إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [45]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من الشرك الأكبر الاستعاذة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومن ذلك دعاء الجن والاستعاذة بهم، والواجب إفراد الله وحده بالدعاء والاستعاذة به وحده، ولا يعذر الإنسان في ذلك بجهله.

    1.   

    من الشرك الاستعاذة بغير الله

    قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى].

    قد سبق أنه عقد باباً قال فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما فرغ من ذلك قال: وكل ما أذكره في هذا الكتاب تفسير لهذا الباب، فهذا منه، يعني: أن الاستعاذة عبادة، وأنها داخلة في معنى لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: أن تكون الألوهية لله وحده يعني: لا معبود بحق إلا الله جل وعلا، فهي تتضمن نفي العبادة عن غير الله وإثباتها لله وحده.

    والاستعاذة من العبادة، وتكون مما يحذر ويخاف أمره، واللياذ يكون مما يرغب ويرجى، والمستعاذ هو الذي يعتصم به ويلتجأ إليه مما يخاف وقوعه، والله جل وعلا يقول: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1].. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] فأمر جل وعلا أن نستعيذ به، وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف:200] فأمر أن تكون الاستعاذة به وحده، جل وعلا، وكون الاستعاذة من المخوف، واللياذ من الشيء الذي يؤمل ويرجى هذا هو ما دل عليه كلام العرب في الجملة كما قال الشاعر:

    يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره

    وهذا الشاعر يقول ذلك في رجل من الناس، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين جل وعلا، فالعياذ الذي هو الاعتصام والالتجاء يجب أن يكون لله وحده، وكذلك كون الإنسان يرغب ويرجو ويطلب يجب أن يكون رجاؤه ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا.

    يجب أن يكون رجاء المسلم ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا، ولهذا حرم الله جل وعلا علينا أن نسأل الناس إلا فيما اضطررنا إليه، وقد جاء في الحديث: (إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: رجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه يشهدون أنه أصيب بفاقة فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل تحمل حمالة) يعني: يصلح بين الناس، ويتحمل مالاً في سبيل الإصلاح يدفعه لمن يصلح بينهم، فمثل هذا تحل له المسألة حتى يوفي هذا التحمل، أما ما عدا ذلك فالمسألة سحت، وهي خدوش أو خموش في وجه صاحبها، يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وذلك لأن المسألة فيها افتقار لغير الله، وفيها التفات إلى غير الله، فجوزي الإنسان بطلبه من المخلوق بأن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وهي حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحت فليستكثر أو ليستقل) وجاء أن المسألة تكون ناراً على من سأل إذا لم يكن يستحقها، كل هذا صيانة من الله جل وعلا لوجه عبده ولقلبه أن يلتفت إلى غيره أو يطلب من غيره.

    إذاً: الاستعاذة والطلب الذي هو اللياذ واللوذ يجب أن يكونا بالله وحده، ولكن كون الإنسان يجهل بعض الأحكام التي يجب أن يكون عالماً بها، هل يكون ذلك عذراً له؟

    في مثل هذه الأمور لا يكون عذراً له، لماذا؟ لأن التقصير منه، وإلا فالله جل وعلا قد بين، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنذر وأعذر، ولم يترك شيئاً إلا وضحه، فيجب على المرء أن يبحث عن أمر دينه، وأن يسأل إذا كان لا يعلم، وقد قال الله جل وعلا: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43] ، فهذا فيه وجوب المسألة لمن لا يعلم.

    والمقصود: أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله جل وعلا وحده، فمن استعاذ بغير الله فقد وقع في المحذور، وقع في الشرك كما قال الله جل وعلا: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]، وهذا فعل المشركين الذين أخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم يعوذون بالمخلوق، وقد أخبر الرب جل وعلا أن المشرك لا يزداد بشركه إلا ضراً وخسراناً وبعداً عن الخير، لهذا أخبر أنهم زادوهم رهقاً، وسيأتي بيان ذلك.

    1.   

