إسلام ويب

أصول في تفسير السلف [1]للشيخ : مساعد الطيار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن مفهوم التفسير يعني: بيان المعنى، وعلى هذا تتضح علاقة الكتب المسماة بالتفسير بهذا المفهوم، ومن تلك الكتب التفسير الإشاري، والموضوعي، واللغوي، والاجتماعي، وغير ذلك، ومدى دخول مثل هذه المسميات في مفهوم التفسير. وكذلك علاقة علم القراءات بالتفسير. وتفاوت أحجام كتب التفسير لا يعني تفاوت مفهوم التفسير، بل سبب ذلك إدخال ما ليس منه فيه.

    1.   

    مفهوم التفسير

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

    هذا الموضوع سأطرح فيه مواضيع متعلقة بأصول التفسير، وهي قضايا متعددة.

    أول قضية سنناقشها إن شاء الله: فيما يتعلق بمفهوم التفسير، وسأذكر الفرق بينه وبين الاستنباطات والفوائد والزيادات التفسيرية في كتب المفسرين، ثم نأخذ لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وظهور الانحراف فيه.

    ثم نأخذ أيضاً أثر اعتقاد المعاني قبل معرفة التفسير، وكذلك قبل فهم تفسير السلف، وسنأخذ أيضاً قضية يمكن أن نعنون لها بتفسير السلف، وهي قضية مهمة، خصوصاً أنه في هذا العصر قد كثر التخبط في علم التفسير، وكثر الذين يجتهدون فيه اجتهادات خاطئة، ممن يكتبون في مجالات التفسير.

    ثم إننا سنذكر كيفية معالجة تفسير السلف من جهة الإسناد، ومن جهة المعنى، وسنأخذ أيضاً طريق معرفة التفسير وهي ترجع في الحقيقة إلى مصادر التفسير، لكن سيكون هناك إشارة إلى بعض القضايا المرتبطة باللغة أو الرواية أو الملابسات، وسنأخذ أيضاً كيفية التعامل مع التفسيرات التي جاءت بعد تفسير السلف.

    وقد نأخذ شيئاً مما يتعلق بوجوه التفسير، والاختلاف في التفسير وأسبابه، وطريقة التعامل مع هذا الاختلاف.

    هذه بعض القضايا التي سنتناولها في هذه اللقاءات.

    الموضوع الأول: وهو فيما يتعلق بمفهوم التفسير.

    تعريف التفسير لغة واصطلاحاً

    تعريف التفسير في اللغة:

    أصل التفسير في اللغة مأخوذ من مادة فسر، وهذه المادة تدل على الكشف والبيان والظهور والإيضاح، ولهذا يعبر عن التفسير بأحد هذه العبارات المتقاربة، أنه كشف أو إظهار أو بيان أو إيضاح، وقد يعبر أيضاً عن التفسير بأنه شرح؛ لأنه يرتبط بالمعاني.

    وإذا نظرنا إلى طريقة استخدامات العلماء لمصطلح التفسير ومصطلح الشرح، فإننا سنجد أن التفسير أصبح مصطلحاً أقرب إلى القرآن، والشرح أصبح مصطلحاً أقرب إلى السنة، وكذلك إلى شرح أشعار العرب، وإن كان قد يرد هذا مكان هذا، وهذا مكان هذا، إلا أنه صار أشبه بالمصطلح فإذا قيل: علم التفسير فإنه يتجه إلى تفسير القرآن، وأما الحديث أو أشعار العرب فغالباً ما يرتبط بها مصطلح الشرح؛ ولذا يقولون: كتب شروح الحديث، وشروح أشعار العرب.

    وهذه قضية اصطلاحية، لكن كل هذه المعاني متقاربة؛ للتنبيه أو للدلالة على معنى البيان.

    تعريف التفسير في الاصطلاح:

    إذا نظرنا إلى تعريف التفسير كعلم مستقل، من خلال ما هو موجود عندنا من كتب علماء التفسير أو كتب علوم القرآن، فسنجد أنه تأخر تعريف علم التفسير، ولو رجعنا إلى بعض المدونات في كتب التفسير فسنجد إشارة إلى أن التفسير معروف مما يكتب، لكن تحديد وتحرير المصطلح هذه مرحلة جاءت متأخرة، فلننظر إلى هذا النقل عن ابن أبي زمنين المتوفى سنة ثلاثمائة وتسع وتسعين، حين اختصر تفسير يحيى بن سلام ، وهو يوضح سبب اختصاره يقول: (وبعد فإني قرأت كتاب يحيى بن سلام في تفسير القرآن، فوجدت فيه تكراراً كثيراً، وأحاديث ذكرها يقوم علم التفسير بدونها)، فهذه العبارة نستفيد منها أن ماهية التفسير عند ابن أبي زمنين محددة، ولم يذكر لنا ما هو علم التفسير، لكن كونه يختصر، ويخرج أشياء من كتاب يحيى بن سلام ، ويرى أن علم التفسير يقوم بدونها، فيه دلالة على أن مفهوم التفسير عنده محدد وواضح، لكنه لم يبين لنا ما هو مصطلحه في علم التفسير.

    وهناك أمثلة كثيرة اخترنا بعضها، فـالرازي المتوفى سنة ستمائة وست، وقيل: أربع، يقول في ضمن كلامه عن قضية الرؤية: المسألة الثالثة: اعلم أن القاضي ذكر في تفسيره وجوهاً أخرى تدل على نفي الرؤية، وهي في الحقيقة خارجة عن التمسك بهذه الآية، ومنفصلة عن علم التفسير، وخوض في علم الأصول، ولما فعل القاضي ذلك، فنحن ننقلها ونجيب عنها، ثم نذكر لأصحابنا وجوهاً دالة على صحة الرؤية.

    فماهية علم التفسير واضحة عند الرازي لأنه يقول: إن القضايا التي ذكرها القاضي، يعني القاضي عبد الجبار قضايا خارجة عن علم التفسير، ومنفصلة عن علم التفسير.

    إذاً: فعلم التفسير عنده علم له ماهية، ونحن لا نناقش ما هي الماهية عند الرازي ؛ لأن الرازي اعترض عليه في تفسيره؛ كما أن ماهية علم التفسير عند الرازي واضحة عنده، إلا أن التطبيقات التي أعملها في كتابه خرجت أيضاً به عن حد التفسير كما سيأتي.

    و أبو حيان أيضاً يقول: وذكروا أن الفاتحة تسمى: الحمد، وفاتحة الكتاب، وأم الكتاب، والسبع المثاني، والواقية، والكافية، والشفاء، والشافية، والرقية، والكنز، والأساس، والنور، وسورة الصلاة، وسورة تعليم المسألة، وسورة المناجاة، وسورة التفويض.

    وذكروا ما ورد من الأحاديث في فضل الفاتحة، والكلام على هذا كله من باب التذييلات؛ لأن ذلك ليس من علم التفسير إلا ما كان من تعيين مبهم، أو سبب نزول، أو نسخ بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذلك يضطر إليه علم التفسير، ثم ذكر أيضاً كلامهم عن (آمين)، وقال: إنه خارج عن علم التفسير.

    فمفهوم التفسير عند أبي حيان أيضاً محدد، وأخرج أشياء ليست من علم التفسير.

