إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [42]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • حرم الله تعالى الذبح لغيره، وجعله شركاً به، وحرم أيضاً ما كان وسيلة إلى الشرك، أو كان فيه مشابهة للمشركين، حتى إنه حرّم أن يذبح المرء لله في مكان يذبح فيه لغير الله.

    1.   

    قوله تعالى: (لا تقم فيه أبداً)

    يقول المصنف رحمه الله تعالى: [باب لا يذبح لله في مكان يذبح فيه لغير الله تعالى].

    هذا من وسائل الشرك التي يجب أن تُمْنَعَ، وليس ذلك شركاً، ولكنه وسيلة قد توصل إلى الشرك، لأنه يكون فيه مشابهة المشركين، وفيه أيضاً بعث لمن كان يذبح في هذا المكان أن يذبح فيه.

    والمؤلف رحمه الله تعالى أدرك أهل وقته الذين كانوا يذبحون للجن، ويجعلون مكاناً في البيت معيناً يذبح فيه للجن إذا أرادوا -مثلاً- أن يُخَلِّصُوْا من تلبس به الجني، والجن يتسلطون عليهم بذلك، وهذا من الشرك، فأراد أن ينبه على أنه لو قدر أن تاب الإنسان وأخلص دينه لله، وقد علم أن هذا المكان كان يذبح فيه لغير الله؛ فإنه لا يجوز الذبح فيه لأمرين:

    الأمر الأول: أنه وسيلة إلى الشرك.

    الأمر الثاني: أنه مشابهة للمشركين.

    واستدل على هذا بالنصوص التي سيذكرها من كتاب الله جل وعلا، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

    قال المصنف: [وقوله تعالى: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]].

    هذه الآية نزلت في شأن مسجد ضرار، ومسجد ضرار مسجد بناه المنافقون الذين يريدون الصد عن سبيل الله، ومقاومة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قرب مسجد قباء، وكان هذا في آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان بأمر أبي عامر الفاسق الذي كان يسمى الراهب، فسماه الرسول صلى الله عليه وسلم: الفاسق.

    فجاء المنافقون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز للخروج إلى غزوة تبوك، فقالوا موهمين للنبي صلى الله عليه وسلم والناس أنهم يريدون خيراً: قد بنينا مسجداً للمريض أو لليلة المطيرة أو الباردة لئلا يشق عليهم الذهاب إلى مسجد قباء، فنريد أن تأتي إلينا فتصلي فيه، فقال: (نحن على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله).

    فلما رجع من تبوك، وبقي بينه وبين المدينة يوم نزل القرآن في شأنه، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المؤمنين ممن كانت دورهم قريباً من هذا المسجد أن يذهبوا إليه ويحرقوه على من فيه، فذهبوا سراعاً فصار بعضهم يجمع الحطب، وبعضهم يأتي بالنيران فحرقوه، والله جل وعلا يقول: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا .

    ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لو قام فيه فإنما يقوم عابداً لله مخلصاً له جل وعلا، ومع ذلك نهاه أن يقوم فيه، فصار القياس أنه لو كان هناك مكان يذبح فيه لغير الله، فإنه لا يجوز للذي يذبح لله مخلصاً أن يذبح فيه لئلا يشابه أولئك، ولأنه صار مكان معصية، فالاستدلال بهذه الآية من باب القياس، وهو قياس واضح وجلي، حيث إن الله جل وعلا نهى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقوم في هذا المسجد الذي بني على الفساد، وعلى المضرة بالإسلام وأهله، فصار من معصية الله أن يقوم فيه وإن كان مصلياً لله.

    تعيين أول مسجد أسس على التقوى

    قوله: (( لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ )) المقصود به مسجد قباء، فإنه هو المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فإن الذي خطه هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبناه المؤمنون متقين الله جل وعلا، مطيعين له، متبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم.

    وقوله: (( فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ))؛ جاء في المسند وفي صحيح ابن حبان وغيرهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لأهل قباء: (إن الله قد أحسن الثناء عليكم في قصة مسجدكم، فما هذه الطهارة التي تتطهرون؟ قالوا: ما هو والله يا رسول الله إلا أنه كان لنا جيران من اليهود، فكانوا يغسلون أدبارهم بعد قضاء الحاجة، فرأيناهم ففعلنا مثل فعلهم، فقال: هو ذاك فعليكموه) يعني: الزموا هذا.

    وأما ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري : (أن رجلين تماريا في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فسألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هو مسجدي هذا؟) فالمعنى أنه من باب الأولى، أي: فإذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى أن يكون كذلك وأحرى.

    فلا ينافي ما ذكر من أن القصة في مسجد قباء؛ لأن المضارة بمسجد ضرار كانت بجواره، فالسياق وسبب النزول واضح في ذلك.

    وقوله: (( وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ))، فيه دليل على إثبات محبة الله جل وعلا، وأنه يحب المتنزه من النجاسات الحسية، كما أنه يحب المتنزه من أرجاس الذنوب؛ لأن الذنوب نجاسات معنوية، والنجاسات المعنوية أعظم ضرراً من النجاسة الحسية.

    يقول الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: فيه دليل على استحباب الصلاة مع الصالحين وأهل الطهارة والنظافة؛ لأن الله جل وعلا أثنى على هؤلاء، ومن أثنى الله جل وعلا عليهم فإنه يكون محباً لهم جل وعلا.

    والدليل الذي استدل به المؤلف على هذا كما قلنا: من باب القياس، وهو واضح.

    وجه الدلالة في آية مسجد الضرار على تحريم الذبح لله في مكان المعصية

    قال الشارح: [قوله: باب: لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله تعالى.

    لا: نافية ويحتمل أنها للنهي وهو أظهر]

    إذا قيل: إنها نافية فهي تتضمن النهي، وقد يكون النفي الذي يتضمنه النهي أبلغ كما قال الله جل وعلا: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ [البقرة:84] فلا في الآية لا تصلح أن تكون ناهية، وإنما هي نافية، ومع ذلك فهي أبلغ في النهي كما قال أهل البيان.

    قال: [وقوله: وقول الله تعالى لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا [التوبة:108] الآية قال المفسرون: إن الله تعالى نهى رسوله عن الصلاة في مسجد الضرار، والأمة تبع له في ذلك، ثم إنه تعالى حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني على التقوى، وهي طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وجمعاً لكلمة المؤمنين، ومعقلاً ومنزلاً للإسلام وأهله].

    امتثل الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، فكان يزور مسجد قباء كل سبت ماشياً وراكباً، وقد جاء في الترغيب في ذلك قوله: (من توضأ في بيته ثم خرج إلى مسجد قباء فصلى فيه ركعتين فكأنما أتى بعمرة)، وهذا أمر ينبغي أن ينتهز، فالعمرة هي الحج الأصغر، والحج بنوعيه الأصغر والأكبر، أمره عند الله جل وعلا وكبير.

    وقد جاء أن من حج لله مخلصاً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهنا ينبغي الامتثال لأمر الله جل وعلا حيث قال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ .

    الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالسيئات

    يستدل بهذه الآية وقصة مسجد الضرار على أن الأماكن تكتسب الآثار السيئة بالمعاصي فتكون مبغضة إلى الله، وتكون محل معصية، ويكون الجلوس والسكون فيها ممنوعاً؛ ولهذا السبب كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا مر بوادي محسر أسرع وأمر بالسرعة؛ لأن وادي محسر -الذي بين مزدلفة ومنى- هو المكان الذي أنزل الله جل وعلا فيه العذاب على أصحاب الفيل.