    معنى الاستعاذة

    قال الشارح: [ الاستعاذة: هي الالتجاء والاعتصام، ولهذا يسمى المستعاذ به معاذاً وملجأً، فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه إلى ربه ومالكه، واعتصم واستجار به والتجأ إليه، وهذا تمثيل، وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والانطراح بين يدي الرب والافتقار إليه والتذلل له، أمر لا تحيط به العبارة، قاله ابن القيم رحمه الله ].

    يعني: أن الإنسان إذا انطرح بين يدي ربه جل وعلا، وعرف حقه، وأصبح ينزل كل حاجاته بالله وحده، فإنه يستغني به عن كل من سواه، ويرتفق بهذا، ويفرح فرحاً عظيماً لا يوازيه فرح الدنيا؛ لكونه عرف ربه وعبده واعتصم به ولجأ إليه، وأصبح غنياً بالله جل وعلا عن كل ما سواه، والحقيقة أن هذا هو العز المطلق، والغنى المطلق.

    أما أن يكون له عز ظاهر في الدنيا، وهو منقطع عن الله؛ فهذا سوف يذهب، ولا ينفعه، وكذلك إذا كان له غنى ظاهر وهو مستغنٍ عن الله فسوف يذهب غناه ويعود فقراً، كما حكى الله جل وعلا عن الذي يؤتى كتابه بشماله يوم القيامة: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:24-28] كان له سلطان، وعنده مال، ولكن أصبح ماله وسلطانه عليه وبالاً، وذلك لأنه استغنى عن الله بسلطانه في الدنيا، ولأنه اعتز بذلك على عباد الله، وتطاول عليهم.

    فالمقصود أن العبد لا غنى له عن ربه جل وعلا طرفة عين، فيجب أن يكون مفتقراً إليه دائماً، ويجب أن يكون لاجئاً إليه دائماً، عائذاً به، معتصماً به من شر نفسه أولاً، ومن شر الخلق الذين فيهم الشر، ومن شر كل ما فيه شر، وإذا عرف الله جل وعلا ذلك من نيته وقصده فسوف يعيذه وسوف يحميه من كل ما يؤذيه.

    قال الشارح: [قال ابن كثير : الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله، والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر. والعياذ يكون لدفع الشر، واللياذ لطلب الخير.

    قلت: وهي من العبادات التي أمر الله تعالى بها عباده، كما قال تعالى: وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأعراف:200] ، وأمثال ذلك في القرآن كثير كقوله: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] وقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] فما كان عبادة لله فصرفه لغير الله شرك في العبادة، فمن صرف شيئاً من هذه العبادات لغير الله فقد جعله شريكاً لله في عبادته، ونازع الرب في إلهيته، كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابداً لغير الله ولا فرق، كما سيأتي تقريره قريباً إن شاء الله تعالى].

    وذلك أن الله جل وعلا أمر بالصلاة له، وكما أمر بالصلاة له أمر بالاستعاذة به، والاستعاذة تكون عامة في كل ما لا يقدر الإنسان على صده عن نفسه سواء كان حسياً أو معنوياً، أما إذا كان حسياً فقد يستعيذ الإنسان بمن يقدر أن يصده إذا كان قادراً حاضراً سامعاً، أما إذا كان معنوياً فلا يجوز الاستعاذة إلا بالله جل وعلا.

    ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن الطريق للتخلص مما هو مشاهد بالإحسان إليه، بأن تحسن إليه حتى تصبح محبوباً لديه، وتصبح متخلصاً من أذاه، وأما الشيطان الذي لا تشاهده، ولا تراه، فأمر الله جل وعلا أن يستعاذ به، فقال الله جل وعلا: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت:34] يعني: إذا وقعت بينك وبين إنسان عداوة فادفع هذه العداوة بالإحسان إليه، فإنه سوف يعود عليك بالمودة، وتذهب عداوته، ولكن الشيطان الذي لا تنظر إليه، ولا تراه ليس هناك طريق للتخلص منه إلا بأن تلجأ إلى الله، وتعتصم به، قال الله بعد هذه الآية: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [فصلت:36] ، هذا هو الطريق الوحيد للتخلص من الشيطان.

    والاستعاذة جاء الأمر بها مطلقاً كما سمعنا في قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ [الناس:1] وهذا قول قيل للنبي صلى الله عليه وسلم خاص به، والأمة تبع له في ذلك، يعني: الخطاب خصص للنبي صلى الله عليه وسلم، وأمته تبع له في ذلك، فيجب عليهم أن تكون استعاذتهم بالله وحده.

