إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [22]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • مدار الإسلام على النطق بالشهادتين، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وقد خص النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأركان الثلاثة بالذكر -كما في حديث معاذ رضي الله عنه- لأهميتها ومكانتها من الدين، فلا يكون الدين كاملاً إلا بها.

    1.   

    شرح حديث معاذ عند بعثته إلى اليمن

    يقول المصنف رحمه الله: [ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله -وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أخرجاه. ].

    مخاطبة الناس بما يناسب حالهم

    بعث معاذ رضي الله عنه كان في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث معاذاً معلماً وداعياً ونائباً عنه في الحكم وإبلاغ الرسالة التي أرسل بها إلى أهل الأرض، وقال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: في اليمن. ولا يعني ذلك أن أهل اليمن من أهل الكتاب كلهم، ولكن فيهم أهل الكتاب الذين هم اليهود والنصارى، وأكثرهم ليسوا منهم، بل هم أهل أوثان من العرب، يعبدون الأوثان، ولكنه نبهه إلى أن مخاطبة أهل الكتاب وكلامهم ليس كمخاطبة الجهال أهل الأوثان الذين ليس عندهم علم، فهؤلاء قد تكون عندهم شبه ومجادلات، فنبهه لذلك ليستعد لما عساهم أن يلقوه عليه من الشبه، أو يجادلوه في علوم قد يكون منها ما هو مأخوذ من كتب الله السابقة.

    هذا هو السر في قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) يعني: لتستعد لذلك، وتعد نفسك وتتهيأ، ويكون عندك ما تستطيع أن تجيبهم به.

    ثم إن هذا يدلنا أن مخاطبة الناس ليست سواء، وكل الإنسان يخاطب بما يناسبه، ولا يخاطبون خطاباً واحداً؛ لأن بعضهم قد يكون -مثلاً- عنده علوم وأفكار ليست عند الأخرين، والآخر لا يصل إلى هذا، ويخاطب هذا بما يناسبه وهذا بما يناسبه.

    ثم قال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله)، وهم أهل كتاب، ومعلوم أن أهل الكتاب الذين هم اليهود -خصوصاً- ما كانوا يعبدون أوثاناً، بل كانوا يعيبون على العرب ذلك، وكان يهود المدينة يقولون للعرب: آن وقت نبي سيبعث نتبعه ثم نقتلكم معه قتل عاد وإرم، لأنكم كفرة أصحاب أوثان. ولكن الله يمن على من يشاء، ولما بعث النبي صلى الله عليه وسلم آمن به أصحاب الأوثان وكفر به أصحاب العلم الذين يتوعدونهم، وذلك لأنهم ما كانوا يظنون أنه من العرب، فقد كانوا يظنون أنه يبعث منهم، فلما بعث من العرب حسدوه وأبغضوه، وتركوا الحق من أجل الحسد والبغضاء.

    وهذا يدلنا على أن العلم ليس كل شيء، فإن الإنسان قد يكون عالماً ويكون ضالاً على علم، إما لحسد وإما لمنافع معينة يريد أن يتحصل عليها من رئاسات أو أموال أو غير ذلك، وهذه معروفة، وعلل الناس التي يتعللون بها لكونهم لا يتبعون الحق إما لأنه يخالف أهواءهم، أو لأنه يمنعهم من شهواتهم، كما قال أحد النصارى لما قيل له:

    لماذا لا تسلم وتترك النصرانية لأنها ضلال، ولأن في دينك ما يلزمك باتباع محمد صلى الله عليه وسلم؟

    فقال: كيف أسلم وأترك شرب الخمر وأنتم في دينكم تحريم الخمر؟ لا أستطيع.

    وقيل لنصراني آخر: لماذا لا تُسلم وتَسلم من عذاب جهنم وما يترتب على كفرك وبقائك على دينك الفاسد؟

    فقال: أنا محتاج إلى الأموال، وأقاربي يعطونني الأموال، ولو أسلمت لمنعوني ذلك.

    وكذا علل الناس من هذا القبيل.

    ومنهم من يمنعه الملك، مثل ما منع هرقل ملك الروم لما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم أنه الحق؛ لأنه تيقن وقال: والله لو أستطيع لأتيته ولغسلت نعليه ولحملتها، والله إن كان ما تقوله الحق -يقوله لصاحب الكتاب الذي جاء به- ليملكن ما تحت قدمي هاتين. وهو على سرير ملكه.

    يقسم ويحلف، ثم بعد ذلك أمر بمن عنده بأن يخرجوا، وأمر بالأبواب التي تصل إليه أن تغلق وتوصد، وأمر بقواده وكبرائه أن يوضعوا في مكان قريب منه ولكن لا يصلون إليه.

    فلما فعلوا ذلك قال: هل لكم في السعادة؟ هل لكم في الرشد والهدى؟

    فقالوا: وما هو؟

    قال: نتبع هذا النبي. فأسرعوا ذاهبين إلى الأبواب يريدون أن يقتلوه، فوجدوها موصدة، ثم قال: ردوهم عليّ، فلما ردوهم عليه قال: إنما قلت ما قلت لأختبر دينكم وصلابتكم فيه، وقد رضيت منكم بذلك ونحن على ديننا.

    أي أنه اختبرهم ليرى ماذا لو أسلم هل يبقى على ملكه ويتركونه أو لا يتركونه، فلما رأى أنهم لا يتركونه بقي على كفره معتاضاً به عن الإسلام.

    ومنهم من رضي باتباع العادات واتباع ما وجد عليه قومه وما وجد عليه أبناء جنسه، وهذا هو الذي منع كثيراً من المشركين، ومنهم عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب ، فإنه لما دعاه قال: لولا أن أجر على أشياخي وكبرائي مسبة لاتبعتك وانقدت لقولك. والمسبة التي يزعمها هي أنه يحكم عليهم بالضلال؛ لأنهم كانوا يعبدون الأوثان.

    فالمقصود أنه ليس من كان عالماً يلزم أن يكون مهتدياً، بل كثيرٌ ممن يكون عالماً يكون ضالاً على علم، ولهذا يقول علماء التفسير في قوله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] لما ذكروا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين هم النصارى؛ لأن النصارى يتعبدون على جهل فضلوا، وأما اليهود فهم أهل عناد وتكبر وأهل علم قال العلماء: من ضل من علمائنا فهو شبيه باليهود، ومن ضل من عبادنا فهو شبيه بالنصارى.

    قوله: (إنك تأتي قوماً ...)

    قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة ألا إله إلا الله) يعني: يبدأهم في الدعوة بأن يشهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.

    فهذا أول ما يبدأهم به، مع أنهم ما كانوا يعبدون الأوثان، ومع ذلك يدل هذا على أنهم يجب أن يشهدوا ألا إله إلا الله قبل كل شيء، وأنهم لا يصح دخولهم في الإسلام ولا يقبل منهم حتى يتشهدوا هذه الشهادة وينطقوا بها؛ لأن هذه الكلمة وضعت لكون الإنسان يتحقق أن العبادة لله وحده، وأنه يكفر بكل معبود سوى الله جل وعلا؛ لأن عبادة الله لا تستقيم إلا بالكفر بما يعبد من دونه، كما قال الله جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)، فإذا قالها الإنسان مؤمناً بها مصدقاً موقناً محباً لها قابلاً بها عاملاً بما تقتضيه فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، وهذا هو أصل الدين الذي جاءت به الرسل كلها من أولها إلى آخرها، فكل رسول يأتي بهذا إلى قومه ويدعوهم إليه أول شيء، ودين الرسل كلها هو دين الإسلام، كما قال الله جل وعلا : إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، وذكر الله جل وعلا عن الرسل أن كل واحد منهم يقول: أسلمت لك يسلمون لله، ويأمرهم بالإسلام، فالإسلام معناه الاستسلام لله جل وعلا بالإنقياد والطاعة التامة والخضوع له. وهو مقتضى (لا إله إلا الله)، أن يكون القلب متحليّاً بالتأله لله جل وعلا وحده، والتأله هو عبادة القلب عبادة الحب والذل والتعظيم، كما سيأتي تقسيم المحبة، وأنها يجب أن تكون لله وحده؛ لأنها هي التألة، وهي محبة مشتركة بين الخلق كلهم.