    نقل آخر أيضاً لـأبي حيان نأخذه لأن فيه لـ للرازي نقداً حين تكلم عن النسخ، قال: وقد تكلم المفسرون هنا في حقيقة النسخ الشرعي وأقسامه وما اتفق عليه منه، وما اختلف فيه وفي جوازه عقلاً، ووقوعه شرعاً، وبما ينسخ وغير ذلك من أحكام النسخ ودلائل تلك الأحكام، وطولوا في ذلك، وهذا كله موضوعه علم أصول الفقه، فيبحث في ذلك كله فيه، وهكذا جرت عادتنا أن كل قاعدة في علم من العلوم يرجع في تقريرها إلى ذلك العلم، ونأخذها في علم التفسير مسلمة من ذلك العلم، ولا نطول بذكر ذلك في علم التفسير فنخرج عن طريقة التفسير، كما فعله أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي المعروف بـابن خطيب الري ، فإنه جمع في كتابه في التفسير أشياء كثيرة طويلة، لا حاجة بها في علم التفسير، ولذلك حكي عن بعض المتطرفين من العلماء أنه قال: فيه كل شيء إلا التفسير.

    وقد ذكرنا في الخطبة ما يحتاج إليه من العلوم.

    فكلام أبي حيان هذا يدل على أن علم التفسير علم واضح عنده له حدوده كمفهوم.

    وانتقد الرازي الذي نبه على أن بعض العلوم خارجة عن علم التفسير، لكونه وقع فيما انتقده، حيث أشار إلى دخول علم بعض ما يتعلق بعلم الهيئة وعلم الفلك والنجوم في علم التفسير، وانتصر لذلك بأوجه، ولكن كل هذه الأوجه منتقدة من جهة أنها تدخل في علم التفسير، أما كونها تكون من علوم الآية فهذا شيء آخر! فيجب أن نفرق بين علم التفسير وبين علوم الآية.

    هذا ما يتعلق ببعض القضايا المرتبطة بالمصطلح، وأنه كان واضحاً بالنسبة للعلماء وهم يكتبون، وإن كانت التطبيقات قد تخرج بالمفسر عن صلب التفسير.

    والخلاصة أن علم التفسير: علم يفهم به كلام الله سبحانه وتعالى، واستخراج حكمه وأحكامه.

    دخول الأحكام القرآنية في حد علم التفسير

    وهنا مسألة: هل استخراج الحكم والأحكام يدخل في علم التفسير؟

    والجواب: ليست كل الأحكام المذكورة في القرآن تدخل في التفسير، وهنا لا بد من وضع قيد؛ ليبين ما الذي يدخل من أحكام القرآن في باب التفسير وما الذي يخرج؟

    فلو أراد إنسان أن يفسر آية من القرآن عموماً، فإنه لا يتكلم على طريقة كتب أحكام القرآن، فلو تكلم عن حكم شرعي مثل: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فمفهوم المعنى إذا انتهينا منه، فإن تفصيلنا لأحكام العمرة هنا، كما فعل بعضهم، لا يدخل في باب التفسير بل هو استطراد؛ لأن بيان العمرة كمصطلح شرعي وبيان أحكام العمرة ليس له علاقة بالتفسير.

    والضابط الذي يمكن أن نجعله قيداً للتفسير هو البيان. فالبيان المباشر لمعاني الآيات هو التفسير، فما كان خارجاً عن حد هذا البيان فهو داخل إما في علوم الآية، أو في علوم السورة، وسيأتي التنبيه عليه.

    فالخلاصة: أن ما كان بياناً لشيء في الآية فإنه تفسير، بغض النظر عن المصدر الذي بين، فقد يكون البيان بآية، وقد يكون البيان بسنة نبوية، وقد يكون البيان بلغة، وقد يكون البيان بقول صحابي، وقد يكون البيان بسبب نزول، كل هذه تدخل في محيط التفسير، لكن إذا انتهى من البيان فما بعده خارج عن حد التفسير وداخل في علوم القرآن المتنوعة التي ستأتي الإشارة إليها.

    وباختصار فإن علم التفسير: هو بيان معاني القرآن، وهذه أخصر عبارة يمكن أن نقولها في حد التفسير، فإذا كان حد علم التفسير هو بيان المعاني فما بعد بيان المعاني سيكون خارجاً عن هذا الحد.

    وأما استخراج الحكم والأحكام فإذا كانت هذه الأحكام منصوصاً عليها مباشرة، فهذا نعتبره من التفسير، وإذا استطردنا في بيان ما يتعلق بهذا الحكم من جهة الأحكام الأخرى فهذا خارج عن حد التفسير، كما في المثال السابق: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ [البقرة:196]، فالتفصيل في أحكام العمرة خارج عن حد التفسير.

    قال السيوطي ، وقد نبه على الفرق بين هذين المعنيين: حد التفسير وحد الاستنباط في كتابه الإكليل في استنباط التنزيل.

    يقول في مقدمة كتابه: (فعزمت على وضع كتاب في ذلك) يعني: في الاستنباط .. إلى أن قال: (أورد فيه كل ما استنبطه منه أو استدل به عليه من مسألة فقهية أو أصولية أو اعتقادية، وبعض مما سوى ذلك مقروناً بتفسير الآية حيث توقف فهم الاستنباط عليها).

    فنلاحظ في كلام السيوطي أن هناك فرقاً بين الاستنباط والتفسير، حيث قال: إنه أحياناً قد يتوقف الاستنباط على فهم الآية فيولي التفسير الآية من أجل هذا، ففرق بين هذين العلمين: علم الاستنباط، وعلم التفسير.

    ولما ذكر أبو حيان رحمه الله تعريف التفسير قال: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن، ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك، فهذا التعريف المطول شرحه أبو حيان ، ونأخذ الحيثية الأولى التي ذكرها وهي: كيفية النطق بألفاظ القرآن، حيث قال: (وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هو علم القراءة) الذي هو علم القراءات.

    دخول القراءات في علم التفسير

    لو سألنا الآن: هل علم القراءات من علوم التفسير أو خارج عنها؟

    فالجواب: خارج عن علوم التفسير؛ لأن القراءات فيها توضيح لبعض المعاني.

    وليس كل علم القراءات من علم التفسير كما أنه لا يخرج كله عن علم التفسير، ولنضرب لذلك مثالاً: قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] فـالشوكاني رحمه الله تعالى مثلاً يذكر القراءات في: قَدْ سَمِعَ [المجادلة:1]، من باب الإظهار والإدغام، وهذه ليس لها أثر في بيان المعنى بخلاف قول الله سبحانه وتعالى مثلاً: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِظَنِينٍ [التكوير:24]: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [التكوير:24] فاختلاف القراءة له أثر في بيان المعنى.

    إذاً: يمكن أن نقول: إن الوجوه المرتبطة بالأداء لا علاقة لها بعلوم التفسير إطلاقاً.

    وأما الوجوه المرتبطة بالمعنى فهي داخلة في علم التفسير، فما يؤثر في المعنى من وجوه القراءة فإنه يدخل في صلب التفسير، وما يكون من باب الأداء لا يدخل في صلب التفسير؛ وبهذا نعرف أن التعليلات المعروفة للصلة في قراءة حفص في قوله تعالى: وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً [الفرقان:69]، وأنها لشدة العذاب علة غير سليمة ولا علاقة لها بذلك، وإنما هي قضية أدائية بحتة.

