إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [53]للشيخ : عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من عقيدة أهل السنة الصلاة خلف كل بر وفاجر، وللصلاة خلف المبتدع أحكام بين أهل العلم رحمهم الله اختلافها باختلاف البدعة والمبتدع، كما تدل على ذلك النصوص الشرعية.

    1.   

    مجمل اعتقاد أهل السنة في مسألة التكفير

    عقيدة أهل السنة والجماعة تخالف عقائد المبتدعة، ومبنى هذه العقيدة على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الجماعة التي هي اجتماع كلمتهم على الحق، واجتماعهم على إمامهم، وعلى متبوعهم، وبذلك سموا أهل السنة، وسموا أهل الجماعة، فالجماعة في الأصل هم: الذين كانوا مجتمعين على الحق في الزمن الماضي، ويراد بهم السلف الصالح، ولا شك أنهم كانوا مجتمعين، وغيرهم كانوا متفرقين، ولأجل ذلك فسرت الآية التي في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران:106] بأنه تبيض وجوه أهل السنة والائتلاف، وتسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف، فدل على أن أهل السنة مجتمعون ومتآلفون، وأن أهل البدع مفترقون ومتخالفون، ومخالفون للحق وللصواب.

    ومن عقيدة أهل السنة أنهم لا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون المذنب من الإسلام، وخالفهم في ذلك كثير من المبتدعة، فكفروا بمجرد اقتراف الذنوب، وأخرجوا أهل الكبائر من الإسلام، ولا شك أن ذلك فيه اعتداء على حرمات المسلمين، بحيث إنهم كفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم، والمراد بالذنوب هنا: الذنوب التي دون الكفر، وتسمى كبائر الذنوب، فإنها لا يبلغ أصحابها أن يحكم بكفرهم، فلا نكفر من قاتل المسلمين إذا كان متأولاً، ولا نكفر البغاة الذين يثورون على الأئمة، ولا نكفر قطاع الطريق، ولا نكفر من فعل جريمة الزنا أو جريمة السرقة أو القذف أو شرب الخمر أو شرب الدخان أو ما أشبه ذلك، لا نكفر هؤلاء، وكذلك من ارتكب بقية المحرمات.

    ولكن الذي يكفر هو الذي يستحل الحرام، ويرد النصوص الصريحة، ويعتمد على هواه، فمثل هذا -ولو لم يفعلها- يعتبر كافراً؛ لأن من استحل الحرام الصريح الذي دليله كالشمس يعتبر قد رد على الله تعالى شريعته، ورد على الرسول صلى الله عليه وسلم سنته.

    وهناك ذنوب يوجد خلاف في التكفير بها، مثل ترك الصلاة والإصرار على تركها، والتهاون بها؛ وذلك لورود الأدلة التي تنص على كفر من ترك الصلاة، ولا شك أن الكفر الذي ورد فيمن ترك الصلاة من الكفر الذي سمي به الكفار، وإن كان بعضهم قد تأول ذلك، وبكل حال فهذه طريقة أهل السنة والجماعة.

    كذلك أيضاً من طريقتهم أنه إذا مات أحد العصاة ونحوهم لا يتركون الصلاة عليه، وقد تترك الصلاة على بعضهم للزجر، يتركها الإمام ونحوه، كمن قتل نفسه فلا يصلي عليه الإمام، وكذلك من غل لا يصلي عليه الإمام، ويصلي عليه بقية الجماعة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم صلى على المرأة التي رجمت بعد أن اعترفت بالزنا، وأخبر بأن اعترافها يعتبر توبة.

    وأباح الصلاة على العصاة، وقال: (صلوا على من قال: لا إله إلا الله، وصلوا خلف من قال: لا إله إلا الله)، فهذه طريقة أهل السنة في عدم التكفير.

    وأما المعتزلة فإنهم يكفرون بمثل هذه الذنوب، ويخرجون المسلم بها من الإسلام، وإن لم يدخلوه في الكفر، بل يجعلوه بين الإسلام والكفر، وطريقة الخوارج: أنهم يخرجونه من الإسلام ويدخلونه في الكفر، والفرق بينهما أن الخوارج يستحلون دمه، ويسبون امرأته وابنته، ويستحلون ماله، ويستحلون قتله.

