إسلام ويب

الهمز واللمز وسوء الظن والغيبةللشيخ : محمد حسان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أي مجتمع لا يسلم من الآفات التي قد تكون سبباً في كثير من الفوضى والنـزاعات والتفرق في المجتمع، ولذلك اهتم الإسلام بعلاج هذه الآفات، وذلك بذكرها والتحذير منها وتشديد العقوبة على فاعلها؛ حتى يعيش المجتمع الإسلامي في أمن وأمان وألفة واطمئنان.

    1.   

    آفات المجتمعات

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    ما زلنا نطوف بحضراتكم في رحاب سورة الحجرات، سورة التربية والأخلاق، وما زلنا نعيش مع هذه القواعد التشريعية العظيمة التي وضعها العليم الخبير جل وعلا؛ لصيانة المجتمع الإسلامي من التمزق والتشتت والتفكك والضغائن والأحقاد.

    وما زلنا في رحاب هذه القاعدة العظيمة العريضة الكبيرة، ألا وهي: تعظيم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي، وقلنا: بأنه لن تعظم حرمات المسلمين في المجتمع الإسلامي إلا إذا طهر المجتمع من ستة أمراض أو آفات، هذه الأمراض وتلك الآفات هي:

    1/ السخرية.

    2/ اللمز.

    3/ التنابز بالألقاب.

    4/ سوء الظن.

    5/ التجسس.

    6/ الغيبة.

    ولقد تحدثنا في اللقاء الماضي بفضل من الله جل وعلا عن الآفة الأولى بالتفصيل ألا وهي: السخرية.

    اللمز

    أما اللمز فهو: عيب الغير باليد واللسان والعين والإشارة الخفية وغير ذلك.

    والهمز: لا يكون إلا باللسان فقط لقول الله تعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ [القلم:10-11] فاللمز: يكون باليد .. وبالعين .. وباللسان .. وبالإشارة .. أما الهمز فلا يكون إلا باللسان فقط.

    واللمز -أيها الأحباب- آفة ومرض، وسبب من أسباب انتشار الحقد والضغائن في القلوب بين المسلمين، فمن حق المسلم على المسلم ألا يسخر من أخيه بيده، أو لسانه، أو عينه، أو حتى بالإشارة الخفية.

    ولذلك يلفت الله القلوب النقية، والعقول الذكية في هذا النهي فيقول: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات:11] لأن المؤمنين جميعاً كالجسد الواحد، إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، أي: إن المؤمن إذا لمز أخاه فكأنما لمز نفسه؛ لأن المؤمنين جميعاً نفس واحدة، قال الله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات:11].

    التنابز بالألقاب

    والتنابز بالألقاب معناه: أن يسمي المسلم أخاه بالأسماء والألقاب والكنى التي لا يحبها، والتي يكرهها وتؤذيه، فمن أدب المؤمن ألا يسمي أخاه إلا بالاسم الذي يحبه، وألا يلقبه إلا باللقب الذي يتمناه، وألا يكنيه إلا بالكنية التي يرتاح إليها قلبه.

    ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقب أبا بكر بـالصديق ، ولقب عمر بـالفاروق ، ولقب عثمان بـذي النورين، ولقب حمزة بـأسد الله ، ولقب خالداً بـسيف الله .. وهكذا.

    فلا يجوز لمسلم أن ينادي أخاه المسلم إلا بالاسم الذي يحبه، وباللقب الذي يريده، وبالكنية التي يحبها ويطمئن قلبه إليها، وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ [الحجرات:11].

    وبعد ذلك -أيها الأحباب- يقول ربنا جل وعلا: بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ [الحجرات:11] أي: إن خروج المسلم من طاعة الله إلى معصيته فسوق، وبئس الاسم أن يسمى الرجل فاسقاً بعد الإيمان، لذا قال الله جل وعلا: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ [الحجرات:11] أي: ومن لم يتب من هذه الآفات والأمراض التي نهى الله عنها فإنما هو ظالم لنفسه لوقوعه فيما نهى الله عنه، وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11] وبهذا تكتمل الآية الأولى.

    يقول الله ربنا جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11].

