إسلام ويب

تفسير سورة المائدة [109-118]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل...)

    يقول الله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:109]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: اذكر (يوم يجمع الله الرسل) وهو يوم القيامة، ( فيقول ) لهم توبيخاً لقومهم، ( ماذا أجبتم ) يعني: ما الذي أجبتم به حين دعوتم إلى التوحيد، ( قالوا لا علم لنا ) أي: بذلك، ( إلا ما علمتنا )، ( إنك أنت علام الغيوب ) أي: ما غاب عن العباد، وذهب عنهم علمه؛ لشدة هول يوم القيامة وفزعهم. ثم يشهدون على أممهم عندما يسكنون ويطمئنون، فالرسل من شدة هول يوم القيامة ودهشتهم من فظائع ذلك اليوم يسألهم الله سبحانه وتعالى: ( ماذا أجبتم؟ ) فيقولون: ( لا علم لنا ) وذلك بسبب دهشتهم وذهولهم من أهوال يوم القيامة. واعترض بعض الناس على هذا التفسير؛ لأن الأنبياء عليهم السلام في مأمن من الفزع الأكبر ( لا يحزنهم الفزع الأكبر ) فكيف يفزعون؟! والجواب: أن هذا إنما يكون في النهاية، أما في بداية الحشر والبعث والنشور وفي أول الأمر فإنهم تكون دعواهم حينئذٍ: اللهم! سلم سلم، أو نفسي نفسي! في شدة الهول ودهشته، فيبادرون لشدة ما هم فيه فيقولون: لا علم لنا. لأنهم ذهلوا عن جواب هذا السؤال، ثم عندما يهدءون ويسكنون يأتون فيشهدون على أممهم. قال تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ [المائدة:110]. أي: اذكر ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك ) أي: اشكرها، وإن كان في الحقيقة أن هذا التفسير قد يكون فيه نظر؛ لأنه إذا كان المقصود بيوم يجمع الله الرسل يوم القيامة فالشكر كعبادة تكليفية لا محل لها في الآخرة؛ لأن الآخرة هي دار الجزاء، ويوم القيامة هو يوم الجزاء، فلا يقع فيه تكليف، هذا هو الأصل، فيبعد أن يفسر قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بمعنى: اشكرها. وقوله: (إِذْ أَيَّدتُّكَ)، أي: قويتك. من الأيد، وهي القوة (بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار. وقوله: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، ( تكلم ) حال من الكاف في: (أيدتك)، وقوله: ( في المهد ) أي: طفلاً، ( وكهلاً ) يعني: وتكلمهم كهلاً، وهذا يفيد نزوله قبل الساعة؛ لأنه رفع قبل الكهولة، وهذا صحيح، فبعض المفسرين استنبطوا من قوله تعالى: ( تكلم الناس في المهد وكهلاً ) أنه كما كان تكليمه إياهم في المهد آية فتكليمه إياهم وهو كهل مقترن بآية، وهي نزوله من السماء في آخر الزمان، فمن أجل ذلك عطف ( كهلاً ) على ( في المهد ). وإن كان عامة المفسرين يقولون: إن هذا -أي: نزول عيسى عليه السلام- يستدل عليه بدليل آخر من القرآن الكريم في غير هذا الموضع، وإنما المقصود أنك تكلمهم في المهد كما تكلمهم كهلاً، أي: كما أنك في الكهولة ستتكلم فكذلك كنت تكلمهم في المهد. قوله: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ) أي: تجعل وتصور. (مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) كصورة الطير، والكاف اسم بمعنى: (مثل) يعني: مثل هيئة الطير، وهو مفعول لـ(تخلق). وقوله: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي)، أي: بإرادتي. وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي)، الأكمه هو من ولد أعمى، أما الأعمى فهو الذي يولد بصيراً، ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، فهنا يقول: ( وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني ). وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى)، يعني: من قبورهم أحياءً. وقوله: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك. (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي: المعجزات. (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا) أي: ما الذي جئت به (إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، وفي قراءة: ( إن هذا إلا ساحر مبين ) أي: عيسى عليه السلام. وقوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ)، أي: أمرتهم على لسان عيسى عليه السلام. (أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي)، أي: بأن آمنوا بي وبرسولي عيسى (قَالُوا آمَنَّا)، أي: بك وبرسولك (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، ولا شك في أن هذه إشارة إلى أن الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام هو دين الإسلام، وكثير من الناس يلتبس عليه الأمر، حتى إنهم يظنون أن الإسلام هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن لكل نبي ديناً خاصاً به، وهذا -بلا شك- خطأ فاحش، والصواب أن دين الإسلام هو دين الله تعالى الوحيد الذي أرسل به جميع أنبيائه ورسله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العباد ديناً سواه، كما قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]. وهنا فائدة ذكرها بعض المفسرين في قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، وهي: هل هذه الجملة متصلة بما قبلها أم ليست متصلة؟ فمن قال: إنها ليست متصلة بما قبلها قال: التقدير: ( واتقوا يوم يجمع الله الرسل ) أو ( اتقوا يوم جمعه الرسل ) أو ( اذكروا ) أو ( احذروا يوم يجمع الله الرسل ). ومن قال: إنها متصلة ربطها بما قبلها مباشرة، وهو قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ * يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة:108-109]، والمعنى: والله لا يهدي القوم الفاسقين يوم يجمع الله الرسل، فالربط يكون بين قوله تعالى: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)، وبين قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ)، أي: أن الله سبحانه وتعالى لا يهدي القوم الفاسقين إلى الجنة يوم يجمع الله الرسل، كما قال أيضاً: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء:168-169].

    1.   

    أقوال المفسرين في قوله تعالى: (يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم..)