    وكذلك لما ذهب إلى تبوك ومر بديار ثمود نهى أصحابه أن يستقوا من الماء، ومن سبقه وأخذ ماء وعجن به أمر أن يعطى العجين للبهائم وألا يؤكل، وأمرهم أن يأخذوا الماء من بئر الناقة فقط، ونهاهم أن يدخلوا تلك المساكن، وقال: (لا تدخلوا عليهم إلا أن تكونوا باكين، لا يصيبكم ما أصابهم) فهذا يدل على أن الأماكن التي نزل بها غضب تكتسب آثاراً من الغضب؛ ولهذا قال العلماء: لا يجوز سكنى تلك البلاد لهذا الحديث، فإنه يخشى على من سكنها أن يصيبه ما أصاب القوم سواءً من الأمر الظاهر الحسي، أو الأمر المعنوي من قسوة القلوب، والبعد عن الله جل وعلا، واكتساب المآثم والمعاصي حتى يكون مثل أولئك الذين كذبوا الرسل.

    وهكذا مسجد الضرار يأخذ هذا الحكم، فيكون النهي مؤبداً؛ ولهذا قال: لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ؛ لأنه اكتسب الأثر السيئ من معصية أولئك.

    وكذلك محل الطواغيت والأصنام ونحوها، ولا يعترض على هذا بما وقع في قصة اللات، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاءه أهل الطائف مسلمين اشترطوا فيما اشترطوا عليه أن تبقى لهم اللات سنتين فأبى، ثم قالوا: سنة، فأبى، فقالوا: فتول أنت أمرها، فأرسل المغيرة بن شعبة رضي الله عنه فهدمها، ثم بنى مكانها مسجداً، وهو مسجد ابن عباس المعروف اليوم، فلا يقال: إن هذا يعارض ما سبق؛ لأن هذا لمصلحة اقتضت ذلك، لأنه لو ترك مكانها لأوشك أن تبعث مرة أخرى، فلما جعل مكانها مسجداً نسيت ونسي مكانها، وأصبح لا يعرفه إلا أهل العلم، ومحل اللات هو محل المنارة، وليس قلب المسجد.

    فضل مسجد قباء

    قال الشارح: [ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (صلاة في مسجد قباء كعمرة)، وفي الصحيح: (أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور قباء راكباً وماشياً)، وقد صرح أن المسجد المذكور في الآية هو مسجد قباء جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغيرهم.

    قلت: ويؤيده قوله في الآية فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108].

    وقيل: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحديث أبي سعيد قال: (تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم فقال رجل: هو مسجد قباء وقال الآخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: هو مسجدي هذا)رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم.

    قال ابن كثير : وهذا صحيح، ولا منافاة بين الآية والحديث؛ لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى، وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي أسس على معصية الله كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [التوبة:107] فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة].

    قصة مسجد الضرار والدلالة على تحريم الذبح في مكان المعصية

    قوله: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ الذي كان يرصد له هو أبو عامر الفاسق فإنه خرج مغاضباً ومتوعداً يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لأملأنها عليك خيلاً، فذهب إلى هرقل وطلب منه أن يمده بالجيش ليقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتله الله هناك، فمات بغيظه، والذين كانوا ينتظرونه في هذا المسجد أمرهم أن يبنوا هذا المسجد حتى يكون محلاً لهم، حتى إذا أرسل رسولاً يكون قاصداً لهذا المسجد، فيتلقون رسائله وأوامره من هذا المسجد، فهذا معنى قوله: وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ .

    وأما كونهم يحلفون أنهم ما أرادوا به إلا الحسنى، فهذا شأن المنافقين يعتمدون على الحلف والكذب، ويسترون أعمالهم بالكذب، وقد أخبر الله جل وعلا أنهم إذا بعثوا يوم القيامة يصنعون هذا الصنيع لله جل وعلا: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ [المجادلة:18]كأمرهم في الدنيا؛ وذلك أن الإنسان يبعث على الحالة التي مات عليها، من مات على حالة في هذه الدنيا بعث عليه حتى في الصفة، فالصفة التي يموت عليها يبعث عليها، وفي هيئته الباطنية التي تكون في عقيدته وإيمانه أو كفره، وكذلك هيئته الظاهرة حتى يعرفه من كان يعرفه في الدنيا، والمقصود أن الجزاء من جنس العمل، فالله جل وعلا يقابل هؤلاء بما يستحقونه.