    1.   

    استعاذة المشركين بالجن

    قال الشارح: [وقول الله تعالى: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6]

    قال ابن كثير: أي: كنا نرى أن لنا فضلاً على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا وادياً أو مكاناً موحشاً من البراري وغيرها -كما كانت عادة العرب في جاهليتها- يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوءهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذمامه وخفارته، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقاً، أي: خوفاً وإرهاباً وذعراً، حتى يبقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم ـ إلى أن قال ـ قال أبو العالية والربيع وزيد بن أسلم : رهقاً أي: خوفاً. وقال العوفي عن ابن عباس : فزادوهم رهقاً أي: إثماً، وكذا قال قتادة ].

    حقيقة الجن

    الجن أمة عظيمة، وهم مكلفون -كما كلف بنو آدم- بأن يعبدوا الله جل وعلا، وهم ذرية إبليس، ومنهم المؤمن، ومنهم الكافر، ومنهم المتمرد الشيطان، والله جل وعلا خاطبهم في القرآن، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينذرهم، قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا [الجن:1] ... إلى آخر السورة، ويقول الله جل وعلا: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى .. [الأحقاف:29-30] ، والله جل وعلا يخبر يوم القيامة عن الجن والإنس أنهم جاءتهم النذر، وجاءتهم الرسل، وقامت عليهم الحجج، وأنه لا حجة لهم، فهم مكلفون بعبادة الله جل وعلا، وفيهم المؤمن، وفيهم الكافر، وفيهم الفاسق، وفيهم الصالح وغير ذلك.

    وهم على الأرض يمشون مع الناس، ليسوا تحت طباق الأرض وليسوا فوقها، ولكنهم كما أخبر الله جل وعلا يروننا من حيث لا نراهم، ويسمعون كلامنا، ونحن لا نشاهدهم ولا نراهم، ولكن ينبغي بل يجب على الإنسان أن يتحرز من أعينهم، فلهذا يسن له إذا أراد أن يخلع ثوبه أن يسمي الله؛ لأن الستر الذي بينه وبينهم اسم الله جل وعلا، إذا سميت الله استترت منهم، وليس هناك شيء يسترهم من جدران أو غيرها، وقد جاء في الصحيح أن الإنسان إذا أتى إلى بيته وأراد الولوج -أي: الدخول في البيت- فإن ذكر الله وقال: باسم الله، قال الشيطان لأصحابه الذين يمشون معه: حرمتم المبيت، فإن دخل ولم يسم قال لمن معه: أدركتم المبيت، فإن قدم الطعام ولم يسم قال: أدركتم المبيت والعشاء، وربما يشارك الجني الإنسان في بيته، وفي طعامه، وفي ولده أيضاً فقد يشاركه في زوجه إذا لم يسم.

    ولهذا ينبغي للإنسان أن يعرف هذه الأمور، ولا يكون جاهلاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إلى كل ما فيه الخير، وعلمنا هذه الأشياء، وقال لنا: (إن إخوانكم من الجن سألوني الطعام، فقلت لهم: لكم كل عظم ذكر عليه اسم الله تجدونه أوفر ما كان لحماً) وكذلك علف بهائمهم أرواث بهائمنا؛ ولهذا حرم علينا أن نستجمر بعظم أو روث؛ لأن العظم طعام المؤمنين من الجن، والروث طعام بهائمهم.

    والمقصود أن الجن مكلفون، والله جل وعلا جعل لهم عقولاً، وجعلهم أهلاً للأمر والنهي، وجعل لهم جزاء يوم القيامة، من أطاع الله منهم يكون في الجنة، ومن عصى يكون في النار، ولهذا كلما ذكر الله آية من الآيات التي فيها نعمه في سورة الرحمن يقول: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ والمقصود بالتثنية هنا الجن والإنس، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه السورة على أصحابه قال: (مالي أراكم ساكتين؟! لرد إخوانكم من الجن أحسن من ردكم، قالوا: ماذا قالوا؟ قال: كلما تلوت قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ قالوا: لا -يا ربنا- ولا بشيء من ذلك نكذب، فلك الحمد) .