    دخول علوم اللغة في التفسير

    ثم ذكر بعد ذلك مدلولات الألفاظ، فقال عن مدلولات الألفاظ: إنه متن علم اللغة، أي: بيان المفردات قال: الذي يحتاج إليه في هذا العلم هو بيان معاني الكلمات، فهل نحتاج إلى بيان معاني الكلمات في علم التفسير؟

    فمثلاً: (بظنين) أي: بمتهم، ومعنى: بِضَنِينٍ [التكوير:24] أي: ببخيل، فهذا نحتاجه بل هذا هو أغلب علم التفسير، فأغلب علم التفسير قائم على بيان معاني المفردات، وأنه إذا تبينت معاني المفردات تبين ما بعدها من المعنى الجُملي، فهذا واضح أنه داخل في علم التفسير.

    قال: (وأحكامه الإفرادية والتركيبية)، وهذا يشمل علم التصريف، والبيان والبديع، ويسمى بعلم البلاغة.

    فعلم التصريف نحتاج منه ما يقوم عليه بيان معنى الكلمة لنضرب مثالاً لذلك: في قوله سبحانه وتعالى: وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [القمر:2]، معنى (مستمر) قال السلف: ذاهب أو زائل، وقال بعض اللغويين: مستمر قوي، الآن نحتاج إلى علم التصريف لمعرفة الفرق بين القولين فمن قال: إن مستمر بمعنى ذاهب أو زائل، جعلها من مر يمر إذا ذهب، كأنهم يقولون: هذا سحر وسيذهب ويزول مثلما زال غيره، والذين ذهبوا إلى أن مستمر بمعنى قوي، أخذوه من أمر الحبل إذا قوى فتله، فاختلف التصريف.

    والمقصد من هذا أن علم التصريف نحتاجه في بعض الكلمات، وهو مهم جداً، مثل: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29]، العتيق قيل: المعتق من الجبابرة، وقيل: القديم، فحين ننظر أصل الكلمة فمن فسرها بالمعتق أخذه من الفعل الثلاثي: أعتق، يعتق، فهو معتق.

    والذي جعلها بمعنى القديم أخذها من عَتَقَ، أو عتُق الشيء إذا صار قديماً، وأما علم البلاغة فأنا أرى أنه ما يحتاج إليه.

    علم البلاغة عموماً بأنواعه الثلاثة التي استقر عليها: المعاني والبيان والبديع، خصوصاً علم البديع بالذات أكثر مسائله لا يحتاج إليها، أما علم البيان المرتبط بالتشبيه وغيره فهذا قائم على جزءين: جزء منه داخل في بيان المعنى، وجزء منه خارج عن بيان المعنى، وعلم المعاني كذلك جزء منه مرتبط ببيان المعنى وجزء منه خارج عن بيان المعنى.

    فالخلاصة في علم البلاغة أن ما يقوم بيان المعنى عليه فإنه داخل في علم التفسير، وما يكون خارجاً عنه فلا يدخل في علم التفسير.

    وعلى سبيل المثال: ما يتعلق بالكناية على مذهب من يقول بوجود الكناية في القرآن، أو المجاز على مذهب من يقول بوجود المجاز في القرآن فهذا جزء من علم البلاغة فهمه له أثر في التفسير، لكن الطباق، مثلاً في قوله تعالى: وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى [النجم:43] مثلما ذكر الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى، قال: فيها محسنة طباق، فهذا لا أثر له في التفسير وفهم المعنى.

    كذلك قوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم:55]، فبين (الساعة) و(ساعة) جناس تام، وليس له أثر في بيان المعنى.

    فالخلاصة أن أغلب علم البلاغة ليس له علاقة بعلم التفسير، وقد يقول قائل: الزمخشري أقام كتابه على علم البلاغة، بل نص على أن من لم يفهم علم البلاغة لا يستطيع أن يفسر القرآن.

    فالجواب: أن علم البلاغة نحتاجه في علم مرتبط بالقرآن، وليس في علم التفسير، بل في علم مثل الإعجاز، وبيان إعجاز القرآن غير تفسير القرآن، ولهذا فـالزمخشري خلط بين الأمرين: بين علم التفسير وبين إعجاز القرآن.

    فالمقصد من هذا أن ننبه إلى أن علم البلاغة لبيان الإعجاز، ولو أخذنا بهذا القيد الذي ذكره الزمخشري فإنه سيخرج عندنا كثير من المفسرين أن يكونوا مفسرين؛ لأنهم ليس عندهم علم بالبلاغة.

    المقصود فهم قضية التفسير وأنها لبيان معاني القرآن، وما خرج عن حد بيان المعاني فإنه إما يكون من علوم الآية، وإما أن يكون من علوم السورة، وكلها تسمى علوم القرآن.

    نأخذ أمثلة من علوم السورة، سورة الصمد، هذه السورة سميت سورة الصمد، وسميت سورة الإخلاص، وسميت سورة: (قل هو الله أحد)، فهذه معلومة، يعني: المفسر كتب في تفسيره هذه المعلومة، ثم قال: وهذه السورة لها فضائل، ثم ذكر فضائلها، منها: أنها تعدل ثلث القرآن، وأنها تقرأ في الوتر.. إلى غير ذلك من فضائل هذه السورة، فهذه المعلومات وهي كون هذه السورة من أسمائها كذا وكذا، وكون من فضائلها كذا وكذا، هذا ليس له أثر في بيان المعنى.

    لكن هو من علوم السورة فذكره في التفسير؛ لأنه من علوم السورة.

    مثال آخر: آية الكرسي تسمى آية الكرسي، فإذا قلت: هذه آية الكرسي، فهذه المعلومة ليس لها أثر في بيان معنى الآية. وحين أقول: رقم هذه الآية هو كذا، ليس له أثر في بيان المعنى لكنها معلومات مرتبطة بالآية.

    فالمقصد هنا أن ننتبه إلى أن المفسر إذا أراد أن يكتب تفسيراً، فإنه سيحشد في تفسيره كثيراً من المعلومات، لكن لا يلزم أن تكون هذه المعلومات من التفسير، وقد نبه بعض العلماء إلى أن بعض المعلومات دخلت في كتب التفسير وليست من علم التفسير.

    ولو نظرنا إلى تفسير السلف نظرة إجمالية سريعة وإلى كتب المتأخرين ثم فرزنا المعلومات فرزاً ذهنياً سريعاً فإن الأقرب إلى مصطلح التفسير الذي ذكرته آنفاً هي تفسيرات السلف؛ لأن الغالب على تفسيرات السلف النظر إلى بيان المعاني، وهناك معلومات، لكن إذا نظرنا إلى هذه المعلومات سنجد أنها أقل بكثير من المعلومات التي أدخلها المتأخرون.

    فطريقة السلف أو تفسير السلف يدعم أن المراد بالتفسير هو بيان المعاني، وأن هذه الاستطرادات خارجة عن حد التفسير.

    1.   

    بعض المصطلحات التي أضيفت إلى التفسير وعلاقتها به

    نأتي الآن إلى مسألة مرتبطة بمفهوم التفسير أيضاً وهي: بعض المصطلحات التي أضيفت إلى التفسير.

    علاقة التفسير الإشارية بمفهوم التفسير

    مصطلح التفسير الإشاري، وهل هو داخل في حد التفسير أم لا.

    أولاً: نحتاج أن نعرف ما هو التفسير الإشاري، لم يذكر في علوم القرآن تعريف وهو يعني: إيراد معنى باطن خلاف المعنى الظاهر.

    أي: تفسير المعاني بمعان بعيدة.

    فتفسير الألفاظ مثلاً بدلالة القياس هذا نوع من الإشارة.