    سوء الظن

    تأتي الآية الأخرى لتضع ولتقيم سياجاً آخر في هذا المجتمع الإسلامي النظيف النقي، الذي يقيمه الإسلام بهدي القرآن، فيقول ربنا جل وعلا في الآية التي تليها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [الحجرات:12] إنه النداء المحبب إلى القلوب: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أصغ السمع، وافتح القلب، فإن النداء من اللطيف العليم الخبير جل وعلا، إنما هو خير ستؤمر به أو شر ستنهى عنه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12] هكذا أيها الأحباب! يطهر القرآن الضمائر من الهواجس والظنون والشكوك والريب، لماذا؟ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12] وهكذا يدع القرآن القلوب نقية نظيفة طاهرة هادئة صافية، لا يعكر صفوها قلق أو غم أو شك، لذلك حذر النبي صلى الله عليه وسلم من الظنون القبيحة والسيئة، فقال في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث).

    الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير والفضل، كما قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن قال: (ولقد أجمع كثير من العلماء على أن الظن السيئ لا يجوز بأهل الخير)، أو على حد تعبير الإمام القرطبي : أكثر العلماء على أنه لا يجوز الظن القبيح بأهل الخير، ولا حرج بالظن السيئ بأهل السوء وأهل الفساد، أي: لمن جهر بمعصيته وفسقه بين الناس.

    وقال بعض السلف: الظن الذي نهى الله جل وعلا عنه هو: أن تظن بأهل الخير من المؤمنين شراً وسوءاً.

    ولذلك -أيها الأحباب- أغتنم هذا الدرس لأذكر نفسي وإياكم بهذا المرض الذي استشرى في مجتمعنا في هذه الأيام، ألا وهو الظن السيئ بكثير من علمائنا ودعاتنا، ووالله يجب على كل مسلم ألا يظن بعلماء ودعاة الأمة إلا خيراً، فإن لحوم العلماء والدعاة مسمومة، فلقد أباح كثير من الناس لنفسه في هذه الأيام الخوض في لحوم العلماء والدعاة، وظن المسكين أنه أعلم بالأمور وأفقه بها من العلماء والدعاة، لا. أغلق على نفسك هذا الباب، ولا تظن أنك أعلم بالأمور من علماء الأمة ودعاتها، فينبغي أن تظن بعلمائك خيراً، وأن تظن بدعاة الأمة خيراً؛ لأنهم ورثة الأنبياء، وهم أخشى الناس لله جل وعلا: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28] .. يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] فإياك إياك أن تظن بالعلماء سوءاً.

    بل ينبغي أن تدعو الليل والنهار لعلمائك، اللهم بارك في علمائنا وثبتنا وإياهم على الحق، وارزقنا وإياهم حسن الخاتمة أنت ولي ذلك ومولاه.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ [الحجرات:12] وفي الحديث -أيها الأحباب- الذي ذكرته آنفاً (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) درس مهم جداً، الله جل وعلا نهى عن كثير الظن؛ لأن بعض الظن إثم، خشية أن تقع في هذا القليل.

    التجسس

    يقول ربنا جل وعلا: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] يا له من مبدأ عظيم! ويا له من مبدأ خطير وضعه الإسلام قبل أن تتغنى الدول المتحضرة بذلك كله .. الإسلام وضع هذا المنهج من مئات السنين: وَلا تَجَسَّسُوا .

    إن للمسلمين في المجتمع الإسلامي حرياتهم وحرماتهم وكراماتهم التي لا يجوز بصورة من الصور أن تنتهك، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعتدى عليها؛ لأن التجسس -أيها الأحباب- هو الحركة العملية التالية للظن، فإذا ظن المؤمن بأخيه شراً تاقت نفسه وتشوقت إلى أن يتجسس على حاله.

    والتجسس هو: انتهاك لحرمات المسلمين والآخرين، ويأتي القرآن الكريم ليشدد في النكير على هذا المرض الخبيث اللئيم وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] إن للمسلمين حرياتهم.. إن للمسلمين كراماتهم.. إن للمسلمين عوراتهم.. ولا يجوز بحال من الأحوال أن نتخطى هذه الستور والحدود لنصل إلى ما لا يظهر لنا، بل أظهروا لنا أحسن أعمالكم والله أعلم بالسرائر، نحن لا نحكم على القلوب، ولا نشق عن البطون، وإنما يجب على كل مسلم أن يحكم على أخيه بما ظهر له من قوله وفعله.

    وفي الحديث الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: (بعث علي بن أبي طالب بذهيبة -أي: بقطعة صغيرة من الذهب- وهو في اليمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين أربعة، فقال رجل منهم -وكأنه لم تعجبه قسمة رسول الله صلى الله عليه وسلم-: اتق الله يا رسول الله! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله؟! ثم ولى الرجل، فقال خالد بن الوليد رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا أضرب عنقه؟ قال: لا. لعله أن يكون يصلي، فقال خالد بن الوليد : فكم من مصلٍ يقول بلسانه ما ليس في قلبه -أتدرون ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم؟- قال عليه الصلاة والسلام: إني لم أؤمر أن أنقب قلوب الناس ولا أن أشق بطونهم).