    إنكار وجود الجن كفر

    بعض الناس اليوم ينكر وجود الجن، وإنكار وجود الجن كفر وخروج من الإسلام؛ لأنه أمر تواترت عليه كتب الله، وكذلك جاءت به آثار الرسل، وقد يلتبس الجني بالإنس ويداخله؛ لأن الجن سلطوا على الإنس إذا لم يتحصنوا منهم بذكر الله وبأسماء الله، وليس هناك مخلص إلا بالالتجاء إلى الله، وذكر أسمائه وذكره، فذكر الله يطرد المردة من الجن، أما المؤمنون فهم لا يؤذون؛ لأنهم يعرفون أن هذا أمر محرم، ولكن الجهلة والكفرة والمردة يتسلطون على الإنس بسبب جهلهم، وبسبب غفلتهم وعدم ذكرهم لله، وإلا فهم ضعفاء، وإذا ذكر المؤمن ربه وتحصن بذلك فإنه يفر منه أشد الفرار، وقد جاء في وصف الذي يأكل الربا أنه يوم القيامة يقوم كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، والشيطان المقصود به هنا الجنس، يعني: الجن، فإنه يداخل الإنسان فيسقطه فيصبح مجنوناً، والأمم السابقة كل أمة تتهم نبيها بأنه مجنون ويرمونه بذلك؛ لأنهم يعرفون أن الجن يلابسون الإنس، وقد ذكر الله جل وعلا أن الإنس يستمتعون بالجن، والجن يستمتعون بالإنس، واستمتاع بعضهم ببعض يكون بالطاعة، ويكون بغير الطاعة، بفعل الشهوة وغيرها، نسأل الله السلامة.

    فالمقصود أن الجن أمة مكلفة، وهم يحضرون مع الناس، يشاهدون الناس والناس لا يرونهم، وإذا كان يوم القيامة حشروا جميعاً كل يرى الآخر؛ لأن القيامة هي محل الجزاء، فيصبح الإنس لهم قرناء وأزواج من الجن الذين أضلوهم، يقرنون معهم في النار، فيدخلون فيها جميعاً.

    قال الله تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ [الجن:1-2] .. إلى أن قال: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] .

    ذكر المفسرون أن العرب كانت عادتهم إذا سافر أحدهم ثم أدركه الليل، أنه يلجأ ويعوذ بكبير الجن فيقول: أعوذ بسيد أهل هذا الوادي من سفهاء قومه، فصار هذا فتنة للجن والإنس؛ لأن الجن بهذه الاستعاذة زادوا الإنس رهقاً يعني: تسلطوا عليهم، فأكثروا تخويفهم؛ لأنهم رءوا أنهم يعوذون بهم، فتسلطوا عليهم، وهذا هو معنى زيادتهم رهقاً، والرهق هو الخوف والهلع أو الطغيان، فإذا كان الرهق عائداً إلى الإنس فهو الخوف، وإن كان عائداً إلى الجن فهو الطغيان، يعني: أن استعاذة الإنس بالجن زادت الجن طغياناً وتعدياً، فأصبحوا يتعدون على الإنس من أجل ذلك.

    والآية تصلح لهذا وهذا، وقد جاء عن السلف المعنيان، جاء عن السلف أنهم جعلوا الرهق عائداً إلى الإنس، وعائداً إلى الجن، يعني: أن الجن زادوا الإنس خوفاً لما استعاذوا بهم فتسلطوا عليهم، وكذلك الإنس زادوا الجن طغياناً لما استعاذوا بهم، يعني: تكبراً وتجبراً وطغياناً على الإنس؛ لأنهم قالوا: أصبحنا سادة الجن والإنس.

    وعلى كل فالمقصود من الآية: أن المؤمنين من الجن أخبروا أن الإنس استعاذوا بهم، وأن هذا لا يجوز، وأنه من الشرك الذي جاء القرآن والرسول صلى الله عليه وسلم بإبطاله، فهم يتبرءون منه، ويخبرون عن أمر وقع وهم يقلعون عن ذلك يعني: المؤمنين منهم.

