو قضاء حاجة تأثيراً فقد وقع في وادي جهل خطير، فهو على شفا حفرة من السعير، وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشَ لله أن يكون أولياء الله بهذه المثابة! فهذا ظن أهل الأوثان، كذا أخبر الرحمان قال تعالى: هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ [يونس:18]، وقال: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، وقال: أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئَاً وَلا يُنقِذُونِ [يس:23]، فإنَّ ذِكْرَ ما ليس من شأنه نفع ولا دفع الضر -من نبي وولي وغيره- على وجه الإمداد منه: إشراكٌ مع الله؛ إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلَّا خيره].
ولهذا كانوا إذا وقعوا في شدة تركوا هذه الأشياء، واتجهوا إلى الله وأخلصوا له الدعوة، كما أخبر الله جلَّ وعلا ذلك عنهم: فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [العنكبوت:65] أي: أنهم إذا ركبوا في البحر، فهبت عليهم الريح العاصفة -التي يتوقعون أنها ستهلكهم وتغرقهم- اتجهوا إلى الله مخلصين له في دعائهم، ولا يدعون معه غيره، وقد جاءت الأخبار بأنهم إذا كانوا في مثل هذه الحالة، وكانت معهم الأصنام ألقوها في البحر، وقالوا: إنها لا تنفع في مثل هذه الحالة.
فالمقصود: أن عبادتهم لهم كانت على سبيل الوساطة، يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويقولون: نسأل الله بهم، أي: نسألهم وهم يسألون الله لنا، ويقولون: نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله، فهذا هو الشرك الذي وقعوا فيه، أما أن أحداً منهم كان يعتقد أن الشجرة -مثلاً- تنزل المطر، أو تنبت النبات، أو تجلب الرزق، أو تدفع العدو، فما كان أحد منهم يعتقد هذا، وكذلك الميت، ما كان أحد منهم يعتقد أنه ينزل المطر، أو يحيي أو يميت، أو أنه يجلب الرزق، أو أنه يدفع العدو، أو أنه يزيل المرض، أو أنه يمسك الخير، ما كانوا يعتقدون ذلك، وإنما كانوا يقولون: نطلب منه حتى يسأل الله لنا، فيعطينا الذي نريده، هذا هو شرك المشركين، ولم يكن أحد منهم يطلب مخلوقاً على وجه الاستقلال، أو وجه المشارَكة مع الله جلَّ وعلا.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر