إسلام ويب

أهوال يوم القيامةللشيخ : أحمد فريد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يوم القيامة يوم شديد الأهوال عظيم الأحوال، ففيه الحشر والميزان والصراط والحساب والعرض، فعلى المرء المسلم أن يستعد لذلك اليوم بالأعمال الصالحة، لينجو من كربه، فإن كربه عظيمة، والسعيد من وقاه الله شر ذلك اليوم ولقاه نضرة وسروراً.

    1.   

    استحضار السلف أمور الآخرة واجتهادهم في عبادة الله عز وجل

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أما بعد:

    فما زلنا -عباد الله- في هذه الرحلة العلوية السماوية، الرحلة إلى اليوم الآخر، وقد تكلمنا في الخطبة قبل السابقة عن الموت، وفي السابقة عن حياة البرزخ، ونحن نتكلم في هذه الخطبة -إن شاء الله تعالى- عن يوم القيامة.

    لقد طغى عالم الشهادة على قلوبنا وعلى حواسنا، وعلى جوارحنا، وغابت عنا -كثيراً- أمور الآخرة؛ وكما غابت عن أعيننا وعن حواسنا غابت كذلك عن قلوبنا، ولكن السلف رضي الله عنهم كانوا يستحضرون دائماً أمر الآخرة.

    صلى ابن أبي أوفى بالناس الفجر بسورة المدثر، فلما بلغ قوله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10] أخذته شهقة فمات.

    فلعله استحضر أمور الآخرة، واستحضر القيامة في هذه اللحظات، فكانوا يقرءون القرآن بقلوب حاضرة، وكانوا عندما يذكرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالآخرة كأنهم يرون ويشاهدون أمور الآخرة.

    كان مسروق رضي الله عنه يكثر من العبادة، وكانت عائشة تقول له: إنك من أولادي، وإنك من أحب أولادي إلي، وسمى ابنته عائشة ، وكان لا يعصي لها أمراً؛ تعظيماً لأمه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فعاتبته ابنته عائشة يوماً على أنه يشدد على نفسه في العبادة، فقال لها: ما أردت به؟ قالت: الرفق، قال: إنما أردت الرفق بنفسي في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.

    فكان السلف يستحضرون أمور الآخرة، وكان يجتهدون في عبادة الله عز وجل، وكان في التابعين ثلاثون تابعياً لو قيل لأحدهم: القيامة غداً، ما استطاع أن يزيد شيئاً، فكانوا يبذلون غاية جهدهم في الطاعة والعبادة؛ لأنهم كانوا يستحضرون أمور الآخرة، لا تغيب عن قلوبهم، ولا تغيب عن حواسهم.

    1.   

    التفكر في أهوال يوم القيامة

    تعالوا -عباد الله- نعيش هذه الساعة كأننا في يوم القيامة.

    تعالوا نعيش يوم القيامة في هذه الساعة؛ لعلنا نتذكر أمور الآخرة، ولعل النفوس تقلع عن غيها، وتثوب إلى رشدها، وتعود إلى طاعة ربها عز وجل، فكما أن للموت شدة في أحواله وسكراته، وخطراً في خوف العاقبة، كذلك الخطر في مقاساة ظلمة القبر وديدانه، ثم فتنة منكر ونكير وسؤالهما، ثم عظمة القبر وخطره إن كان مغضوباً عليه، وأعظم من ذلك كله: الأهوال التي بين يديه من نفخ الصور، والبعث يوم النشور، والسؤال على القليل والكثير، ونصب الميزان لمعرفة المقادير.

    فهذه أحوال وأهوال لابد لك من معرفتها، ثم الإيمان بها على سبيل الجزم والتصديق، ثم تطويل الفكر في ذلك؛ لتنبعث من قلبك دواعي الاستعداد لها.

    وأكثر الناس لم يدخل الإيمان باليوم الآخر صميم قلوبهم، ولم يتمكن من سويداء أفئدتهم، ويدل على ذلك شدة تشميرهم لحر الصيف وبرد الشتاء، وتهاونهم بحر جهنم وزمهريرها مع ما فيها من المصاعب والأهوال، بل إذا سئلوا عن اليوم الآخر نطقت به ألسنتهم ثم غفلت عنه قلوبهم.

