إسلام ويب

تفسير سورة النمل (10)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بعث الله عز وجل نبيه صالحاً إلى ثمود، يدعوهم إلى عبادة الله وحده ونبذ ما عاشوا عليه من الشرك، والاعتبار بما أنعم الله به عليهم من متاع الدنيا، لكنهم تطيروا بنبي الله، ورفضوا شرع الله، بل وأرادوا أن يمكروا بنبي الله صالح فيقتلوه وأهله، فعاقبهم الله عز وجل جزاء مكرهم وكفرهم في الدنيا بالطاغية، وما ينتظرهم في الآخرة من العذاب أشد ألماً وأطول أمداً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ * قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ * وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:45-49].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! السر في القصص التي يقصها الله على نبينا صلى الله عليه وسلم والحكمة فيها: أن يفهم العرب والمشركون أن شركهم وكفرهم فساد في الأرض، وليس بصلاح، وأن عليهم أن يؤمنوا برسول الله، وأن يعبدوا الله تعالى ويوحدوه، ولا يشركوا به سواه.

    وهذه القصص لولا أن الله تعالى قصها على رسوله لم يقصها أحد. والمقصوص عليه هذه القصص لن يكون إلا رسولاً لله، ويستحيل أن يكون غير نبي ورسول.

    والأمم التي مضت أرسلت فيها الرسل، ووقف أهل النار في وجههم وحاربوهم، وأهلكهم الله في الدنيا، وعذابهم الأبدي الدائم في الدار الآخرة. ففي هذه القصص عبر للمعتبرين.

    وها نحن مع قصة ثمود، وقد علمنا أن ثمود قبيلة نزحوا من الجنوب من حضرموت لما أهلك الله عاداً بالريح كما علمتم، واستمرت هذه الريح سبع ليالٍ وثمانية أيام، ونجا الله تعالى هوداً عليه السلام والجماعة المؤمنة معه، فنزحوا من الجنوب إلى الشمال، فبعضهم دخلوا مكة، وبعضهم نزحوا إلى مدائن صالح التي وراءنا في شمال المدينة، وعبدوا الله، ثم مات العلماء وانتشر الشرك والباطل والفساد؛ لفقدان العلم وأهله، فبعث الله فيهم رسوله صالحاً عليه السلام، كما قال: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [النمل:45]. فثمود هذا اسم القبيلة، فأبوهم الأول ثمود، فهم قبيلة تعرف بقبيلة ثمود، ومدائن صالح موجودة قائمة إلى الآن.

    سبب إرسال الله نبيه صالحاً عليه السلام إلى ثمود

    يخبر تعالى فيقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [النمل:45]. والمهمة التي أرسله بها هي: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النمل:45]، أي: أطيعوه فيما يأمر به وينهى عنه، مع حبه تعالى وإجلاله وإكباره، مع الخوف منه والرهبة، ومع الرغبة فيما عنده، مع طاعة كاملة، وهذه هي العبادة التي قال عنها: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النمل:45]، أي: وحده، ولا تعبدوا معه غيره؛ إذ انتشر الشرك في تلك الديار، فعبدوا الله وعبدوا معه غيره، فكانوا بذلك مشركين، وهم كانوا مؤمنين بالله عز وجل، ولكن عبدوا معه ما زينت لهم الشياطين عبادته، فعبدوا مع الله غيره، فبعث إليهم رسوله صالحاً؛ ليبين لهم الطريق، وليهديهم إلى سبيل نجاتهم في الدنيا والآخرة. وها هو تعالى يمتن ويقول: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النمل:45].

    اختصام ثمود في نبوة صالح عليه السلام

    قال تعالى: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]. فقد أرسل إليهم صالحاً ليعبدوا الله وحده، فآمن به من آمن وكفر من كفر، فوجد فيهم إذاً طائفتان أو فرقتان، مؤمنة وكافرة، ثم إذا بالخصومة بينهما دائرة، أي: بين المؤمنين الموحدين وبين المشركين الكافرين، كما قال تعالى: فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]، أي: فريق أهل التوحيد وفريق أهل الشرك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة ...)