    أما أهل السنة فإنهم يقولون: إن المؤمنين من هذه الأمة لا يخلدون في النار، وإن دخلوها، فإنهم بعدما تكفر عنهم سيئاتهم يخرجون منها، هذه عقيدة أهل السنة، وإن خالفهم في ذلك من خالفهم فلا عبرة بمخالفتهم.

    1.   

    الحق يعرف بدليله لا بقائله

    أهل السنة هم المتمسكون بكتاب الله تعالى وبأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنهم الأئمة الأربعة، ومنهم الهداة الذين هدى الله تعالى بهم خلقاً كثيراً في صدر هذا الإسلام، وإن كانوا يقلون في بعض الأزمنة، ويكثر المبتدعة، ففي زماننا قد يكون المتمسكون بالسنة حقاً قلة في البلاد، ويصدق على هذا الزمان أنه زمان الغربة، الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون عند فساد الناس)، وفي رواية: (الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي)، وفي بعض الروايات: (الذين يفرون بدينهم من الفتن)، فإذا وقعت الفتن والاختلافات والبدع في بلاد هربوا ونجوا بدينهم، وفي رواية: (النزاع من القبائل)، يكون من الأسرة واحد أو اثنان، من القبيلة عشرة أو خمسة، من البلدة عشرة أو عشرون، والبقية مخالفون لهم، أو ينتقدونهم، فهؤلاء هم الغرباء، فطوبى للغرباء.

    ولكن لا يضر الحق قلة أهله، فالعبرة بالمتمسكين بالحق، والعبرة بالأدلة، وليس العبرة بكثرة الهالكين، وذلك لكثرة الأسباب التي تحرف الناس وتصرفهم عن الحق؛ لكثرة الفتن، ولكثرة المغريات، ولكثرة الدعايات المضللة.

    إذاً: لا عجب -مع كثرة هذه المغريات- من كثرة الهالكين، كما قال بعض السلف: ليس العجب ممن هلك كيف هلك، إنما العجب ممن نجا كيف نجا! يعني: مع كثرة الفتن، ومع كثرة الدعايات والمضللات يستغرب أن هذا الإنسان يمن الله عليه بالهداية، ويوفقه للتمسك بالشريعة، ويعض عليها بالنواجذ، مع كثرة من يخذله ويؤنبه ويوبخه ويرميه بالرجعية، ويرميه بالتقهقر والتأخر، ويرميه بالتزمت والتشدد والغلو، وما أشبه ذلك، ولكن إذا رزقه الله إخلاصاً، وتمسك بالحق، وصمد عليه؛ فلا يضره ذلك، وسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً.

    أهل السنة في كل زمان يرميهم أهل البدع بالشذوذ، ويرمونهم بالتغفيل، ويرمونهم بالأسماء التي ينكرون بها، فيقولون لهم: مشبهة، ومجسمة، وحشوية، ونوابت، وغثاء، وغُثُر، ونحو ذلك من الأسماء التي ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان، ولا تنطبق عليهم، وإنما تنطبق على أعدائهم، فلا تضرهم هذه الألقاب.

    إذاً: لا عبرة بمن خالفهم، إنما العبرة بمن وافق الحق وتمسك به، فالحق حق ولو قل المتمسكون به، والباطل باطل ولو كثر المعتنقون له، إنما العبرة بالدليل، ولا شك أن حجة الله تعالى قوية، وأن من احتج بالدليل الواضح فإنه غالب ولو صمد أمامه الناس، وقد مضت لنا أدلة عقلية وأدلة نقلية تبين صحة ما عليه أهل الحق.

    1.   

    حكم الصلاة خلف المبتدع والفاسق

    قال الشارح رحمنا الله تعالى وإياه: [قال المصنف رحمه الله تعالى: [قوله: (ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم).