    ومن أخبر بأن ما لديه من الطعام مسموم فقال لصاحبه الذي أخبره: صدقت، ثم مد يده لتناوله كان مصدقاً بلسانه مكذباً بعمله، وتكذيب العمل أبلغ من تكذيب اللسان.

    فمثل نفسك وقد بعثت من قبرك مبهوتاً من شدة الصاعقة، شاخص البصر نحو النداء، وقد ثار الخلق ثورة واحدة من القبور التي كان فيها بلاؤهم، وقد أزعجهم الرعب مضافاً إلى ما كان عندهم من الهموم والغموم، وشدة الانتظار لعاقبة الأمر، قال الله عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68].

    وتفكر في الخلائق وذلهم، وانكسارهم واستكانتهم؛ انتظاراً لما يقضى عليهم من سعادة أو شقاوة، وأنت فيما بينهم منكسر كانكسارهم، متحير كتحيرهم، فكيف حالك وحال قلبك هنالك وقد بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، واشتبك الناس وهم حفاة عراة مشاة، وازدحموا في الموقف شاخصة أبصارهم، منكسرة قلوبهم؟ فكيف ترى حياءك _يا عبد الله- وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك، وأياديه ومساويك؟!

    وتفكر في طول هذا اليوم وشدة الانتظار فيه، والخجل والحياء من الافتضاح عند العرض على الجبار تعالى، وأنت عار مكشوف متحير ذليل مذعور، منتظر ما يجري عليك القضاء بالسعادة أو الشقاوة، فما أعظم هذه الحال! فإنها عظيمة، واستعد لهذا اليوم العظيم شأنه، القاهر سلطانه، القريب عذابه، يوم ترى السماء فيه قد انفطرت، والنجوم الزواهر من هوله قد انكدرت، والجبال قد سيرت، والعشار قد عطلت، والوحوش قد حشرت، والنفوس إلى الأبدان قد زوجت.

    1.   

    أسماء يوم القيامة وغفلة الناس عنه

    وقد ذكر الله عز وجل في كتابه يوم القيامة، وأكثر من أساميه؛ لتقف بكثرة أساميه على كثرة معانيه، فسماه: يوم القيامة، وسماه: الواقعة، وسماه: القارعة، وسماه: الزلزلة، وسماه: الحاقة، وسماه: الطامة، وسماه: الصاخة، وسماه: يوم التلاق، وسماه: يوم التناد، وسماه: يوم الحشر، وسماه: يوم النشور، وسماه: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    فالويل كل الويل للغافلين، يرسل الله عز وجل إلينا سيد المرسلين، وينزل عليه الكتاب المبين، ويعرفنا بالنعوت من صفات يوم الدين، ثم يعرفنا غفلتنا فيقول: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [الأنبياء:1-2].

    ثم يعرفنا قرب القيامة فيقول: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، ويقول: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا [المعارج:6-7]، ويقول: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [الأحزاب:63].

    1.   

    الحشر

    تعالوا نلقي نظرة على أرض المحشر، ثم تعالوا لنرى كيف يحشر الناس إلى ربهم عز وجل يوم القيامة، ثم تعالوا نرى صفوف الحساب، وتعالوا نرى تطاير الصحف؛ فآخذ بيمينه وآخذ بشماله، تعالوا نرى هذا الميزان العجيب، ميزان الحق الذي توزن فيه أعمال العباد، بل يوزن فيه العباد أنفسهم يوم القيامة، ثم تعالوا نلقي نظرة على الصراط الذي يضرب على ظهر جهنم بعد أن عانوا وكابدوا أمور الآخرة وأهوالها، وكيف يمرون على هذا الصراط؟ وكيف ينجو من ينجو بطاعة الله عز وجل، وكيف يكردس المجرم والفاسق والكافر في نار جهنم؟!

    تعالوا إلى أحوال الآخرة وأهوالها، لعلنا نغيب عن شهوات الدنيا وعن زينتها وعن زخرفها، ولعلنا نعيش بقلوبنا في الآخرة، ونستحضر أمور الآخرة؛ لعلنا نسعى للقاء الله عز وجل، ونستعد للقاء الله عز وجل.

    أرض المحشر

    أرض المحشر أرض بسيطة مبسوطة ليس فيها مرتفع ولا منخفض، قال الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا [طه:105-107].