    معنى الشهادتين

    ثم يضاف إلى شهادة التوحيد ووجوب التشهد بها شهادة أن محمداً رسول الله.

    ومعناها: أنه رسول من عند الله جاء بالدين الذي يلزم كل إنسان قبوله والعمل به، وأنه ليس هناك طريق يسلك إلى الله جل وعلا إلا ما جاء به هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، أما الطرق الأخرى سواءٌ أزعم أنها موروثة عن الأنبياء وأنها وحي أوحي به إليهم أم لا، كلها يجب مجانبتها وتركها، واتباع محمد صلوات الله وسلامه عليه الذي هو خاتم الرسل، كما قال صلى الله عليه وسلم: (والله لو كان أخي موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي) موسى عليه السلام كليم الله لو كان حياً موجوداً لاتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو خاتم الرسل الذي بعث للخلق كلهم.

    فمعنى شهادة أن محمداً رسول الله: العلم اليقيني بأنه رسول من الله جل وعلا، أوحى إليه شرعه، وأكرمه بذلك، وهو عبد يعبد الله جل وعلا، ليس له من الإلهية ولا من الربوبية شيء، وإنما قام بعبادة الله جل وعلا حسب أمر الله جل وعلا، وألا يُعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا هو معنى: (أشهد أن محمداً رسول الله) رسول أوحي إليه بالشرع، كلف الناس بطاعته وتوقيره وتعظيمه واتباعه في ذلك، وألا نعبد الله جل وعلا إلا بما جاء به عن الله، وكل ما يقوله ويأمر به من الرسالة التي أرسل بها؛ لأن الله جل وعلا يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى *عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:3-5] الذي هو جبريل عليه السلام هو الذي جاءه بالوحي.

    ثم هذا ليس خاصاً بأهل الكتب، فهذا يُدعى به الناس كلهم، ولكن هذا يدل على أنه لا يقبل من إنسان يريد الدخول في الإسلام حتى يتلفظ بهاتين الشهادتين، والتلفظ يلزم منه أن يعلم معناهما، فيعرف معنى الشهادتين، ويعلم أن التلفظ بغير معنى يتضمنه الكلام لا يفيد شيئاً، فيكون شبه هذيان، وشبه كلام النائم السكران الذي لا يعقل ما يقول.

    ومعلوم أن الكلام: اسم للفظ والمعنى، والكلام لا يكون في للفظ دون المعنى، ولا للمعنى دون اللفظ، وهذا هو الحق الذي دل عليه كتاب الله ولغة العرب، وكذلك إجماع أهل الحق على هذا، ولهذا لابد من معرفة هاتين الشهادتين حتى يكون الإنسان مسلماً حقاً، أما إذا نطق بهما وهو لا يعرف معناهما فيحكم له بالإسلام ظاهراً، وأما الباطن فإن كان لا يعرف معناهما ولا يعمل بهما فليس بمسلم، ولا بد من معرفة معناهما والعمل بهما، فإذا فعل ذلك وجب عليه قبول كلما جاء به الرسول، والالتزام بالصلاة والزكاة والصوم والحج وسائر الأوامر التي أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك ينبغي اجتناب ما نهى عنه، فإن فعل ذلك فهو من المؤمنين المتقين السعداء في الدنيا والآخرة، وإن كان على ظاهره وترك بعضها، والتزم ببعضها فأمره إلى الله جل وعلا إن شاء آخذه وعذبه، وإن شاء عفا عنه، إلا أنه لا بد من شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامة الصلاة.

    أما البقية التي هي أداء الزكاة وصوم رمضان والحج فالكلام فيها يختلف عن هذا؛ لأن الزكاة أمر يتعلق بذمة الإنسان وبماله الظاهر الذي يرى ويشاهد، أما المال الباطن الذي لا يعلمه إلا صاحبه فهذا إليه، إن كان عنده إيمان وتقى ومخافة من الله دفع زكاته، وإن لم يفعل ذلك فالله الذي يحاسبه، إلا أنه يجب على الإمام -إمام المسلمين- إذا كان ظاهر الإنسان الإسلام، وله أموال ظاهرةٌ فيجب عليه أن يأخذ الزكاة منه، فيضعها حيث أمر الله جل وعلا كما سيأتي، أما الأموال الباطنة فموكولة إلى إيمان الإنسان نفسه.

    وأما الصوم وهو ركن من أركان الإسلام كما هو معلوم فهو موكول إلى إيمان الإنسان وأمانته، إن كان عنده أمانة وإيمان صام، وإلا لم يفعل. فالصيام بين العبد وبين ربه جل وعلا؛ لأن الإنسان يمكن أن يظهر أمام الناس أنه صائم، وهو يأكل ويشرب ويفعل ما يريد، ويذهب إلى البيت أو إلى أي مكان ويفعل ما يشاء، ولا يراقبه إلا الله، ولهذا السبب لم يذكر الصوم في هذا الحديث، وفي بعض الأحاديث لم يذكر في الأركان.

    وأما الحج فالحج له أمر آخر، وهو أنه لا يجب على كل أحد، وإنما يجب على المستطيع القادر، وكذلك هو لا يجب في كل عام، وإنما يجب في العمر مرة، فإذا كان كذلك فليس كبقية الأركان.

    ولهذا السبب أيضاً لم يذكر الحج في هذا الحديث، وهذا هو الصحيح من أقوال العلماء في كون الصوم والحج لم يذكرا في هذا الحديث، وليس كما يقول بعضهم: إن بعض الرواة اختصر الحديث. لأن هذا طعن برواة الحديث، ولو قبل مثل هذا الطعن لأمكن لكل مبطل أن يقول: هذا الحديث مختصر، وهذا محذوف منه كذا ومزيد فيه كذا، وما أشبه ذلك.

    وإنما الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر عندما يذكر أركان الإسلام فيقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وكذلك إذا سئل عن الإسلام فإنه يذكر أركان الإسلام كاملة، وإذا ذكر الإيمان ذكر أركان الإيمان كاملة، أما إذا جاء الأمر ويترتب على الأمر القتال أو الحكم بالإسلام أو الضلال فإنه يذكر ذلك حسب ما يناسب المقام؛ لأن الخطاب بالصوم ليس لكل أحد، وهو أمانة بين العبد وبين ربه، فمثلاً الحائض لا يلزمها الصيام، وإنما تقضي أياماً بعدما يزول المانع، وكذلك المسافر لا يلزمه، وإنما يقضي أياماً بعد زوال المانع، وكذلك الكبير الذي لا يستطيع الصوم لا يلزمه، وإنما يفطر ويأكل ويطعم بدل كل يوم مسكيناً، وكذلك الحامل إذا خافت على ولدها فإنه لا يلزمها، فإنها تأكل ثم تطعم وتصوم، وكذلك المرضع، وهكذا.

    بخلاف الصلاة؛ فإن الإنسان ما دام فيه عقله وما دام قد كلف لا تسقط عنه الصلاة بحال من الأحوال، سواءٌ أكان صحيحاً أم مريضاً، وسواءٌ أكان يستطيع أن يجلس أم لا يستطيع الجلوس، يستطيع القيام أم لا يستطيع، فيجب عليه أن يصلي حسب حاله، ولا تسقط الصلاة بحال من الأحوال.

    وكذلك شهادة ألا إله إلا الله، شهادة التوحيد، وشهادة أن محمداً رسول الله ملازمة دائماً للقلب والعلم، وكذلك الاعتقاد، يعتقد ذلك، فتلازمه دائماً وأبداً لا تسقط بحال من الأحوال.

    وبهذا يتبين الفرق بين هذه التي يذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر الأحاديث وبين الأركان التي قد لا يذكرها في بعض الأحاديث، وليس الأمر كما قيل: إن ذكرها وعدم ذكرها حسب تنزل الفرائض. ففي أول الأمر نزلت الصلاة، ثم بعد ذلك الزكاة، فصارت تذكر الصلاة ثم تذكر الزكاة، ثم بعد ذلك الصوم، وقد مر معنا أن الصوم فرض في السنة الثانية للهجرة، أي: فرض في المدينة، بخلاف الصلاة فإنها فرضت قديماً في مكة.

    وأما الحج فقد اختلف فيه كثيراً، وقد علم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحج إلا في السنة العاشرة السنة التي توفي فيها صلوات الله وسلامه عليه، وبهذا يتبين الفرق، ولكن ليس الأمر كما يقول هذا القائل: أنه حسب تنزل الفرائض، وإنما الصواب هو ما ذكرنا من الفرق أن الشهادتين والصلاة تلازم المسلم دائماً وأبداً، ولا تنفك عنه بحال من الأحوال ما دام عقله معه وما دام مكلفاً، بخلاف الصوم والحج فليس الأمر كذلك.

    فرضية الصلاة

    ثم قوله صلوات الله وسلامه عليه: (فإن هم أطاعوك لذلك) يعني: استجابوا وقبلوا منك بأن شهدوا ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله: (فأعلمهم -مرتباً على ذلك- أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة)، وهذا دليل واضح على أنه لا يلزم المسلم إلا خمس صلوات في كل يوم وليلة، ولا يلزمه تحية المسجد ولا الرواتب التي قبل الظهر وبعدها، والتي بعد المغرب وقبل العشاء وبعدها، ولا الوتر ولا غير ذلك، وإنما هذه كلها سنن إذا أتى بها الإنسان فله الفضل والجزاء، له الفضل من الله يتفضل عليه بالإحسان بأن يجزيه على ذلك، وإن لم يأتِ بها فليس ظالماً وليس عاصياً بترك ذلك، إذا أتى بالصلوات الخمس فقط يكون قد أتى بما يلزمه.

    ولهذا ثبت في صحيح مسلم: (أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصار يتكلم وهو رجل كبير السن، يقول الصحابي-: نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن فرائض الإسلام وشرائعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تشهد ألا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولا تشرك به شيئاً -وصار يمسك بأصابعه- ثم قال: أخبرني عن شرائع الإسلام؟ فقال: خمس صلوات في كل يوم وليلة. فأمسك بإصبعه فقال: هل علي غيرها شيء؟ قال: لا إلا أن تطوع -يعني: تأتي بشيء من عند نفسك تطوعاً-، ثم قال: تزكي المال -تؤدي الزكاة- فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوع. ثم قال: فماذا؟ فذكر الصوم -صوم شهر رمضان- فقال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع. ثم قال: وماذا بعد ذلك؟ فقال: تحج البيت؟ فقال: وهل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع فأمسك بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها ولا أنقص منها شيئاً ثم ولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صدق دخل الجنة).

    وجاء في رواية: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) أمسكها بأصابعه وقال: والله لا أزيد عليها شيئاً ولا أنقص عليها شيئاً. فإذا جاء الإنسان بهذه ولم ينقص منها شيئاً فهو من أهل الجنة.

    ولما قال معاذ رضي الله عنه: (يا رسول الله! دلني على عمل يدخلني الجنة؟ قال: لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه)، عظيم لأن دخول الجنة ليس سهلاً؛ ولأن الإنسان إذا دخل الجنة يبقى فيها ما دامت السموات والأرض منعماً، وملائكة الرحمن تدخل عليه من كل باب قائلة له: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، وإلا صار في الدار الأخرى في جهنم.

    فقال له: (لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، ثم قال: تعبد الله ولا تشرك به شيئاً -هذه واحدة- وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت)، فقط هذه الخمس التي دله عليها لما سأله عن عمل يدخله الجنة، وأخبره بهذه الأمور الخمسة، فالجنة مرتب دخولها على الإتيان بهذه الخمسة الأشياء: شهادة ألا إله إلا الله، وهي التي يقول فيها: (تعبد الله ولا تشرك به شيئاً)، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، والحج مرةً واحدة في العمر، وما عدا ذلك فليس بلازم على الإنسان، إلا أن يلزم نفسه به، كالذي ينذر مثلاً، والنذر هو إلزام الإنسان لنفسه ما ليس بلازم له.

    فإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم الإنسان إلا خمس صلوات في اليوم والليلة كما هو واضح، وقد علمنا أن بعث معاذ إلى اليمن كان في السنة العاشرة من الهجرة. في السنة التي توفي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عُلم أن معاذاً رضي الله عنه لما ذهب إلى اليمن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في اليمن، وما جاء إلى المدينة إلا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر الصديق.

    الصلاة المفروضة خمس وما عداها سنة وتطوع

    هذا متفق عليه بين أهل العلم، فدل هذا على أن هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر الأمر، فلا يتأتى على ذلك قول من يقول: إن فرضية الوتر وغيره صارت بعد قوله لـمعاذ. لا يتأتى هذا، وهذا يشكل عليه ما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الوتر حق على كل مسلم)، أو نحو ذلك، وقال (أوتروا -أهل القرآن- فإن الله وتر يحب الوتر) وقال في حديث يروى عنه صلى الله عليه وسلم: (لا تتركوا ركعتين قبل الفجر وإن طلبتكم الخيل)، وهذا الأمر قال كثير من العلماء: إنه يدل على الوجوب.

    والجواب أن هذا أمر دل على أنها سنة مؤكدة، وقد يعبر عن السنة المؤكدة بالوجوب، كما قال: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، وقد علم أنه ليس حتماً وفرضاً، وإنما هو سنة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم فهموا هذا وعملوا به، فقد ثبت أن عثمان رضي الله عنه لم يغتسل يوم الجمعة، وجاء وعمر يخطب فأنكر عمر عليه، وقال: أنتم قوم يقتدى بكم فلماذا لا تتقدمون. فأخبره أنه كان في شغل، وأنه ما زاد على أن توضأ، فقال: وهذه. وجاء في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل)، فهذا أيضاً يدل على أن الغسل ليس بواجب، وهكذا الكلام في الوتر وفي ركعتي الفجر وغيرها مما جاء من الأحاديث، وكلها ترغيب في الصلوات.