    كلام القاسمي على الآية

    يقول القاسمي : ( يوم ) منصوب بـ(اذكروا) أو (احذروا) يوم يجمع الله الرسل، وذلك يوم القيامة، وتخصيص الرسل بالذكر ليس لاختصاص الجمع بهم دون الأمم، أي: ليس الرسل هم الذين يجمعون فحسب، وإنما تجمع أيضاً الأمم مع الرسل، كيف لا وذلك يوم مجموع له الناس كما قال تعالى، وإنما خص الرسل بالذكر لإبانة شرفهم وأصالتهم والإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بجمع غيرهم بناءً على ظهور كونهم أتباعاً لهم، يعني: يوم يجمع الله الرسول وأتباع الرسل تبع لهم. (فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ)، فيقول للرسل: ماذا أجبتم؟ أي: من الذي أجابكم ممن أرسلتم إليهم؟ ففيه إشعار بخروجهم عن عهدة الرسالة؛ إذ لم يقل: هل بلغتم رسالاتي؟! أو: هل بلغتم رسالتي؟! فمعناه أنهم لم يقصروا في تبليغ ما أمرهم الله بتبليغه، فهم أدوا الأمانة، وبلغوا هذه الرسالة، والسؤال هنا ليس المقصود به سؤال الرسل حقيقة، وإنما المقصود به توبيخ الذين أرسلوا إليهم، والذين يكونون حاضرين في هذه المشاهد العظيمة يوم القيامة ( فيقول ماذا أجبتم )، وفي توجيه السؤال إليهم والعدول عن إسناد الجواب إلى قومهم -كأن يقال: ماذا أجابوا- فيه من الإنباء عن شدة الغضب الإلهي ما لا يخفى، أي: لم يسأل الله سبحانه وتعالى الذين أرسل إليهم أنفسهم في سياق هذه الآيات، وإنما توجه السؤال أولاً إلى الرسل، وهذا إشارة إلى شدة الغضب الإلهي في ذلك اليوم، وفي الصحيح كما في حديث الشفاعة أن كل نبي يقول يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله) . وقوله تعالى: (قَالُوا) يعني: من هيبته تبارك وتعالى، وتفويضاً للأمر إلى علم سلطانهم، وتأدباً بليغاً في ذلك الموقف الجلالي (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، أي: من علم الخفيات، فإذا كنت يا ألله -سبحانه وتعالى- تعلم الغيوب -بل أنت علام الغيوب- فلن تخفى عليك الظواهر التي منها إجابة أممهم لهم، فلذلك قالوا: (لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فإذا كان الله هو علام الغيوب فأولى أن يعلم المظهر الذي أظهره قومه وما أجابوه به، فهم فقهوا أنه ليس المقصود سؤالهم حقيقة عن الإجابة، وإنما المقصود توبيخ من أرسلوا إليهم. وفي هذه الآية دليل على جواز أن يوصف الله سبحانه وتعالى بـ(علام)، لكن لا يجوز أن يقال: علامة. فقد أبى ذلك العلماء، ولعله لسبب ما فيها من تاء التأنيث. يقول الرازي : اعلم أن عادة الله تعالى جارية في هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعاً كثيرة من الشرائع والتكاليف والأحكام أتبعها إما بالإلهيات، وإمام بشرح أحوال الأنبياء، أو بشرح أحوال يوم القيامة، أي: دائماً تأتي الأحكام والتكاليف الشرعية ثم تتبع مباشرة إما بصفات الله، وإما بصفات أحوال يوم القيامة، وإما بشرح أحوال الأنبياء، لماذا؟ حتى يصير ذلك مؤكداً لما تقدم بين يدي ذلك من التكاليف والشرائع، فلما ذكر فيما تقدم في سورة المائدة أنواعاً كثيرة من الشرائع أتبعها بوصف أحوال يوم القيامة، فقال عز وجل هنا: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ) .. إلى آخر الآيات.

    كلام الزمخشري على الآية

    وقال الزمخشري : فإن قلت ما معنى سؤالهم؟ قلت: توبيخ قومهم، كما كان سؤال الموءودة توبيخاً للوائد. أي قوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:8-9]، فهل المقصود حقيقة سؤال الموءودة وهي مظلومة؟ وإنما المقصود توبيخ الوائد. فإن قلت: كيف يقولون: ( لا علم لنا ) وقد علموا بما أجيبوا؟ أي أنهم يعلمون أنهم أجيبوا؛ لأنهم عاصروا قومهم وعاشوا معهم، وسمعوا ردودهم عليهم، فكيف قال الأنبياء: ( لا علم لنا ) وهم يعلمون بما أجيبوا؟ يقول الزمخشري: قلت: يعلمون أن الغرض في السؤال توبيخ أعدائهم، فيكلون الأمر إلى علمه تبارك وتعالى، وإحاطته بما منوا به منهم، وكابدوا من سوء إجابتهم إظهاراً للتشكي، واللجأ إلى ربهم في الانتقام منهم، وذلك أعظم على الكفرة، وأفت في أعضادهم، وأجلب لحسرتهم وسقوطهم في أيديهم، إذ اجتمع توبيخ الله، وتشكي أنبيائه عليهم. فبهذا السياق قالوا: (لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب)، فالأنبياء كأنهم يقولون: يا رب! أنت تعلم ما فعل هؤلاء القوم معنا، فكأن القياس هنا صار قياس إنك أنت علام الغيوب، ومما تعلم ما فعل معنا هؤلاء القوم، وما آذونا وما حاربونا به، وهذا يكون أجلب وأشد لحسرة الكافرين حينما يرون غضب الله وتشكي أنبيائهم منهم في هذا الموقف العظيم. قال الزمخشري : ومثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصةً من خواصه نكبةً قد عرفها السلطان، يعني أن واحداً من خواص السلطان والمقربين إليه يأتي إليه رجل فيؤذيه أو يناله بسوء، وهذا الرجل الذي آذاه هو خارج عن السلطان، والسلطان يكون قد عرف هذه الحادثة، واطلع على كنهها، وعزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما ويقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ وهو عالم بما فعل به، يريد توبيخه وتبكيته. فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضاً للأمر إلى علم سلطانه، واتكالاً عليه، وإظهاراً للشكاية، وتعظيماً لما حل به منه.

    كلام بعض العلماء في الآية

    وقال بعض العلماء: ( قالوا لا علم لنا ) يعني: لا علم لنا كعلمك. أي: علمنا بهم ليس مساوياً لعلمك بهم؛ فإنك أنت علام الغيوب؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، كما جاء في الحديث: (نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر) وأيضاً في الحديث الشريف: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار) . فقالوا معناه: لا علم لنا كعلمك؛ إذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا. أو قالوا: ( لا علم لنا ) أي: بجميع أفعالهم؛ إذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإنما يستحقون الجزاء بما تقع به الخاتمة؛ لأن الأعمال بالخواتيم، ونحن لم ندر كيف كانت خواتيم القوم، فإذا رد الأنبياء العلم إلى الله أفلست الأمم، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ قال الله يا عيسى ابن مريم...)