    فدل ذلك على أن الاستعاذة عبادة، ويجب أن تكون بالله وحده، وأنها إذا وقعت الاستعاذة بالمخلوق فإن هذا شرك بذلك المستعاذ به.

    لا تجوز الاستعاذة بالجن

    قال الشارح: [وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى بواد قفر وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، يريد كبير الجن، وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الاستعاذة بغير الله، وقال ملا علي قاري الحنفي: لا يجوز الاستعاذة بالجن].

    لأن الاستعاذة عبادة كما سمعنا، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله جل وعلا، فإذا ثبت أنها عبادة فيجب أن تكون خاصة بالله وحده، ويكون صرفها لغير الله كصرف سائر العبادات شركاً بالله.

    قال الشارح: [فقد ذم الله الكافرين على ذلك، وذكر الآية وقال: قال تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:128] فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه، واستعاذته به، وخضوعه له. انتهى ملخصاً].

    يقول جل وعلا للجن يخاطبهم: إنكم أضللتم أناساً كثيراً من الإنس، فيقول الإنس لرب العالمين: قد استمتع بعضنا ببعض، يعني: أنهم انتفعوا بالجن إما بإخبارهم ببعض المغيبات أو بنفعهم النفع الذي هو نفع محدود، وكذلك الجن استمتعوا بالجن بطاعتهم، وعبادتهم لهم، واستعاذتهم بهم، ويقولون: بَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا يعني: أن الأجل الذي جعل لهم في الدنيا قد انتهى، وأنهم قد حضروا بين يدي الله، ولكن هذا الإذعان، وهذا الإقرار، وهذا الاستسلام لله جل وعلا؛ لا يفيدهم شيئاً؛ ولهذا يقول جل وعلا: النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، فهذه النهاية التي يخبر الله جل وعلا عنها سواء في المستعيذ المستمتع أو الذي استعيذ به، وكلاهما تكون نتيجته أن الله يجازيه بما يستحق.

    قال الشارح: [فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه، وامتثال أوامره، وإخباره بشيء من المغيبات، واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه].

    وقد يكون الاستمتاع في قضاء الشهوة من هذا وهذا، وهذا يقع كثيراً من الجهلة الذين تخلو قلوبهم من الإيمان، ومن ذكر الله جل وعلا، فإن الجن يستمتعون بهم، وهم يستمتعون بالجن، نسأل الله العافية.

    قال الشارح: [واستعاذته به وخضوعه له].

    المقصود أن هذا يدل على أن الجني قد يلابس الإنسي ويداخله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) ، فإذا كان يجري منه مجرى الدم فمعنى ذلك أنه يستطيع أن يداخله ويكون في جسمه.

    قال المصنف: [وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية لا يدل على أنه ليس من الشرك].

    يعني: كون الإنسي إذا استعاذ بالجني قد يعيذه، وكذلك إذا ذبح الإنسي للجن فقد يخرج الجني الذي فيه، وينفعه في هذا، فيكون في هذا نفع، ولكن هذا ليس دليلاً على أنه جائز، بل الله جل وعلا أخبرنا أن الخمر فيها منفعة، ولكن مضرتها أعظم، فليس كل ما فيه نفع يجوز فعله، والشرك قد يكون فيه منفعة كما ذكر، ولكن عاقبته وخيمة جداً، فالمقصود أنه ليس كل ما فيه نفع يكون جائزاًفعله.

    1.   

    حديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق...)

    قال المصنف: [وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) رواه مسلم .

    هي خولة بنت حكيم بن أمية السلمية ، يقال لها: أم شريك ، فيقال: إنها هي الواهبة، وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون ].

    الواهبة يعني: التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ووهبت له نفسها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يردها، وكان عنده رجل فقال: يا رسول الله! إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها، وذكر الحديث.