    وقال عز وجل: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم:48].

    قال ابن عباس : يزاد فيها وينقص، وتذهب جبالها وأشجارها وأوديتها وما فيها، وتمد مد الأديم العكاظي، أرض بيضاء مثل الفضة، لم يسفك عليها دم، ولم يعمل عليها خطيئة.

    قال النبي صلى الله وعليه وآله وسلم: (يحشر الناس على أرض بيضاء عفراء كقرص نقي -أي: نقي عن النخالة والقشرة- ليس فيها معلم لأحد)، ليس فيها برج ولا مرتفع ولا منخفض، بل الكل فيها ظاهر مكشوف الرجال والنساء، قالت عائشة رضي الله عنها: (الرجال مع النساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أعظم من أن يهمهم ذلك).

    إنه يوم عظيم عباد الله!

    1.   

    كيفية حشر الناس إلى أرض المحشر

    كيف يحشر الناس إلى هذه الأرض.. أرض المحشر؟

    يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يحشر الناس على ثلاث طرائق: راغبين راهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، ويحشر بقيتهم النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا).

    نار تخرج من قعر عدن، تسوق الناس إلى أرض المحشر.

    وأرض المحشر قيل: هي فلسطين، هذه النار تسوق الناس تقيم معهم وتبيت معهم وتصبح معهم، تسوقهم إلى أرض المحشر.

    عن قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: (كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟!).

    قال قتادة : بلى وعزة ربنا؛ وذلك قول الله عز وجل: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].

    فالكافر يسير على وجهه، ويحشر على وجهه، ويعاني بوجهه ما على أرض المحشر.

    ويقول عز وجل: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا * وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:85-86].

    قال ابن عباس : (وفداً) أي: ركباناً. أي: أن أهل التقوى لا يحشرون على أقدامهم؛ لأن العرب تطلق الوفد على الذين يأتون على الرواحل.

    ويقول علي رضي الله عنه: لا يحشرون والله! على أقدامهم، ولكن على نوق رحالها الذهب، ونجائب سرجها يواقيت إن هموا بها سارت، وإن هموا بها طارت.

    قال عز وجل: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا [مريم:86] أي: عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش، ولكنهم لا يردون إلى ماء، بل إلى جهنم وحميمها ومهلها وجحيمها، كما ورد في حديث الشفاعة الطويل: (يقال لهم: ما تشتهون؟ فيقولون: عطشنا، فيشار لهم إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فيقال لهم: ألا تردون؟) فسبحان الله وبحمد الله أكبر، كانوا في الدنيا على السواء يأكلون ويشربون، ويذهبون ويجيئون فلما جاءهم الموت عرف كل منهم سبيله، واتضح له مقيله، فلما صاروا في البرزخ خلا كل منهم بعمله، وأفضى إلى ما قدم قبل أجله، فبينما هم كذلك إذ صرخ فيهم الصارخ، وصاح فيهم الصائح، فخرجوا من الأجداث مسرعين، وإلى الداعي مهطعين، هذا على النجائب، وهذا على الركائب، وهذا على قدميه، وهذا على وجهه، هؤلاء في النور ينظرون، وأولئك في ظلمات لا يبصرون، هؤلاء حلو أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً، وأولئك غلتهم الزبانية بالسلاسل، وعلتهم بالمقامع، يضربون بطوناً منهم وظهوراً، هؤلاء عليهم حلل السندس والإستبرق وسائر الألوان، وأولئك مقرنين في الأصفاد، سرابيلهم من قطران، هؤلاء يقول لهم ربهم: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، وأولئك يقول لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، ويقول: وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

    لقد ظهر الفرقان، وامتاز الفريقان، لقد صار الغيب شهادة، والمستور مكشوفاً، والمخبأ ظاهراً: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28]، أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].

    كم صائم في الدنيا عظم يومئذ جوعه! كم كاسٍ في الدنيا طال يومئذ عريه! كم شارب في الدنيا اشتد يومئذ ظمؤه! كم ناعم في الدنيا حق يومئذ بؤسه! تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [القصص:83-84].

    1.   

    أهوال الآخرة وأحوالها

    تعالوا نستعرض أهوال الآخرة وأحوالها، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2].

    الناس يترنحون من أهوال الآخرة كأنهم سكارى، وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.