    وعلى العموم ليس هناك تعريف واضح يمكن أن يوصف به التفسير الإشاري، وأبلغ عبارة جاءت فيه هي: ما أشارت إليه الآيات من المعاني، التي لا تكون من ظاهر الآية، أو إشارات للآيات ليست من ظاهر الآية، ويتبين التفسير الإشاري بالأمثلة.

    أقسام التفسير الإشاري

    والتفسير الإشاري أقسام، قسم فيه معان باطلة، وألحقت بالقرآن على أنها من باب التفسير الإشاري، فهذه مردودة؛ لأن المسألة المذكورة باطلة، فليس في هذا القسم نقاش.

    وهناك بعض المعاني هي في ذاتها صحيحة، لكن ارتباطها بالآية فيه نظر، فنردها لأنها ليست مما يتعلق بالآية.

    وهناك معان مذكورة لها ارتباط بالآية بوجه ما، وليست مأخوذة من ظاهر الآية، فهذا ما يسمى بالتفسير الإشاري.

    ولنضرب مثالاً لذلك: قوله سبحانه وتعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، فبعض الإشاريين يقول: هذا العبد يخرب قلبه بالمعاصي، ولو نظرنا إلى سياق الآية، فإنها لم تنزل في هذا الغرض أصلاً، بل الآية نزلت في شأن بني النضير، فهو أخذ هذا الجزء من الآية وذكر هذا المعنى، وهذا المعنى الذي ذكره صحيح من حيث هو معنى، لكن دلالة الآية عليه من حيث هي آية لم تدل عليه بوجه ما، والذي جعله يربط بين هذا وبين هذا المقايسة بين المعنى الجُملي لقوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2]، وبين المعنى الموجود في كون العبد يخرب قلبه بالمعاصي يعني: فهذا العمل يشبه هذا العمل، لكن هذا النوع لا يدخل في حد التفسير فلا يصح أن نقول عنه: تفسير؛ لأنه ليس فيه بيان للمعنى، فالمعنى في قوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ [الحشر:2] ليس نفس المعنى الذي ذكره التفسير الإشاري، بل المعنى متبين من دون التفسير الإشاري.

    وهذه قاعدة ينبغي التنبه لها وهي أن التفسير الإشاري الذي نقبله هو الذي يأتي بعد بيان المعنى في الحقيقة، وهذا ليس فيه بيان للمعنى، فما دام ليس فيه بيان للمعنى فيكون خارجاً عن حد التفسير.

    والسؤال: مادام خارجاً عن حد التفسير، فهل يصح أن نقول له: التفسير الإشاري؟

    على العموم هو مصطلح شائع، لكن الذي أردت أن أنبه عليه هو أنه يجب أن ننتبه للفروق الدقيقة في هذه المصطلحات، وأن التفسير الإشاري في حقيقته ليس من باب بيان المعاني، ولو أردنا أن ندخل التفسير الإشاري في باب من أبواب علوم القرآن فإنه في حقيقته نوع من الاستنباط من القرآن.

    إذاً: حقيقة التفسير الإشاري هذا هو استنباطات من القرآن، بمعنى أنه عمد هذا الإشاري إلى القرآن وأراد أن يخرج شيئاً من الاستنباطات.

    وليس القصد أن نخطئ التسمية، ولكن القصد أن نبين المعنى، والمصطلح كما ذكرت سائد وشائع، وأنا لا أقول: إن هذه التسمية خطأ أو صواب، لكن أبين أنه ينبغي التنبه إلى أنه وإن سمي بالتفسير الإشاري فهو في حقيقته ليس من باب التفسير.

    يوجد جزء مما كتب في التفسير الإشاري اسمه من لطائف الإشارات للقشيري، وكذلك حقائق التفسير لـأبي عبد الرحمن السلمي ، وهما كتابان مطبوعان، سنجد أن هناك كلاماً لبعض المتصوفة ليس من باب التفسير حتى الإشاري، وإنما هي مجرد كلمات تعبيرية أدبية يذكرها هذا الصوفي عند هذه الآية، وهي في حقيقتها ليس لها علاقة، لا بالتفسير الإشاري ولا بالتفسير.

    والأمثلة على ذلك كثيرة جداً في كتب التفسير الإشاري، وكتب التفسير الإشاري كما قلت لها أقسام، ليس هذا محل ذكرها، وهي تحتاج إلى بحث، لكن المقصد أننا ننتبه إلى كثير مما يذكر في التفسير الإشاري وهو مجرد كلام عام حول هذه الآية، وإن كان لا يدخل لا في هذا ولا في هذا، وليس فيه استنباط ولا بيان معنى، إنما هو أشبه بالكلام الأدبي حول الآية.

    علاقة التفسير الموضوعي بالتفسير

    نأتي إلى مصطلح آخر أيضاً ولا نريد أن نناقش المصطلحات كلها، وإنما بعض الأمثلة:

    التفسير الموضوعي: وهو على ثلاثة أقسام، وهو بحث مفردة في القرآن أو جملة في القرآن، أو بحث موضوع من خلال القرآن، أو بحث سورة أو موضوع من خلال سورة.

    فالتفسير الموضوعي في الغالب بحث موضوع من خلال القرآن، مثل الملائكة في القرآن، أو الأنبياء في القرآن، أو الصلاة في القرآن.. إلى آخره من هذه العناوين، وهذه البحوث هي نوع جديد من التفسير، ومن خلال قراءتي في التفسير الموضوعي ظهر لي أنه ليس هناك بيان معان جديدة، وإنما فيه استنباطات جديدة، فهو في الحقيقة داخل في باب الاستنباط؛ لأن الذي يأتي ويجمع هذا الموضوع في القرآن يكون عنده في النهاية استخراج فوائد واستنباطات لم يسبق إليها أحياناً، أو أنه جمعها من كلام المفسرين، وليس في التفسير الموضوعي بيان معان جديدة، بل نجد بيان استنباطات وجمع للموضوع المتفرق وترتيب هذا الموضوع المتفرق.

    أما بيان معان جديدة فلا نجد، وبناءً عليه وكما قلنا: إنه مصطلح اشتهر وشاع ولا مشاحة في الاصطلاح، فالتفسير الموضوعي في حقيقته ليس داخلاً في حد التفسير، وإنما في باب الاستنباط.

    ومن قرأ تتضح له جلياً هذه القضية.

    والمقصود أن عندنا بعض المصطلحات أو بعض ما ينسب إلى التفسير، مثل: التفسير الإشاري والتفسير الموضوعي، وهي في الحقيقة أشياء اصطلح عليها وانتشرت وشاعت، لكن يجب أن ينتبه إلى أنه لا يلزم من كونها نسبت إلى التفسير أن يكون فيها بيان معان، وإنما هي داخلة في ما بعد البيان مما يتعلق بالاستنباط.

    نأتي الآن إلى: إطلاق مصطلح التفسير على بعض أسلوب الكتابة التي انتهجها المؤلف، فبعض المعاصرين تجده يسمي كتابه مثلاً في ظلال القرآن لـ السيد قطب ويقول: هذا تفسير أدبي، يضعه من باب التفسير الأدبي.

    وسنناقش هذا المصطلح، أولاً من أين جاءت لفظة أدبي، ولماذا لا نقول عن تفسير ابن جرير : إنه أدبي؟ وهو في الحقيقة أدبي.