    نهي الله لرسوله عن الصلاة في مسجد الضرار

    قال الشارح: [فلهذه الأمور نهى الله نبيه عن القيام فيه للصلاة، وكان الذين بنوه جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل خروجه إلى غزوة تبوك فسألوه أن يصلي فيه، وأنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة في الليلة الشاتية فقال: (إنا على سفر، ولكن إذا رجعنا إن شاء الله)فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة، ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعضه، نزل الوحي بخبر المسجد، فبعث إليه فهدمه قبل قدومه إلى المدينة.

    ووجه مناسبة الآية للترجمة: أن المواضع المعدة للذبح لغير الله يجب اجتناب الذبح فيها لله، كما أن هذا المسجد لما أعد لمعصية الله صار محل غضب لأجل ذلك، فلا تجوز الصلاة فيه لله، وهذا قياس صحيح يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي].

    قد يقال مثلاً: الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون في كنائس النصارى، ومن المعلوم أن كنائس النصارى فيها من الصور والصلبان ما هو معبود من دون الله جل وعلا.

    ونقول: نعم. ولكن ما كانوا يصلون في الكنيسة التي فيها الصور أو فيها الصليب حتى يخرجوه أو يمزقوه، والكنائس تكون محلاً للعبادة، وكذلك البيع بنيت لعبادة الله جل وعلا إلا أن الشرك طرأ عليها، وإذا كان الشرك طارئاً فإنه يزال، وإن كان هؤلاء يتعبدون بضلال وشرك، فالأصل في دينهم أنه حق، ولكن غيروا وبدلوا بعد رسولهم الذي بعث إليهم وهو عيسى عليه السلام، فهذه الأماكن تفارق المكان الذي اتخذ للشرك محضاً، ولا تكون مماثلة له.

    الثناء على طهارة أهل قباء

    قال الشارح: [قوله: فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا [التوبة:108]روى الإمام أحمد وابن خزيمة وغيرهما عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال: (إن الله قد أحسن عليكم الثناء بالطهور في قصة مسجدك)].

    هذا يدل على أن الصحابة ما كانوا يعرفون الاستنجاء بالماء، ولهذا قال كثير من الفقهاء إن الاستنجاء لم يأت به نص من كتاب الله، وإنما جاءت هذه الأشياء فيما بعد، لا سيما وهذه القصة في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كانوا يستجمرون بالحجارة، ولهذا جاء الأمر بالاستجمار كثيراً ولم يأت الاستنجاء، والاستنجاء هو إزالة النجو بالماء.

    والماء لا شك أنه أبلغ إزالة، ولكن إذا اقتصر الإنسان على إزالة أثر الخارج بالحجارة، أو ما هو مماثل للحجارة، فهذا جائز باتفاق العلماء، ولا يلزمه أن يتبع أثر ذلك بالماء، وإنما يكون هذا فضل؛ لأن الله أثنى على هؤلاء، ويكون فيه مبالغة في الطهارة.

    ومعلوم أن الحجر يترك أثراً لا يزيله إلا الماء، ولكن هذا الأثر معفو عنه؛ لأنه أزال الشيء الذي يستطيع إزالته، وبقي الشيء الذي لا يزيله إلا الماء، فلو صلى بالاستجمار وإن كان الماء عنده فصلاته صحيحة باتفاق العلماء.

    فعلى هذا يستحب للإنسان أن يجمع بين الحجارة والماء إذا أمكن، وإذا اقتصر على أحدهما فهو جائز.

    قال الشارح: [قال رسول الله (فما هذا الطهور الذي تطهرون به؟ فقالوا: والله يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا)وفي رواية عن جابر وأنس : (هو ذاك فعليكموه)رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم .

    قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108]قال أبو العالية: إن الطهور بالماء لحسن، ولكنهم المتطهرون من الذنوب ].