    قال صالح بأمر الله وتعليمه وهدايته: قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [النمل:46]؟ أي: لم تطالبون بالعذاب ولا تطالبون بالرحمة؟ لأنهم كانوا يتحدونه ويقولون: هات ما عندك، وأنزل ما تخوفنا وتهددنا به، وهات عذابك، فكانوا يستعجلون السيئة قبل الحسنة. وهذا خطأ. وكان المفروض أن يطالبونه بالرحمة والخير، والأمن والعافية، ولا يطالبون بالبلاء والشقاء والعذاب. فهو ينكر عليهم هذا المسلك، فقال: لِمَ [النمل:46]؟ أي: لأي سبب تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [النمل:46]؟ ‏

    الاستغفار سبب للرحمة

    قال صالح لقومه: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46]. فإنكم على مقربة من العذاب، وعلى أبواب العذاب، فهلا تستغفرون الله اليوم وتتوبون إليه! وترجعون إلى عبادته وحده! فتنجوا من عذاب الله، وإلا فإنكم على مقربة من العذاب. إذاً: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].

    والاستغفار يكون إظهاراً للتوبة وإعلان عنها، فمن قال: أستغفر الله تاب من ذنبه وعدل عنه، ورجع إلى الحق والصواب.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا اطيرنا بك وبمن معك ...)

    قال تعالى مخبراً عما أجاب به قوم صالح: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47].

    التطير في الجاهلية

    التطير هذا كان شائعاً في بلاد العرب، فكان إذا أراد الرجل أن يسافر في تجارة يخرج في الصباح وفي يده حجر، فإذا وجد طائراً في الأرض يضربه بها، فإذا طار الطائر وأخذ ذات اليمين قال: سفرنا مبارك، وإن أخذ ذات الشمال قال: سفرنا مشئوم، ويتركه. وكذلك إذا أراد أن يتزوج ولا يدري هل في هذا الزواج خير أو شر كان يطير طائراً ويزعجه حتى يطير، فإذا طار وتيامن قال: هذا الزواج فيه خير، وإذا طار ولم يتيامن قال: هذا الزواج فيه شر.

    وكان في أهل مكة عند الكعبة رجل عنده عيدان وأقداح في زنبيل، فكان يأتيه الرجل ويقول له: أريد أن أتزوج بفلانة، أو أبني بناء فانظر فيه، فيجيل تلك الأقداح في ذلك الزنبيل أو الخرقة، ثم يستخرج أحدها، فإذا خرج افعل قال: أفعل، وكانت مكتوباً عليها افعل ولا تفعل، وإذا خرج لا تفعل يقول: لا تتزوج أو لا تبني أو لا تسافر.

    هذا هو التطير الشائع في بلاد العرب، وقد استمر حتى اليوم، فالمتطيرون موجودون.

    حكم التطير

    نهى الله ورسوله عن التطير. ولم يبق ما لنا إلا فقط أن نسمع صوتاً حسناً فنقول: هذا الفأل حسن فقط، فإذا سمعت في الصباح من يقول: يا رحمن! فأبشر، وقل: هذه بشرى الخير إن شاء الله. وهذا الفأل الحسن جائر، وأما التطير فهو محرم، ولا يحل أبداً.

    وبعضهم يستعملون المسبحة، ويعدون حباتها أيضاً، وبعضهم يضع كوماً من الرمل ويعمل فيه كذا، وهذا موجود إلى الآن عند أهل الجهل والعمى وعدم البصيرة.