    قال صلى الله عليه وسلم: (صلوا خلف كل بر وفاجر) رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه، وأخرجه الدارقطني قال : مكحول لم يلق أبا هريرة ، وفي إسناده معاوية بن صالح متكلم فيه، وقد احتج به مسلم في صحيحه، وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود عن مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم بر وفاجر، وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير بر وفاجر، وإن عمل الكبائر) وفي صحيح البخاري : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكذا أنس بن مالك وكان الحجاج فاسقاً ظالماً، وفي صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يصلون لكم؛ فإن أصابوا فلكم ولهم وأن أخطأوا فلكم وعليهم، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (صلوا خلف من قال لا إله إلا الله، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله) أخرجه الدارقطني من طرق وضعفها.

    اعلم رحمك الله وإيانا: أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقا باتفاق الأئمة وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ولا أن يمتحنه فيقول : ماذا تعتقد ؟! بل يصلي خلف المستور الحال.

    ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين، والإمام في صلاة الحج بعرفة، ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء، والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه كما تقدم، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وكان يشرب الخمر، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً، ثم قال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة.

    وفي الصحيح أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة؟

    فقال: يا ابن أخي! إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسنوا فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.

    والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب.

    ومن ذلك: أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين، فإنه يستحق التعزيز حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثَّر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل، أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.

    وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاةُ الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية، فهنا لا يترك الصلاة خلفه، بل الصلاة خلفه أفضل، فإذا أمكن الإنسان ألا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولاه غيره، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر، فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان، فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة.

    وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر، وحينئذ فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر، فهو موضع اجتهاد العلماء: منهم من قال: يعيد، ومنهم من قال: لا يعيد، وموضع بسط ذلك في كتب الفروع.

    وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ، ولم يعلم المأموم بحاله فلا إعادة على المأموم، للحديث المتقدم، وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة، فأعاد الصلاة ولم يأمر المأمومين بالإعادة.

    ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة أعاد عند أبي حنيفة ، خلافاً لـمالك والشافعي وأحمد في المشهور عنه، وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم، وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع.

    ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء فليس له أن يصلي خلفه؛ لأنه لاعب وليس بمصل].

    الأولوية في الإمامة تكون للأقرأ

    هذا الكلام يتعلق بالصلاة خلف الولاة وخلف الأئمة، وبلا شك أن إمام المسلمين الذي يصلي بهم، والذي يؤمهم في الصلوات الجامعة، كالجماعة والأعياد ونحوها، يجب أن يكون أهلاً، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة)، وفي رواية: (فأكبرهم سناً)، وقد جعل العلماء ترتيب الأئمة على هذا الحديث، وذكروا أن الأقرأ إذا كان عالماً بفقه الصلاة فإنه يقدم على غيره، بشرط معرفته بأحكام الصلاة، ثم بعده إذا استوى اثنان أو أكثر في العلم والفقه قدم من هو أوسع علماً بالسنة، يعني: بالأحاديث النبوية، وصحيحها وما يتصل بها، ثم إذا استووا في ذلك مع غيرهم قدم من هو أقدم علماً وأقدم هجرة، ثم بعد ذلك يقدم أكبرهم سناً، ثم بعد ذلك يقدم أتقاهم وأخشاهم لله سبحانه وتعالى وأورعهم.

    وجوب الصلاة خلف الولاة وإن كانوا فساقاً

    معلوم أن ولاة الأمور سابقاً كانوا هم الذين يخطبون بالناس، وكانوا هم الذين يصلون بهم الجمع والأعياد، فكان الخليفة أو أمير البلاد هو الذي يتولى الإمامة، وقد يكون فيه بعض من النقص، وبعض من الخلل، ولكنهم لما تولوا بالقوة، ولما كانت لهم سيطرة وسلطة وولاية؛ كانت طاعتهم واجبة؛ لما في مخالفهم ومعصيتهم من المفاسد الكثيرة، فإن معصية ولاة الأمور، ومخالفتهم، وترك الصلاة خلفهم، وتضليلهم، وترك طاعتهم؛ يسبب الشقاق، ويسبب الفتن، ويسبب الظلم والحبس والضرب والقتل، وتفريق الكلمة، وإساءة الظن، وما أشبه ذلك، فجاءت الشريعة بالسمع والطاعة لولاة الأمور، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم وغيره: (اسمع وأطع، وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)، وما ذاك إلا لأن في الطواعية وفي الانقياد لهم جمعاً لكلمة المسلمين، وعدم تفريق لهم.