    أي: فهذا من باب الأولى كما مضى في حديث أبي سعيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (هو مسجدي هذا) فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يوصف بأنه أول مسجد أسس على التقوى من أول يوم؛ وهذا مثله، فإن الطهارة من الذنوب هي المقصودة، ولكن واضح أن الآية للتطهر الحسي من الخارج من البدن، والله يحب من تطهر لذلك وتنظف، ولكن كونه يتطهر من الذنوب أولى بأن يحب، فهذا كقوله جل وعلا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] تزودوا: أي: بالطعام والشراب الذي تحتاجونه في سفركم، أمرهم بالتزود ثم نبه أن زاد التقوى خير وأفضل، وهذا كثير في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف.

    1.   

    إثبات صفة المحبة والرد على من أنكرها

    قال الشارح: [وفيه إثبات صفة المحبة خلافاً للأشاعرة ونحوهم].

    المحبة من صفات الله جل وعلا، وهي ثابتة من الجانبين، أما من جانب العبد فهو أمر لا بد منه، فالذي لا يحب الله لا يكون مسلماً أصلاً؛ لأن (لا إله إلا الله) مبنية على التأله؛ بأن يكون الله هو المألوه الذي يألهه القلب ويحبه ويخافه وينيب إليه ويخضع له ويذل له، فلا بد من محبة العبد لربه، وهذا أمر معلوم من الدين الإسلامي بالضرورة، والعجيب أن الأشاعرة ونحوهم من أهل البدع ينكرون المحبة من الجانبين: من جانب العبد ومن جانب الرب.

    أما من جانب العبد فيقولون: إن المحبة لا تكون إلا للمجانسة، فلا يحب الإنسان إلا من هو مجانس له.

    وأما من جانب الرب فهم يقولون: إنها تدل على الفقر؛ لأن الحب هو الميل إلى الملائم، والله جل وعلا لا يكون محباً لشيء يميل إليه فيلائمه؛ لأنه الغني، ولأنه ليس له نظير أو مثيل، فهذه شبهتهم التي نسوا بها ما دل عليه كتاب الله بل ما جاء به الإسلام ضرورة، وهي شبه لا أصل لها في الدين الإسلامي.

    والجواب عنها أن يقال: العبد عبد، ومعنى عبد أنه معبد، والعبادة هي الذل والخوف والخضوع والذل، وذلك لا بد أن يكون متضمناً للحب، وهذا هو التأله، والذي لا يوجد عنده تأله لا يكون عابداً لله جل وعلا، أي: أن الذي لا يكون محباً لله لا يكون عبداً لله جل وعلا.

    وأما أنها تكون للمجانسة فهذا لا يلزم، والعبد فقير لله جل وعلا لا ينفك فقره عنه، وإذا لم يعبد ربه ويحبه فإن في ذلك شقاءه وعذابه.

    وأما كون محبة الرب جل وعلا هي الميل للشيء الذي يريده، فهذا وصف محبة العبد لا محبة الرب.

    أما محبة الله جل وعلا فهي محبة تليق به كما أن محبة العبد تليق به، ولا يمكن أن تكون صفة الله جل وعلا مماثلة لصفة المخلوق؛ لأن الله جل وعلا ليس له مثيل ولا شبيه في ذاته فكذلك صفته، فإن الصفة تتبع الموصوف.

    فالعبد صفته تليق به، وصفة الله جل وعلا تليق به، هذا لو قلنا بمقتضى القياس والعقل الذي يحتجون به، مع أنه يجب أن نقول بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله وإن خالف العقل، والذي يقوله الله جل وعلا ويقوله رسوله لا يخالف العقل، بل العقل متفق معه.

    فالمحبة من الله جل وعلا ليست للافتقار ولا للحاجة، ولكنها تكرم وجود وفضل يتفضل به على عباده.