    تطير قوم صالح بنبيهم

    قال قوم صالح: قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ [النمل:47]، أي: من المؤمنين، إذ آمن مع صالح مؤمنون نساءً ورجالاً، ولذلك قَالُوا اطَّيَّرْنَا [النمل:47]، أي: شؤمنا كله جاء منك وممن معك. فرد عليهم صلى الله عليه وسلم بقوله: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]. فالنصيب الذي هو مكتوب لكم، والذي سينزل بكم من الله هو الذي يعلمه، ولسنا نحن الذي نجيء به، بل طائركم مرده إلى الله عز وجل، كما قال: طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]. وليس هناك فتنة أعظم من محاربة رسول الله، ومحاربة المؤمنين، والكيد والمكر لهم، والإعلان عن الكفر والشرك والعناد، وهم في رخاء وديار آمنة. فليس هناك مكر أكثر من هذا. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ [النمل:47]، أي: تفتنكم الشياطين، وتفتنكم نفوسكم، وتصرفكم عن الحق الذين تدعون إليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون)

    قال تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ [النمل:48]، أي: تسعة رجال، على رأسهم قدار بن سالف عاقر الناقة. وهم عصابة من أغنياء البلاد ومن أشرافهم، يبيتون على الخمر والفساد، والشر والفتنة، والعياذ بالله. فهم مجرمون، وكانوا تسعة أنفار، وعلى رأسهم قدار بن سالف . قال تعالى: وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ [النمل:48]، أي: يفسدون في الأرض بارتكاب الذنوب والآثام من الخمر إلى الزنا .. إلى الجرائم والموبقات. وكل معصية تحدث في الأرض هي فساد، وكل من عصى الله في الأرض قد أفسد، وعمله ذلك فساد، وكل من أطاع الله ورسوله فهو مصلح، وعمله صلاح.

    وهؤلاء كانوا يفسدون بالذنوب والآثام من الشرك إلى الزنا .. إلى الخمر .. إلى غير ذلك، ولا يصلحون أبداً أدنى شيء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ...)

    قال تعالى عن هؤلاء المفسدين والرهط: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]. ففي مجلسهم الخبيث وفي دائرتهم الخاصة وهم مجتمعون تحالفوا وتقاسموا، وأخذوا على أنفسهم أيماناً ليبيتن صالحاً في الليل، فيقتلونه ويقتلون أسرته معه. وهذا كان لما أعلمهم أن العذاب على مقربة منهم، وأن غداً ينزل بكم العذاب. فقالوا إذاً: لنبيتنه هذه الليلة، وننهي وجوده، هذا الذي يعدنا بالعذاب، وكانوا تسعة لصوص، وعلى رأسهم قدار بن سالف الذي عقر الناقة. فـ قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ [النمل:49] من ذوي أرحامه وقرابته. ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ [النمل:49] من رجال قومه: مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ [النمل:49]. وهكذا عزموا وحلفوا في الليل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون)

    قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50]. وكان ليلة الأربعاء. وكان صالح عليه السلام له مسجد تحت جبل، وكان يعبد الله عز وجل فيه، فجاء هؤلاء اللصوص واختبئوا في غار في الجبل، وأردوا قتله بالليل؛ لأن له أولياء وله أقارب لا يرضون بهذا، فلما اجتمعوا وأرادوا وهموا بقتله سقطت عليهم صخرة من الجبل فقتلتهم عن آخرهم. فهم مكروا ومكر الله بهم، فكان عاقبة مكرهم أن قتلهم الله، كما قال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم ...)

    قال تعالى: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل:51] يا رسولنا! وهي: أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51]، أي: دمرنا التسعة اللصوص هؤلاء، ثم قومهم من الغد بعد أن اصفرت وجوههم صباح الخميس، وفي صباح الجمعة أحمرت وجوههم، وفي صباح الأحد أسودت وجوههم، ثم أخذوا صباح الأحد، فقد صاح بهم جبريل صيحة فقط، فخرجت قلوبهم، كما قال تعالى: إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:53]. وقال تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ [القمر:31]. صيحة واحدة فقط. واقرءوا كذلك في سورة الحاقة: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ [الحاقة:5]. والطاغية: صيحة قوية قادرة، خلعت قلوبهم من صدورهم.

