أما بعد:
عباد الله! لعل العقيدة التي دائماً ننادي بها فنقول: نحن أمة العقيدة. لطالما سمعناها رنانة من سلفنا رضي الله عنهم وأرضاهم.
إننا أمة عقيدة متى تمسكت بعقيدتها خافها أعداء الإسلام.
إننا أمة عقيدة متى تمسكت بعقيدتها هابها الكفر ومن كان من أعوانه، مهما كان عندهم من عتاد وعدة.
إننا أمة عقيدة متى تمسكت بها ثبتت عند الشدائد والمحن.
إننا أمة لطالما قلنا: نحن أمة العقيدة، أين عقيدتنا في خضم هذه الأحداث التي أحدقت بأمتنا المسلمة؟
إن الكلام عن الأحداث والأحاسيس حول هذه الأحداث يطول، ولطالما حدثتُ نفسي في الكلام حول هذا الموضوع، وآن الأوان أن نتكلم عن جزئية من ملاحظات حول هذه الأحداث.
إن هذه الأحداث التي نعيشها وبسببها سمينا عصرنا: عصر الفتن، فما تأتينا من فتنة إلا وأختها من بعدها، تأتي تلك الفتنة ترقق لأختها لتعلم الأمة: أنها إن لم ترجع إلى عقيدتها رجعة صادقة، وإلا فإن ما بعدها من الفتن أعظم وأعظم، إن هذه الفتنة التي أحدقت بأمتنا أعطتنا إفرازات معينة، وبينت لأمتنا منهجاً إن رجعت إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم انطلقت على المنهج المستقيم.
هذا الموضوع فلنرجع لعقيدتنا رتبته على سبعة عناصر:
الأول: حول الأحداث.
والثاني: حالة العرب قبل هذه العقيدة، أي: عقيدة الإسلام.
والثالث: مزايا عقيدة الإسلام.
والرابع: وقفة مع بعض أصول الإيمان.
والخامس: أثر العقيدة الإسلامية على المجتمعات المسلمة.
والسادس: أمثلة لرجال العقيدة.
والسابع: أمور تعين على الرجوع إلى العقيدة الصحيحة.
وأسأل الله أن ييسر الوقت لإكمال هذه العناصر.
تركنا النبي صلى الله عليه وسلم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولما أحدقت بنا الفتن أصبح الناس يتخبطون يمنة ويسرة. ما المخرج من هذه الفتنة؟ وإذا بهم نسوا ما ترك لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي: كتاب الله وسنتي) فصلى الله عليه وسلم.
إن الله قد ترك لنا هذا النور الذي أرسله على يدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل من استضاء بنور الشرع مستضيئاً بنور الله تعالى، أما كثير من الناس فقد تنكبوا عن علوم الشرع، ونسوا علم الكتاب والسنة، فلما جاءتهم الفتنة التفتوا يمنة ويسرة فلم يجدوا لهم مخرجاً، فنقول: علينا بالرجوع الصادق للعلم الشرعي.
ثم نقول: إن الكلام حول العلم الشرعي وأهميته يحتاج إلى محاضرة مستقلة، ولكن نسرد بعض هذه الملاحظات حول هذه الأحداث.
ثانياً: تبين لنا بأننا في حاجة لعقيدة إسلامية صافية ناصعة بيضاء، يستضيء الناس بنورها، إن كثيراً من الناس قد أهملوا دروس العقيدة والاهتمام بالعلم الشرعي، ورأوا أنهم قد استغنوا عن العلم لما انطلقوا للأشياء المادية، وهذا من جهلهم؛ فإن أمتنا لطالما قلنا: إنها أمة العقيدة. إن العقيدة يجب أن تسري في جسد الإنسان كما يسري الدم في جسده، لذا يجب علينا أن نرجع إلى هذه العقيدة رجعة صادقة، وهذا ما سنتوسع فيه.
اهتم كثير من المسلمين بالعلوم المادية، ولم يفكر كثير من الناس بهذا الدين، ولذا قلصت علوم الإسلام في الدراسات والتعليم، وانحصرت اهتمامات الناس بعلوم الدنيا، وعلوم العقيدة تنشأ مع الإنسان وهو طفل ثم يتدرج بعد ذلك فتضأل ثم تضعف، حتى إذا بلغ مستوى الجامعة لم يدرس عقيدةً، ولم يدر ما هي العقيدة الصحيحة، ولا المنهج المستقيم، مما يدلنا على جهلنا بعقيدتنا الإسلامية.