    فإذا كان الوالي هو الذي يتولى الإمامة، ويتولى الخطبة، ويتولى الصلاة، ويتولى قيادة الجهاد، ويتولى إمامة الحجاج في عرفة وفي غيرها من المواقف، فإنهم يصلون خلفه، ولا يتركون الصلاة خلفه، وهذا فيما فإذا لم يوجد غيره، إذا كان المسلمون لا يصلون إلا في مسجد واحد، وإمام هذا المسجد هو هذا الأمير، وكان فيه شيء من النقص أو الخلل في دينه، من ارتكاب ذنب، أو إصرار على معصية، أو ترك لشيء من الطاعات أو نحو ذلك، فالصلاة خلفه أفضل من أن تصلي وحدك أو تترك الجمعة أو تترك الجماعة أو تترك العيد أو ما أشبه ذلك، هذا هو الواجب على المسلم.

    صلاة الصحابة خلف الولاة والظلمة والفسقة

    الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون خلف الولاة الظلمة: كـالحجاج، فقد كان ابن عمر وأنس وغيرهما يصلون خلفه، وهو مشهور بإراقة الدماء، ولم يشتهر عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فكان كثير القتل في المسلمين، بمجرد التهمة وبمجرد الظن، ولذلك اعتبروه فاسقاً، وإن لم يكن فاسقاً في الاعتقاد، وإن لم يكن مخلاً بالعبادات، ولم يذكر عنه شيء من اقتراف المحرمات، بل كان شديداً على العصاة، فكان يقيم الحدود، ويجلد الزاني وشارب الخمر، وينهى عن سماع الغناء وما أشبه ذلك، وما نقم عنه إلا أن في سيفه رهقاً، فقد قتل عدداً كثيراً من المسلمين، وإن كان قتلهم متأولاً، وبكل حال فقد جعلوه من العصاة، وحكموا عليه بأنه عاص، ومع ذلك كان يؤم الناس في عرفة، ويصلي خلفه بعض الصحابة كـعبد الله بن عمر بن الخطاب ، ويصلي بالناس بالكوفة في العراق، ويصلي خلفه أنس بن مالك .

    وكذلك في عهد عبد الله بن مسعود كان الوالي على الكوفة من قبل عثمان الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان متهاوناً بشيء من المحرمات، ومن ذلك أنه كان يشرب الخمر، فصلى بهم مرة وهو سكران، حتى صلى بهم الصبح أربعاً، والتفت إليهم وقال: أزيدكم؟ فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة، ومع ذلك ما تركوا الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا تركوها صلوا فرادى، ولا شك أن هذا من ترك السنة، ومن ترك الجماعة، فالصلاة مع الجماعة خير ولو كان ذلك الإمام الذي فرض نفسه فيه شيء من الخلل والنقص. ولا ينقص ذلك صلاة المصلي.

    وكما تقدم أن الصلاة من أحسن أعمالهم، فإذا صلوا وأحسنوا فصلاتهم صحيحة، إذا أقاموا ركوعها وسجودها وخشوعها وقراءتها، وجميع ما يشترط فيها، فهي عمل صالح مبرور، فليس لنا أن نترك الصلاة لأجل فسقهم، ما دام أنهم يقيمون الصلاة كما ينبغي، وبإظهارهم للصلاة يحكم بأنهم مسلمون، فإن من صلى حكم بأنه مسلم، وعومل معاملة المسلمين، ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض الولاة وبعض الأمراء يستحلون الدماء، ويفعلون ويفعلون، قيل: (يا رسول الله! أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا، أو ما أقاموا فيكم الصلاة) أي: ما داموا يصلون، ويقيمون الصلاة، فالصلاة من أحسن الأعمال، فلا تخرجوا عليهم، ولا تقاتلوهم ولا تقتلوهم.