    وهذا الحديث: (من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شرك ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل) يدلنا على أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله أو بصفة من صفاته، وكلمات الله هي صفة من صفاته، وكلماته جل وعلا تنقسم إلى قسمين:

    كلمات دينية شرعية أمرية مثل القرآن؛ فهو كلامه الديني الأمري الذي يشرع به لعباده الأوامر، وينهاهم عن النواهي، فهذا كلام الله جل وعلا الذي تكلم به وسمعه جبريل من الله جل وعلا، ثم جاء به جبريل عليه السلام إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسمعه الرسول صلى الله عليه وسلم من جبريل، ثم أسمعه أصحابه، ثم لم تزل الأمة يسمع بعضها كلام الله من بعض جيلاً بعد جيل إلى يومنا هذا، والله جل وعلا أخبرنا أنه تولى حفظه، وهذا من حفظه، فلو حاول أي محاول أن يغير أو يبدل في كلام الله ما استطاع؛ لأن في الأمة من لا حصر لهم يحفظونه من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، فلو أراد مريد سوء أن يغير في المصحف شيئاً، فإن أصحاب الكتاتيب يردون عليه، ويعرفون أنه خطأ؛ لأن القرآن محفوظ، يحفظه المسلمون في صدورهم، فضلاً عن إثباته في الكتابة، والمقصود أن هذا القرآن كلامه الأمري الشرعي.

    القسم الثاني من كلمات الله: كلماته الكونية القدرية، وهي التي يكون بها الأشياء ويقدرها، فهي التي لا يجاوزها بر ولا فاجر.

    أما كلماته الدينية الشرعية فإن الفجار يتجاوزونها، يعني: يعصون أوامره، ويرتكبون نواهيه، بخلاف الكلمات الكونية فإنه لا أحد يستطيع أن يتعداها، والكلمات الكونية هي التي يقدر بها الأشياء ويكونها، فالكون كله يسير على وفق تقديره وتكونيه جل وعلا، والعباد كلهم مسخرون تجري عليهم أقداره وقهره، لا أحد يستطيع أن يخالف قدر الله جل وعلا وتكوينه، والكلمات الكونية غير الكلمات الشرعية، وكلها صفة لله جل وعلا، وكلها يستعاذ بها؛ لأنها من صفات الله.

    ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن القرآن كلام الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالاستعاذة بمخلوق، أمر أن نستعيذ بكلماته، فكلماته -إذاً- من صفاته جل وعلا؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يستعيذ بذلك، وأخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك، فدل هذا على أن الاستعاذة بكلمات الله هي استعاذة بصفته جل وعلا، وكلام الله من صفاته.

    معنى كلمات الله التامات

    قال الشارح: [وقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) شرع الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلاً عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن، فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا بأسمائه وصفاته].

    الجن لا يستطيعون أن يعيذوا الإنسان، ولكن إذا استعاذ الإنسان بالله فإن الله يحميه من كل ما يؤذيه.

    قال الشارح: [قال القرطبي: قيل: معناه الكاملات التي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر].

    الكلمات التامات إما المراد بها الدينية، فهي تامة في الصدق والعدل وكمال الشرع، تامة من جميع هذه الأمور، وإما أن يراد بها الكونية فهي التي لا يمكن أن يلحقها نقص أو يتخلف مرادها بحال من الأحوال، فهي تامة من هذه الناحية.

    [وقيل معناه: الشافية الكافية، وقيل: الكلمات هنا هي القرآن، فإن الله أخبر عنه بأنه: هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وهذا الأمر على جهة الإرشاد إلى ما يدفع به الأذى.

    ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى كان من باب المندوب إليه المرغب فيه، وعلى هذا فحق المستعيذ بالله أو بأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه، ويتوكل في ذلك عليه، ويحضر ذلك في قلبه، فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه.

    قال شيخ الإسلام رحمه الله: وقد نص الأئمة كـأحمد على أنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به على أن كلام الله غير مخلوق، قالوا: لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك؛ ولهذا نهى العلماء عن التعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون فيها شرك].

    التعاويذ التي تكون بكلمات أعجمية أو كلمات مركبة أو حروف ليس لها معنى، لا يجوز الاستعاذة بها؛ لأن الاستعاذة تكون بكلمات الله وبأسماء الله وصفاته المعروفة المفهومة باللغة العربية، فلا بد أن يكون لها معنى مفهوم يعرف، أما إذا كانت حروفاً، يقول: آخذ حرفاً من اسم الله، وحرفاً من الرحمن، وحرفاً من العزيز، وحرفاً من الكريم، وما أشبه ذلك فيجمعها ويقول: أنا أستعيذ بأسماء الله، فهذا لا يجوز؛ لأنه لا بد أن يكون لها معنى معروف، وقد تكون الحروف المركبة أسماء شياطين، فيستعيذ بالشياطين، وهذا شرك.