    والمراد بالأدب الإنشاء، فالأدب هو الإنشاء، وهذا الكتاب تميز صاحبه بالفعل بجودة الإنشاء، فسمى كتابه بالتفسير الأدبي، ونحن نناقش هذا المصطلح، وهل هناك شيء اسمه تفسير أدبي؟ يعني: بيان المعاني بالأدب، وهل الأدب مصدر تتبين به المعاني؟

    وفي الحقيقة لا يدخل في حد التفسير، لأنا لو نظرنا إلى حقيقة التفسير الأدبي وإلى أسلوب الكتابة فإننا نسميه التفسير الأدبي.

    لكن لو أردنا أن ندقق في المصطلح فإننا نقول: الأسلوب الأدبي في التعبير عن التفسير، لكن لا يعني هذا أن تفسير ابن جرير الطبري ليس من التفسير، وليست عبارته أدبية، بالعكس كلام ابن جرير الطبري يعتبر من الكلام المتين والقوي جداً، ولهذا أحياناً قد يصعب على بعض المتعلمين في هذا العصر قراءة مثل هذه العبارات عن الطبري ، وليست كثيرة، لكن قد يكون فيها صعوبة؛ لأن فيها تحريراً قوياً جداً، و الطبري معروف علمه باللغة.

    والمقصد من هذا أن ننتبه إلى أن مثل هذا المصطلح المعاصر يقال له: التفسير الأدبي، وهو بالنسبة إلى النظر فيه من جهة أسلوب الكتابة، وهذا لا يعني أن الأدب مصدر للتفسير.

    علاقة التفسير الاجتماعي بالتفسير

    مصطلح آخر يرتبط بالمعلومات التي أكثر المؤلف من الكلام عنها مثل التفسير الاجتماعي، ويمثلون له بتفسير المنار، نلاحظ نفس القضية، فعندما ينسب التفسير الاجتماعي هل يعني ذلك أن الاجتماع أثر أو مصدر يرجع إليه المفسر بحيث يسمى التفسير الاجتماعي؟

    وسمي التفسير الاجتماعي لأنه غلب على المؤلف فيه البحث عن قضايا المجتمع.

    علاقة التفسير اللغوي بالتفسير

    وعند النظر إلى مصطلح المصدر الذي غلب على المفسر، مثلاً ما يسمى بالتفسير اللغوي، فلا يعني أنه خلا عن جميع المصادر الأخرى.

    إنما المقصود أنه طغى عليه جانب اللغة، وحين نقول: التفسير اللغوي، لا يعني: أن التفسير اقتصر على اللغة.

    وحين نقول: التفسير الاجتماعي لا يعني أنه مصدر في التفسير بحيث ننسب إليه، لكن حين نقول: التفسير اللغوي، فإن اللغة مصدر، فقولنا: التفسير اللغوي يصح هذا الإطلاق من هذه الجهة.

    علاقة التفسير الأثري بالتفسير

    كذلك أيضاً التفسير الأثري، يعني: الذي يهتم بالأثر، وهذا بناءً على أقسام التفسير، فتفسير ابن جرير الطبري اعتمد الآثار في تفسيره فالآثار تفسر القرآن.

    فالتفسير الأثري له علاقة بالبيان، يتبين به المعنى، فالإطلاق هذا أسلم وأدق من الإطلاقات السابقة؛ لأن الأدب أو الاجتماع أو التفسير الموضوعي أو الإشاري ليس له علاقة بالبيان، لكن لو افتقدنا رواية السلف مثلاً، فإنه ينقص البيان، ولو افتقدنا المعاني اللغوية فإنه ينقص البيان.

    إذاً: هذه وإن كانت جزءاً من التفسير إلا أن الإطلاق يكون صحيحاً حين نقول: التفسير اللغوي أو نقول: التفسير الأثري.

    فهذه إشارة سريعة إلى بعض المصطلحات التي ترتبط بالتفسير.

    فإذا نظرنا في هذه المصطلحات وما فيها من بيان، وجدنا أن اللغة لها علاقة بالبيان، فنقول: إطلاق التفسير اللغوي يصح، أما التفسير الأدبي فليس فيه التفسير الذي يكون بالأدب؛ لأن الأدب ليس مصدراً في التفسير، وأما التفسير الإشاري فإنه من باب الاستنباط، وليس من باب بيان المعاني، لكن غلبت واشتهرت هذه المصطلحات.

    1.   

    علاقة المفسرين بالتفسير والاستنباط

    نأتي إلى قضية متعلقة بالمفسرين وهي علاقة المفسرين بالتفسير والاستنباط:

    أصناف المفسرين من جهة التفسير والاستنباط

    أصناف المفسرين من جهة التفسير والاستنباط:

    لو أردنا أن نقسم فسنجد القسمة ثلاثية:

    الأول: مفسر غير مستنبط.

    الثاني: مستنبط غير مفسر.

    الثالث: مفسر مستنبط، يعني: جمع بين التفسير والاستنباط، فالمفسر غير المستنبط هذا كثير، بل إن أغلب التفاسير سارت على هذا القسم، الذي هو التفسير من دون الاستنباط.

    فجمهور كتب التفسير قامت على التفسير ولم تقم على الاستنباط، قد تلاحظون في بعض الكتابات المعاصرة أنهم يطالبون المفسر بأن يعيش عصره وواقعه، والذي سيعيش عصره وواقعه ويحاول أن يربط الآيات بالواقع الذي يعيشه لابد أن يكون مفسراً مستنبطاً.

    وهنا سؤال: هل يلزم المفسر من حيث هو مفسر أن يستنبط؟

    والجواب: لا يلزم، وعلى هذا سارت جل التفاسير.

    ولا يعد عيباً في المفسر، فعلى سبيل المثال ابن كثير له كتاب في التفسير، وله كتاب في التاريخ، وحدث في عصر ابن كثير إشكالات مرتبطة بالآيات، ومن أشهر القضايا التي حدثت في عصر ابن كثير قضية جنكيز خان المعروفة لما وضعوا كتاباً يتحاكمون إليه، المعروف بالياسق، ومع ذلك لم يتعرض لها لا في التفسير ولا في التاريخ، ولا تعرض لقضايا أخرى.

    كذلك أيضاً القرطبي تعرض لبعض القضايا، لكن لم يتعرض لكثير منها، وقل مثل ذلك في ابن جرير الطبري و البغوي و ابن عطية وسلسلة المفسرين كلهم لم يعتنوا بهذا الجانب، جانب الاستنباط، لكن لا يعني ذلك أن تفسيرهم يخلو من الاستنباط، بل المقصد أنه لم يكن هدفاً أساسياً عندهم وهم يكتبون التفسير؛ لأن التفسير كان مرتبطاً بقضية بيان المعاني.

    فإذاً: لا يعاب على المفسرين أنهم لم يعيشوا واقعهم، كما حدث من بعض المعاصرين أنه عاب على المفسرين أنهم لم يعيشوا واقعهم، ولم يعلقوا وهم يفسرون الآيات على بعض المشكلات التي كانوا يعيشونها؛ لأنها لم تكن هذه من مهمة التفسير عندهم، لكن لو كان عندهم كتاب آخر، كتاب في الآداب، أو كتاب في التاريخ، أو كتاب في الأحكام الفقهية أو غيره، فقد يبين بعض القضايا المرتبطة بالمشكلات التي يعيشها أهل عصره.

    فالمقصد أنه يجب أن ننتبه إلى أن التفسير من حيث هو تفسير ليس محلاً لهذه القضايا، والخروج إلى هذه القضايا هو من باب الاستنباط والزيادة على التفسير.