    قال تبارك وتعالى: (( إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ )) المقصود من ذلك توبيخ الكفرة حيث فرطوا في حقه وأفرطوا، وليس المراد تكليف المسيح عليه السلام بالشكر في ذلك اليوم، لماذا؟ لانقطاع التكليف بالموت، والشكر عبادة تكليفية يكلف بها العبد، ويوم القيامة ليس زمن تكليف، وإنما هو وقت الجزاء، فلذلك كان: المقصود من هذا السياق توبيخ الذين فرطوا أو أفرطوا في حق المسيح عليه السلام. قال تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، وفي تذكيره بهذه النعم فائدتان: الأولى: إسماع الأمم ما خصه به من الكرامة؛ لأن هذا سيكون يوم يجمع الله الرسل، فيخاطب الله عز وجل المسيح عليه السلام بعد أن يخاطب الرسل عموماً، فيقول: يا عيسى ابن مريم! اذكر نعمتي عليك إذ فعلت لك كذا وكذا وكذا، حتى تسمع الأمم ما خصه الله به من الكرامة. الثانية: لتوكيد حجة الله على جاحده. يقول تعالى: ( إذ قال الله يا عيسى ابن مريم ) هذا شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين من المفاوضة على التفصيل بعد ذكر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال؛ لأن الإجمال هو في قوله: ( ماذا أجبتم قالوا: لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب )، وهنا تفصيل ما سيحصل مع المسيح عليه السلام، ليكون ذلك طريقاً وأنموذجاً لتفاصيل أحوال الباقين، وتخصيص شأن عيسى عليه السلام للتفصيل من بين شئون سائر الرسل عليهم السلام مع دلالته على كمال هول ذلك اليوم، ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل، بسبب أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين ذكرت السورة الكريمة بعض جناياتهم. كما نلاحظ في هذه السورة أنها نعت على اليهود والنصارى -الذين هم أهل كتاب- جنايتهم عموماً، وفي حق المسيح عليه السلام خصوصاً، فتفصيله أعظم عليهم، وأجلب لحسرتهم وندامتهم، وآكد في صرفهم عن غيهم وعنادهم، فإذا سمعوا هذه الآيات في الدنيا فلعل هذا يصرفهم عن عنادهم وتماديهم في الكفران. قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ)، أي: منتي عليك. (وَعَلى وَالِدَتِكَ)، بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين وأتاها برزقها من غير حول منها. (إِذْ أَيَّدتُّكَ)، يعني: قويتك، مأخوذة من الأيد، كقوله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ [الذاريات:47]، وقال تعالى: أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [ص:45] فالأيد بمعنى القوة. قوله تعالى: (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ)، أي: بجبريل عليه السلام، لتثبيت الحجة، أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية، ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة، فلذلك تكلم الناس في المهد وكهلاً، فهذا كان أثراً من آثار تأييد الله عز وجل للمسيح بروح القدس الذي هو جبريل عليه السلام. فمن مظاهر هذا التأييد قوله تعالى: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا)، أي: في أضعف الأحوال وأقواها بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد. قال ابن كثير : أي: جعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك، فأنطقتك في المهد صغيراً، فشهدت ببراءة أمك من كل عيب، واعترفت لي بالعبودية، كما قال الله تعالى عنه: قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم:30]، وأخبرت عن رسالتي إياك، ودعوتك إلى عبادي، ولهذا قال: (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا )) أي: تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك؛ لأن كلامه الناس في طفولته ليس بأمر عجيب، فهذا كلام حاصل بكثير. وقوله تعالى: (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ)، أي: الخط وظاهر العلم الذي يكتب. (وَالْحِكْمَةَ)، أي: الفهم، وباطن العلم الذي لا يكتب، فالعلم له باطن وظاهر، فالظاهر هو الحروف التي تكتب، والباطن هو الفقه ومعرفة وفهم هذا العلم، ويخص به أهله. (وَالتَّوْرَاةَ)، التي هي منزلة على موسى الكليم عليه السلام. (وَالإِنجِيلَ)، وهو الذي أنزل عليه، فعليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. قوله تعالى: (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ)، أي: تقدر، ونسبة الخلق هنا إلى المسيح ليست نسبة حقيقية بغير شك، لكن (تخلق) هنا بمعنى: تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير، وقلنا: الكاف هنا تساوي كلمة (مثل) فقوله: ( كهيئة الطير ) يعني: مثل هيئة الطير. وقوله: (بِإِذْنِي)، أي: بإذني لك في أن تفعل ذلك. وقوله: (فَتَنفُخُ فِيهَا) أي: في تلك الهيئة المصورة. وهنا وقع الضمير خلاف الآية التي في آل عمران: فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:49] فقال: ( فيه ) ، فيمكن أن يعبر أحياناً بالهاء للطير لأنه مذكر، ويمكن أن يعبر بالمؤنث (تنفخ فيها) لأن المقصود هنا الهيئة، فالمعنى: تنفخ في هذه الهيئة المصورة. وقوله: (فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) أي: فتصير تلك الهيئة طيراً لحصول الروح من نفختك فيها. وقوله: (وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي) الأكمه هو الذي يولد أعمى مطموس البصر، بخلاف الأعمى الذي يولد بصيراً ثم يطرأ عليه العمى بعد ذلك، لكن المقصود هنا ( الأكمه ) الذي يولد أعمى مطموس البصر. وقوله: (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى) أي: من القبور أحياء بإذني، فهذا مما فعل الله به من جر المنافع، كل هذا امتنان على المسيح عليه السلام بما جر الله عليه من المنافع العظام. ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضار فقال سبحانه وتعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ)، يعني: حين هموا بقتلك، فمنعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك، فنجيتك منهم، ورفعتك إلي، وطهرتك من دنسهم، وهذا ما بينه قوله تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، وقال أيضاً: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، وقال أيضاً: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء:157-158]. فقوله: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157] هذا من الدفع الذي دفع الله به الضرر عن المسيح عليه السلام. (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ) أي: حين أرادوا قتلك وإضرارك، كما قال تعالى: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، فالصلب وقع، وهناك شخص صلب، لكنه ليس هو المسيح، حيث قال تعالى: وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، يعني: قتلوا شبيهه عليه السلام، أما من هو هذا الشخص الذي صلب فهذه قضية أخرى. والمشهور عند أهل الكتاب -في حادثة طويلة- يهوذا الإسخريوطي أو يهوذا الخائن على حد تعبير زعيم عربي وصف صهره الذي فر إلى الأردن بأنه يهوذا الخائن، فهذا تعبير خبيث لا ينبغي أن يمر مرور الكرام؛ لأن هذه مغازلة لعقائد النصارى؛ لأن لفظ (يهوذا الخائن) تعبير حساس جداً عند النصارى؛ إذ يعتقدون أن يهوذا الخائن هو الذي دل على المسيح وتسبب -بزعمهم- في صلبه، فهذا تعبير كنسي يغازل به أعداء الله. فلا ينبغي أن تمرر هذه التعبيرات الخطيرة؛ لأن في معناه الاعتراف بأن يهوذا خان حقاً وتسبب في حصول الصلب -والعياذ بالله- للمسيح، فهذا كذب وافتراء بلا شك. وقوله تعالى: (وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ)، يعني: بالمعجزات التي توجب انقيادهم لك؛ لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر. وقوله: (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، أي: ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر. وهنا سؤال: هذا السياق هنا في تعديد نعم الله سبحانه وتعالى على عيسى عليه السلام، فإذا كان السياق سياق تعديد النعم -نعم الله على المسيح عليه السلام- فقد جاء في هذا السياق قول الكفار في حقه: (إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)، فهذا ليس من النعم فيما يظهر، فما الحكمة في أنه جرى ذكره في سياق تعداد النعم على المسيح عليه السلام؟ والجواب أن من الأمثال المشهورة (كل ذي نعمة محسود) بل هذا حديث صحيح: (استعينوا على إنجاح حوائجكم بالكتمان؛ فإن كل ذي نعمة محسود) ، فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله تعالى في حقه كانت عظيمة؛ لأنهم ما قالوا هذا إلا حسداً للمسيح عليه السلام، ومرادنا ذكر موقف اليهود منه ومعاداتهم في سياق تعديد النعم لهذا الوجه الذي أشرنا إليه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي...)