    أما قول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل:1-4]، وكذلك في آخر السورة، والعفو عن كونهم لا يقومون أكثر الليل، وكذلك قوله جل وعلا: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79] فهذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: (نَافِلَةً لَكَ) يعني: ليست على أمتك. ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان يصلي ويجتهد، وفي آخر عمره صلى التراويح جماعة ليلتين أو ثلاث، وفي اليوم الثالث امتلأ المسجد وذهب الناس إليه فلم يخرج عليهم، واليوم الرابع لم يخرج عليهم، حتى صاروا يتكلمون ويتنحنحون، وربما حصبوا الباب، ثم قال لهم بعد ذلك: (لقد علمت مجيئكم ومكانكم ولكني خشيت أن تفرض عليكم)، فدل هذا أنها ليست فرضاً، بل هي سنة، وهكذا صلاة الاستسقاء، وصلاة العيدين، وصلاة الكسوف، كلها ليست واجبة بنص هذا الحديث، وأنه لا يجب على المسلم إلا خمس صلوات في اليوم والليلة، فالكسوف، والعيدان والاستسقاء وصلوات التطوع كلها ليست واجبة، وإنما هي سنة إذا فعلها الإنسان أجر عليها، وإن لم يفعلها فليس عليه إثم، غير أنه ينبغي للإنسان أن لا يزهد في الخير، وينبغي عليه أن يرغب فيما عند الله؛ لأن الجنة درجاتها تقتسم بالأعمال الصالحة، ولا ينبغي للإنسان أن يرضى بالدون، وينبغي له أن يكون له نصيب من التطوع، من الذكر، ومن القراءة، ومن الصلاة، ومن الصوم، ومن الحج، وهكذا، هذا أمر.

    الأمر الثاني: أنه جاء في بعض الأحاديث أن الإنسان أول ما يحاسب عليه صلاته، فإن كانت كاملة فقد أفلح، وإن كانت ناقصة فإنه يقال: انظروا هل له من تطوع فتكمل به صلاته.

    إذاً كان الأمر هكذا، فينبغي للإنسان أن يكثر من التطوع، ولا سيما نحن، فلسنا كالصحابة ومن بعدهم من السلف، إذا قام أحدهم إلى الصلاة أصبح كأنه بين يدي الله جل وعلا يشاهده ويخاطبه، أما نحن فتجد الجسم في المسجد في الصفوف، والقلب تجده سارحاً في مكان آخر، يفكر في أمور أخرى، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يكتب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها ) الشيء الذي يعقله، فقد يكتب للإنسان كل صلاته، وقد يكتب له نصفها، وقد يكتب له ثلثها، وقد يكتب ربعها، وقد لا يكتب له إلا عشرها، وقد يخرج من الصلاة ما عقل منها شيئاً فتلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها فتقول: (ضيعك الله كما ضيعتني).

    أما إذا أداها بخشوع وحضور قلب وطمأنينة فإنها تصعد ولها نور، وتقول: (حفظك الله كما حفظتني).

    فنحن في الواقع بحاجة إلى أن نرقع صلاتنا؛ لأنها مخرقة بل ممزقة صلواتنا تكون ممزقة، بكثرة التفكير في أمور الدنيا، وبكثرة كون القلب يسرح في أماكن أخرى، وربما إذا انتهى الإمام لا ندري ماذا قرأ، ولا ندري أي سورة وأي آية، وهذه مشكلة، وربما الإنسان لا يدري صلى ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً، فهو سارح، وإذا كان الأمر هكذا فنحن بحاجة إلى أن نكمل صلاتنا.

    وفضل من الله جل وعلا كونه يقبل منا أن تجبر الفريضة بالتطوع، فضل يتفضل به على من يشاء، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما يروى عنه: (الصلاة خير موضوع، فازدد منها ما شئت)، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يكثرون من الصلاة، مع ما ذكرنا من حضور قلوبهم في الصلاة وخشوعهم، حتى إن أحدهم يضرب بالرماح وتسيل الدماء منه وهو في صلاته لا يقطعها، ولما عوتب على ذلك قال: كنت في آيات كرهت أن أقطعها. أأقطع المعاني المترتب بعضها على بعض؟ ثم قال: (والله لو لا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك)، وهذا في رجلين جعلهما الرسول صلى الله عليه وسلم حارسين وهم في غزوة من الغزوات، فوكل الحراسة إلى رجلين، فقال أحدهما للآخر: كوننا نبقى مستيقظين ليس له فائدة، اختر إن شئت أن تنام أول الليل أو آخر الليل. فقال لصاحبه: أنام الآن وأقوم آخر الليل. فصار صاحبه يصلي وهو ينظر، فجاء أحد الأعداء فرأى شخصه فصوب إليه السهم فضربه فلم يتحرك، ثم صوب إليه السهم الثاني وضربه، فصارت الدماء تسيل، ثم الثالث، عند ذلك خاف أن يموت فأيقظ صاحبه، فلما استيقظ صاحبه قال: سبحان الله! ما الذي حملك على هذا؟ لماذا لم تيقظني من أول الأمر؟ فقال: والله لو لا أني خشيت أن يؤتى المسلمون من قبلي ما أيقظتك؛ لأنني كنت في آيات كرهت أن أقطعها أي: قبل إكمالها.

    فالمقصود أن هذه حالتهم ولهذا: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر- أي: أصابه أمر شديد- فزع إلى الصلاة)، والله جل وعلا يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153].

    فالصلاة يستعان بها؛ لأنها صلة بين العبد وربه، إذا وقف الإنسان متجهاً إلى ربه ورفع يديه قائلاً: (الله أكبر) يجب أن يعلم ما يقول، وأنه ليس هناك شيء أكبر من الله، لا مال ولا أولاد، ولا مناصب، ولا منافع، ولا أي شيء في الكون، ويحب أن يقبل على الله ويشتغل بالله، ولا يلتفت بقلبه يميناً ولا شمالاً، وقد جاء في الحديث: (أن الله ينصب وجهه في وجه المصلي ما لم يلتفت، فإذا التفت أعرض الله عنه)، فأي مسلم يود أن الله يعرض عنه؟!

    وجاء في حديث آخر أن الإنسان إذا التفت في صلاته أعرض الله عنه، وقال: (أإلى خير مني) يعني: تلتفت إلى خير مني؟! تعالى الله وتقدس.

    والالتفات ينقسم إلى قسمين: التفات أصغر والتفات أكبر، فالالتفات الأصغر هو التفات البدن بالرقبة أو بالبدن، وقد علم من أقوال العلماء أن الالتفات عن القبلة بالجملة بالجسد كله يبطل الصلاة؛ لأن الله أمرنا بالتوجه إلى الكعبة فقال: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:144]، وهذا يدل على الوجوب، فنستقبله دائماً في الصلاة، والالتفات هاهنا اختلاس من الشيطان، وكون الإنسان يلتفت برقبته أو ببدنه عن القبلة فهذا نقول: إنه التفات أصغر.

    أما الالتفات الأكبر فهو الالتفات بالقلب، وكون القلب يلتفت إلى غير الله ويسرح ويمرح ويشتغل بالأمور الأخرى.

    إذاً: فالصلاة من أعظم أركان الإسلام، ولهذا بدأ بها بعد الشهادتين، فقال: (فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة).

    صلاة الجماعة

    وقد فرض الله الصلوات جماعة، فمن واجبات الصلاة كونها في الجماعة، وواجب على المسلمين أن يصلوها جماعة، كما قال عبد الله بن مسعود : (إن نبيكم سن سنن الهدى، وإن الجماعة من سنن الهدى، فلو تركتم الجماعة وصليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم)، ويقول في حديث آخر: (لقد رأيت أحدنا يؤتى به يهادى بين اثنين حتى يجلس في الصف) من شدة ما يحافظون على الجماعة، وجاء في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لقد هممت بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم بالنار)، وجاء في رواية أنه قال: (لولا ما في البيوت من الذرية والمتاع لحرقتها عليهم)، وهذا لا يكون إلا لترك واجب متعين، فالمقصود أن الصلاة جماعة من سنن الهدى التي سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوجبها على المسلمين، فعليهم أن يصلوها جماعة في المساجد.

