إسلام ويب

التحذير من الفتنللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الفتن شر كبير، إذا حلت في قوم ذهلت الألباب عن الصواب، وعميت الأبصار عن الحق، فسفكت الدماء، وسلبت الأموال، وانتهكت الأعراض، وفي التقى واللجوء إلى الله نجاة من شر الفتن ما ظهر منها وما بطن.

    1.   

    كثرة الهرج بين يدي الساعة

    الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[الحشر:18].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأحبة في الله! روى الإمام أحمد رحمه الله في المسند و ابن ماجه وغيرهما، وصححه غير واحد من أهل العلم, ومنهم العلامة الألباني في السلسلة الصحيحة، عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه أنه قال لأصحابه: ( ألا أحدثكم حديثاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثناه؟ قالوا: بلى يرحمك الله. فقال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بين يدي الساعة الهرج، فقلنا: ما الهرج يا رسول الله؟ قال: الكذب والقتل. فقالوا: أأكثر مما يقتل اليوم يا رسول الله؟! قال: إنه ليس بقتلكم المشركين، ولكنه قتل بعضكم بعضاً ). الهرج كثرة القتل للمسلمين من المسلمين.

    هذه الفتنة التي ما زال الرسول صلى الله عليه وسلم يكرر الحديث عنها: ( إنه ليس بقتلكم المشركين, ولكنه قتل بعضكم بعضاً. قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ يا رسول الله؟! قال: لا، إنه ينزع عقول أهل ذاكم الزمان حتى يحسب أحدكم أنه على شيء, وليس على شيء ). الفتنة تثور حين تزيغ العقول، وحين تقل العلوم، حين يأفل نجم العلم، ويغيب العلماء، ويغيب رأي ذي الرأي, حين تحصل هذه المحن تكثر الفتن في أمة الإسلام. والمجتمع أشد ما يكون حاجة إلى الحديث عن التحصينات ضد الفتن.

    اليوم نتكلم عن الفتن وهو موضوع حري بالطرح والمدارسة على الدوام.

    كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عن الفتن في زمن الأمن، قال حذيفة والحديث في الصحيحين: ( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير, وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ).

    حذيفة كان يسأل سؤالاً يختلف عن سؤال الآخرين, والرسول صلى الله عليه وسلم لا يمتنع من إجابته وتزويده بما يحتاجه من العلم، قال: ( يا رسول الله! كنا في جاهلية وشر, فجاء الله بهذا الخير, فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم، قال: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن )، إلى آخر الحديث.

    1.   

    من أسباب العصمة من الفتن

    حفظ اللسان

    من أسباب العصمة من الفتن: أن يربي المسلم نفسه على صون لسانه، لا تتحدث بكل شيء، لا تنقل كل ما تسمع، احذر أعراض الآخرين لاسيما الحكام، وأقولها صراحة: لاسيما الحكام المسلمين وإن كانوا أهل ظلم وجور، احفظ لسانك من أن تتعرض لذمهم، وذكر معايبهم لاسيما في وسائل التوجيه، فإن النار العظيمة مبدؤها الشرر الصغير.

    خطب أحد التابعين واسمه أبو معبد الجهني في قومه بعد مقتل عثمان رضي الله تعالى عنه، فقال في الخطبة: والله لا أعين على دم خليفة بعد عثمان أبداً. فتعجب الناس، وقالوا له بعد الخطبة: وهل أعنت على دم عثمان؟ قال: إني أرى أن ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه.

    كان أبو معبد واحداً ممن ينتقد عثمان ، وهو انتقاد بريء؛ لأن بعض الولاة في الأقاليم يتصرفون تصرفات لا يرضاها عثمان ، ولكن كلام العلماء له لون، وكلام الجهال ذو لون آخر، قال: لا أعين؛ لأن ذكر مساوئ الرجل عوناً على دمه.