    معنى قوله: (من شر ما خلق)

    قال الشارح: [وقال ابن القيم : ومن ذبح للشيطان ودعاه، واستعاذ به وتقرب إليه بما يحب، فقد عبده، وإن لم يسم ذلك عبادة، ويسميه استخداماً -وصدق- هو استخدام من الشيطان له، فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان، لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة، فإن الشيطان لا يخضع له، ولا يعبده كما يفعل هو به ا هـ.

    قوله: (من شر ما خلق) قال ابن القيم رحمه الله: أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره، إنسياً كان أو جنياً أو هامة أو دابة أو ريحاً أو صاعقة، أو أي نوع من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة.

    و(ما) هنا موصولة وليس المراد بها العموم الإطلاقي، بل المراد التقييدي الوصفي، والمعنى: من شر كل مخلوق فيه شر، لا من شر كل ما خلقه الله، فإن الجنة والملائكة والأنبياء ليس فيهم شر، والشر يقال على شيئين: على الألم، وعلى ما يفضى إليه].

    قوله: قوله: (من شر ما خلق) يدلنا على أن الشر في المخلوق، وليس الشر من صفات الله، ولا من أفعال الله جل وعلا، وإنما هي في المخلوق الذي يخلقه الله جل وعلا، أما الله جل وعلا فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في مناجاته لربه: (والشر ليس إليك)؛ ولهذا لا يضاف الشر إليه جل وعلا، لا وصفاً ولا فعلاً، بل ينزه عنه؛ لأن أفعاله كلها خير، وصفاته خير، وهو لا يفعل إلا الخير جل وعلا، وإنما الشر يكون في المفعول المخلوق كما قال مؤمنو الجن فيما قصه الله جل وعلا علينا: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ [الجن:9-10] (أَشَرٌّ أُرِيد) لم يذكروا الفاعل، فحذف الفاعل هنا تأدباً مع الله جل وعلا، أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا [الجن:10] لما جاء الرشد أضافوه إلى الله جل وعلا، أما الشر فيحذف فاعله ويدخل في العموم، أو يضاف إلى المخلوق كقوله جل وعلا: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] فجعل الشر للمخلوق، ولا يضاف إلى الله جل وعلا؛ وذلك أن أوصاف الله جل وعلا وأفعاله ليس فيها شر، والشر إضافي بمخلوقاته، بمعنى أنه ما كان شراً لقوم يكون خيراً للآخرين، فمثلاً: المطر إذا جاء قد يغرق من يغرق فيه، ويهلك ماله، فيكون بالنسبة إليه فيه شر، ولكن أكثر الناس هو خير لهم وللأرض، ومثل ذلك الشمس والليل والنهار وغير ذلك.

    فالمقصود أن الشر يكون في مخلوقات الله، ولا يكون في فعل الله جل وعلا ولا في وصفه، وليس الشر إليه؛ ولهذا قال: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يعني: لما أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فهو الشر الذي يكون في المخلوق.

    والشر أصله الخلو من الخير، فإذا وجد الخير يكون هذا الخير الذي وجد أصله من الله، فهو الذي أوجد الخير، وهو الذي وضعه في هذا المحل، وإذا أخلى الله جل وعلا فضله من هذا المكان جاء الشر من قبل المخلوق، فلهذا ما يصيب الإنسان شيء إلا من جراء فعله ومن جراء ذنبه الذي يفعله، مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79] فكل الخير يكون من الله، أما المصائب والشرور وما يترتب على ذلك فهو من أفعال الإنسان ومعاصيه ومخالفاته، وكون الله جل وعلا يخلق هذا وهذا لا يدل على أنه يتصف به تعالى وتقدس؛ لأن كونه قدر هذا الشيء ودخل في مخلوقاته هو وصف لمن قام به، فالشر وصف لمن قام به وهو المخلوق.