عقيدتنا يجب أن تربطنا بكل شيء، إن المسلم بعقيدته يسمو ويعلو، وتصبح له العزة والتمكين، إن عقيدتنا تأمرنا بأن نرتبط برب يقول للشيء: كن فيكون، وعند ذلك نقوى، وننظر إلى عزتنا وقوتنا بقوة عقيدتنا.
ثالثاً: هناك أمر حول هذه الأحداث، وهو إننا في حاجة للتفتيش عما في المجتمع من المعاصي والذنوب التي سببت مثل هذه الفتنة، وسببت تسلط الأعداء يمنة ويسرة، والله يقول: وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً [الأنعام:129].
كم هم الذين ارتبطوا بدين الله مع هذه الأحداث؟!!
كم هم الذين بعد هذه الفتنة انطلقوا لصلاة الفجر يواظبون عليها أشد المواظبة؟!!
كم هم الذين استقاموا على دين الله لما أحدقت بهم الخطوب، ورأوا شرر الحرب يتَّقد فقالوا: لا مخرج لنا إلا برجوعنا إلى الله رجعةً صادقةً، برجوعنا إلى هذا الدين وتمسكنا به تمسكاً صادقاً، ليست مجرد دعوى ننادي بها دائماً، إنما بسلوكنا العملي؟!!
رابعاً: إننا في حاجة كاملة إلى قضية التناصح فيما بيننا، إن ذلك هو الذي يضعف هذه المنكرات التي أحدقت بكل بيت مسلم في الطريق والبيت والمدرسة، قلما تتجه إلى جزء من المجتمع إلا وتجد فيه من المنكرات والمعاصي ما لا يعلمه إلا الله.
ضعف التناصح بيننا، وعند ذلك سفينة الحياة تخرق ونحن ننظر إليها، إن لم نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر، وننطلق لرفع راية الإيمان في المجتمع خفاقة كما رفعها النبي صلى الله عليه وسلم، أصبحنا في ضعف وخور، وضعفت العقيدة في نفوسنا.
يجب أن نأمر بالمعروف جميعاً: حكاماً ومحكومين، شباباً وكباراً، رجالاً ونساءً، لا نترك هذا الأصل العظيم ثم بعد ذلك نقول: لم لا نستطيع أن نقف أمام هذه الفتن؟ نقول: لأن سفينة الحياة يخرقها بعض الناس، فلا بد من إبعادهم عن خرق هذه السفينة، وإلا غرقوا وغرقنا معهم جميعاً.
خامساً: يجب أن نعلم أن من الأمور التي أخرجت لنا هذه الأحداث ضعف قضية الولاء والبراء، ولطالما سمع أحبتي محاضرات حوله، إن لنا عقيدة في مسألة الولاء والبراء، نوالي لأي شيء؟ ألأنه عربي؟! ألأنه قريب لي؟! ألأنه من قبيلتي؟! ألأني أسكن معه في موطنٍ واحد؟! ذلك ولاء وبراء قد ألغاه الإسلام، إن الولاء والبراء عندنا هو على ضوء هذا الدين، لم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)؟ ليعطينا معلماً سامياً نسمو به على ضوء عقيدتنا، وتمسكنا بهذه العقيدة، فإن أحببنا الإنسان أحببناه لله، وإن أبغضناه أبغضناه في الله، وإن كان أخانا أو من أقرب الناس إلينا.
ثم نقول في هذه الأحداث: تساقطت القومية العربية ، وأصبحت بعد ذلك أشلاءً ضعيفة؛ لما رأينا أن العربي يقتل العربي، وكلكم يراه بأمِّ عينه.
سادساً: إن أمتنا بحاجة إلى إعداد عسكري عام ليس لفئة معينة -ولعل الله أن ييسر محاضرة مستقلة سميتها: الصحابة والجهاد- آن الأوان لأن نترك الزمر والطرب واللهو واللعب، آن الأوان لشد المئزر ولحمل المدفعية والسلاح؛ لننطلق إلى بلاد الكفر لنعلن راية التوحيد خفاقة (لا إله إلا الله).