    ومثل ذلك سائر الصفات، فالأشاعرة مع إثباتهم للأسماء والصفات يؤولونها، وتأويلها إنكار لها، لأنهم يثبتون لفظها ثم يتأولونه فيقولون: المحبة معناها محبة الطاعة، ومعنى أن الله جل وعلا يحب العبد: أنه يريد منه الطاعة، فيجعلون المحبة هي الثواب أو إرادة الثواب، فمرة يؤولونها بالإرادة، ومرة يؤولونها بشيء مخلوق وهو الجزاء الذي يعطاه العبد.

    أما أن تكون صفة يتصف بها الله جل وعلا فهذا ينكرونه، ومعلوم أن هذا أمر حادث لم يقله به أحد من السلف، ولا يجد الإنسان على هذا أي دليل من كتاب الله، ولا من أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما بنوه على التواطؤ الذي تواطئوا عليه، والمذهب الذي تلقاه بعضهم من بعض، فبه نفوا معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

    التأويل مخالف لظاهر الخطاب الشرعي ولم يأت ما يوافقه من كتاب ولا سنة

    من المعلوم أن الله خاطب الناس باللغة التي يعرفونها ويتخاطبون بها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم بين لهم البيان الذي أمره الله جل وعلا به، ولم يأت لا في حديث صحيح ولا في حديث ضعيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ليس المراد بالمحبة أو بالفرح أو بالضحك أو بالنزول أو بالاستواء أو ما أشبه ذلك، ظاهره، وإنما المراد أمر آخر.

    ولو كان الذي أراده الله جل وعلا غير الظاهر لبينه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله جل وعلا يقول له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ [المائدة:67]وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه.

    ولهذا اتخذ السلف هذه الآية قاعدة يردون بها كل بدعة، فكل ما لم يبينه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو بدعة مردود على قائله، وهذا أمر واضح وظاهر.

    كثرة النصوص المثبتة للصفات

    وكما أنه جل وعلا له وجه وله عينان وله يد وله رجلان، وغير ذلك مما أثبته الله جل وعلا لنفسه، وليس كمثله شيء، فقد جاءت النصوص الكثيرة التي تثبت هذه الصفات، يقول الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأخذ السماوات بيمينه والأرض بشماله فيهزهما ويقول: أنا الجبار أين المتكبرون؟ أين الجبابرة؟).

    وفي الصحيحين: أن يهودياً من أحبار اليهود جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يا محمد! إن الله يوم القيامة يضع السماوات على أصبع، والأراضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، وسائر خلقه على أصبع، ثم يهزهن ويقول: أنا الملك أنا الملك أين ملوك الأرض؟ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قرأ قول الله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]).

    أما ما يقوله أهل البدع فإنه مردود عليهم بكتاب الله جل وعلا وبما بلغه رسول الهدى صلوات الله وسلامه عليه عن ربه جل وعلا.

    وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على المنبر وفي المجامع بذكر صفات الله جل وعلا، كان يخطب يوماً فقال: (إن الله ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب، فقام إليه رجل أعرابي كان حاضراً فقال: يا رسول الله! أويضحك ربنا؟ قال: نعم، قال: إذاً: لن نعدم خيراً من رب يضحك) فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أقره على هذا، وهذا كثير جداً في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    والرسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين يقول: (لله أشد فرحاً بتوبة عبده التائب من أحدكم تضل راحلته عليها متاعه وطعامه وشرابه في أرض دوية، فيطلبها فييئس من وجودها، ثم يأتي إلى شجرة يقول: أموت تحت هذه، فيضع رأسه ينتظر الموت، وبينما هو كذلك إذا راحلته واقفة على رأسه، فيأخذ بخطامها ويقول: اللهم أنت عبدي، وأنا ربك!! أخطأ من شدة الفرح!).

    أما ما ذكره بعض الناس أن الإمام مالكاً رحمه الله كان يكره أن تذكر الصفات عند العوام فهذا باطل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم هو معلم الخير وهو القدوة، وهو الذي كان يبلغ هذه الصفات ويجب أن يقتدى به، ومع ذلك يجب أن ينفى عن الرب جل وعلا توهم الجاهلين والكاذبين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756554232