    فلا ينبغي أن نعيب ما فعله العلماء المتقدمون، ولا نطلب من المفسر الذي يكون مفسراً أن يستنبط؛ لأنها لو طلبنا من كل مفسر أن يستنبط فستخرج لنا استنباطات كثيرة فيها شذوذ، ولو رجعت إلى مثل غرائب التأويل للكرماني أو غيره من بعض كتب التفسير التي تذكر بعض الشذوذات لوجدت من هذه الشذوذات في الاستنباط الشيء الكثير، فمثلاً الماوردي يذكر عن أحد متفقهة المفسرين يسميه أنه قال: إنه إذا مات الميت ولم يوص فإنه يؤخذ من ماله العشر بدل الثلث قال: لأن إبراهيم عليه السلام قطع الطيور ووزعها على عشرة جبال فقال: استنبط من هذا أنه من مات ولم يوص فإنه يؤخذ من ماله العشر بدل الثلث، وهذا استنباط ضعيف جداً وباطل ومتهالك .. وقصدي من هذا أننا لو ألزمنا المفسرين فسيخرج مثل هذه الغرائب، ليس كل مفسر عنده قدرة على الاستنباط.

    والمستنبط غير المفسر موجود في عصرنا بكثرة وهنا قاعدة ينبغي التنبه لها وهي: (كل من دخل إلى التفسير أو القرآن وليس عنده تأصيل شرعي فسيكون عنده استنباطات وهو غير مفسر)، فسيكثر خطؤه وهذا ما نجده في هذا العصر كثيراً، فتجد طبيباً يكتب كما يسمى بالتفسير العلمي أو الإعجاز العلمي، وعالم فلكي يكتب في هذا الباب، يعني فيما يتعلق بالقرآن، وعالم نفس يكتب في هذا الباب، وعالم هندسة يكتب عن الهندسة في القرآن.. إلى غير ذلك من هذه المسميات، فهؤلاء ليسوا مفسرين قطعاً، ولا يمكن للواحد منهم أن يقول: أنا مفسر، أنا اكتملت فيّ أدوات التفسير، والذي يقول هذا مكابر، فما دام لا يمكن أن يكون مفسراً، ومع ذلك تعرض للآيات وفسر واستنبط، فهذا هو الذي نقول عنه: المستنبط غير المفسر.

    وقد يكون بعض الفقهاء أو غيرهم عندهم أداة العلم الشرعي التي تعصمهم في كثير من الأحيان من الوقوع في ما يقع فيه من ليس عنده تأصيل شرعي.

    وأما المفسر المستنبط فهؤلاء في الحقيقة قلة، فعلى سبيل المثال: علماؤنا المتقدمون، مثل: ابن كثير أو ابن جرير أو ابن عطية أو غيرهم رحمهم الله، هؤلاء عندهم أداة الاستنباط، لكن لم يكن من منهجهم أن يسوقوا الاستنباطات في تفسيراتهم.

    لكن نلاحظ الآن في هذا العصر أن كثيراً من طالبي علم التفسير يطلبون من المفسر جانب الاستنباط، فعلى سبيل المثال: لو ضربنا مثالاً بالشيخ/ محمد بن العثيمين رحمه الله تعالى سنجد أنه تكامل عنده جانب التفسير وجانب الاستنباط، وعنده كثرة في الاستنباط، فكثير من طلاب العلم يطلبون مثل هذا المنهج، يكون فيه تفسير ويكون فيه استنباط، ولكن ليس كل أحد يقوى على هذا النوع وهو أن يكون مفسراً ومستنبطاً، وإن كنا نتمنى أن يوجد في الأمة من يكون بهذه المثابة، لكن لا شك أن عندنا ما يسمى بالاستنباطات الجزئية والتي ذكرت بعض أمثلة منها ممن يدخل في علم التفسير وليس له تأصيل شرعي، أو بعض من يكون عنده علم شرعي، ويكون له بعض الاستنباطات من بعض الآيات، فهذا موجود عنده الاستنباطات الجزئية، ولكن لا يوجد مفسر متكامل فيه أداة التفسير وأداة الاستنباطات، فهذا قليل.

    ومما ينبغي أن يعلم أننا لا نلزم دروس التفسير بهذا المنهج؛ لأنه ليس كل أحد يستطيع أن يتقن هذا الباب، أي: باب الاستنباط.

    ولذا فمن المهم جداً في دروس التفسير: معرفة كيفية بيان المعاني؛ لأننا إذا عرفنا كيف نبين المعاني ونصل إلى المعاني، استطعنا بعد ذلك أن نستنبط، وقد ذكر السيوطي رحمه الله تعالى فائدة مهمة وهي أن كثيراً من الاستنباطات تتوقف على فهم المعاني، فالذي لا يفهم المعاني سيقع في استنباطات خاطئة كثيرة جداً.

    ولو تفتحون صفحات الإنترنت فإنكم ستجدون مواقع قائمة على استنباطات خاطئة إطلاقاً، والقائم عليها ليس من المفسرين ولا يعرف بالتفسير، ويخالف إجماع المفسرين كلهم، ويستنبط استنباطات خاصة به، وهذا كثير في هذا العصر.

    1.   

    معلومات كتب التفسير

    بقي ما يتعلق بمعلومات كتب التفسير، نأخذه بإيجاز:

    أخذنا سابقاً مفهوم التفسير: وهو بيان معاني كلام الله سبحانه وتعالى، فإذا كان المراد بالتفسير بيان معاني كلام الله سبحانه وتعالى، فإن كتب التفسير التي بين أيدينا اليوم تتعدد مناهجها وتتفاوت أجزاؤها، وتختلف مادتها العلمية، فهل ننطلق من كتب التفسير لتحديد مفهوم التفسير، أو نحدد مفهوم التفسير، ثم ننظر ما هي المادة العلمية الموجودة في كتب التفسير؛ لكي نوازن بينها وبين مفهوم التفسير.

    لا شك أننا لو انطلقنا من كتب التفسير فسيكون مفهوم التفسير عندنا شاملاً وواسعاً، حتى إنه ممكن أن نصل إلى أن أي معلومة ترتبط بالقرآن فإنها ستدخل في التفسير، وكما ذكرنا نقولات عن بعض العلماء، أنهم تنبهوا إلى دخول معلومات ليست من علم التفسير في كتب التفسير.

    تفاوت كتب التفسير في الأحجام مع أن المقصود من الجميع بيان المعنى فقط

    فعلى سبيل المثال: لو ضربنا مثالاً: تفسير مختصر مثل كتاب: الجلالين، في مجلد واحد، وتفسير مطول جداً مثل: تفسير الرازي ، فهذا نسميه تفسيراً وهذا نسميه تفسيراً، فهل يعني أن ما في تفسير الجلالين من جهة التفسير قد نقص وأخل بالتفسير واكتملت المادة التفسيرية في كتاب الرازي من أجل أنه أكثر أم ماذا؟

    فالذي كتب في مجلد أو في مجلدين تفسير القرآن كاملاً، والذي كتب في أكثر حتى أن بعضها قد يصل إلى عشرين مجلداً، مثل: تفسير ابن عابدين ، فهل تختلف المادة التفسيرية عند هؤلاء عما يتعلق بالتفسير بين من يكتب في جزء أو جزءين وبين من يكتب في عشرين جزءاً؟

    قد يقول سائل: الذي كتب في أكثر من خمسة مجلدات ما الذي أضافه من جهة التفسير؟

    قبل الجواب نأخذ بعض المعلومات ثم نرجع إلى هذا السؤال لكي يتضح السبب الذي جعل بعض كتب التفسير تتضخم بالمعلومات.