    ثم إذا فاتت الإنسان الجماعة فعليه أن يحرص بأن يؤدي صلاته في جماعة، سواءٌ في المسجد الذي فاتته صلاة الجماعة إذا وجد من لم يصل جماعة، أم في غيره من المساجد إذا كان يستطيع أن يدرك جماعة ولو لم يكن معه من صلى فريضته، فقد جاء أن رجلاً دخل المسجد وقد صُليت الصلاة فأراد أن يصلي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يتصدق على هذا فيصلي معه) (يتصدق عليه) حتى تكون صلاته جماعه، ولمـا كان صلى الله عليه وسلم في مسجد الخيف يصلي وانتهت الصلاة رأى رجلين جالسين فقال: (علي بهما فجيء بهما ترتعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا، ألستما بمسلمين؟ قالا: بلى -يا رسول الله- ولكننا صلينا في رحالنا -أي: صلينا مع جماعتنا في المكان الذين نحن نازلون فيه- فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما إلى جماعة فصلوا معهم تكن لكم نافلة)، وهذا نوع من الإعادة.

    والمقصود أنه يجب على المسلمين أن يحافظوا على الصلاة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يطالبهم الله جل وعلا لمخالفة خالفوها، ومن طالبه الله أدركه، ومن أدركه أخذه، ولن يفوت أحد من الخلق ربه جل وعلا، ولهذا يقول: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].

    (إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ): أي: رجوعهم. سيكون رجوع الخلق كلهم إلى الله ثم يحاسبهم.

    1.   

    فرضية الزكاة

    فبعد ذلك يقول: (فإنهم أجابوك إلى ذلك)، يعني: أدوا الصلاة وأقاموها (فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)، وهذا دليل على أن الزكاة لا تجب إلا على الأغنياء، وهذا نوع مما تفارق به الصلاة، فالصلاة تجب على الفقير والغني، وعلى المرأة والرجل، وعلى العبد الحر، وعلى كل بالغ، وعلى المريض والصحيح، تجب على كل مكلف حسب استطاعته، بخلاف الزكاة فإنها لا تجب إلا على الأغنياء، وفيه دليل على أن الزكاة تجب أيضاً في مال الصغير ومال المجنون؛ لأنه يدخل في عموم قوله: (صدقة تؤخذ من أغنيائهم)، وفيه دليل على جواز صرف الزكاة لنوع من أنواع الزكاة؛ لأنه قال: (فترد على فقرائهم)، وقد اختلف العلماء في هذا الضمير هل يراد به فقراء المسلمين أو فقراء أهل اليمن؟ فإن أريد به الأول جاز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، وإن قيل: إنه يقصد بها ضمير القوم فلا يجوز نقل الزكاة، وهي مسألة خلافية بين العلماء، والصواب في هذا أنه إذا كان في نقلها مصلحة وفائدة وحاجة لمن تنقل إليه أعظم فإنها تنقل، أما إذا لم يكن ذلك فلا، بل تفرق في البلد التي أخذت منه.

    ثم فيه دليل على أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء، ويأخذها الإمام أو عامله الذي يكل إليه ذلك.

    وقوله أيضاً (على أغنيائهم) استدل به بعض العلماء على أن من كان عليه دين، وعنده أموال ولكن الدين يستغرقه أنه ليس عليه الزكاة؛ لأنه ليس غنياً.

    أخذ كرائم الأموال زكاة ظلم

    ثم قال: (فإنهم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم) وكرائم المال أحاسنه وأطايبه، لأن الكرم معناه السعة والجمال والحسن والخير، ولهذا قالوا: كريمة الغنم أحسنها منظراً، وأكثرها صوفاً وأكثرها لبناً وأسمنها وأكبرها. فهذه كرائمها، وفيه دليل على أن الزكاة لا تجب في أطايب المال، كما أنه لا يجوز لصاحب المال أن يخرج الزكاة من أراذله وأسافله وأشراره. فلا يخرج التيوس، أو يخرج الجرباء، وكذلك إذا كان غير حيوانات، فلا يذهب يقصد الرديء من التمر أو الحب فيخرجه، وعليه أن يتقي الله، وكذلك العامل لا يجوز له أن يأخذ أحسن المال، فإن هذا ظلم، فإن فعل ذلك فإن صاحب المال يطالبه عند الله يوم القيامة لأنه ظلمه، ولكن لو أن صاحب المال جادت نفسه بأن يخرج أحسن الأموال فإنه يجوز أن يأخذها بعد أن يعلمه بأن هذا ليس واجباً عليه، ويقول له: ليس هذا بواجب عليك، الواجب عليك أن تخرج من أوسط المال لا من شراره ولا من خياره، وإنما تخرج من أوسطه، سواءٌ أكان المال من الحبوب أم التمور أم الحيوانات.

    والحيوانات معروفة، منها الإبل والغنم والبقر، والغنم تشمل الماعز والضأن، كما أن البقر يشمل الذكور والإناث، وعلى الإنسان أن يتقي ربه جل وعلا في ذلك فيخرج ما تبرأ به الذمة وتطيب نفسه به؛ لأنه فريضة من فرائض الله، يخرجه طيبة به نفسه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه لو منعه وأمسكه؛ لأنه فريضة.

    1.   

    اتقاء دعوة المظلوم

    ثم قوله: (واتق دعوة الظلوم) يعني: اجعل بينك وبين دعوة المظلوم وقاية. وقوله: (واتق دعوة المظلوم) بعد قوله: (وإياك وكرائم أموالهم) يدل على أن أخذ محاسن الأموال وكرائمه ظلم يخشى أن يدعو صاحب المال عليه فيصاب به.

    ومعنى: (اتق دعوة المظلوم) أي: امضِ على العدل الذي به تتقي أن تظلم فيترتب على الظلم الدعاء الذي يصدر من المظلوم. والظلم قد حرمه الله جل وعلا في جميع كتبه، وحرمه على نفسه، وجعله بين العباد محرماً.

    1.   

    أقسام الظلم

    الظلم بين العباد

    والظلم أقسام ثلاثة:

    قسم منه ظلم يكون بين العباد، وهذا كثير جداً، يقع في الأعراض والأموال والدماء، ويقع في غير ذلك، فهذا مبناه على التقصي وأن لا يُترك منه شيء؛ لأن الإنسان ضعيف ويريد حقه، ولكنه إذا وقف بين يدي الله فإنه يود لو يكون على والدته له حق فيأخذه أو على والده، أو يود الوالد أن يكون على ولده له حق فيأخذه، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36].

    لماذا يفر منهم؟ خوفاً من المطالبة بالحقوق، ولأن الأمر عظيم، فكل واحد له شأن يغنيه، ويشتد الأمر شدة عظيمة، حيث يصبح الإنسان لا يهمه إلا نفسه وتخليصها، ولهذا جاء في الأثر: إن الرجل تأتي إليه والدته وتقول له: يا بني! ألم يكن بطني لك وعاء، وثديي لك سقاء، وحجري لك غطاء؟ ألم أكابد الشدائد وأسهر الليالي في مصالحك؟ فيقول: بلى. فتقول: أريد منك حسنة واحدة، فيقول: لا. نفسي نفسي. لا أحد ينفع أحد يوم القيامة: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار:19].

    فهذا الظلم الذي يكون بين العباد بعضهم لبعض لا بد من أخذه واستقصائه، ولا يكون هذا إلا بالحسنات والسيئات فقط، فيؤخذ من حسنات الظالم فيعطى المظلوم حتى يستعفي وحتى يوفى حقه، فإن نفذت حسنات الظالم أخذ من سيئات المظلوم فطرحت على الظالم ثم طرح في النار.

    هذه هي الطريقة الوحيدة التي تؤخذ الحقوق فيها يوم القيامة.