    والرسول عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة من أحاديث الفتن، يذكر لنا أن من أشد شيء وقعاً زمن الفتنة اللسان, القلم, وسائل الإعلام، كم دمرت من بيوت، وهجرت من شعوب، وأزهقت من أرواح، وسلبت من أموال، وذهبت أوطان بسبب وسائل الإعلام المأجورة. قال عليه الصلاة والسلام في سنن أبي داود : ( إنها ستكون فتنة تستنظف العرب ), تهلكهم, ( تستنظف العرب, اللسان فيها أشد وقعاً من السيف ).

    سؤال الله العافية والتعوذ من الفتن

    على المسلم أن يربي نفسه قبل زمن الفتنة أن يدعو الله تعالى بالعافية، وأن يكثر من سؤال الله تعالى العافية على الدوام، فإنها من أعظم الدعوات النبوية: ( اللهم إني أسألك العافية ). وجاء في الحديث الذي رواه البزار : ( أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم أصيبوا ببلاء, فقال عليه الصلاة والسلام: أما كان هؤلاء يسألون الله العافية ).

    من وسائل الحماية من الفتنة: التعوذ بالله تعالى من الفتن، وفي أحاديث كثيرة يقول عليه الصلاة والسلام: ( تعوذوا بالله من الفتن ).

    نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون, وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    1.   

    تحرير مفهوم التطرف والإرهاب

    الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله! إننا لما نتحدث عن الفتن ولا سيما فتنة التطرف والإرهاب، وتقتيل الأنفس، واستباحة الأموال، يجب علينا أن نعتني تمام الاعتناء بضرورة تحرير هذا المفهوم.

    نحن نرى اليوم المتاجرة بهذا المفهوم لأغراض متفرقة، فمن شاءوا أن يصنفوه إرهابياً صنفوه، واليوم الرجل إرهابياً وغداً من حمائم السلام بحسب تغير الأمزجة والمصالح.

    وبالأمس القريب سمعنا بعض المجرمين يتهم البعض الآخر بأنهم يستعملون الإرهاب تهمة لتصفية خصومهم، هذا هو حال الناس اليوم، المسلم عليه أن يتلقى مفاهيمه من دينه وشرعه، نتلقى مفهوم الإرهاب وعصمة الدماء والأموال والأعراض من كتاب الله وسنة رسوله، من رسولنا العظيم الذي لا ينطق عن الهوى.

    نحن المفترض فينا أن نعلم العالم من هو الإرهابي؟ وما هو الإرهاب؟ نحن الذين ينبغي أن يصدر للعالم معنى السلام وأدواته وكيف يحقق؟

    ولكن لضعفنا أصبح يملى علينا ما يملى، وأقل القليل أن نحافظ على مفاهيمنا صحيحة، وأن نحافظ على ديننا سليماً، فليس كل إرهاب مذموم في كتاب الله، فإرهاب من يستحق الإرهاب عدل وإنصاف وحكمة, وتشريع تقتضيه المصلحة، والأمم كلها تقاتل، ولكن الإسلام لا يبيح القتال إلا بضوابطه وآدابه.

    يبيح الإسلام القتال إذا كان جهاداً منضبطاً بضوابطه الشرعية، ومن جملة ضوابطه: لا يقتل من لا يستحق القتل، ولا تقتل المرأة، فقد مر الرسول صلى الله عليه وسلم في المعركة بعد أن انتهت وجد امرأة مقتولة، قال: ( ما كانت هذه لتقاتل ).

    لا يقتل الأطفال، لا يقتل الشيوخ، لا تهدم دور العبادة، لا يقتل إلا من أمر الله تعالى بقتله، ولا يستباح شيء إلا إذا أباحه، قال الله في وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الفرقان:68]، وهذا الحق دور العلماء هو بيانه، وتعريف الناس به، وعامة الناس عليهم أن يرجعوا إلى أولي العلم كما أمرهم الله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43].

    نسأل الله بأسمائه وصفاته أن يعصم دماء المسلمين، وأن يحمي بلادنا وبلادهم برحمته, إنه هو أرحم الراحمين!

    يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا.

    اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.

    اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين يا أرحم الراحمين!

    اللهم اغفر لمن حضر هذه الجمعة ولوالديه، وافتح للموعظة قلبه وأذنيه، أنت ولي ذلك والقادر عليه.

    اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، واخذل الكفرة والمشركين، أعداءك أعداء الدين.

    اللهم انصر عبادك المجاهدين في كل مكان يا رب العالمين!

    اللهم أنج المستضعفين برحمتك يا أرحم الراحمين! اللهم اجعل لهم من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.

    اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    حقائق مهمة في فقه الفتن

    المسلمون بحاجة أن يحيا فيهم علم فقه الفتنة، وما هو موقف المسلم بل والمجتمع المسلم قبل أن تحدث الفتن؟

    هناك حقائق شرعية يجب التركيز عليها واستحضارها، وأن يربي المسلم نفسه ومن يليه عليها.

    حرمة الدماء والأموال والأعراض

    أول هذه الحقائق: حرمة الدماء والأموال والأعراض إلا بعذر رخص فيه الشرع.

    الفتن متفاوتة أيها الأحباب! متفاوتة في إثمها عند الله، ومتفاوتة في عواقبها ونتائجها على حياة الناس؛ ولهذا جاء في الصحيح: ( أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل الناس يوماً، فقال: من سمع منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث عن الفتن؟ فقال بعض الناس: نحن سمعناه، فقال: لعلكم تقصدون فتنة الرجل في أهله وجاره )، يعني: اختبار الله تعالى له في أهله وفي جاره وفي أدائه لهذه الحقوق، ( قالوا: نعم، قال: لا، ذاكم تكفره الصلاة والصيام والصدقة، ولكن من سمعه يذكر التي تموج كموج البحر؟ )، يعني: من سمع الفتنة الكبيرة التي تعم وهي مع عمومها كبيرة, (فقال حذيفة -وهو أمين سر رسول الله عالم الفتن- أنا يا أمير المؤمنين! وإن بينك وبينها باباً مغلقاً يوشك أن يكسر، قال: أكسراً لا أب لك, فلو أنه فتح لكان يعاد ).

    وكان حذيفة يقصد عمر نفسه هو الباب المغلق، فلم تحدث الفتن في هذه الأمة إلا بعد أن كسر هذا الباب، أي: بعد أن قتل رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ولقد كان عمر يتكلم عن الفتن الكبيرة التي تستباح فيها الأنفس, وتنتهك فيها الأعراض، وتستباح فيها الأموال، وقال: ( التي تموج كموج البحر ).

    هذه الفتن في الغالب ناشئة عن قتل الإنسان لأخيه، والسبب في ذلك في الغالب تكفيره واعتقاد أنه قد خرج من الملة، ومن ثم تستباح الأموال.

    والرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الذي صدرت به الخطبة يقول في آخره: ( إنه قتل بعضكم بعضاً, حتى يقتل الرجل أخاه، ويقتل جاره، ويقتل عمه، ويقتل ابن عمه )، وفي رواية البخاري في الأدب المفرد: ( حتى يقتل الرجل أخاه وأباه ) . قال راوي الحديث: وقد رأينا في زمن الأزارقة من يقتل أباه. في زمن الأزارقة زمن خروج بعض الخوارج الذين خرجوا على الأمة بالسيف يقتلون البر والفاجر، والواحد ممن أضلهم الله يعتقد كفر أبيه فيستبيح دمه ويضرب عنقه بالسيف حتى يقتل الرجل أباه.

    إنها الفتنة حين تعمي القلوب فلا تسأل بعد ذلك عن تصرفات الناس, وماذا يفعلون؟ ولذا كان الناس بحاجة ماسة إلى تذكيرهم بعصمة الدماء والأموال والأعراض، وأنها مصونة عزيزة كبيرة عند الله لا يستهان بها؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( لزوال الدنيا أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم )، زوال الدنيا كلها أهون عند الله من أن يراق دم مسلم. وجلس عليه الصلاة والسلام أمام الكعبة, وهو يشم ريحها الطيب, يحدثها ويقول لها، وفي آخر ما قال: (وإن زوالك حجراً حجراً أهون عند الله من إراقة دم امرئ مسلم ).