    ثم إن الله سبحانه وتعالى لما بين النعم اللازمة في حق المسيح ذاته، وهي جلب المنافع ودفع المضار عنه عليه السلام، أتبع ذلك بالنعم المتعدية، فقال سبحانه وتعالى: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ [المائدة:111]. قوله: ( وإذ أوحيت إلى الحواريين ) إما أن يقال: هذا وحي عن طريق الإلهام والإلقاء في القلب، فهذا مما يطلق عليه وحي، ويكون بالإلهام، مثل قوله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68]، ومثل قوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]. أو يقال: الوحي هنا بمعنى الأمر، فيكون معنى (أوحيت إلى الحواريين) أمرت الحواريين، وسيكون المقصود به: أنه كان وحياً حقيقياً بواسطة عيسى، يعني: أوحى إلى عيسى كي يأمر الحواريين. قوله: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) يعني: آمنوا بدعوته (قَالُوا آمَنَّا) وأكدوا إيمانهم بالمسيح عليه السلام بقولهم: (آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ)، وقولهم ( واشهد ) إما أن يكون الخطاب فيه لله سبحانه وتعالى، والمعنى: واشهد -يا ألله- بأننا مسلمون لك، أو يكون الخطاب لعيسى عليه السلام، أي: فاشهد -يا عيسى- شهادة تؤديها عند ربك بأننا مسلمون، أي: لله، منقادون لكل ما تدعونا إليه. وكل كلمة تدل على الإسلام فإنه يقترن بها لفظ (لله) أي: مسلمون لله، حتى كلمة الإسلام معناها: الإسلام لله. وقدم ذكر الإيمان لأنه صفة القلب، حيث قال: ( أن آمنوا بي وبرسولي ). والإسلام عبارة عن الانقياد والخضوع في الظاهر، والمعنى: آمنا بقلوبنا، وانقدنا بظواهرنا، فجمعوا بين الإيمان والإسلام، حيث ( قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون ) آمنا في الباطن وأظهرنا الخضوع لشرعك. وقد ذكر الله تعالى هذا في معرض تعديد النعم؛ لأن كون الإنسان مقبولاً عند الناس محبوباً في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى على الإنسان، فلذلك جاء ذكر هذا في سياق ذكر النعم المتعددة على المسيح عليه السلام، بأن حببه إلى الناس وقبلوا قوله وآمنوا به، وهم الحواريون. وذلك لأنه إذا كان كاملاً في نفسه فإنما يحصل له الكمال الأعظم من ذلك بأن يكون كاملاً ومكملاً لغيره، ومصلحاً لغيره، فينال ثواب إرشادهم وهدايتهم، ولذلك جاء ذكر هذا في سياق الامتنان عليه بالنعم. يقول الرازي: إن قيل: إنه تعالى قال في أول الآية: (اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك)، ثم إن جميع ما ذكره تعالى من النعم مختص بعيسى عليه السلام، وليس لأمه تعلق بشيء منها! قلنا: كل ما حصل للولد من النعم الجليلة والدرجات العالية فهو حاصل على سبيل التضمن والتبع للأم، ولذلك قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً [المؤمنون:50] فجعلهما معاً آية واحدة لشدة اتصال كل واحد منهما بالآخر. وقال بعضهم: أريد بالذكر في قوله تعالى: (اذْكُرْ نِعْمَتِي)، الشكر، ففي ذلك دلالة على وجوب شكر النعمة، وأن النعمة على الأم نعمة على الولد، والشكر يكون بالقول والفعل والاعتقاد.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك... ونكون عليها من الشاهدين)

    ثم يقول تبارك وتعالى: إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنْ الشَّاهِدِينَ [المائدة:112-113]. يقول السيوطي : ( إذ قال الحواريون ) يعني: (اذكر إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع) أي: هل يفعل (ربك)؟ وفي قراءة بالفوقانية (تستطيع) ونصب ما بعده، أي: هل تقدر على أن تسأله أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ (قال) أي: قال لهم عيسى: ( اتقوا الله ) في اقتراح الآيات، ( إن كنتم مؤمنين ). وقوله: (قَالُوا نُرِيدُ)، يعني: إنما سؤالها هو من أجل: (أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ) أي: تسكن قلوبنا، أي: بزيادة اليقين، ( وَنَعْلَمَ) نزداد علماً، (أَنْ) أي: أنك (قد صدقتنا) في أدعاء النبوة (وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل..)

    قال تعالى: قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ [المائدة:114]. قوله تعالى: (قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا) يعني: يوم نزولها (عِيدًا)، نعظمه ونشرفه (لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا)، يعني: من يأتي بعدنا (وَآيَةً مِنْكَ)، على قدرتك ونبوتي (وَارْزُقْنَا)، إياها، (وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ). قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنْ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]. قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ) أي: مستجيباً له (إِنِّي مُنَزِّلُهَا)، أو مُنْزِلها، قراءتان، وعندما يقول المفسر هنا: (إني منزلها)، بالتخفيف والتشديد فما معنى هذا؟ معناه أنها قراءتان، وليس شرطاً أن ينص فيقول: وفي قراءة بالتخفيف وهنا قرئت التشديد. لكنه يقول: (بالتخفيف والتشديد)، فنفهم أن هناك قراءة أخرى. وقوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ)، يعني: بعد نزولها عليكم (فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ). يقول: فنزلت الملائكة بها من السماء، عليها سبعة أرغفة، وسبعة أحوات، فأكلوا منها حتى شبعوا، قال ابن عباس في حديث: (أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً، فأمروا أن لا يخونوا ولا يدخروا لغد، فخانوا وادخروا فنسخوا قردة وخنازير) وهذا الحديث ضعيف.

    تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم...)

    يقول القاسمي في قوله تعالى: (( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ )) ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً (يا محمد)، وإن كان ورد (يا نوح). (يا هود). (يا لوط). (يا إبراهيم). (يا موسى). (يا عيسى). وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. فالحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبوه إلى أمه، وهذا ملاحظ، وهو أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه رداً على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله، وإنما هو ابن مريم، فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته ليستقل بإنزال المائدة. قوله تعالى: (( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ )) هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: (سورة المائدة)، وها هنا قراءتان: الأولى: ( هل يستطيع ربك ) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك). القراءة الثانية: ( تستطيع ربك ) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك. فحذف المضاف، كما في قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال قوم موسى الرؤية حين قالوا: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55] فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر على أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، أي: (هل يستطيع ربك؟). فلا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصدوا بقولهم: ( هل تستطيع ) أي: (هل يسهل عليك) فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة، كما قال إبراهيم عليه السلام: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ولا شك في أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا )). إذاً (هل يستطيع) بسؤال عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره في أنهم شاكون في قدرة الله. وقيل: المعنى: (هل يستطيع ربك) أي: هل يطيع ربك؟ وهل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو: هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فـ(يستطيع) بمعنى (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائدة، كـ(استجاب) و(أجاب)، و(استجب) و(أجب)، ويطيع بمعنى (يجيب) مجازاً؛ لأن المجيب مطيع. ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي! ادع ربك أن يعافيني. فقال: اللهم! اشف عمي. فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك. فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، فلأن فيه مشاكلة قرنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ. وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أي أنهم كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا لا شك في أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل، كما في قصة الرجل -وهي ثابتة في الصحيحين- الذي أسرف على نفسه بالمعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب. فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزءاً منه في البر وجزءاً في البحر وجزءاً في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، وقال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له. فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه. وعلى أي الأحوال فبعض المفسرين قالوا: إنه على ظاهره، وإنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: (( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح. قال القرطبي: وقيل: المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل، ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: (( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قال القرطبي : وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم، كما قال تعالى: قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري، وحوارييِّ الزبير) . ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأمروا بأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! وهل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟! إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر، وهو أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحيي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا السؤال: (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ))، أي: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين. وإبراهيم عليه السلام لما قال له ربه جل وعلا: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين. فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57] يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي؛ لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات. ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، وهو أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، فلا يدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن يقول -مثلاً-: اللهم! لا تجعلني ممن يردون النار. فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً، كما قال تعالى وأقسم: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، فكل الخلق يدخلون النار كما قال تعالى: كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر. فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة. وفي معنى المائدة قولان: الأول: أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش : تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد فقوله: ( إلى أمير المؤمنين الممتاد ) أي: المستعطى المسئول. فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء. وأما الخوان -بالكسر أو الضم: خوان وخُوان- فهو ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، سواءٌ أكانت قصيرة أم طويلة. أما المائدة فهي ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس فإنك تفتح هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، بمعنى أنها تسفر وتكشف بعدما كانت مضمومة. فالمائدة كل شيء يمد ويبسط، هذا هو أصل كلمة (المائدة) فإذا أكلت على المنديل فهو المائدة، وإذا فرشت أو بسطت ثوباً فهذا الثوب هو المائدة. وكان من حقه أن تكون الدال مضاعفة، أي: (مادَّة)، فجعلوا إحدى الدالين ياءً فقيل: (مايدة)، ثم صارت: (مائدة)، والفعل واقع به، فكان ينبغي أن تكون ممدودة، لكن خرجت في اللغة مخرج