    والحقوق كثيرة، منها: ظلم في المعاملات، فالإنسان قد يعامل ولا يسلم من المعاملة، فإذا أخفى عيب السلعة التي يبيعها فسوف يسأل عنها يوم القيامة ويطالبه الذي اشترى منه فيقول: أخفى علي العيب وظلمني، خذ لي يا رب حقي منه. وقد يكون في غير ذلك بالكلام واستطالة العرض، ويتكلم عليه، ويقول فيه ما ليس فيه، أو يقول فيه ما هو فيه وهو غائب فيذكره بما يكره، وهذا من أعظم الظلم، وهو كثير جداً، حتى -وللأسف- بين طلبة العلم يوجد هذا بكثرة، كل واحد يتكلم في الثاني في غيبته بالشيء الذي يسوؤه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الغيبة: (ذكرك أخاك بما يكره) فقال قائل: أرأيت إن كان فيه ما أقول؟ قال: (إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، والبهت هو أشد الظلم، فيرميه بالشيء الذي ليس فيه فهذا ظلم.

    ظلم العبد لنفسه

    ثم القسم الثاني من الظلم ظلم العبد لنفسه، وهذا هو أسهل أنواع الظلم، ما عدا ظلمه للعباد فإنه يخرج من هذا؛ لأنه أمر عظيم، بمعنى أنه لا يترك منه شيء، ولا بد من استقصائه، ولكن ظلم العبد لنفسه فيما بينه وبين ربه في تقصيره في أوامر الله، وفي ارتكابه لنواهي الله التي لا يتعلق بها أمر مخلوق من الناس، فهذا الظلم هو الذي يقول الله جل وعلا فيه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فقد علق المغفرة بمشيئته، ما عدا الشرك وما عدا ظلم العباد بعضهم مع بعض، ولهذا نقول: هذا أسهل أنواع الظلم وأيسرها؛ لأن الله غفور رحيم، وبر كريم جل وعلا، إذا شاء أن يعفو عن ذنب عبده عفا ولا يبالي، وقد مر معنا في الحديث القدسي قوله جل وعلا في الحديث الذي يرويه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم: (يا ابن آدم! لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً للقيتك بقرابها مغفرة) يعني: بملئها أو ما يقارب ملئها مغفرة. فالله أوسع وأجود جل وعلا.

    الشرك بالله

    القسم الثالث من أقسام الظلم الشرك، وهو من أعظم الظلم، وهو الذي أخبر جل وعلا أنه لا يغفره لمن مات عليه، فإذا سلم الإنسان من هذه الأقسام الثلاثة فهو الغانم السالم الذي يسبق إلى الجنة أول وهلة بلا عذاب، ولكن الغالب أن الناس لا يسلمون من نوع من هذه الأنواع.

    فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـمعاذ : (واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: اجعل واقياً يقيك منها. والواقي الذي يقي هو تقوى الله جل وعلا، كون الإنسان يتقي الله ويخافه ويراقبه، كلما أقدم على عمل صارت تقوى الله تمنعه أن يفعله إذا كان معصية، ويحول بينه وبين ذلك، فيكون واقياً له.

    دعوة المظلوم مستجابة

    وقوله: (فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) يعني: فإن الأمر والشأن أن دعوة المظلوم مستجابة. ومعنى (ليس بينها وبين الله حجاب) أنها تستجاب وأن الله يستجيبها، ويوقع في الظالم ما دعا على المظلوم. وهذا وإن كان مقيداً بقوله جل وعلا فيما أخبر بأنه يستجيب لمن يشاء فإنه خبر صدق عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جرب ذلك لأكثر العالمين، أن المظلوم إذا دعا يصاب الظالم بالدعوة ولو كان المظلوم فاجراً، ولو كان فاجراً ففجوره على نفسه، ولكن الله جل وعلا لا يقر الظلم، ولهذا يقول العلماء: من عادة الله جل وعلا أن الله لا يترك ظالماً يتمادى في حياته وفي سعيه، حتى الدول، فالدول إذا صارت تظلم الشعوب وتظلم الناس فإن مدتها لن تطول، وسوف تزول، بخلاف الدول العادلة التي تعدل وإن كانت كافرة فإن مدتها قد تطول وإن كانت كافرة، وذلك أن الظلم لا يقره الله جل وعلا في حالة من الحالات، فقد حرمه على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ومن أعظم الإجرام أن يتطاول متطاول بقوته وسلطته على ضعيف ليس له ناصر ولا حيلة له إلا أن يرفع يديه إلى السماء ويقول: يا رب يا رب. ولهذا لا يتركه الله جل وعلا، فمن فعل به ذلك لم يفلت الله جل وعلا الظالم.

    ثم هذا يدلنا على أن أخذ الزائد على الحق في الزكاة ونحوها يكون ظلماً؛ لأن هذا هو سبب ورود هذه الكلمة؛ لأنه قال: فإذا بذلوا لك ما طلبت منهم في الزكاة فإياك وكرائم أموالهم. والكرائم من المال عرفنا أنها أطايبه وأحاسنه، فأخذها زكاة ظلم يستحق عليه الآخذ الدعاء من المظلوم وقمن أن يستجاب له.

    1.   

    الاحتجاج بخبر الواحد

    ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يخص معاذاً في بعثه إلى اليمن، وقد علم أنه بعث معاذاً، وبعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبعث أبا موسى الأشعري ، كلهم بعثهم إلى اليمن وكلهم ملتهم واحدة، يدعون إلى الله ويبلغون عن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحكمون نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد منهم جعله على مخلاف من مخاليف اليمن، والمخلاف كقولنا: مقاطعة.

    وكذلك كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث الرسل ويبعث الدعاة الذين يبلغون عنه، وفي هذا دلالة واضحة أنه يجب على الأمة قبول خبر الواحد العدل، فإذا جاء بخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال له كذا، أو أنه سمعه يقول كذا، أو أنه أمر بكذا وجب قبول ذلك؛ لأن هؤلاء أفراد بعثهم إلى اليمن، كما كان صلوات الله وسلامه عليه يبعث إلى الرسل والملوك وإلى البلاد النائية، فقد بعث رسله إلى قيصر رسولاً، وبعث إلى المقوقس ملك مصر، وبعث إلى ملك الروم هرقل، وفي هذا كله يبعث رجلاً واحداً، وأحياناً قد يرسل اثنين، وكتبه كذلك، أعني كونه يكتب الكتاب ويرسله مع شخص، وإذا بلغ الإنسان كتابه أو رسوله وجب عليه قبول ذلك وقامت عليه الحجة، فالذين يقولون: إن أخبار الآحاد لا تفيد العلم ولا تقبل ضلاّل أهل بدع، أما أهل الحق وأهل السنة الذين اتبعوا الصحابة رضوان الله عليهم فلا إشكال عندهم في ذلك.

    والأدلة على هذا كثير جداً غير ما ذكرنا.

    منها: أنه لما نزلت الآيات التي فيها نسخ القبلة من الشام إلى الكعبة كانت أطراف المدينة بعيدة عن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بنو عوف في قباء، فأتاهم آت وهم يصلون مستقبلين الشام، فقال: أشهد لقد أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن فأمر بالتوجه إلى الكعبة. فاستداروا وهم في الصلاة نحو الكعبة، وبقوا على صلاتهم السابقة، مما يدل على سرعة امتثال الصحابة رضوان الله عليهم وانقيادهم الكامل للأمر الذي يأتيهم بسرعة، وهذا ليس سهلاً، وانحرافهم وهم في الصلاة، وكذلك تغيير القبلة، وغير ذلك، أشياء كثيرة تدل على أن مثل هذا يجب قبوله وتقوم به الحجة.

    1.   

    العلة من تخصيص ذكر اليهود والنصارى

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب) قال القرطبي : يعني به اليهود والنصارى؛ لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب، وإنما ينبه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ].