    الصلاة خلف المبتدع وتفاصيلها

    إذا لم يكن هناك ولاة يصلون بالناس كما في هذه الأزمنة، فإنه يختار للإمامة الأكفأ والأورع، ويعزل عنها المبتدع والعاصي المتظاهر بمعصية، فإذا عرف بأن هذا الشخص يتظاهر بمعصية، أو يفعل ذنباً من الذنوب، فلا يجوز أن يعين إماماً راتباً، بل إذا علم الناس منه هذا الذنب فإن عليهم أن يؤخروه، ويسعوا في خلعه وإبعاده.

    أما لو لم يقدروا فالصلاة خلفه صحيحة إذا أتمها، ولكن إذا وجد من هو أحسن منه فليصلى خلف الحسن، فإذا رأيت أن إمام ذلك المسجد يستحل سماع الغناء، أو يحلق لحيته، أو يسكر، أو يدخن، أو يسبل ثوبه، يصلي مسبلاً، أو يؤوي بعض الفسقة والأشرار، ويستضيفهم ويؤيدهم، أو يتأخر عن بعض الصلوات، أو يتركها تركاً، أو ما أشبه ذلك، وتعلم ذلك منه، وتجد إماماً في مسجد آخر -ولو بعيداً- تقياً ورعاً، محافظاً على العبادة، متنزهاً عن الآثام، فلا شك أن الصلاة خلف ذلك التقي، وذلك الورع، أولى من صلاتك خلف هذا العاصي.

    أما لو كان ترك الصلاة خلف ذلك الإمام يسبب ارتداعه فإن ذلك يلزم.

    فلو أن الإمام شيعي، أو قبوري، أو عاصٍ مظهر للمعصية، أو معتزلي مخالف للعقيدة، أو يعتقد مذهب المتصوفة، أو ما أشبه ذلك، ومع ذلك دعوناه وبينا له، فأصر على معتقده، وصار إماماً يصلي في هذا المسجد، فكوننا نصلي خلفه فيه إقرار لهذه البدعة أو تقوية لها، ولكن علينا أن نسعى في إزالته، ونسعى في إبعاده وفصله، وإن لم نقدر، وكان في ترك الصلاة خلفه تنفير للناس منه؛ تركنا الصلاة خلفه، وذهبنا إلى المساجد الأخرى، سيما إذا ترك الصلاة خلفه الذين لهم كلمة مسموعة، فهذا يسبب ارتداعه، ويسبب توبته، ورجوعه عما يعتقده، فيقول: قد ترك هؤلاء الصلاة خلفي، ولا شك أنهم عرفوا أن ما أفعله خطأ، فيرجع إلى نفسه ويتوب، سواء كان الذنب الذي فيه بدعة أو معصية، فيرجع عن بدعته التي هي -مثلاً- تعظيم القبور، أو سب الصحابة كما يفعله الرافضة، أو اعتقاد تفضيل بعض الصحابة على الخلفاء، أو ما أشبه ذلك، أو كان على مذهب المتصوفة الذين يدعون أن الولي أفضل من الأنبياء، أو أن أولياءهم يستطيعون أن يأخذوا من الملأ الأعلى، أو ما أشبه ذلك من عقائد الصوفية الباطلة، أو كان عاصياً معصية ظاهرة: يحلق لحيته، أو يشرب الدخان، فإذا ترك الناس الصلاة خلفه ارتدع وفكر، وعلم أنه مخطئ، وأنهم ما تركوا الصلاة خلفه إلا وقد أنكروه، وأن الصواب معهم، وأنهم مجموعة كبيرة، ولا يمكن أن يكون هو المصيب وهم المخطئون مع كثرتهم، ففي ذلك فائدة، فنقول: تترك الصلاة خلفه، هذا إذا وجد غيره، فأما إذا لم يوجد إلا هو فإن الصلاة خلفه مجزئة، وهي أفضل من الصلاة على الانفراد كما ذكرنا.