    وقال عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:13-32].

    ثم يذكر الله عز وجل حيثيات وسبب هذا الحكم، فقال عز وجل: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ [الحاقة:33-37].

    ويقول عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:42-43]، فالله عز وجل يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، فالله عز وجل يمهل ولا يهمل، قال عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم:42] أي: تتشتت فيه الأبصار، مُهْطِعِينَ [إبراهيم:43] أي: مسرعين، مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ [إبراهيم:43] قال الحسن : وجوه الناس يومئذ إلى السماء؛ من شدة ما نزل بهم، ومن عظم هذا اليوم لا تتحرك رءوسهم، فقد تسمرت في اتجاه السماء، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ [إبراهيم:43] لا تطرف أعينهم؛ لأنهم منتظرون في كل لحظة مصيبة، وفي كل دقيقة داهية، لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ [إبراهيم:43]، قال قتادة : خرجت قلوبهم من أجوافهم فتعلقت في حناجرهم؛ كما قال عز وجل: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [غافر:18].

    وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ؛ أي: لا شيء فيها.

    وقال سعيد بن جبير : أرواحهم تمور وتتردد في أجوافهم ليس لها مكان تستقر فيه.

    وقال عز وجل: وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ [فاطر:18]، قال عكرمة : إن الرجل ليتعلق بولده يوم القيامة، فيقول: أي والد كنت لك؟ فيثني خيراً. فيقول: إني قد احتجت إلى حسنة واحدة من حسناتك؛ لعلي أنجو بها مما ترى، فيقول: يا أبت! ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف، ثم يتعلق بزوجته يقول: أي فلانة! أي زوج كنت لك؟ فتثني خيراً، فيقول: إني قد احتجت إلى حسنة واحدة من حسناتك؛ لعلي أنجو بها مما ترين، فتقول: ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف.

    فهذا الرجل احتاج إلى حسنة واحدة؛ حتى يثقل ميزان الحسنات على ميزان السيئات، وحتى يدخل جنة الله عز وجل وينجو من النار ومن اللفحات، ولكن من يعطيه هذه الحسنة؟ ولده الذي رباه.. ولده الذي كان يؤثره على نفسه، يبخل عليه بهذه الحسنة، قال عز وجل: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].

    يبخل عليه ولده، وتبخل عليه زوجته التي كان يحسن إليها وينفق عليها، تبخل عليه بهذه الحسنة، لذا يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) أي: أن العبد قد يكون محتاجاً يوم القيامة إلى أن يتصدق بشق تمرة؛ حتى ينجو من عذاب الله، وحتى يفوز بجنة الله عز وجل.

    إنها أهوال عظيمة غابت عن قلوبنا، وغابت عن حساباتنا، وصارت الحسابات كلها على الدنيا، والمولاة والمعادة على الدنيا، والفرح والأسف على الدنيا! فأين الأسف على القلوب التي قد فرطت؟ وأين الأسف على العمر الذي قد مضى بغير طاعة الله عز وجل؟

    قال عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58]، الفرح يكون بكتاب الله وبطاعة الله عز وجل، وبالتقرب إلى الله عز وجل، وبالقيام بالقرآن، وبالصيام، وبأن يوفق العبد إلى طاعة ربه عز وجل.

    وبينما هم في كرب القيامة وعرقها وشدة عظائمها إذ نزلت من السماء ملائكة بأجسام عظام، فيقفون صفاً صفاً محدقين بالخلائق من الجوانب، فعند ذلك ترتعد الفرائص، وتضطرب الجوارح، وتبهت العقول، ويتمنى أقوام أن يذهب بهم إلى النار، ولا تعرض قبائح أعمالهم على الجبار تعالى، ولا يكشف سترهم على الخلائق.

    وقبل الابتداء بالسؤال يظهر نور العرش، وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا [الزمر:69]، وأيقن قلب كل عبد بإقبال الجبار تعالى لمساءلة العباد، وظن كل واحد أنه ما يراه أحد سواه، وأنه المقصود بالأخذ والسؤال دون من عداه، فيبدأ سبحانه بالأنبياء: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا [المائدة:109].