    نحن لنا الظاهر، لا نتجسس، ولا نعطي لأنفسنا الحق أن نبحث عما وراء الستور والحدود: (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم).

    وفي الحديث الذي رواه الإمام أبو داود في سننه ورواه الإمام أحمد في مسنده وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع من حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال.. واسمعوا إلى هذا البيان الذي يخلع القلوب من الصدور، قال صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه! لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته) اللهم سلمنا وإياكم، وهذا هو محل الشاهد في الحديث أيها الأحباب: (ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من تتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته).. وفي رواية أخرى: (يفضحه الله في جوف بيته) في قعر داره يفضحه الله جل وعلا.

    الذي يتجسس على إخوانه ويتتبع عوراتهم فإن الله جل وعلا آجلاً أو عاجلاً إن لم يرجع ولم يتب إلى الله تبارك وتعالى سيفضحه في قعر داره وجوف بيته: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12].

    الغيبة

    وبعد ذلك -أيها الأحباب- فإني لا أريد أن أتوقف طويلاً مع هذه الآفات، لنقف طويلاً بعض الشيء مع هذه الآفة الكبرى، ومع هذا المرض السرطاني الخطير المدمر الذي استشرى في مجتمعات المسلمين، والله إنه مرض خطير وقع فيه كثير من الأخيار والأطهار، وقلَّ من وقع فيه وعوفي منه، ووقع فيه من وقع من العلماء والدعاة وطلبة العلم فضلاً عن عامة الناس، ووالله لا نبرئ أنفسنا منه.. والله لا نبرئ أنفسنا منه.

    إنه مرض خطير وقعنا فيه بعمد أو بغير عمد، بقصد أو بغير قصد، ألا وهو الغيبة، الغيبة فاكهة المجالس أيها الناس، الغيبة ذلكم المرض السرطاني المدمر الذي استشرى واستفحل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    أتدرون ما الغيبة؟

    سأل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هذا السؤال، والحديث رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته).

    لا إله إلا الله، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، كم زلت الألسنة، وكم كثر الكلام، وكم وقعنا في الغيبة، الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره: (قيل: يا رسول الله! أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، فقال صلى الله عليه وسلم: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته) والبهتان إثم ومعصية عظيمة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

    في الحديث الذي رواه أبو داود في السنن ، ورواه البيهقي ، ورواه الحافظ أبو يعلى ، وقال الحافظ ابن كثير إسناده صحيح، أن ماعز بن مالك رضي الله عنه وقع في معصية الزنا، وذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليقول: (يا رسول الله! طهرني، يا رسول الله! طهرني) لأنهم كانوا يراقبون الله جل وعلا، من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ما قبضت عليه هيئة، ولا دولة، وإنما كان يراقب الله جل وعلا، لم يراقب القانون الوضعي الأعلى، وإنما راقب الحي الذي لا يموت.

    فلما وقع في الزنا ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدميه مختاراً طائعاً، فقال: [يا رسول الله! طهرني أقم عليَّ الحد].

    فرده النبي صلى الله عليه وسلم مرة ومرة ومرة، فلما عاد ماعز رضي الله عنه، وأكد للنبي صلى الله عليه وسلم كبيرته وجريمته أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقام عليه الحد، ورجم ماعز بن مالك رضي الله عنه وأرضاه.

    وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما للآخر: (ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تدعه نفسه حتى رجم رجم الكلب؟!) هكذا وقع في مجتمع الصحابة، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم كلامهما فسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مر على جيفة حمار -أعزكم الله- فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (أين فلان وفلان؟ فأقبلا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال لهما: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، قالا: يغفر الله لك يا رسول الله! هل يؤكل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أكلكما آنفاً من لحم أخيكما أشد من أكلكما من جيفة هذا الحمار) وقال صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها).

    لا إله إلا الله! كم لوثت أفواهنا بأكل لحوم إخواننا، وكم لوثت أسناننا بتمزيق أعراض إخواننا.