    وبكل حال فالصلاة خلف الولاة إذا لم يوجد غيرهم لازمة، ولا يجوز الانفراد عنهم، والصلاة خلف العصاة كذلك، إذا لم يوجد غيرهم.

    الإمامة العارضة يتسامح فيها ما لا يتسامح مع الإمامة الراتبة

    قد تدخل بعض المساجد وتجد الصلاة الأولى قد صليت، وتجد جماعة أخرى قد قدموا واحداً أنت تعرف أنه يدخن، أو تراه مسبلاً، أو تراه حليقاً، وتعرف منه مالا يعرف هؤلاء الذين يصلون خلفه، فماذا تفعل؟

    نقول: صل خلفه ولا تصل وحدك؛ وذلك لأنه في هذه الحال صلاته عارضة، وليست مستمرة، وإنما إمامته إمامة عارضة، بخلاف ما إذا كان راتباً، أما إذا رتب في مسجد من عرف بالفسق وبالفجور، وبسماع الأغاني، وبالنظر إلى الصور، وبمغازلة النساء، وبالتساهل مع نسائه بإباحة السفور لهن أو نحو ذلك، فإذا عرف منه ذلك فلا يجوز إقراره في إمامة المسلمين؛ لأن في ذلك إظهاراً لمنكره، وتمكيناً له، فإن كونه يتولى الإمامة فيه شيء من تشجيعه وتقديمه ورفع معنويته، ورفع مستواه، وفي ذلك رفع للباطل على الحق، فعلى جماعة المسجد أن يسعوا جميعاً في عزلة عن الإمامة وعن الخطابة، ويسعوا في تولية من هو أهل، وعلى المسئولين بعد أن يتأكدوا من صحة ما رمي به وما وصف به، أن لا يقروه على هذه الإمامة، فإقراره فيه تقوية للمنكر، وإظهار لأهل المنكر، وعزله فيه إذلال وإهانة للعصاة، ودفع لهم عن التظاهر بالمعاصي.

    وبكل حال معلوم أن صلاة الجماعة من واجبات الإسلام، وأن المسلمين مأمورون بأن يجتمعوا في مساجدهم، ويقدموا واحداًمنهم، ويصلوا خلفه، يركعوا بركوعه، ويتبعوه في السجود، وفي الرفع، وفي الخفض، وفي الحركات كما هو معلوم في كتب الفروع، ولكن لابد أن يكون الإمام قدوة حسنة؛ وذلك لأنه سمي إماماً، والإمام هو القدوة الذي يؤتم به، يقول عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، حتى من جهة ترك المعاصي، ومن جهة صحة العقائد.

    حكم الصلاة وراء الإمام المحدث

    أشار الشارح إلى مسائل فروعية، وذكر أن الكلام عليها واسع، ومحله في كتب الفروع، وهو صحيح، فمثلاً: من صلى بالناس محدثاً -حدثاً أكبر أو أصغر-، وصلى الناس خلفه وهم لا يعرفون حدثه، فما الحكم؟

    هذه مسألة فروعية، ففرقوا بين ما إذا كان علم بالحدث وهو في نفس الصلاة فاستمر فيها، فإنهم يعيدون، وما إذا لم يتذكر إلا بعد ما انصرف فإنهم لا يعيدون، واستدل بقصة عمر، فإنه صلى مرة الصبح بالجماعة، ثم رأى على ثوبه أثر احتلام، فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمرهم بالإعادة، هذا هو القول المشهور.

    وقد روي عن علي أنه أمرهم بالإعادة، فإنه مرة صلى بالجماعة محدثاً في الكوفة، ولما كان بعد ثلاثة أيام تذكر أنه صلى بهم ذلك الوقت وهو محدث، فأمر منادياً ينادي في الأسواق: من صلى مع أمير المؤمنين في اليوم الفلاني الصلاة الفلانية فليعد تلك الصلاة، ولعل ذلك من باب الاجتهاد من علي رضي الله عنه، وهذه مسألة فروعية.