    لو نظرنا مثلاً إلى تفسير السلف في طبقاته الثلاث: الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، وحاولنا أن نجمع المادة التفسيرية التي كتبها السلف، بطريقة ما، بدون أن نكرر العبارات والأقوال، بل نحاول أن نحصر المعاني، يمكن أن يخرج لنا جمهور تفسير السلف، الموجود مثلاً في الدر المنثور مع أنه من أوسع ما جمع في تفسير السلف يمكن أن يخرج لنا في مجلد أو في مجلدين على الكثير، فإذا جمعنا هذا التفسير الوارد عن السلف فستكون المادة التفسيرية متكاملة، بمعنى: أننا لا نجد آية ليس للسلف فيها كلام كما سيأتي.

    فإذاً: المعلومات التي سنجدها في تفسير السلف ستكون متكاملة من جهة التفسير، فسنجد مثلاً بيان غريب الألفاظ، التي تسمى مفردات الألفاظ.

    كذلك سنجد عندهم بيان المعنى الجُملي للآية، أو للجملة التي يفسرونها كذلك، وسنجد ذكر سبب نزول يوضح المعنى، وسنجد بيان مخصص للعام أو مقيد للمطلق.. إلى آخره من أنواع البيان، وسنجد تفسير آية بآية، وتفسير آية بسنة نبوية.. إلى آخره، بمعنى: أن المادة التفسيرية عموماً ستكون متكاملة، فهذا الذي في تفسير السلف أيضاً موجود عند من جاء بعدهم، لكن لو تتبعنا التفاسير سنجد أول تفسير بين أيدينا مطبوع وفيه تكامل من جهة التفسير ومن جهة النقولات حتى عن غير مفسرين تفسير ابن جرير الطبري ، فتفسير ابن جرير الطبري أضاف إضافة على تفسير السلف، وهي أقوال أهل اللغة والنحو.

    ولو نظرنا نظراً سريعاً إلى علم النحو كعلم تشكل، يعني: الآن علم النحو تشكل وصار علماً يقصد ويدرس، هذا العلم الذي يقصد ويدرس، لم يكن موجوداً في تفسير السلف.

    فصار موجوداً موازياً لتفسير السلف نجده واضحاً عند ابن جرير الطبري .

    فهذه الإضافة (علم النحو) عندما يكتب مفسر متأخر ويورد التطبيقات النحوية، تزيد مساحة التفسير.

    وعندما نرجع إلى الأحكام الفقهية بعد أن ثبتت المذاهب، وصار كل مفسر يكتب وهو مقيد بمذهبه، ويستطرد أحياناً مثلما فعل القرطبي أو غيره، فإن المساحة تزيد.

    كذلك لو نظرنا إلى أساليب العرب وما يسمى بالبلاغة العربية، مثلما فعل الزمخشري فإنه يزيد في مساحة التفسير.

    المقصود أن كتب التفسير بدأت تزيد بسبب النظر إلى هذه العلوم، والأخذ منها، فبقدر العلوم التي ينظر إليها المفسر ويجعلها نصب عينيه وهو يكتب تفسيره يزداد عنده حجم كتابة التفسير، لكن لا يعني هذا أن هذه العلوم شرط من شروط المفسر، أو أنها لازمة لمن أراد أن يفسر؛ لأن هذه قضية أخرى، لكن المقصد أننا نعرف كيف بدأت تزيد هذه المعلومات في كتب التفسير، كنظر تاريخي في تشكل هذه العلوم، وكلما تشكل علم واعتنى به مفسر وأدخله في تفسيره صار من جملة معلومات التفسير، ثم من يجيء بعده ينقل عنه، ثم ينقل الآخر عن الأول إلى آخر سلسلة النقل عند المفسرين.

    ولما اعتمد المفسرون المتأخرون على هذه العلوم ونقلوها في كتب التفسير، ظهر عندنا مصطلحات خاصة بهذه العلوم في كتب التفسير، ولهذا صرنا نجد مثلاً المبتدأ والإعراب والرافع.. إلى آخره من عبارات النحويين، أو من عبارات الأصوليين أو من عبارات البلاغيين.

    والمقصد من هذا أن دخول هذه العلوم في كتب التفسير أحدثت عندنا دخول مصطلحات هذه العلوم، فمثلاً عندما يقولون: (الأمر يقتضي الوجوب)، أو (الأمر بعد النهي يعود به إلى ما كان عليه قبل النهي)، فهذه العبارات نعرف أنها من علم أصول الفقه؛ لأن علم أصول الفقه تشكل وصار واضحاً عند المتعلم، ولهذا إذا مرت عليه قضية مرتبطة بأصول الفقه في كتب التفسير فإنه يعرف أنها من علم أصول الفقه.

    وعندما يأتي مثل: الجملة الاسمية تقتضي الثبوت، أو المبالغة، أو المدح بما يشبه الذم، أو الكناية، أو المجاز، أو غيره من المصطلحات يعرف أن هذه المصطلحات جاءت من علم البلاغة وهكذا، والمعنى أنك حينما تنظر في مثل هذه المصطلحات تعرف أنها جاءت من علوم ليست من صلب علم التفسير.

    كذلك أيضاً: الجملة الحالية، أو التوكيد اللفظي، أو الاشتغال على المحل، أيضاً تعرف أن هذا من علم النحو، والمقصد من هذا كله هو التنبه إلى مسألة، وهي: أنه لا يلزم أن تكون كل المعلومات الواردة في كتب التفسير من صلب علم التفسير.

    واستخدام هذه المصطلحات في كتب التفسير ليس فيه إشكال، لكن المقصد أننا ننتبه إلى دخول مثل هذه المصطلحات، ولهذا من أراد أن يفهم هذه المصطلحات فلا يأخذها من علم التفسير، إنما يأخذها من العلوم التي صدرت منها هذه المصطلحات، فإن كانت مصطلحات أصولية فمن علم أصول الفقه، أو مصطلحات نحوية فمن علم النحو، أو مصطلحات بلاغية فمن علم البلاغة.

    1.   

    إدخال بعض العلوم في التفسير

    آخر قضية نأخذها وهي ترتبط أيضاً بقضية التفسير: وهي أن بعض العلماء قصدوا إلى إدخال أنواع من علوم القرآن في كتبهم، وهذا أيضاً أحدث ما يمكن أن نقول بأنه تضخم في مادة معلومات كتب التفسير، فمثلاً على سبيل المثال: علم القراءات، وسبق بيان ما يدخل في علم التفسير منه وما لا يدخل، فعلم القراءات نجد أن كثيراً من المفسرين على سبيل المثال المحرر الوجيز لـابن عطية سنجد فيه كثيراً من الحديث عن القراءات وتطبيق القراءات، فهذه الألفاظ القرآنية بعضها يدخل في علم التفسير إذا كان يتأثر به المعنى، وكثير منه لا يدخل في علم التفسير؛ لأنه لا يتأثر به المعنى، وإنما من جهة الأداء.