    فعاد أهلكوا بالريح الصرصار، وثمود أهلكوا بصيحة جبريل، فقد صاح فيهم بعد ثلاثة أيام وهم جالسون على ركبهم، لا أكل ولا شرب ولا غير ذلك، وفي أول يوم أصفرت وجوههم، فعرفوا أن المحنة وصلت، وثاني يوم أحمرت وجوههم، وثالث يوم أسودت وجوههم، وفي اليوم الرابع صباحاً أخذوا، وأهلكوا عن آخرهم. قال تعالى: فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:51].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا ...)

    قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً [النمل:52]. وقد وقفنا عليها ورأيناها إلى اليوم. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً [النمل:52]، أي: فارغة بِمَا ظَلَمُوا [النمل:52]، أي: بسبب ظلمهم، وهو حربهم لرسول الله، ومحاربتهم لأوليائه، وعزمهم على قتل صالح والمؤمنين، وبشركهم وكفرهم، فكل هذه من أنواع الظلم، ولذلك قال تعالى: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا [النمل:52]، أي: بسبب أنهم ظَلَمُوا [النمل:52].

    ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [النمل:52]، أي: علامة تدل على وجود الله، وعلى حلمه وحكمته، ورحمته وقدرته، وعلى أن محمداً رسوله ونبيه ومصطفاه، وعلى أن الدار الآخرة والجزاء فيها يتم كما أراد الله عز وجل؛ إذ هذا المظهر وحده يكفي دليلاً على وجود الله وعلمه وقدرته، وصدق رسوله فيما يقولوا. فأعظم آية هي هذه الديار الخالية الخربة، التي ليس فهيا أحد من أهلها. فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً [النمل:52]. والآية: العلامة الدالة على الشيء. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [النمل:52]، أي: يعلمون هذا الحادثة ويسمعون بها، أو يعلمون ويفكرون ويعرفون، وليسوا بجهال ولا ضلال.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون)

    قال تعالى: وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:53]. وهذا هو الختم الأخير، وهو قوله: وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [النمل:53]. فأي بلاء ينزل بالأرض ينجي الله تعالى منه المؤمنين المتقين من الآن وإلى يوم القيامة، وهذا بالإيمان وتقوى الله عز وجل.

    قد عرفنا أن ولاية الله لا تتم للعبد ولا يظفر بها ولا يحصل عليها إلا إذا آمن واتقى، وأما مؤمن يدعي الإيمان وهو يفجر ويفسق ويقول الباطل ويرتكب الذنوب والآثام فوالله ما هو بولي لله، وكذلك العبد الذي يتقي الظلم والشر والفساد وهو لا يؤمن والله ما هو بولي لله، بل لابد من الإيمان الصادق الذي يقبل من صاحبه، بحيث لو عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقال: حقاً أنت مؤمن.

    ثم تقوى الله عز وجل التي هي: فعل المأمورات الإلهية وترك المنهيات الإلهية، وفي القرآن الكريم من سورة يونس يقول تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وكأن سائلاً يقول: من هم أولياء الله؟ فكان الجواب: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، أي: آمنوا الإيمان الحق، واتقوا الله طول حياهم، فهم يتقونه ليل ونهاراً حتى الموت. وقد علمنا أن تقوى الله هي الخوف منه، ذلك الخوف الذي يحملك على أن تطيعه ولا تعصيه.

    ولابد لذلك معاشر المستمعين من معرفة محاب الله ومكارهه، فالذي لا يعرف محاب الله لم يمكنه أن يطيعه فيها، والذي لا يعرف مكارهه لم يمكنه أن يطيعه في تركها، فلذلك لابد من العلم بكل ما يحب الله من الاعتقادات والأقوال والأفعال، والصفات والذوات؛ من أجل أن يفعل ذلك المحبوب، ولا بد من معرفة ما يكره الله من سائر المكروهات، سواء كانت عقائد أو أقوالاً أو أفعالاً، أو صفات أو ذوات، وإلا لم تتحقق ولاية الله للعبد، المشترط فيها الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]. هؤلاء هم الذين نجوا، وباقي الأمة كلهم هلكوا. فنجا الله المؤمنين المتقين، وعلى رأسهم صالح ومن معه، ونزحوا إلى الشام قرب فلسطين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    قال: [ هداية الآيات: من هداية هذه الآيات:

    أولاً: تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ] ففيها تقرير النبوة المحمدية، وهذه الآيات تدل دلالة قطعية على أن محمداً رسول الله، ويا ويل المكذبين والكافرين! إذ كيف ينزل هذا القرآن على أحد ولا يكون نبياً ولا رسولاً؟ يا ويل اليهود والنصارى المعرضين المستكبرين! فتكفي هذه الآيات في الدلالة على أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا لما قص هذه القصص التي بينه وبينها أكثر من ثلاثة آلاف سنة.

    [ ثانياً: تقرير حقيقة أن الصراع بين الحق والباطل لا ينتهي إلا بانتهاء الباطل ] وهذه حقيقة باقية إلى يوم القيامة، وهي: أن الصراع والحرب دائرة دائماً بين الحق والباطل إلى الأبد، ولن ينتهي الصراع بين المؤمنين الصادقين وبين الكافرين والفاسقين، بل الصراع مستمر دائماً، وقد سمعنا الآن فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ [النمل:45]. وكان الرسول في مكة والآيات تنزل، والمؤمنون مؤمنون، والكافرون مشركون، وإلى اليوم أيضاً هذا، فالصراع دائم ما دام الحق موجوداً، فمن رفضه فهو عدو للحق، وهو عدو لأصحابه. ولا ينتهي الصراع إلا إذا انتهى الباطل، فالصراع بين صالح وثمود انتهى بذهاب الباطل وهلاك أهله، وبقي صالح والمؤمنون. فلن ينتهي الصراع بين الحق والباطل إلا إذا انتصر الحق وبطل الباطل.

    [ ثالثاً: حرمة التشاؤم والتيامن ] والتطير [ كذلك، ولم يجز الشارع إلا التفاؤل لا غير ] ولا يحل لمؤمن ولا لمؤمنة أن يقول: يا شؤمي! لونك كذا .. حياتك كذا، ولا أن يطير طائر، ولا نسمع صوت حمامة أو غراب ويقول كذا. فهذا كله باطل، وليس عندنا إلا الفأل الحسن فقط، فإذا خرجت في الصباح وسمعت من يقول: يا الله! .. يا رحمن! فأبشر، هذا الفأل الحسن. ولهذا نحن مأمورون بأن ننطق دائماً بما فيه خير، وألا ننطق بالعبارات القاسية التي فيها شؤم.

    [ رابعاً: العمل بمعاصي الله تعالى هو الفساد في الأرض، والعمل بطاعته هو الإصلاح في الأرض ] والإصلاح في الأرض هو عبادة الله فيها، والفساد في الأرض هو ترك عبادة الله تعالى في الأرض؛ لأن العبادة عبارة عن شريعة والتزام الحلال والحرام، وأن الواجب كذا. فإذا انتظم هذا النظام بين الناس سادوا وكملوا، وإذا فسقوا هبطوا، وإذا تركوا الصلاح نزلوا وفسدوا. فأي قرية أو جماعة أو أسرة يعملون بعبادة الله فهم صالحون، وأيما أسرة أو جماعة يعملون بمعصية الله فهم فاسدون، فالفساد في الأرض والصلاح بعبادة الله وتركها.

    [ خامساً: تقرير أن المشركين يؤمنون بالله، ولذا يحلفون به، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام لشركهم في عبادة الله تعالى غيره من مخلوقاته ] فقد قال تعالى عنهم: و قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ [النمل:49]. فحلفوا بالله وهم مشركون، وهذه الظاهرة موجودة في العرب كلهم، فقد قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]. ولئن سألهم من خلق السماوات ليقولن الله.