    فيا لشدة يوم تذهل فيه عقول الأنبياء من شدة الهيبة! ثم ينادون واحداً بعد واحد، فكيف ترى حياءك وخجلك، وهو يعد عليك إنعامه ومعاصيك، وأياديه ومساويك؟ فإن أنكرت شهدت عليك جوارحك، وأعطيت كتابك الذي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.

    فكم من فاحشة نسيتها ستذكرها! وكم من طاعة غفلت عن آفاتها سيكشف لك عن مساوئها! فليت شعري بأي قدم تقف وبأي لسان تجيب، وبأي قلب تعقل ما تقول؟ وفي الخبر: (لا تزول قدم ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه).

    يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (يقوم الناس يوم القيامة لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه).

    انظروا كم الشمس بعيدة عنا! ومع ذلك نعاني من حرها، ونتصبب عرقاً من حرها، وقد ورد في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس من العباد يوم القيامة حتى تكون على قدر ميل أو ميلين).

    فالشمس تبعد عنا بثلاثة وتسعين مليون ميل، ونعاني من حرها، فكيف بها إذا اقتربت منا على قدر ميل أو ميلين؟!

    يقول أحد الرواة: فلا أدري أيقصد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الميل الذي يكون في المكحلة وتكتحل به العين، أم الميل الذي هو المسافة، قال: (فتكون على قدر ميل أو ميلين فتصهرهم الشمس، فيكونون في العرق على قدر أعمالهم، فمنهم من يبلغ العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه) أي: معقد الإزار، أو عظام الحوض (ومنهم من يلجمه إلجاماً) أي: يصل إلى فيه فيصير له كاللجام.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    صفة الحساب يوم القيامة

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    أهوال القيامة وأحوالها كثيرة عظيمة تشيب لها الولدان.

    فهذه صفة الحساب: عن أنس رضي الله عنه قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك فقلنا: ما الذي أضحكك يا رسول الله؟! قال: من مخاصمة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب! ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول: فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول الله عز وجل: كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء:14] وبالكرام الكاتبين شهوداً، فيختم الله عز وجل على فيه -أي: على فمه- ثم يقال لأركانه: انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكن وسحقاً، فعنكن كنت أناضل).

    يقول الله عز وجل: وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ [فصلت:19-24].

    وقال عز وجل: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].

    فالعبد تشهد عليه جوارحه كما تشهد الأرض التي عمل عليها بطاعة الله عز وجل أو بمعصية الله، تشهد عليه؛ يستنطقها الله عز وجل يوم القيامة فتنطق، فمن عمل عليها بطاعة الله عز وجل تشهد له بالخير، كما أنها تنطق على من عمل عليها بمعصية الله عز وجل فتشهد عليه بالمعصية.

    فينبغي على العبد أن يحذر من جوارحه، فإنها تستنطق يوم القيامة، وتشهد عليه، ويحذر من كل شيء وإن كان جماداً فإنه سيشهد عليه بأعماله يوم القيامة.

    1.   

    الميزان

    أحوال القيامة كثيرة وعظيمة، فتعالوا إلى ميزان الحق، يقول الله عز وجل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، وقال عز وجل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:8-9].

    فهذا الميزان ميزان عجيب له كفتان، هذا الميزان توزن فيه الأعمال، وتوزن فيه صحائف الأعمال، ويوزن فيه ثواب الأعمال، بل العمال أنفسهم يوزنون في هذا الميزان، يوضع العبد منهم في هذا الميزان يوم القيامة، وتوزن في ميزان الحق يوم القيامة الأعمال أنفسها، كما قال عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    فالأعمال الصالحة تجسد، ويكون لها وزن ومقدار بحسب قيمتها عند الله عز وجل، كما أن المعاصي كذلك تجسد، وتكون أعياناً، ويكون لها وزن يوم القيامة، قال عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

    وهكذا ما في قلوب العباد من حب وبغض، فمن يحب أهل الإيمان وأهل الالتزام ومن يحب الأنبياء والعلماء والدعاة والملتزمين بشرع الله عز وجل فإن هذا يجسد ويوضع في ميزان الحق يوم القيامة، ومن يبغض أهل الإيمان ويحب أهل الكفر والفسوق والعصيان فإن ذلك يجسد كذلك، ويوضع في كفة السيئات في ميزان الحق يوم القيامة.