    والأمر في الواقع ليس كذلك، ولا أن أهل الكتاب في اليمن أكثر، بل أهل الأوثان من العرب أكثر من اليهود والنصارى، ولكن السبب في ذلك أن أهل الكتاب عندهم حجج وعلوم، وليسوا كعبّاد الأصنام العرب الجهلة، فأمره أن يستعد لمحاجتهم ولكشف الشبه التي ربما ألقوها عليه، وقد وقع لبعض الصحابة شيء من ذلك، فلما أرسله إلى نجران -ونجران فيها نصارى كما هو معروف- قالوا له: إنكم تقرأون في كتابكم في مريم: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [مريم:28]، وبين مريم وهارون مئات السنين أو آلآف السنين، فكيف تقولون هذا؟ فما درى ماذا يقول، حتى رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال: (ألا أخبرتهم أنهم يتسمون بأسماء أنبيائهم) يعني أن هارون الذي ذكر أن مريم أخته ليس هو هارون أخو موسى، وإنما هو اسم على اسمه، يتسمون بأنبيائهم.

    فالمقصود أنهم يدلون بحجج وبشبهات، فيجب على الداعية الذي أرسل إليهم أن يكون عنده تسلح بالعلم وكشف الشبه التي قد يلقونها، وليس السبب أن اليهود والنصارى كانوا أغلب في اليمن، لا. وعند المؤرخين أن الأغلب والأكثر هم العرب، وهؤلاء دخلاء عليهم.

    1.   

    معنى العروة الوثقى

    وقال الشارح رحمه الله تعالى: [ وقال الحافظ رحمه الله: هو كالتوطئة للوصية، ليجمع همته عليها.

    قوله: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله) (شهادة) رفع على أنه اسم (يكن) مؤخر، و(أول) خبرها مقدم، ويجوز العكس.

    وقوله: وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله) هذه الرواية ثابتة في كتاب التوحيد من صحيح البخاري، وأشار المصنف بذكر هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة ألا إله إلا الله، فإن معناها توحيد الله تعالى بالعبادة ونفي عبادة ما سواه.

    وفي رواية: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله)، وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، كما قال تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256]، والعروة الوثقى هي (لا إله إلا الله)].

    قوله: [العروة الوثقى هي: لا إله إلا الله] يعني: ما دلت عليه واقتضته. ومعلوم أنها تدل على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، أي: الإسلام كله، وليس المعنى أنه من قالها فقد استمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولو لم يعمل، فإن هذا لا يفيد، ولهذا سيأتي أن القتال لا يكف عمن قالها إذا لم يعمل بفرائض الإسلام وشرائعه، فلو قال: (لا إله إلا الله) وهو لا يصلي، ولا يؤدي الزكاة، ولا يصوم، ولا يمتثل ذلك، ولا يحج فإنه يقاتل حتى يمتثل أمر الإسلام، ولهذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها). يعني: بحق (لا إله إلا الله)، وكل الإسلام حق لها، لأن معناها الانتقال من دين إلى دين آخر، أي: ترك الدين الذي يكون عليه الإنسان والدخول في دين الإسلام، وهذا ما كان يفهمه الكفار تماماً، ولهذا مر معنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل على عمه أبي طالب وهو في مرض الموت قال له صلى الله عليه وسلم: (يا عم! قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج بها لك عند الله؟) فقال له جلساء السوء الكفار الذين عنده: أترغب عن ملة عبد المطلب ؟

    فهو يعلم أنه إذا قال هذه الكلمة خرج من ملتهم ودخل في ملة جديدة، وهي التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي يجعلها العروة الوثقى، كون الإنسان يترك جميع الكفر والشرك ويتباعد عنه ويقبل على عبادة الله وطاعته وامتثال ما جاء به، وهذا هو العروة الوثقى.

    1.   

    شروط (لا إله إلا الله)

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ وفي رواية للبخاري: فقال: (ادعهم إلى شهادة ألا إله إلا الله وأني رسول الله).

    قلت: لا بد في شهادة أن لا إله إلا الله من سبعة شروط، لا تنفع قائلها إلا باجتماعها:

    أحدها: العلم المنافي للجهل.

    الثاني: اليقين المنافي للشك.

    الثالث: القبول المنافي للرد.

    الرابع: الانقياد المنافي للترك.

    الخامس: الإخلاص المنافي للشرك.

    السادس: الصدق المنافي للكذب.

    السابع: المحبة المنافية لضدها].

    هذه شروط لنفع (لا إله إلا الله)، ويكون قائلها ممن يسبق إلى الجنة.

    الأول: العلم. أن يعلم معناها فلا بد من ذلك.

    والثاني: اليقين. أي يتيقن من كون ما جاءت به وما اقتضته أنه حق، وهو دين الله الذي لا يجوز التردد والشك فيه.

    الثالث: الصدق الذي ينافي الكذب في قولها. فإذا قال لا إله إلا الله يكون صادقاً، وإلا لم يكن صادقاً بل كان منافقاً، ولا ينفعه قولها، فإن الله جل وعلا يقول: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] يشهدون ومع شهادتهم وكونهم يقولون: (نشهد إنك لرسول الله) يقابلونه ويقولون: نشهد إنك لرسول الله، والله يعلم إنك لرسوله. وهذا نفي للشهادة، ولو قالوا بألسنتهم وشهدوا وتكلموا وقلوبهم فارغة من ذلك فهم كذبة.

    إذاً فلا بد من الصدق.

    والرابع: القبول المنافي للرد. كونه لا يرد شيئاً من الإسلام ولا يقبله.

    والخامس: الانقياد المنافي للترك. أن ينقاد ويستسلم لذلك، والانقياد معناه أنه يكون راغباً ذالاً لذلك، ولو قيل: إن حكم الله كذا وكذا فلا يتوقف فيه، ولا بد أن ينقاد له، فلا يكون مثل كثير من الناس إذا صار عليه حق من الحقوق وقيل له: نذهب إلى الشرع يقول: لا حتى تأتيني بجندي. فهذا ليس إنقياداً في الواقع؛ لأنه يدله إلى الشرع. والذي يدعى إلى الشرع يجب أن ينقاد، ولا يجوز أن يتوقف بحال من الأحوال، ولا يقول: ائتني بجندي. فالحق لله في هذا، وإذا كان غير صادق فيتبين بالحجج، وإنما أنت تدعى إلى حكم الله فلابد من الانقياد.

    السادس: المحبة المنافية للبغضاء. أن يحب هذه الكلمة وما دلت عليه، ويغتبط بذلك.

    والسابع: الإخلاص. أن يخلص في القول والعمل لله جل وعلا، فلا يريد بذلك غير ولا يقصد بعمله غير الله.

    ويضاف شرط ثامن لا بد منه، وهو الكفر بكل ما يعبد من دون الله، فلا بد أن يكفر بكل ما يخالفها، ولذلك يقول الله جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ [البقرة:256]، فيبدأ بالكفر بالطاغوت أولاً.

    [ وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب، ولهذا كان أول ما دعت إليه الرسل عليهم السلام: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، وقال نوح عليه السلام: أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:26]، وفيه معنى لا إله إلا الله مطابقة ].

    أي: مطابقة أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، فقوله (ألا تعبدوا) هو معنى (لا إله)، وقوله (إلا إياه) هو معنى (إلا الله) مطابق في المعنى، وهذا كثير في القرآن في دعوات الرسل كلهم، فكل رسول يقول لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فقوله: (اعبدوا الله) هو معنى (إلا الله)، وقوله: (ما لكم من إله غيره) هو معنى: (لا إله)، وهذا يرد في القرآن كثيراً، فدعوة الرسل واحدة من أولهم إلى آخرهم، وقول رسولنا صلى الله عليه وسلم للمشركين: (قولوا: لا إله إلا الله) هو معنى قول نوح: يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، هو معناه تماماً.