    كذلك بعض المفسرين أدخل المكي والمدني، وأدخل علوماً أخرى مرتبطة بعلوم القرآن التي إما أن تكون من علوم الآية أو من علوم السورة، فتضخمت بهذه العلوم كتب التفسير، وهذه المعلومات أحياناً يكون لها أثر في التفسير، يعني: في فهم المعنى، وأحياناً لا يكون لها أثر في فهم المعنى، وإنما تكون مرتبطة بالآية كمعلومة من معلومات الآية، فيجب التنبه هنا إلى أن القصد الذي قصده بعض العلماء، وهو إدخال جزء من علوم القرآن كان قديماً، وهو في الحقيقة نوع من أنواع الكتابة في علوم القرآن، وهو مما غفل عنه في الحديث عن تاريخ نشأة علوم القرآن، والمعنى أنا لما نرجع على سيبل المثال إلى كتاب المهدوي في التفسير فسنجد أنه عقد باباً للتفسير، ثم بعدما ينتهي من التفسير يبدأ يعقد أبواباً للأحكام وللإعراب، ولبعض علوم القرآن: للقراءات، فقسمه على هذا، حتى صار صعباً في الاستفادة منه؛ كونه يقرأ التفسير ثم لما ينتهي يقرأ في الإعراب ثم لما ينتهي من الإعراب يقرأ في القراءات، ثم لما ينتهي من القراءات يقرأ في الأحكام، فصار فيه صعوبة من هذه الجهة، وبعض العلماء كان منظماً لكتابه تنظيماً آخراً، فيبدأ بالمعنى ثم الإعراب ثم الأحكام ثم الناسخ والمنسوخ، على حسب ما في الآيات من علوم القرآن.

    وهذا أسلوب من أساليب العلماء في كتابة علوم القرآن؛ لأن علوم القرآن لا يمكن أن تنفك عن علم التفسير، وهكذا كان العلماء المتقدمون يتعاملون مع علوم القرآن فما كانت منفكة عن علم التفسير، ومجيئها منفكة منفصلة بكتب مستقلة متأخر جد.

    ننتقل إلى الموضوع الثاني، وهي لمحة موجزة عن تاريخ التفسير وظهور الانحرافات فيه، وظهور الانحرافات سنشير إليه إشارة.

    وجود استفسارات من الصحابة في القرآن مع أنه نزل بلسانهم

    القرآن كما تعلمون وهذه قضية مقررة، لكن نذكرها لتكون مدخلاً نزل عربياً، فكونه نزل على قوم عرب، فالأصل أن يفهموا الخطاب دون أي تدخل خارجي من المصادر الأخرى، وهذه القضية يجب أن نتنبه لها؛ لأن الذين نزل عليهم الخطاب ونزل عليهم القرآن، وهم العرب ومنهم الصحابة، فهموا هذا القرآن؛ لأنه كان بلغتهم، وهم أدرى بأساليبهم وبمفرداتهم إلى آخره.

    القضية الثانية: عندما ننظر إلى العهد المكي الذي نزل فيه القرآن وجلس فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة سنة مع الخلاف المعروف، هل وردت آثار تدل على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستشكلون شيئاً ويسألون الرسول صلى الله عليه وسلم عنه؟ لأننا نريد أن نعرف نشأة التفسير، يعني: نشأة البيان عن المعاني؛ لأننا قلنا: إنه عربي وكونه عربياً يعني أنه بين بذاته، فمادام أنه نزل على قوم عرب، فالأصل أنه بين بذاته فهم يفهمونه، ولكن مع ذلك قد تأتي بعض الإشكالات الواردة عليهم، ففي العهد المكي نجد بعض الآثار ما يشير إلى أنه وقع إشكال عندهم في فهم الخطاب.

    مثل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام:82]، وسورة الأنعام مكية، واستفدنا كونها مكية من كلام ابن مسعود قال: (لما نزلت جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، فدل على أن هذا الإشكال كان في مكة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم لما حل لهم هذا الإشكال ربطه بقوله: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، إذاً: المقصد هنا أنه وقع شيء من الاستفسارات عند الصحابة.

    بعض العلوم التي نشأت في العهد النبوي

    فالعهد المكي عموماً فيما يتعلق بالقرآن لم يبحث بحثاً بحيث أنه يعرف ما هي الأشياء المرتبطة بعلوم القرآن في العهد المكي.

    ومن العلوم التي كانت مرتبطة بالقرآن في هذا العهد، على سبيل المثال: حين نقول أول ما نزل، فأول ما نزل مرتبط بالعهد المكي؛ لأنه أصلاً نزل في مكة، لكن آخر ما نزل مرتبط بالعهد المدني فالقصد أن علوم القرآن المكية المرتبطة بمكة سيكون عندنا جملة من العلوم لا نجدها في العهد المدني، وبعضها سيكون متصلاً، مثل النزول، فعلم نزول القرآن نزل بمكة وكذلك نزل في المدينة.

    على سبيل المثال: الأحرف السبعة، نزلت الأحرف السبعة والرخصة في الأحرف السبعة في المدينة، فالأحرف السبعة، مدنية النشأة وليست مكية، وقس على هذا ما يتعلق بعلوم القرآن.

    1.   

    البيان النبوي للقرآن

    القضية الثالثة: في ما يتعلق بتاريخ التفسير نأتي الآن إلى البيان النبوي:

    الله سبحانه وتعالى أنزل كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيه: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44].

    فإذاً: من مهمات الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبين هذا القرآن للناس، ومن بيانه قراءته على هؤلاء العرب، فمجرد القراءة وسماعهم لهذا الكلام العربي، هو إيصال للخطاب الرباني، وهو نوع من البيان بحيث أنهم يفهمون هذا الكلام.

    هذه المهمة أوكلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والتي هي البيان النبوي، وهي تدل على أن المفسر الأول هو الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أوكلت إليه مهمة البيان، فابتدأ البيان بالرسول صلى الله عليه وسلم.

    ولو نظرنا إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فسنجد أنه على أقسام متعددة، وهذا أيضاً مجال بحث، وما زالت البحوث في أقل من المستوى المطلوب.

    لنأخذ على سبيل المثال من أنواع البيان النبوي: بيان أحكام القرآن، التي هي القضايا العملية، فالقضايا العملية عن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبينها إما بقوله وإما بفعله، فيبينها بفعله بحيث يطبق الأمر المذكور، فعندما ينزل أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى أو نهي، ففعل الرسول صلى الله عليه وسلم له هذا نوع من البيان، وهذا البيان المرتبط بالأحكام على نوعين: نوع يكون البيان فيه أنه يبين المدلول المباشر للحكم إما بالقول وإما بالفعل.

    فعلى سبيل المثال: آية اللعان، بينها الرسول صلى الله عليه وسلم بالفعل لما حصل اللعان ونزلت آية اللعان، فحصلت ملاعنة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، وقضى بما قضى بياناً لهذه الآيات التي نزل فيها حكم اللعان، فهذا بيان مباشر حيث جيء بالرجل وجيء بالمرأة وطبق عليهما حكم اللعان، وقس على هذا غيره من الأحكام.

    لكن عندنا نوع آخر من تطبيق الأحكام مرتبط فيه تفاصيل كثيرة، جاء الأمر به مجملاً في القرآن، مثل في قول سبحانه وتعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [المزمل:20]، فحين نريد أن نفسرها من جهة المعنى نجد أن الله يأمر بإقامة الصلاة المعروفة، الصلاة الشرعية وإعطاء الزكاة الشرعية، لكن عندما نأتي إلى التفاصيل، نقول مثلاً: فروض الصلاة كذا، واجبات الصلاة كذا، شروط الصلاة كذا، سنن الصلاة كذا.

    أو الزكاة، الزكاة كذا وكذا ونفصل هذه التفاصيل لا شك أنها موكولة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    757083757