    الدماء شيء عظيم, الدماء شيء كبير، لا يزال الإنسان معرضاً لرحمة الله، معرضاً لمغفرة الله ما دام بعيداً عن أن يصيب دماً حراماً، كما في صحيح البخاري : ( لا يزال المرء في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً )، لا يزال في الفسحة، والفسحة كما قال الشراح: المغفرة والرحمة، ( حتى يصيب دماً حراماً فيشدد على نفسه ).

    وقعت قصة غريبة عجيبة في زمن رسول الله وهم يجاهدون في سبيل الله، كما يقول سمرة بن جندب : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً من المسلمين إلى قوم من المشركين فالتقوا، فكان رجل من المشركين إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله، قال: وإنه قصده رجل من المسلمين, كنا نحدث أنه أسامة بن زيد فقصد له، فلما رجع عليه السيف، أي: لما رفع السيف فوقه، قال الرجل: أشهد أن لا إله إلا الله. قال الراوي سمرة بن جندب: (فقتله)، قتله بعد أن قال هذه الكلمة, قال: فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرناه بالخبر حتى أخبرناه بخبر الرجل فدعاه، فقال له: أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله! إنه قتل فلاناً وفلاناً وفلاناً وسمى له نفراً من المسلمين, فلما رجع عليه السيف قال: لا إله إلا الله )، هنا فهم أسامة باجتهاد منه أنه قالها تقية فقط ليصون دمه بعد أن تمكن من قتله، ( فلما رجع عليه السيف قال: لا إله إلا الله. فقال له عليه الصلاة والسلام: فكيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله! استغفر لي. قال: كيف تفعل بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فما زاده على هذه الكلمة. يقول أسامة : حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ )، تمنيت أن هذا اليوم هو أول أيام إسلامي ليكون ماحياً للذنوب الماضية.

    حرمة لا إله إلا الله عظيمة، ولما فقه بعض الناس هذا المعنى كفوا أيديهم عن دماء المسلمين, فحماهم الله وعصمهم في زمن الفتن.

    جاء في كتب التاريخ والسنن: لما دار القتال بين مروان بن الحكم وبعض خصومه، دعا بعض الناس من التابعين ليقاتلوا معه، فكان ممن دعاهم أيمن بن خريص الأسدي رحمه الله ورضي عنه، فلما حضر المجلس قال له: إنا نحب أن تقاتل معنا، قال له: يا هذا! إن أبي وعمي شهدا بدراً، وإنهما عهدا إلي ألا أقتل من قال: لا إله إلا الله، فإن أتيتني ببراءة من النار قاتلت معك.

    فسبه وجدع له في القول وطرده من المجلس، فخرج أيمن رضي الله عنه وهو ينشد أبياتاً من الشعر, يحدث فيها عن حاله فيما لو قتل هذا المسلم البريء، يقول:

    ولست بقاتل رجلاً يصلي على سلطان آخر من قريش

    يعني: كيف أقتل رجلاً يصلي من أجل سلطان رجل آخر، وما لي ولهم.

    ولست بقاتل رجلاً يصلي على سلطان آخر من قريش

    له سلطانه وعلي إثمي معاذ الله من جهل وطيش

    أأقتل مسلماً من غير جرم فليس بنافعي ما دمت عيشي

    أي خير في العيش بعد أن تتلطخ اليد بدم امرئ حرمه الله.

    يقول عليه الصلاة والسلام: ( أول ما يقضى بين العباد يوم القيامة في الدماء ), وجاء في الحديث الآخر الذي صححه الألباني : ( أن المقتول يجيء يوم القيامة متعلقاً رأسه بإحدى يديه, متلبباً بالأخرى قاتله, حتى يأتي به إلى العرش، فيقول لرب العالمين: يا رب! إن هذا قتلني، قال عليه الصلاة والسلام: فيقول الله تعالى للقاتل: تعست، ثم يذهب به إلى النار ).

    القتل أمره عظيم، والأعراض كذلك، والأموال كذلك، لا تباح إلا إذا أباحها الله تعالى، قال عليه الصلاة والسلام: ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله. وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ).