    1.   

    منزلة الشهادتين من الدين

    قال الشارح رحمه الله تعالى: [ قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد علم بالاضطرار من دين الرسول صلى الله عليه وسلم واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فبذلك يصير الكافر مسلماً، والعدو ولياً، والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال، ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان، وإن قاله بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان ].

    أي: يكون منافقاً. والمنافق مسلم في الظاهر، بمعنى أنه تجري عليه أحكام الإسلام، ويعامل معاملة المسلم مع المسلمين من المناكحة والمعاملة وغيرها، وفي الباطن هو كافر أمره إلى الله جل وعلا، وإذا مات على نفاقه فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، بل أشد عذاباً من الكفار، وذلك لأنه جعل مخافة الناس أشد من مخافة الله، وصار يفعل ويقول من أجل الناس لا يخاف الله، وأما في باطنه فهو يعتقد أن دين الإسلام باطل.

    ولهذا إذا خلا وحده أو انفرد مع أصحابه بدأ بالاستهزاء والتهكم والكفر والسخرية وعدم المبالاة، وكذلك التخطيط والمؤامرة في تدمير الإسلام والمسلمين.

    وهذا في الواقع من أضر الأمور على الإسلام والمسلمين، كونه يندس في صفوفهم من ليس على دينهم بل هو عدو لهم، وهو في الظاهر يظهر الموافقه، ولكنه في الباطن قد أبطن المنافقة والكفر، ولهذا لما ذكر الله جل وعلا أقسام الناس في أول سورة البقرة ذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ذكر الكافرين في آيتين، ثم ذكر المنافقين في بضع عشر آية، وذلك لشدة خطرهم، وكذلك لما ذكرهم في سورة المنافقين قال عنهم: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ [المنافقون:4] يعني: لهم مناظر جميلة وهيئة. وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] يعني إنهم عندهم فصاحة وعندهم لسان.

    إذا قالوا قولاً أعجبك قولهم وسمعت له، ولكن داخلهم خبيث.

    وقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون:4] لماذا شبهوا بالخشب المسندة؟ لأن الخشبة إذا أسندت صارت حملاً على غيرها، ولا فائدة فيها أصلاً، ومادامت الخشبة في شجرتها فهي تتحمل وتقوم بنفسها، وقد تنفع بظلها وغير ذلك، أما إذا قطعت وصارت خشبة مسندة فإنها تصير عبئاً على غيرها، وهكذا المنافق عبء على غيره لا خير فيه، ومع ذلك ذكرهم بالخوف والهلع: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ [المنافقون:4]، فإذا سمعوا شيئاً من حولهم خافوا، ولهذا يبادرون إلى تخطيطاتهم وإلى تنفيذها خوفاً من أن يأتيهم الضرر.

    ثم قال: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4] ، ثم بين جل وعلا أنهم لا يبالون بالأعمال الصالحة، ولا تهمهم ولا يلتفتون إليها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ [المنافقون:5] مستكبرين ومعرضين ومستهينين لا يبالون بذلك.

    فالمقصود أن الله جل وعلا بين أوصافهم هنا بياناً شافياً، وكذلك في سورة التوبة، ولهذا سماها الصحابة (الفاضحة) لأنها فضحت المنافقين حيث بينت أوصافهم، قالوا: لم يزل الله جلا وعلا يقول: ومنهم ومنهم ومنهم حتى تبين أمرهم جلياً. والحاجة شديدة إلى معرفتهم، فهم مندسون بين صفوفنا بكثرة، ويجب على المسلم أن يتنبه لهم، فإنهم في الواقع ضرر عظيم جداً، ولهذا السبب أكثر الله جل وعلا من أوصافهم وجلاها وبينها حتى يكون المسلم على بينة منهم.

    1.   

    كفر من لم ينطق بالشهادتين

    [ وأما إذا لم يتكلم بها مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين باطناً وظاهراً عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير العلماء. اهـ ].

    يعني: إذا كان الإنسان يستطيع أن يقول: (لا إله إلا الله) ولم يقلها، وإن اعتقد في باطنه أن الإسلام هو الدين الحق، وإن أحب الإسلام في باطنه، ولكنه لم ينطق بهذه الكلمة وهو يستطيع فهو كافر ظاهراً وباطناً، وكذلك لو نطق بها، ولكن نطقه ليس عن علم، ولا عن يقين، ولا عن اقتناع بها، فإنه يكون منافقاً، ولا ينفعه ذلك في الآخرة، وإن منع ذلك عنه القتل، ولهذا لما غزا بعض الصحابة بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة ولاقوا عدوهم وصار بينهم القتال، وكان من الكفار رجل لا يترك أحداً من المسلمين إلا وأخذه يقتله، يغير من هنا وهنا ويقتل، فتبعه رجلان من المسلمين واحد من الأنصار والآخر من المهاجرين وهو أسامة بن زيد بن حارثة ، فلما أدركاه ورفعا عليه السيف قال: (لا إله إلا الله) عند ذلك كف عنه الأنصاري، ولكن أسامة ضربه فقتله، فلما بلغ ذلك رسول صلى الله عليه وسلم عظّم الأمر، فجاء أسامة يقول: (يا رسول الله! إنما قال هذه الكلمة تعوذاً من السيف) يعني قالها لأجل أن يمتنع من القتل فقط، وإلا فهو كافر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (هلا شققت عن قلبه)، فلم يزل يكرر الأمر عليه ويعظمه حتى قال أسامة رضي الله عنه: (وددت لو أني لم أسلم قبل ذلك اليوم) يعني: مما سمع من قول الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: (كيف تصنع بـ(لا إله إلا الله) إذا جاءت يوم القيامة؟) ؛ لأنه إذا تكلم الإنسان بشيء فأمره إلى الله، ولا يدري ذلك حتى الرسول صلى الله عليه وسلم ما يعلم الغيب إلا ما علمه الله إياه، ولهذا قال: (ما أمرت أن أشق عن قلوب الناس)، ولما قيل له عن فلان: إنه منافق. أو أنه ليس على ديننا. قال: ( أليس يشهد ألا إله إلا الله؟ قالوا: بلى يشهد. ولا شهادة له. قال: أليس يصلي؟ قالوا: بلى يصلي ولا صلاة له. قال: أولئك الذين نهيت عن قتالهم) أي: إذا شهدوا وصلوا فقد جاء النهي عن قتالهم؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5] يعني: لا تقاتلوهم، ويوكل أمرهم إلى الله، فإن كانوا صادقين صارت بواطنهم -نياتهم ومقاصدهم- مثل ظواهرهم، فهؤلاء هم المسلمون حقاً، وإن كان ظاهرهم الموافقة فقط وباطنهم مخالف لما أظهروه فهؤلاء هم المنافقون، وسوف يأخذهم الله جل وعلا ولا يتركون، فالأمر على الظاهر في أحكام الدنيا، وهي تجرى على الظاهر، وليس للإنسان إلا ما يظهر، إلا إذا تبين خلاف الظاهر بالأدلة فنعم، أما إذا لم يتبين فيوكل باطنه إلى الله، ويعمل بما أظهر، إذا أظهر أنه موافق مسلم قبل منه ذلك، وإذا كان إذا خلا وحده في بيته أو في غير بيته يبارز الله جل وعلا بالكفر والمعاصي فهذا معناه أنه أسلم من أجل الناس ومن أجل الدنيا فقط.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196349