    1.   

    تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وإذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم...)

    يقول القاسمي : في قوله تعالى: (( إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ))، ذكروه باسمه ونسبوه إلى أمه، ومعروف أن من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم التي اختص بها دون إخوانه من الأنبياء أنه لا ينادى باسمه عليه الصلاة والسلام، حتى إن الله سبحانه وتعالى نفسه عز وجل لم يناد الرسول صلى الله عليه وسلم باسمه في القرآن الكريم كله، وإنما كله خطاب بأوصافه الشريفة: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، وهكذا! ولم يرد في القرآن إطلاقاً يا محمد، وإن كان ورد: يا نوح.. يا هود.ز يا لوط.. يا إبراهيم.. يا موسى.. يا عيسى.. وهذا كثير في القرآن الكريم، فهذه من خصائص نبينا صلى الله عليه وآله وسلم. فكان الحواريون هنا ينادونه باسمه ونسبه إلى أمه، وهذا ملاحظ: أنه في القرآن الكريم ينسب إلى أمه كرد على من يدعون أنه ابن الله، لكنه ليس ابن الله وإنما هو ابن مريم، ( يا عيسى ابن مريم ) فنادوه بذلك لئلا يتوهم أنهم اعتقدوا إلهيته أو ولديته، ليستقل بإنزال المائدة. (( هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ))، هذه قصة المائدة وإليها تنسب السورة، فيقال: سورة المائدة، وها هنا قراءتان: الأولى: ( هل يستطيع ربك ) بالياء على أنها فعل فاعله (ربك). القراءة الثانية: ( تستطيع ربك ) بالتاء ونصب (ربك)، أي: سؤال ربك، فحذف المضاف كما في قوله: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف:82]، يعني: واسأل أهل القرية، والمعنى: هل تقدر أن تسأل ربك؟ هل تستطيع سؤال ربك؟ هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عنه؟ فهم قالوا ذلك خوفاً منهم من أن تكون هذه المسألة كسؤال موسى الرؤيا، رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، فلم تحصل له الرؤيا، فخشوا أيضاً أن يكون هذا من جنس سؤال قومه الرؤيا، قالوا: يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة:55]، فأخذتهم الصاعقة، ولذلك قالوا: هل تقدر أن تسأل ربك؟ قال أكثر المفسرين: الاستفهام على القراءة الأولى محمول على المجاز، يعني: هل يستطيع ربك؟ يقول: لا يسوغ لأحد أن يتوهم على الحواريين أنهم شكوا في قدرة الله تعالى، لكنه كما يقول الرجل لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي؟ مع علمه بأنه يقدر على القيام، وهذا مبالغة في التقاضي، وإنما قصد بقوله: ( هل تستطيع ) يعني: هل يسهل عليك؟ فإن الحواريين كانوا مؤمنين عارفين بالله عز وجل، ومعترفين بكمال قدرته، وسؤالهم ليس لإزاحة شك، بل ليحصل لهم مزيد طمأنينة كما قال إبراهيم عليه السلام: وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، ولا شك أن مشاهدة هذه الآية العظيمة تورث الطمأنينة في القلب، ولذلك قالوا: (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا )). إذاً: (هل يستطيع) سؤاله عن الفعل دون القدرة، والسؤال ليس على ظاهره أنهم شاكون في قدرة الله، تعبيراً عنه بلازمه أو عند المسبب بسببه، وقيل المعنى: (هل يستطيع ربك) هل يطيع ربك؟ هل يجيبك ربك إذا سألته؟ أو هل يستجيب دعوتك إذا دعوته؟ فيستطيع بمعنى: (يطيع) وهما بمعنى واحد، والسين زائد كاستجاب وأجاب، واستجب وأجب، ويطيع بمعنى: يجيب مجازاً؛ لأن المجيب مطيع. ومما يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد أبا طالب في مرضه فقال له: (يا ابن أخي ادع ربك أن يعافيني، فقال: اللهم اشف عمي، فقام كأنما نشط من عقال، فقال: يا ابن أخي! إن ربك الذي تعبده ليطيعك -يطيعك يعني: يستجيب لك- فقال: يا عم! وأنت لو أطعته لكان يطيعك) أي: يجيبك لمقصودك. فظهر أن العرب استعملته بهذا المعنى، أن فيه مشاكلة اقترنهما في نص واحد، فحصل نوع من المشاكلة في اتحاد اللفظ. وبعض المفسرين قال: هو على ظاهره، أنهم فعلاً كانوا يجهلون قدرة الله على ما سأله، وهذا طبعاً لا شك أنه من الكفر، لكن إذا صح هذا التفسير فيكون ذلك فيه دلالة على العذر بالجهل كما في قصة الرجل، وهي ثابتة في الصحيحين، فذلك الرجل الذي أسرف على نفسه في المعاصي، فلما حضرته الوفاة جمع بنيه وقال: أي أب كنت لكم؟ فقالوا: خير أب، فقال: فإذا أنا مت فأحرقوني واسحقوني وذروا رمادي جزء منه في البر، وجزء في البحر، وجزء في الأرض، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما فعلوا به ذلك جمعه الله سبحانه وتعالى، قال له: كن، فكان، فسأله: ما الذي حملك على ما صنعت؟ قال: خشيتك، فغفر الله له، فقالوا: إن هذا كان يجهل قدرة الله، وهذا كفر بلا شك، لكن لما كان الجهل عذراً له في ذلك عفي عنه، وهذا بحث طويل سبق أن تكلمنا عنه في قضية العذر بالجهل. على أي الأحوال فبعض الناس قالوا: إنه على ظاهره، وأنهم قالوا ذلك قبل استحكام الإيمان في قلوبهم والمعرفة، وكانوا بشراً فقالوا هذه المقالة، فلذلك رد عليهم المسيح غلطهم بقوله: (( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ))، يعني: اتقوا الله أن تشكوا في قدرته، والقول الأول أصح. قال القرطبي : وقيل المعنى (هل يستطيع ربك) يعني: هل يقدر ربك؟ وكان هذا السؤال ابتداء أمرهم قبل استحكام معرفتهم بالله عز وجل؛ ولهذا قال عيسى في الجواب عند غلطهم وتجويزهم على الله ما لا يجوز: (( اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ )) أي: لا تشكوا في قدرة الله تعالى. قال القرطبي : وهذا فيه نظر؛ لأن الحواريين خلصاء الأنبياء ودخلاؤهم وأنصارهم كما قال: قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، وقال عليه السلام: (لكل نبي حواري وحواري الزبير) . ومعلوم أن الأنبياء عليهم السلام جاءوا بمعرفة الله تعالى، وما يجب له، وما يجوز وما يستحيل عليه، وأن يبلغوا ذلك أممهم، فكيف يخفى ذلك على من صاحبهم واختص بهم حتى يجهلوا قدرة الله تعالى؟! هل يعقل أن يكونوا حواريين وهم أخص أصحاب المسيح أو تلامذته ثم يجهلون عموم قدرة الله تعالى؟ إلا أنه يجوز أن يقال: إن ذلك صدر ممن كان معهم، وهذا تفسير آخر: أنه كان هناك حواريون وأناس آخرون حديثو عهد بالإيمان، لم يتمكن الإيمان والمعرفة في قلوبهم، فهم الذين صدر عنهم هذا الطلب، كما قال بعض جهال الأعراب للنبي صلى الله عليه وسلم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط) وكما قال من قال من قوم موسى: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف:138]، وقيل: إن القوم لم يشكوا في استطاعة الباري سبحانه؛ لأنهم كانوا مؤمنين عارفين عالمين، وإنما هو كقولك لرجل: هل يستطيع فلان أن يأتي؟ وقد علمت أنه يستطيع، فالمعنى: هل يفعل ذلك وهل يجيبني إلى ذلك أم لا؟ وقد كانوا عالمين باستطاعة الله تعالى لذلك ولغيره علم دلالة وخبر ونظر، فأرادوا علم معاينة كذلك، كما قال إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى [البقرة:260]، وقد كان إبراهيم علم أن الله سبحانه وتعالى يحي الموتى علم خبر ونظر، ولكن أراد المعاينة التي لا يدخلها ريب ولا شك؛ لأن علم النظر والخبر قد تدخله الشبهة والاعتراضات، وعلم المعاينة لا يدخله شيء من ذلك، ولذلك قال الحواريون في تعليل هذا السؤال: (( وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا ))، يعني: كي نترقى من علم اليقين إلى عين اليقين، وأيضاً قال إبراهيم عليه السلام: قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، فيضم إلى علم اليقين عين اليقين. فقول المسيح عليه السلام لهم مباشرة: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:57]، يعني: تأدبوا في السؤال ولا تخترعوا أموراً خارجة عن العادة، اتقوا الله من أمثال هذا السؤال وأوقفوا إيمانكم على رؤية المادة إن كنتم آمنتم به وبرسالتي، ( إن كنتم مؤمنين ) لأن الإيمان يوجب التقوى، ويوجب اجتناب أمثال هذه الاقتراحات. ولنعلم أن في هذا إشارة إلى أدب من آداب السؤال، أن الإنسان إذا دعا الله سبحانه وتعالى فينبغي أن لا يسأله أموراً خارجة عن العادة، يعني: لا تدعو بشيء مستحيل أو بشيء فرغ منه، كأن تدعو مثلاً: اللهم لا تجعلني ممن يردون النار، فهذا من سوء الأدب وعدم الفقه في الدعاء؛ لأن هذا أمر واقع حتماً كما قال تعالى وأقسم فقال: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا [مريم:71]، كل الخلق يدخلون النار ثم بعد ذلك يردون منها، كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا [مريم:71]، فإذا كنت تعرف أن هذا أمر مقضي فلا تسأل مثل هذا الأمر. فليس من أدب السؤال أن تسأل الله سبحانه وتعالى أموراً خارجة عن العادة، (يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء) ما هي المائدة؟ في المائدة قولان: إما أنها الطعام نفسه، من (ماد) إذا أفضل، قال رؤبة وأنشده الأخفش : تهدي رءوس المسرفين الأنداد إلى أمير المؤمنين الممتاد ( إلى أمير المؤمنين الممتاد ) أي: المستعطى المسئول، فالمائدة هي المطعمة والمعطية الآكلين الطعام، فإن معنى الإمداد الإطعام والإعطاء. وأما الخوان بالكسر أو الضم خوان وخوان فهو: ما ارتفع عن الأرض بقوائمه، مثل هذا الذي نحن نسميه السفرة الآن، فهذا يسمى الخوان الذي له قوائم سواء كانت قصيرة أو طويلة.. أما المائدة فهي: ما مد وبسط ووضع للطعام، والسفرة: ما أسفر عما في جوفه؛ لأنها مضمومة بمعاليقها، فإذا أردت أن تهيئ الطعام للناس تفك هذه المعاليق وتنشر هذه السفرة، فتسفر بعد أن كانت مغلقة، ولذلك سموها السفرة، السفرة بمعنى: أ