    إذا ترك الإمام بعض واجبات الصلاة اجتهاداً

    من المسائل الفروعية التي ذكرها الشارح: إذا ترك الإمام شيئاً يعتقد المأموم أنه واجب، والإمام يعتقد أنه ليس بواجب، ففي هذه الحال الصلاة صحيحة، صلاة الإمام صحيحة، وصلاة المأموم صحيحة أيضاً.

    وقد كان هناك اختلاف بين الشافعي ومالك ، فـالشافعي رضي الله عنه يرى الجهر بالبسملة، بل يراها واجبة، ومالك لا يرى البسملة من الفاتحة، فقيل للشافعي : هل نصلي خلف من يتبع الإمام مالك ؟ فقال: ألست أصلي خلف مالك ؟ مالك هو شيخه، ومع ذلك كان يصلي خلفه، وهو لا يقرأ البسملة، والشافعي يرى وجوب الجهر بالبسملة.

    وكذلك رفع اليدين عند الركوع، وعند الرفع من الركوع لا يراه الحنفية، والشافعية ونحوهم يرونه من السنن المؤكدة، فإذا تركه الإمام الحنفي، وصلى خلفه شافعي أو حنبلي فصلاته صحيحة، ولا خلاف في ذلك؛ لأنه صلى خلف إمام مجتهد، رأى أن ذلك من جملة صلاته.

    وهكذا التأمين في الصلاة، بعض الأئمة يرونه بدعة كالحنفية، حتى إنهم يبطلون الصلاة خلفه، وإذا صلى حنفي خلف شافعي وأمَّن في الصلاة لم تبطل صلاته؛ لأنه مجتهد، ولكل مجتهد نصيب، وهذه المسائل تفريعها والخلاف فيها مذكور في كتب الأحكام.

    1.   

    المطاعون في مواضع الاجتهاد

    قال الشارح رحمه الله: [وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر وإمام الصلاة والحاكم وأمير الحرب وعامل الصدقة يطاع في مواضع الاجتهاد، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد، بل عليهم طاعته في ذلك، وترك رأيهم لرأيه، فإن مصلحة الجماعة والائتلاف، ومفسدة الفرقة والاختلاف أعظم من أمر المسائل الجزئية، ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض، والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض.

    يروى عن أبي يوسف أنه لما حج مع هارون الرشيد فاحتجم الخليفة وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ، وصلى بالناس، فقيل لـأبي يوسف : أصليت خلفه؟ قال: سبحان الله! أمير المؤمنين، يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع.

    وحديث أبي هريرة الذي رواه البخاري أن رسول الله قال: (يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطأوا فلكم وعليهم)، نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه لا على المأموم، والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً، أو فعل محظور اعتقد أنه ليس محظوراً، ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به، فإن الاجتماع والائتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد].

    قد وردت أدلة في طاعة ولاة الأمور مذكورة في كتب العقائد وكتب الأحكام، وكل يطاع حسب ولايته، وكل له ولاية تخصه، فهناك الخليفة الذي تحت ولايته جميع المسلمين، في شرق الأرض وغربها، كما كان الخلفاء الراشدون، وكذلك خلفاء بني أمية وبني عباس كانت خلافتهم عامة لجميع البلاد الإسلامية، فطاعتهم فيما أمروا به إذا لم يكن معصية تعتبر من طاعة الله، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصى أميري فقد عصاني)، فهذه ولاية عامة.

    وهناك ولاية أخص منها، مثل: ولاية أمير الحجاج، وولاية أمير المجاهدين، فإنهم مأمورون بأن يؤمروا عليهم أحدهم، بل كل من سافر سفراً ولو قصيراً وكانوا جماعة، عليهم أن يؤمروا، كما في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لثلاثة يسافرون إلا أمروا واحداًمنهم)، أو كما ورد في الأحاديث، فهذا الأمير الذي يؤمرونه عليهم أن يطيعوه ما لم يأمر بمعصية، أما إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، وقد اشتهر حديث عبد الله بن حذافة لما أمره صلى الله عليه وسلم على سرية، وأمر الصحابة الذين معه أن يطيعوه، فسار بهم أياماً، ولما كانوا مرة في مكان نازلين، كأنه غضب على بعضهم، فأمرهم أن يوقدوا ناراً، وقال لهم: ادخلوها، أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني، فهم بعضهم أن يدخلها! ثم قالوا: ما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا خوفاً من النار، فما زالوا يتحاججون حتى طفئت النار وسكن غضبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف)، فأمرهم بطاعته، ولكن بين في هذا الحديث أن الطاعة إنما تكون فيما كان معروفاً، فأما مثل هذا فلا طاعة.