    ويوضع في ميزان الحق كذلك صحائف الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله سيستخلص رجلاً من أمتي على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيقال: احضر وزنك، فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فتوضع هذه السجلات في كفه، ويقال له: ألك حسنة؟ فيقول: لا، فتخرج له بطاقة عليها لا إله إلا الله، فتوضع هذه البطاقة في كفه والسجلات في كفه، فتطيش السجلات وتثقل البطاقة).

    هذا رجل حقق التوحيد، ولكنه وقع في ذنوب دون الشرك، فنجاه الله عز وجل بالتوحيد.

    ويوضع كذلك في ميزان الحق يوم القيامة ثواب الأعمال، كما روى الترمذي عن النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان، أو كأنهما ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما).

    يقول الترمذي : أي: يجيء ثواب عمله، أي: أن هذه الأمثال الثلاثة معناها مجيء ثواب عمله.

    ويوضع في ميزان الحق يوم القيامة العباد أنفسهم، كما قال عز وجل: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة).

    فانظروا -عباد الله- إلى هذا الميزان العجيب!

    1.   

    الصراط

    وبعد هذه الأحوال والأهوال من نجا من كل ذلك فإن أمامه عقبة الصراط.

    روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (يضرب الصراط على متن جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيزها، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذٍ: اللهم سلم سلم).

    الرسل الذين اصطفاهم الله عز وجل، والذين رباهم على عينه واصطنعهم لنفسه، والذين قاموا بما أرسلهم الله عز وجل به حق القيام، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل من هول هذا الموقف ومن خطر هذا الموقف، ومع هذا الرسل أنفسهم يقولون: اللهم سلم سلم.

    وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان، قال صلى الله عليه وسلم: (هل رأيتم السعدان؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، تخطف الناس بأعمالهم)، أي: هذه خطاطيف تخرج من النار، وتتخطف الناس من ظهر الصراط بأعمالهم.

    فالذي يقع في ذنب من الذنوب ألا يخشى أن يخطف بهذا الذنب من على الصراط فيكردس في نار جهنم؟ والعياذ بالله!

    فهذه الكلاليب تختطف الناس بأعمالهم، فمنهم الموبق، ومنهم المكردس، ومنهم الناجي.

    وفي الصحيح كذلك من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم يؤتى بالجسر فيوضع على ظهر جهنم، قالوا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: مدحضة مزلة عليه خطاطيف وكلاليب تكون بنجد فيها شويكة يقال لها: السعدان، تخطف الناس بأعمالهم، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكردس في نار جهنم، ويكون آخرهم يتلبط على بطنه، وتعلق يد فيجرها، وتعلق رجل فيجرها، فإذا نجا من الصراط قال: رب لم أبطأت بي؟ فيقول: إني لم أبطئ بك، ولكن أبطأ بك عملك).

    ويقول أبو سعيد رضي الله عنه: بلغنا أن الصراط أدق من الشعر، وأحد من السيف.

    فهذا صحابي يقول: بلغنا، والذي بلغه هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    والمسلم يمر على الصراط بحسب الطاقة التي اكتسبها في الدنيا من الإيمان والعمل الصالح، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كشد الرجل، أي: إسراع الرجل في المشي، ومنهم من يتلبط على بطنه بحسب إيمانه، وبحسب عمله الصالح.

    اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى عن الناس.

    اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا.. ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك فينا ولا يرحمنا.

    اللهم إنا نسألك أن تقضي ديون المسلمين.. اللهم فك أسرى المسلمين.. اللهم اشف مرضى المسلمين.. اللهم رد غائب المسلمين.. اللهم ارحم موتى المسلمين.

    اللهم إنا نسألك أن تعز الإسلام والمسلمين، وأن تذل الكفر والكافرين.. اللهم من أرادنا والإسلام والمسلمين بعز فاجعل عز الإسلام على يديه، ومن أرادنا والإسلام والمسلمين بكيد فكده يا رب العالمين! ورد كيده إلى نحره، واجعل تدبيره في تدميره، واجعل الدائرة تدور عليه.

    اللهم هيئ لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.

    اللهم ارفع عن بلاد المسلمين الغلاء والوباء والربا والزنا، وردهم إليك رداً جميلاً.

    وصلى الله وسلم وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755959164