ونقول للناس جميعاً: لسنا في إعداد لمجرد دفاع عن وطن أو قومية أو غير ذلك، إنا لا ندافع عن التراب، ولئن دافعنا عن ترابنا لأنا نقول: إنه بلد إسلامي، لأن من هذا البلد انطلقت راية التوحيد خفاقة لتعلن للناس: يجب أن تدخلوا في دين الله أفواجاً، لسنا نربي الناس ليدافعوا عن مبادئ هدامة أو غير ذلك، بل نقول لهم: انطلقوا للدفاع عن راية التوحيد، حتى لا يقف أمامها أحد من الناس، هكذا علمنا ديننا، وهذه هي عقيدتنا، أوليس الصحابة الأخيار خرجوا من مكة وهي موطنهم ورجعوا مع المصطفى يرفعون سيوفهم على أهل مكة وهو موطنهم، ليعودوا وليدخلوا في دين الله أفواجاً، لم يدافعوا عن تراب بل جاءوا بسيوفهم ووضعوها في رقاب الكفار، لأنهم لم يذعنوا لراية التوحيد والعقيدة.
إن بعض الناس يظنون أننا في حاجة للقوى العسكرية فقط، وينظرون إلى قضية الأشياء المادية، وهذا من الجهل والخطأ، لسنا في حاجة للإعداد العسكري بكامله، أوليس الله يقول: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60] .. لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286] نعد ما استطعنا من قوة، ونتمسك بعقيدتنا وينصرنا رب السماوات والأرض.
سابعاً: هكذا يجب أن نعمل، أما أن تكون نظرة الناس تحليلات، كما تبثه إذاعات الغرب يمنة ويسرة، ويقارنون قواتنا بقوات الكفار فيرون عددهم أكبر، أين ارتباطنا بالرب الذي يقول للشيء: كن فيكون؟!! أين إيماننا بعقيدتنا أن ربنا يدبر السماوات والأرض: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44] .. أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ الأَرْضَ [الملك:16] أين إيماننا بعقيدتنا نحن؟!!
ونقول كذلك: إن الله قد قال لرسوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17] والله لو جاءت جميع القوى ولم يرد الله نصرنا ما استطعنا أن ننتصر على أي أحد، لم يقول ربنا: إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160] .. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]؟
نظر الصحابة إلى عتادهم وما عندهم من القوة، ويهزم الصحابة الأخيار لما اعتمدوا على قواهم المادية، فليعلم كل أحد: أن أمة الإسلام لا تنتصر بعددها وعدتها، إنما تنتصر بقوة تمسكها بهذه العقيدة.
ثامناً: إن أمتنا في حاجة إلى معرفة قضية التوكل: فإن كثيراً من الناس لا يعرفون معالم التوكل، انطلق الناس في قضاياهم لما حدث، وإذا بهم ينظرون إلى الأشياء المادية فكان همّ الإنسان منا أن يكنز من الأرز والسكر وغير ذلك من الأطعمة، أين ربنا الذي يقول: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]؟ الله هو الرازق ولن يضيع خلقه سبحانه.
ونقول: اهتم كثير من الناس بغلاء الطماطم وغير ذلك، وهذا مما يدل على ضعف التوكل عندهم، نحن أمة أُمرنا أن نرتبط برب السماوات والأرض، ونتوكل على الله حق توكله، لمَّا قال النبي صلى الله عليه وسلم موجهاً لأولئك الأخيار: (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير) الطائر يطير من الشجر ليس معه شيء من الطعام، فيجوب في الدنيا، ويأكل من رزق الله تعالى، الرازق هو الله فهو متوكل على الله حق توكله.
تاسعاً: وأمر أخير أنبه عليه: إن أمتنا في حاجة لدراسة مخططات الأعداء الذين أحدقوا بنا، كفانا غفلة وتناسياً وضياعاً ولهواً وطرباً وغير ذلك، إذا كان الأعداء يخططون لأمتنا لهدم ديننا فلا نسكت ونقول: نتوكل على الله ولا نعمل، بل نحن أمة يجب أن تكون فاحصة في نظرتها للمجتمع، إن كثيراً من الناس لا يفقهون ما يحدق بأمتهم، ولا ينظرون إلى المعاصي والمنكرات، ولا يفتشون في مجتمعهم عما أحدق فيهم من الخير، وبعض الناس في غيبوبة، فهم في حاجة إلى أن يشتروا نظارات إسلامية ليبصروا المجتمع وليروا ما فيه من المعاصي، والأخطار التي أحدقت بأمتهم، هذه أحاسيس حول الأحداث.