    وثبت أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فإذا أمر الوالي بمعصية فلا سمع ولا طاعة، أما إذا أمر بطاعة أو أمر بما فيه مصلحة، أو أمر بما هو اجتهاد فإن أتباعه والذين تحته يطيعونه ولا يخرجون عن طاعته، هذه هي وظيفة أتباعه، وسواء كانت إمارة في بلد، أو على جيش، أو سرية، أو على غزو، أو على حجاج، أو عامل زكاة يذهب لجمع الزكاة ونحوها، كل هؤلاء لهم ولاية بحسبهم.

    وكذلك من جعل رئيساً أو مديراً لمؤسسة من المؤسسات، أو دائرة من الدوائر الحكومية أو نحو ذلك، وجعل تحته من يخدمه أو من يعمل، وكانوا تحت ولايته، فإن عليهم أن يقدروا ما يأمرهم به، بشرط ألا يأمرهم بمعصية تخالف نصاً صريحاً، فهذه وظيفة هؤلاء أنهم ينفذون، ولكن بكل حال طاعتهم تكون بقدر المصلحة التي يؤمرون بها، ومعلوم أن ولايتهم إنما هي خاصة في محيطهم، وأما إذا كان الإنسان خارجاً عن ولايتهم، كما إذا انتهى من شغله معهم، أو كان في بيته أو في سوقه فليس لهم ولاية عليه.

    ومعلوم أن أمير الجيش أو أمير البلد أو أمير الدائرة ونحوها بشر، وليس بمعصوم، وليست أقواله كلها صريحة في أنها واقعية، بل كثيراً ما يفعل الشيء ويكون عن اجتهاد، فعلى أتباعه ووزرائه وزملائه أن يشيروا عليه بما يرون فيه المصلحة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه، ويقبل إشاراتهم ويقبل اقتراحاتهم، ولذلك أمثلة: لما غزا غزوة بدر ونزل منزلاً قرب بدر، قال له بعض أصحابة: هذا المنزل يا رسول الله أنزلك الله إياه أم هو الرأي والمكيدة؟ قال: (بل هو الرأي والمكيدة، فقال: إن هذا غير مناسب، وإن المناسب أن ننزل في المكان الفلاني، فنكون قد حلنا فيه بين القوم وبين المياه، فقبل رأيه).

    وهذا دليل على أنه إذا أشار عليه بعض أبتاعه برأي أو بنظر فعليه قبول ذلك إذا كانت فيه مصلحة.

    وكذلك لما جاء الأحزاب وأحدقوا بالمدينة، وكانوا من قريش وغطفان، أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصالح غطفان بثلث الثمار، فاستشار أهل المدينة، فقالوا: إن كان هذا وحياً من الله فسمعاً وطاعة، وإن كان باجتهاد فلا نعطيهم إلا حد السيف، فقبل إشارتهم وقبل رأيهم، وهذا دليل على أن أتباع الوالي قد يشيرون عليه وينظرون له نظرة مناسبة.

    فعلى كل حال نقول: لا شك أن الولاة ليسوا بمعصومين، وأن أتباعهم مأمورون بأن يرشدوهم ويدلوهم على المصالح، وعلى ما فيه الخير لهم، وللمجتمع، ولكن إذا اختير للإدارة أو للولاية المتأهل والفاضل الذي تجتمع فيه الصفات التي تؤهله لهذا المنصب فليس لأحد الاعتراض عليه، إلا على وجه النظر، أو على وجه الإشارة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756013599