    فائدة هذا الذكر

    قال الشارح: [قال قوله: (لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك) قال القرطبي : هذا خبر صحيح، وقول صادق علمنا صدقه دليلاً وتجربة].

    أما دليلاً فصحيح، وأما تجربة فليس بصحيح لكل أحد، ولا ينبغي أن نختبر أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بالتجربة؛ لأن الإنسان قد يجرب هذا الشيء فيتخلف المخبر به، فيظن أنه كذب، وإنما التخلف يكون من قبله هو، قد لا يكون صادقاً في قوله والتجائه واستعاذته، فيتخلف مقتضى ذلك، ولا يجوز أن يظن أن الخبر ليس بصحيح، فالمقصود أن الأخبار لا تقاس بالتجربة، بل إذا ثبتت بالسند وجب قبولها واعتقاد صحتها وثبوتها، والناس في تطبيقها يختلفون، منهم من يكون صادقاً فتنطبق عليه، ومنهم من لا يصدق في الفعل والاعتقاد والالتجاء والصدق فيتخلف المخبر به، فلا يظن أن هذا يكون مقياساً أو أن هذا يجب أن ترجع إليه الأخبار.

    [قال: فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت به، فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلاً، فتفكرت في نفسي فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات].

    1.   

    مسائل باب من الشرك الاستعاذة بغير الله

    قال المصنف رحمه الله: [فيه مسائل:

    الأولى: تفسير آية الجن].

    آية الجن هي: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا [الجن:6] وقد مر معناها.

    [الثانية: كونه من الشرك].

    يعني: أن الاستعاذة بالجن من الشرك، هذا هو المقصود، وكذلك بقية المخلوقات، والاستعاذة بالأموات أعظم من ذلك؛ لأن الأموات لا يملكون أي تصرف، وليس عندهم سماع لما يقال، ولا غير ذلك.

    [الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة، قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك].

    أي: أن كلمات الله من صفاته، وأنه لا يجوز الاستعاذة بمخلوق ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أن الاستعاذة بالمخلوق شرك.

    إذاً: تكون الاستعاذة بكلماته، وكلماته من صفاته، والاستعاذة بها استعاذة بكتابه.

    [الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره].

    لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا يضره شيء)، وهذا فضل عظيم ينبغي للإنسان أن يحفظ هذا الدعاء، وألا يخل به، وأن يصدق مع الله في ذلك.

    أما الاستدلال بأن كلمات الله جل وعلا غير مخلوقة فأمر واضح، وكان هذا في وقت ظهرت فيه الزنادقة الذين أرادوا أن يفسدوا عقائد المسلمين، فلبسوا على الناس بأمور مركبة يزعمون أنها عقلية، وأنها أدلة برهانية ثم استطاعوا أن يصلوا إلى خلفاء المسلمين، وأن يكونوا هم الذين يوجهونهم، فزينوا لهم دعوة الناس إلى ذلك، بل إرغام الناس على هذا، فحصل من الفساد ومن القتل وسفك الدماء من جراء ذلك ما هو في الواقع عار إلى الآن في تاريخ أولئك، حتى أنهم زينوا لبعض الخلفاء أن يكتب على ستار الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، فراراً من قوله: (وهو السميع البصير)؛ لأنهم لا يثبتون الصفات لله جل وعلا، وكانوا يقولون: لو نستطيع أن نحك بعض الآيات من المصحف لحككناها، وسلطوا على المسلمين ما يسمونه عقلاً، وهو في الواقع جهل، وقتل من قتل من كبار العلماء من جراء ذلك.

    وصارت لهم مقالات معينة، ووضعوا أصولاً خمسة وضعوا عليها دينهم بدلاً من الأصول التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت، وهذه هي أصول المسلمين التي بنوا عليها دينهم، أما هم فجاءوا بأصول أخرى غير هذه، ومن أين أتوا بها؟ لم يأتنا بها الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما لبسوا على الناس، وجاءوا بأمور من عقولهم، وتلك فتنة ذهبت ولا ينبغي بحثها.

    [الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية -من كف شر أو جلب نفع- لا يدل على أنه ليس من الشرك].

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756372364