كان العرب في الجاهلية يدينون لعدة آلهة، لا يعبدون إلهاً واحداً. حصين لما جاء للنبي قال له صلى الله عليه وسلم: (كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة؛ ستة في الأرض وواحداً في السماء، قال: إذا أصابتك الشدائد أين تلتجئ؟ قال: للذي في السماء، قال: فاعبد الذي في السماء واترك التي في الأرض).
كان حول هذه الكعبة المشرفة من الأصنام التي تعبدها العرب ثلاثمائة وستون صنماً، يطوفون حولها، ويذبحون لها وينذرون.. إلى غير ذلك.
كانوا لا يلتزمون بالشرع، يحلون ما شاءوا ويحرمون ما شاءوا، وينسبون لله الولد، ويجعلون البنات لله سبحانه وتعالى.
كانت حياتهم مليئة بالمنكرات كانوا يقتلون أولادهم خشية إملاق، كانوا يئدون البنات مخافةً من العار، كان يغزو بعضهم بعضاً، ويفتك بعضهم ببعض، تقوم الحرب وتبقى سنوات طويلة لأتفه الأسباب؛ لأن جملاً ورد على حوض أناس فلطموه ثم قامت الحرب ويقتل الرجال، ويسبى النساء والأولاد، ويقول شاعرهم:
وهل أنا إلا مـن غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد |
أي: تبعاً لقبيلته.
وكذلك يقول الآخر:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يهدم ومن لا يظلم الناس يُظلم |
وكانت الشعوب المجاورة أيام الجاهلية، بعضها قد دخلت تحت ألوية كافرة؛ فالمناذرة تحت الفرس، والغساسنة تحت الروم، وأهل اليمن كانوا تحت حكم الحبشة، ولم يكن لهم دين ولا عز ولا تمكين.
ثم جاءتهم هذه العقيدة فنشروا دين الله في أصقاع الدنيا، وأصبح لهم تأثير عظيم في تاريخ الأمة إلى قيام الساعة، بمقتضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم) ويبينها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم (الذين يصلحون ما أفسد الناس) (أو أنهم يصلحون إذا فسد الناس) وانطلقوا من هذه الجزيرة ليشعوا للناس نور الله الذي أنزله الله عليهم.
إذاً: عقائدنا لا تتطور أبداً، بل تكون أصيلة عميقة، لا زيادة فيها ولا نقصان، ومن هنا من درس العقائد الأخرى وجد أنها تتطور في عصر من العصور؛ لتناسب الأقوام، اقرءوا تاريخ الكنيسة، فما بين مرور مائة أو مائتين سنة يجدون فيها تطويراً في أصول إيمانهم، نحن إذا جاءنا الرجل المسلم في عصرنا في القرن العشرين قلنا له: قل لا إله إلا الله. والنبي كان يقوله للصحابة أول ما يدخل أحدهم في الإسلام: قل لا إله إلا الله، إلى قيام الساعة لا تغيير في عقيدتنا ولا أصولنا الإيمانية.
وهكذا عقيدتنا وسط بين العقائد الأخرى، حتى في المذاهب الإسلامية نحن وسط في باب الإيمان والصحابة؛ لا نغلو في الصحابة حتى نجعلهم في مرتبة الألوهية، ولا نقصر فيهم حتى نسبهم، بل ننزلهم المنزلة التي نزلت أو جاءتنا في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
انطلق الصحابة الأخيار بأنفسهم يدافعون عن هذه العقيدة، فمنهم من مات في أثناء الطريق، ومنهم من أمد الله بعمره حتى وقفت هذه العقيدة في وجوه أهل الكفر، وقمع الله أهل الإلحاد فانتشر دين الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.
أوليس الصحابة ضحوا بأنفسهم وبأموالهم؟ صهيب لما انطلق من مكة إلى المدينة وترك ماله قال: [أعطيكم مالي وتتركوني أهاجر -حتى يدافع عن هذه العقيدة- قالوا: نعم] ويقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له: (ربح البيع
لم شرعت الهجرة في ديننا نحن؟!