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال الله إني منزلها عليكم...)

    قال تعالى: قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ [المائدة:115]. هذا وعد من الله تعالى أجاب به سؤال عيسى، كما كان سؤال عيسى إجابة للحواريين، وهذا يوجب أنه قد أنزلها ووعده الحق، فقوله تعالى: (( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ))، ظاهر في أن هذا وقع في الحقيقة؛ لأن بعض المفسرين ذهبوا إلى أنها لم تنزل، لكن قوله تعالى: (( قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ))، يدل على أن نزولها حق. فقوله: ( منزلها عليكم ) أي: إجابة لدعوتكم. ( فمن يكفر ) بي وبرسولي ( بعد ) أي: بعد تنزيلها المفيد للعلم الضروري بي وبرسولي ( منكم ) أيها المنعمون بها ( فإني أعذبه عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ) أي: من عالم زمانهم أو من العالمين جميعاً. ويحكى عن ابن عمر أنه قال: (إن أشد الناس عذاباً ثلاث طوائف: المنافقون الذين هم في الدرك الأسفل من النار، ومن كفر من أصحاب المائدة؛ لهذه الآية: (( فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ )) وآل فرعون؛ لقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فهؤلاء المتقدمون هم أشد الناس عذاباً. روى ابن جرير بسنده إلى قتادة قال: كان الحسن يقول: لما قيل لهم: ( فمن يكفر بعد منكم ...) إلى آخره قالوا: لا حاجة لنا فيها. فلم تنزل أي أنهم قالوا: إذا كانت المسألة بهذه الصورة أن العذاب سيتضاعف علينا إذا نزلت وكفرنا فلا حاجة لنا فيها. أي أنهم استعفوا من ذلك فلم تنزل. وقال مجاهد : هو مثل ضربه الله ولم يَنْزِل شيءٌ، أي: مثل ضربه الله لخلقه نهياً لهم عن المسألة لأنبيائه، وقال الحافظ ابن كثير : وهذه أسانيد صحيحة إلى مجاهد والحسن ، وقد يتقوى ذلك؛ لأن خبر المائدة لا تعرفه النصارى وليس هو في كتابهم، ولو كانت قد نزلت لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، وكان يكون موجوداً في كتابهم متواتراً، ولا أقل من الآحاد، والله أعلم. ثم قال: ولكن الجمهور يرون أنها نزلت، وهو الذي اختاره ابن جرير ، وذلك لأن القرآن حاكم ومهيمن على الكتاب السابق، فعدم وجودها في كتابهم لا يدل على أنها لم تقع، لماذا؟ لأن القرآن مهيمن، فإذا أخبر القرآن بأنها وقعت فقد وقعت حتى ولو لم يرد لها ذكر في كتابهم؛ لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله لله: (( إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ))، ووعد الله ووعيده حق وصدق، وهذا القول -والله تعالى أعلم- هو الصواب كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين...)

    قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ [المائدة:116]. ( إذ ) في كلام العرب تكون لما مضى، لكن يدل على أنها في يوم القيامة السياق، حيث قال تعالى: ( يوم يجمع الله الرسل ) فالسياق كله في يوم القيامة، وما بعده -أيضاً- يدل على ذلك، وهو قوله تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة:119]، وهو يوم القيامة. فإذاً: هي لما مضى لكن المراد بها هنا ما يستقبل، فمعناها هنا (إذا) كقوله تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ [سبأ:51]، أي: ولو ترى إذا فزعوا. وعبر عن المستقبل بلفظ الماضي لتحقيق أمره وظهور برهانه كأنه قد وقع، وفي التنزيل: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [الأعراف:50]، ومثله كثير في القرآن الكريم، يعبر عن المستقبل بالماضي لإفادة تحقق وقوعه، كأنه حصل وصار خبراً يذكر. قوله تعالى: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ)، هذا القول: إما أنه إلزام للنصارى لعنهم الله؛ لأن الولد من جنس من يلده، فإذا زعمتم أن المولود إله فمن ولده يكون إلهاً، فهذا بطريقة الإلزام. وإما لأنهم لما عظموهما تعظيماً إلهياً أطلق عليهما اسم الإله، كما أطلق على الأحبار والرهبان اسم الرب في قوله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا [التوبة:31] والتثنية حينئذٍ على حد (القلم أحد اللسانين) فكذلك هنا التثنية في قوله: (( اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ )). ولفظ (أمي) على لسان المسيح في مريم فيه توبيخ للمتخذين لهما إلهين، يعني: أما كنت بشراً تلد وتولد قبل هذا؟! وقوله تعالى: (قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) يعني: أنا مربوب ولست برب، وأنا عابد ولست بمعبود. وقوله: ( قال سبحانك ) أي: براءة لك من السوء، أو أنزهك تنزيهاً لائقاً بك من أن يقال هذا وينطق به. وقوله: ( ما يكون لي ) أي: ما يتصور مني بعد إذ بعثتني لهداية الخلق (أن أقول) في حق نفسي (ما ليس لي بحق)، وهو ما استقر في قلوب العقلاء من عدم استحقاقي للعبادة (إن كنت قلته فقد علمته). ( تعلم ما في نفسي ) يعني: ما أضمره ( ولا أعلم ما في نفسك ) ما عندك علمه، وهذا بيان للواقع، وإظهار لقصوره وعجزه، أي: أن ما يخفيه الله من علمه لا يعلمه المسيح عليه السلام. ( إنك أنت علام الغيوب ) وهذا دليل للدليل؛ لأن المسيح أولاً ذكر دعوى، وهي في قوله: (إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ)، ثم استدل عليها بقوله: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)، ثم دلل للدليل نفسه بقوله: (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)، فأكده بـ(إن)، ثم (أنت) الضمير المنفصل و(علام) صيغة المبالغة (الغيوب) فأتى بالغيب مع صيغة الجمع مع (أل) الإستغراقية التي تشمل كل ادعاء غيب آخر، فقال: (إنك أنت علام الغيوب) الذي تعلم كل غيب، فهذا تأكيد بعد تأكيد. واختلف في إطلاق النفس على الله سبحانه وتعالى كما في قوله: ( تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ) فقيل: لا يجوز إطلاقها عليه إلا في مقام المشاكلة، كما هو هنا؛ لأنهما وردا في نص واحد، فللمجاورة حصلت هذه المشاكلة في اللفظ، كقوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54]. والحق أنه يجوز إطلاق النفس على الله من غير مشاكلة، أي: من غير أن يوجد لفظ (النفس) في نفس السياق؛ إذ قد ورد إطلاقها في غير المشاكلة، كما في قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، وقال أيضاً: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران:28].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم..)

    قال تعالى عن المسيح: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة:117]. قوله: ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ) يعني: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به. وهذا نزول في القضية مراعاة لحسن الأدب، ومراعاة لما ورد في الاستفهام (( أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ))، فقال هنا: (مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)، وقوله: ( أن اعبدوا الله ) في محل رفع خبر لمحذوف تقديره: ما قلت لهم إلا ما أمرتني به وهو: (أن اعبدوا الله ربي وربكم). و(أن) هنا إما أنه لا موضع لها من الأعراب فتكون مفسرة، مثل قوله تعالى: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص:6]، فـ(أن) هنا لا محل لها من الإعراب، وهي مفسرة. ويجوز أن تكون في موضع نصب ( أن اعبدوا الله ) يعني: ما ذكرت لهم إلا عبادة الله. ويجوز أن تكون في موضع خفض، فيكون معنى ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا ) أي: بأن اعبدوا الله. وبعض العلماء يقول: إن النون هنا تضم؛ لأنهم يستثقلون كسرة تأتي بعدها ضمة في قوله: ( أن اعبدوا )؛ لأن العين ساكنة، وأول حركة هي الباء، ونحن لا نتحدث عن الباء، ولكن الكسر جائز على أصل التقاء الساكنين. قوله: ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) يعني: رقيباً أراعي أحوالهم وأحثهم على العمل بموجب أمرك، ويتأتى لي نهيهم عما أشاهده فيهم مما لا ينبغي. وقوله: ( فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم ) أي: لم تقع هذه المقالة منهم وهو بينهم، وإنما ابتدعوها بعد رفعه عليه السلام، ولذلك قال: ( وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم ) أي: ما وجد شيء من هذا أبداً في فترة وجودي بينهم. وقوله: ( فلما توفيتني ) يحتمل توفيتني بالموت، ويحتمل: توفيتني بالرفع، ولو قلنا: إنه يتعين تفسيرها بالرفع إلى السماء فهذه العقيدة في تأليه المسيح وعبادته لها بداية ولها نهاية، فما بدايتها وما نهايتها؟ إن بدايتها برفعه ونهايتها بنزوله؛ إذ هل سيسمح المسيح بوجود عقيدة تؤلهه بعدما ينزل إلى الأرض؟ أو هل سيسمح بوجود صليب أو خنزير؟! أليس في الأحاديث أن المسيح عليه السلام سيقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام؟ ومعنى هذا أنه ستنتهي تماماً هذه العقيدة من على وجه الأرض، ولن يقبل المسيح من الناس إلا الإسلام، ومن ثم سيوضع الحد النهائي لدعوى إلهية المسيح عليه السلام، ويتأيد هذا بقوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] على أحد التفسيرين. فإذاً: هذه العقيدة الشركية بتأليه المسيح لها بداية ولها نهاية، فبدايتها برفعه، والدليل قوله: (( وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ))، فهذا يكون من نفس حديث: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً) . فحين كان المسيح موجوداً ما ظهرت هذه المقالة، ونهايتها حينما ينزل المسيح عليه السلام فيقتدي بالمهدي، ويحكم بالقرآن، ويدعو إلى الإسلام، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام، فإما أن يسلم الناس وإما يقتلوا على يد المسيح نفسه. فهذه العقيدة وقعت منهم بعد رفعه إلى السماء وتستمر إلى نزوله، ولم تقع منهم قبل رفعه، وأما بعد نزوله فلن يبقى نصراني أبداً، بل إما الإسلام أو السيف، فتعين أن يكون معنى ( توفيتني ) أي: رفعتني إلى السماء، كما في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، والتوفي أخذ الشيء وافياً، والموت نوع من أنواع التوفي، قال الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، وسبق في قوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] في آل عمران زيادة إيضاح على ما هاهنا. وقوله: ( كنت أنت الرقيب عليهم ) أي: الناظر لأعمالهم، فمنعت من أردت عصمته من التفوه بذلك، وخذلت من خذلت من الضالين فقالوا ما قالوا. وقوله: ( وأنت على كل شيء شهيد ) أي: سواء في فترة بقائي بينهم أو بعد ذلك، فأنت على كل شيء شهيد. وقد دلت الآية على أن الأنبياء عليهم السلام بعد استيفاء أجلهم الدنيوي ونقلهم إلى البرزخ لا يعلمون أعمال أمتهم، وقد روى البخاري هنا عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أيها الناس! إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلاً. ثم قال: (( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ))[الأنبياء:104].. إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقوال كما قال العبد الصالح: وكنت عليهم شهيداً ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم. فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم) وحمل الحديث على من صحب الرسول إنما يصح في القلة القليلة التي ارتدت عن الإسلام والعياذ بالله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن تعذبهم فإنهم عبادك..)