    حرمة دم الكافر الذمي والمعاهد والمستأمن

    المسلم لا يباح قتله إلا بواحد من هذه الأسباب الثلاثة.

    والكافر كذلك لا يباح قتله إلا إذا حارب، أما إذا كان معاهداً أو مستأمناً أو ذمياً فدمه حرام؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ( من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسافة أربعين سنة )، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    حتى الكافر لا يجوز قتله إلا إذا كان محارباً، أما المستأمن الذي يدخل بلاد المسلمين بعد أن يعطى التأشيرة، بعد أن يعطى الأمان، فهذا حرام دمه، ومن قتله فقد تعرض لهذا الوعيد الشديد.

    ومثله الكافر الذمي, الكافر المواطن في بلاد المسلمين، ومثله المعاهد، الكافر الذي يعيش في بلد الكفر, ولكن بينه وبين المسلمين عهداً على ترك الحرب، فهذا دمه حرام، فلا يباح من دماء الكافرين إلا دماء المحاربين منهم، وذلك جزاء وفاقاً؛ لأنهم الذين عرضوا أنفسهم لهذا القتل، وإلا فهذا البنيان الذي بناه الله تعالى لا يجوز لأحد أن يهدمه إلا إذا رخص الله تعالى في هدمه.

    إحياء دور العلماء زمن الفتن

    أيها الأحبة! المجتمع بحاجة إلى أن تتاح القنوات أمامه، أمام التوجيه الشرعي، بحاجة إلى أن يعاد فيه إحياء العلم، بحاجة إلى أن يحيا فيه دور العلماء؛ لأنهم عصمة الأمة وأمنتها لاسيما في زمان الفتن، وإنما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثرة الفتن في آخر الزمان لأنه يكثر الجهل, ويقل العلم، فلا تسأل بعد ذلك عن أحوال الجهلة, وكيف سيعبثون ويعيثون في الأرض فساداً؟

    العلماء وأهل الرأي هم وحدهم الذين يميزون عواقب الأمور قبل أن تحدث، العلماء الربانيون أهل البصيرة الذين نور الله قلوبهم وبصرهم بدينه وشرعه، وأهل الرأي والحكمة، أهل الرزانة والسداد هم الذين يتدبرون الأمور ويدرسون عواقبها ونتائجها قبل أن تحدث، أما بعد أن تحدث المصيبة, وتحل الكارثة, ويقع ما يقع في الناس من بلاء وفتنة، حينها الجميع يعرف عواقب هذا السوء وعواقب هذا الشر.

    ولذلك قال الحسن البصري رحمه الله: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.

    بعد أن تقع وتستباح الدماء وتهدم الدور، وتشرد الناس، وتستباح الأعراض، وتذهب الأموال؛ حينها يعرف الجميع أنهم كانوا أمام شر عريض ما كانوا يعرفون عواقبه.

    أهل العلم هم الذين يعرفون هذا, فهم أمنة الناس، ينبغي للإنسان المسلم أن يلزم غرزهم، وأن يعتصم بهم، وأن يكون في ركابهم حتى يحميه الله تعالى من الجهالات:

    الحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول

    حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها ولت عجوزاً غير ذات حليل

    شمطاء تنكر لونها وتغيرت مذمومة للشم والتقبيل

    أول ما تبدأ الفتنة تأتي إلى الناس في صورة جميلة حسنة متجملة، ولكن بعد أن تقع تتكشف الحقيقة، فتبدو أنها عجوز شمطاء لا تصلح لشم ولا تقبيل. لكن من هذا الذي يستطيع أن يحذر الناس من هذه العواقب قبل وقوعها؟ إنهم أهل العلم، فلا يجوز أبداً أن يخان المجتمع بتغييب أولي العلم، لا يجوز أبداً أن يحال بين العلماء وأداء دورهم في الأمة، في تبصيرها فيما لها وما عليها.

    أما أن يستعمل العلماء وسيلة متى ما أراد الظلمة، ويحجبون متى ما أراد, فإن هذا لا يزيد المجتمع إلا فتنة، ولا يزيده إلا اشتعالاً، والبصير الناقد هو الذي ينبغي أن يقدم للناس.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756328576