    وقد ذكرت لكم غير ما مرة: أن هذه البلشفية والعلمانية والإلحاد نتج عن أصابع بني عمنا اليهود من زمان قريب، وقبل ذلك ما كان يوجد على الأرض من ينكر وجود الله، سواء كان مجوسياً يعبد الشمس أو يعبد النار، أو يعبد فلاناً، بل كانوا كلهم مؤمنون بوجود الله عز وجل، ولكن يعبدون معه ما زينت لهم الشياطين من أصنام أو ناس أو رجال. فهذه الفكرة حديثة عهد، وهي والله من صنع اليهود، وقد وضعوا قاعدة: لا إله والحياة مادة. ثم انهزمت الشيوعية وانكسرت والحمد لله. اللهم زدها انكساراً. ثم جاء العلمانيون يقولون: لا تقل: قال الله، ولا قال رسوله، بل قل العلم فقط.

    [ سادساً: تقرير قاعدة: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] ] وهذه قاعدة ثابتة إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [فاطر:43] من مكر وخدع واختال، فمن أراد أن يؤذي المؤمنين فوالله لن يعود أذاه إلا عليه. والمكر هو: الاختيال والعياذ بالله، وتدبير الشر للإنسان في الخفاء. فصاحب هذا لن يكون إلا هو الذي يهلك، كما هلك قوم صالح.

    وأما المكر الحسن فلا بأس به، والله يمكر مكراً حسناً. والمكر السيئ هو: أن تبيت الغش والخديعة لتؤذي إنساناً أو أناساً. هذا هو المكر السيئ. وأما أن تبيت وتعمل خفاء لتصلح الناس فهذا مكر صالح، وليس مكراً سيئاً. والمكر الصالح لا بأس به، فهو ينتفع به. والمكر معناه: التبييت بالليل في الخفاء، وتدبر الأشياء في حالة من الخفاء والسرية، ثم يفعل بعد ذلك.

    [ سابعاً: تقرير أن ديار الظالمين مآلها الخراب، فالظلم يذر الديار بلاقع ] فأي أمة أو رجل أو حكومة أو إنسان يظلم فعاقبة الظلم والله الخراب والدمار، وهذه سنة لا تتبدل أبداً، وحيثما كان الظلم. ومن أعظم الظلم وأعلاه الشرك بالله عز وجل، وظلم المؤمنين في أموالهم وأنفسهم وأعراضهم هذا الظلم يذر الديار بلاقع، أي: خراباً.

    [ ثامنا ] وأخيراً: [ تقرير أن الإيمان والتقوى هما سبب النجاة؛ لأن ولاية الله للعبد تتم بهما ] وهذا حقيقة. وقد ختمت القصة بهذا، وهو الإيمان والتقوى يا عباد الله! ويا إماء الله! فحققوا إيمانكم، واعرضوه على كتاب الله، فإن صدقه ووافق عليه فاحمدا الله، وإن رأيتم فيه نقصاً فأكملوه وأتموه، ثم اتقوا الله، وخافوا عذابه وسخطه، ولا تخرجوا عن طاعته لا بالليل ولا بالنهار، ولا تتركوا واجباً أوجبه، ولا تفعلوا محرماً حرمه، ولا حتى نظرة بعين، ولا بالنطق بكلمة سوء ولا غير ذلك، وحافظوا على تقوى الله؛ حتى تحفظ لكم تلك الولاية بين الله وبينكم. ومن كان ولياً لله فوالله لا خوف عليه ولا حزن، فقد قال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]. وهم الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [يونس:63-64] بالرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو ترى له، وَفِي الآخِرَةِ [يونس:64] أيضاً، والملائكة تستقبلهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]. اللهم اجعلنا منهم.

    والبارحة ذكرنا أن هناك ثلاثة أشياء صاحبها لا يقبل له عمل، ولا ترفع صلاته فوق رأسه مقدار شبر، الأولى: من أم قوماً وهم له كارهون، فهذا لا ترفع صلاته فوق رأسه مقدار شبر.

    ثانياً: المرأة التي تبيت وزوجها غضبان عليها.

    والثالثة: الأخوان المتخاصمان حتى يصطلحا.

    زادنا الله علماً، ونفعنا بما علمنا. اللهم آمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755950150