    ثم قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118]. هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عز وجل، فإنه الفعال لما يشاء لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، ويتضمن التبرؤ من النصارى الذين كذبوا على الله ورسوله، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قوله: ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) يعني: لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه. وفيه تنبيههم على أنهم استحقوا ذلك؛ لأنهم عباده وقد عبدوا غيره. وقوله: ( وإن تغفر لهم ) أي: فلا عجز ولا استقباح؛ لأنك القادر القوي على الثواب والعقاب، الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب، فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك مقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد والتعليق بـ(إن). قال ابن الأنباري : معنى الكلام: لا ينبغي لأحد أن يعترض عليك، فإن عذبتهم فلا اعتراض عليك، وإن غفرت لهم -ولست فاعلاً إذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك. وقد قال عيسى فيما تقدم من الآيات: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ [المائدة:72]. وقد قيل: إن الهاء والميم في قوله: ( إن تعذبهم ) يعودان على من مات منهم على الكفر، أي: ( إن تعذبهم فإنهم عبادك ) الذين ماتوا على الكفر. وفي قوله: ( وإن تغفر لهم ) الهاء والميم هنا لمن تاب منهم قبل الموت، فيكون: وإن تغفر لمن تاب منهم قبل الموت، ( فإنك أنت العزيز الحكيم ). وهنا قول فظيع قاله بعض الناس، فزعموا أن عيسى ما كان يعلم أن الكافر أو المشرك لا يغفر الله له، فهذا قول مجترئ على كتاب الله تعالى؛ لأن الأخبار من الله عز وجل لا تنسخ. والتقدير: إن تبقهم على كفرهم حتى يموتوا وتعذبهم فإنهم عبادك، وإن تهدهم إلى التوحيد والطاعة فتغفر لهم فإنك أنت العزيز الذي لا يمتنع عليك ما تريده، الحكيم فيما تفعله، تضل من تشاء وتهدي من تشاء. قال الحافظ ابن كثير : هذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة إلى الصباح يرددها، روى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح، يركع بها ويسجد بها! (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ))، فلما أصبح قلت: يا رسول الله! لم تزل تقرأ هذه الآية حتى أصبحت، تركع بها، وتسجد بها، قال: إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة -إن شاء الله- لمن مات لا يشرك بالله شيئاً). وروى الإمام أحمد -أيضاً- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي في صلاة العشاء فصلى بالقوم، ثم تخلف أصحاب له يصلون، فلما رأى قيامهم وتخلفهم انصرف إلى رحله، فلما رأى القوم قد أخلوا المكان رجع إلى مكانه فصلى، فجئت فقمت خلفه، فأومأ إلي بيمينه فقمت عن يمينه، ثم جاء ابن مسعود فقام خلفي وخلفه فأومأ إليه بشماله فقام عن شماله، فقمنا ثلاثتنا يصلي كل واحد منا بنفسه، ونتلوا من القرآن ما شاء الله أن نتلو، وقام بآية من القرآن يرددها حتى صلى الغداة) أي: طيلة الليل وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بآية واحدة، وهي هذه الآية: (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )). قال: (فلما أصبحنا أومأت إلى عبد الله بن مسعود أن: سله ما أراد إلى ما صنع البارحة؟ فقال ابن مسعود : لا أسأله عن شيء حتى يحدث إلي -خشي أن يبادره هو بالسؤال- فقلت: بأبي وأمي قمت بآية من القرآن ومعك القرآن) -يعني: كان يمكنك أن تصلي بالقرآن كله، فلماذا قمت بآية من القرآن ومعك القرآن؟ ولو فعل هذا بعضنا لوجدنا عليه، قال: (دعوت لأمتي، قلت: فماذا أجبت -أو: ماذا رد عليك-؟ قال: أجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم طلعة تركوا الصلاة، قلت: أفلا أبشر الناس؟ قال: بلى، فانطلقت معنقاً -أي: مسرعاً قريباً من رمية بحجر- فقال عمر : يا رسول الله! إنك إن تبعث بهذا نكثوا عن العبادة! فناداه أن يرجع فرجع) . يعني أنه يخشى أن يسيئوا فهمه، أما إذا كانوا قد فقهوا حق الفقه، وفهموا النصوص في مواقعها فلا حرج من إعلامهم، كما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه بنظير هذا. وروى الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما: (أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل في إبراهيم: (( رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي .. الآية ))[إبراهيم:36]، وقول عيسى: (( إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) فرفع يديه وقال: اللهم! أمتي أمتي. وبكى) . يعني: رأى إبراهيم يقول: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:36]، ورأى المسيح يقول: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] فأشفق هو على أمته صلى الله عليه وسلم، فرفع يديه وقال: (اللهم! أمتي أمتي. وبكى، فقال الله تعالى: يا جبريل! اذهب إلى محمد -وربك أعلم- فاسأله: ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال -وهو أعلم-، فقال الله: يا جبريل! اذهب إلى محمد فقل له: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوؤك). ثم ختم تعالى بحكاية ما يقع يوم يجمع الله الرسل عليهم الصلاة والسلام مع الإشارة إلى نتيجة ذلك ومآله، وهذه الآية التي هي قبل الأخيرة من سورة المائدة: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [المائدة:119].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755952027