    وفي الحديث الذي رواه أبو داود وأحمد وصححه الألباني في صحيح الجامع ، أن عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال لها: يا عائشة! لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته) ما قالت إلا هذه الكلمة: (يا رسول الله! حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فغضب النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لمزجته) أي: لغيرت لونه، وطعمه، ورائحته.

    في الحديث الذي رواه أبو داود، وأحمد في مسنده، والترمذي، وصححه شيخنا الألباني في صحيح الجامع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مررت لما عرج بي) انتبهوا أيها الناس لتعلموا صورة المغتابين عند رب العالمين جل وعلا، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (مررت حين عرج بي -أي: ليلة الإسراء والمعراج- على قوم لهم أظفار من نحاس يخمشون بها وجوههم وصدورهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال عليه السلام: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!

    لهم أظفار من نحاس يخمشون ويمزقون بها وجوههم وصدورهم، من هؤلاء يا جبريل أصحاب المشهد المروع؟ قال: (هؤلاء الذي يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم) ما من يوم يمر إلا ويأكلون حتى يشبعون، كم وقع في هذا المرض من الأخيار والأبرار والأطهار، إنها الكلمة.. إنه اللسان الذي قال عنه النبي عليه الصلاة والسلام في حديث معاذ بن جبل الطويل، الذي رواه الترمذي بسند حسن صحيح، أنه عليه الصلاة والسلام قال لـمعاذ في آخر الحديث: (يا معاذ ! أفلا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ قلت: بلى يا سول الله! قال صلى الله عليه وسلم: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل. ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله! فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه وقال: كف عليك هذا -احذر هذا الثعبان- كف عليك هذا! كف عليك هذا! فقال معاذ بن جبل: وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

    وهل أوقع الناس في الهاوية إلا هذا اللسان، يجلس الإنسان في المجلس فيريد أن يظهر للناس عبقريته، وخفة دمه، ولباقته، وذكائه، فيضحك الناس على أحد إخوانه، وربما كان ذلك على أحد العلماء أو الدعاة وإنا لله وإنا إليه راجعون: (وإنا لموآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو قال: على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم).

    وفي رواية الإمام البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة -كلمة واحدة- من رضوان الله لا يلقي لها بالاً فيرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم) كلمة!!

    وفي رواية أصحاب السنن بسند صحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً فيهوي بها في نار جهنم سبعين خريفاً) كلمة!!

    أيها الأحباب: ذكر الحافظ ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم قال: روى مالك عن زيد بن أسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل على الصديق رضي الله عنه، فرآه قد شذب لسانه -أي: أخرج لسانه خارج فيه- فقال عمر بن الخطاب : [مه مه، غفر الله لك يا أبا بكر ماذا تصنع؟ فقال الصديق رضي الله عنه لـعمر: هذا الذي أوردني الموارد].

    الصديق أبو بكر رضي الله عنه يخرج لسانه ويقول: [هذا الذي أوردني الموارد] صديق الأمة -أيها الأحباب- إيه والله، أبو بكر يقول على لسانه الذاكر، الشاكر، النقي، العفيف، الطاهر: [هذا الذي أوردني الموارد] لا إله إلا الله.. [هذا الذي أوردني الموارد].

    وأخذ ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن -نقلاً عن الحافظ ابن رجب - أخذ لسانه يوماً وهو يخاطبه ويقول له: [اسكت تغنم، واسكت عن سوء تسلم، وإلا فاعلم أنك ستندم] ابن عباس حبر الأمة، وترجمان القرآن رضي الله عنه.

    وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: [والله الذي لا إله إلا هو لا يوجد في هذا الكون شيء أحق بطول حبس من لسان] لا يستحق شيء أن يسجن في هذا الكون إلا هذا اللسان، هكذا يقول ابن مسعود عن نفسه أيها الأحباب.

    وفي الحديث رواه أبو داود وأحمد وصححه شيخنا الألباني : (ما من يوم تصبح الأعضاء إلا وهي تخاطب اللسان، تقول له: اتق الله فينا فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، إن اعوججت اعوججنا).

    فالله الله يا عباد في ألسنتنا، والله لا نبرئ أنفسنا من هذه الآفات، ولا من هذه الأمراض، الله الله في ألسنتنا، الله الله في أقوالنا، الله الله في أعمالنا.

    يقول ربنا جل وعلا: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ [الحجرات:12].

    أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى، وصفاته العلا أن يحفظ ألسنتنا، وأن يحفظ قلوبنا، وأن يحفظ أعيننا، إنه ولي ذلك ومولاه، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الحالات التي تجوز فيها الغيبة

    الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فيا أيها الأحباب: وتحرياً للأمانة، وحتى تكتمل الفائدة -إن شاء الله تعالى- فما هي الحالات التي يجوز فيها الغيبة؟

    ذكر الإمام النووي في شرح مسلم في كتاب البر والصلة أسباباً وأغراضاً شرعية تجوز فيها الغيبة، ولا إثم في ذلك، وقال الإمام النووي: تجوز الغيبة لأسباب شرعية وعدّد هذه الأسباب وقال:

    أولاً: التظلم: أي يجوز للمتظلم أن يقول: فعل بي فلان كذا وكذا وكذا، لمن يتظلم إليه، هذه واحدة.

    ثانياً: يجوز في حالة الاستعانة بتغيير المنكر، بأن يذهب مسلم غيور على دينه إلى أولي الأمر، أو إلى من يتوسم فيهم القدرة على أن يغيروا المنكر، فيذهب إليهم ويقول: لقد فعل فلان كذا وكذا فازجره عن ذلك، هذا أيضاً مباح، وهذا الكلام للإمام النووي رحمه الله، وهذا كلام كثير من أهل العلم غير الإمام النووي.

    ثالثاً: الاستفتاء: بمعنى: أن يذهب المستفتي إلى المفتي فيقول: لقد ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا وكذا، فما الذي أفعله لرد هذا الظلم عن نفسي، فهذه حالة ثالثة تباح فيها أن يذكر الإنسان عيوب إخوانه الذين ظلموه، ويستدل الإمام النووي على ذلك بحديث فاطمة بنت قيس -والحديث رواه مسلم - أنها ذهبت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تقدموا لخطبتها فقالت: (يا رسول الله! خطبني معاوية وأبو جهم ؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أبو جهم فرجل لا يضع عصاه عن عاتقه -أي: كثير الضرب للنساء- وأما معاوية فصعلوك لا مال له) هذه أيضاً جائزة ولا إثم في ذلك.

    أيضاً من هذا العنصر الثالث تجريح المجروحين من علماء الحديث، كأن يقال: فلان سيئ الحفظ، أو فلان كذوب، وذلك لصيانة أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه أيضاً من الغيبة المباحة التي لا بأس بها.

    رابعاً: تحذير المسلمين من الوقوع في أي شر، كأن يقال: فلان مبتدع، أو فلان كذا أو كذا، فهذا أيضاً جائز لا إثم فيه.

    خامساً: تجوز غيبة الفاسق الذي جهر بفسقه، وقد بوب الإمام البخاري باباً في الصحيح بعنوان: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والرِّيَب، وقال الحافظ ابن حجر : ويستنبط من حديث عائشة رضي الله عنها وفيه (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي: ائذنوا له بئس أخو العشيرة هو، فلما دخل الرجل ألان النبي له الكلام، فقالت عائشة : يا رسول الله! قلت ما قلت ثم ألنت له الكلام؟ فقال عليه الصلاة والسلام: يا عائشة ! إن شر الناس من يدعه الناس اتقاء فحشه).

    قال الحافظ ابن حجر : ويستنبط من هذا أنه لا غيبة لمن جهر بالفسق والفساد والمعصية.

    سادساً: التعريف، يعني: إن قيل: إن فلان الأصلع، أو الأعمش، أو الأعرج، أو القصير؛ ولكن بشرط ألا يكون ذلك من باب التحقير والتنقص، فإن كان ذلك من باب التحقير والتنقص فإنما هي غيبة محرمة لا تجوز شرعاً، أما إن قيل ذلك على وجه التعريف وليس على وجه التنقص فلا إثم ولا حرج في ذلك.

    أسأل الله جل وعلا أن يحمينا وإياكم من الوقوع في المعاصي والزلل، اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها، اللهم ارزقنا لساناً ذاكراً، وقلباً شاكراً، وجسداً على البلاء صابراً، اللهم طهر ألسنتنا من الغيبة، وأعيننا من الخيانة، وأعمالنا من الرياء، وقلوبنا من النفاق، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم اغفر لنا في هذا اليوم المبارك ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.

    اللهم لا تدع لأحد منا في هذا اليوم المبارك ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضىً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين.

    اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل اللهم فينا ولا منا ولا بيننا شقياً ولا محروماً، اللهم وفق ولاة الأمر لما تحبه وترضاه.

    هذا وأكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وزد وبارك على آله نبينا وحبيبنا محمد وعلى صحبه وسلم.

    هذا: وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755893927