أليست شرعت حماية لهذه العقيدة؟ كم سافر من الأصحاب رضي الله عنهم وتركوا الأهل والأقرباء والأولاد والذرية، انطلقوا فراراً بدينهم علهم أن ينشروا هذا الدين، وفتح الله ما فتح عليهم من هذه الأمصار.
إننا أمة تؤمن بأصول إيمانية، وإن أغلب هذه الأصول أمور غيبية، من منا رأى الملائكة أو الرسل عليهم الصلاة والسلام؟
من منا رأى الكتب السماوية السابقة أو الدار الآخرة؟ ومع ذلك يقال لنا: يجب أن تؤمنوا بها إيماناً حقاً. ونتساءل: لم؟ لأن الذي حدثنا بذلك هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
أوليس ربنا رب كل شيء سبحانه وتعالى؟ رب الأولين والآخرين رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17] رب السماوات والأرضين السبع وما بينهما ورب العالمين، مالك الملك سبحانه وتعالى، فلا يكون في ملكه إلا ما يشاء، ولا شريك له سبحانه في ملكه، ينزع الملك ممن يشاء، ويؤتي من يشاء سبحانه وتعالى، ويبسط الرزق ويقدره على من يشاء سبحانه وتعالى يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنْ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ [السجدة:5] وهو الذي سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو المتفرد في ملكوته وفي جبروته، والمتفرد في تكوين هذه الدنيا سبحانه وتعالى.
يعطينا الله معالم ربوبيته الشاملة: أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ [الواقعة:68-69] .. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة:58-59] إلى غير ذلك من الأشياء، ويعطينا قول النبي صلى الله عليه وسلم لـابن عباس : (واعلم أن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك).
إذاً: الأمر أولاً وآخراً لله سبحانه وتعالى.
ولما جاء أهل النفاق فقالوا: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا [المنافقون:7] رد الله عليهم بقوله: وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ [المنافقون:7].
إذا آمنا بأن لنا رباً يدبر كل شيء، يوجب لنا عزاً إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128].
ولما قال الله في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)؟! ليعطينا أن المؤمن له العزة والقوة، لا يهاب مهما كانت قوة الكفر، ومهما كان الأعداء قد أحدقوا به.
جاء أعرابي والنبي يخطب يوم الجمعة فقال: (يا رسول الله! هلكت البهائم، وأجدبت الأرض، وهلك الناس، فاستسق لنا) رفع النبي أكفه لربه: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62] وربه يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186] فلتنصرف القلوب إلى الله تعالى، ولا نلتفت إلى قوانا المادية، بل نرتبط بالرب الذي يقول للشيء كن فيكون سبحانه وتعالى.
ويرفع النبي أكفه لربه يقول: (اللهم أغثنا اللهم أغثنا، وتأتي غمامة ثم تنتشر على المدينة ويمطرون والنبي يخطب حتى يتقاطر المطر من لحيته الشريفة صلى الله عليه وسلم) من الذي جاء بهذا المطر؟ إنه الرب الذي يقول للشيء كن فيكون.
ويمطرون أسبوعاً كاملاً ما رأوا الشمس، لما خطب النبي الجمعة الثانية جاء نفس الصحابي رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! تهدمت البيوت وهلكنا، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، منذ أسبوع وهو يطلب المطر، والآن يطلب أن يكون بعيداً عنه. وإذا بالنبي يشير بالغمام هكذا بيده فينطلق جزءٌ منه تبعاً لإشارة المصطفى، ويشير هكذا وهكذا، ثم يتقطع وكأن لم يكن في السماء قزعة واحدة أو سحابة.
هكذا نحن أمة لها هذه العقيدة ترتبط بالله تعالى حق الارتباط، ويعطيها الله النصر والتأييد.
من الأمثلة كذلك: قصة سعد بن أبي وقاص لما خرج بجيش الإسلام، رأوا جيش الكفار وإذا بعدده كبير، فجاء أحد الصحابة فقال لـسعد : [يا
نحن أمة لا نرتبط بقوانا وما عندنا من القدرات وغيره، بل معنا رب يقول للشيء: كن فيكون سبحانه وتعالى.
نجد الله يخاطب هذا الكون كاملاً في قصة نوح عليه الصلاة والسلام لما قال: إنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر:10-11] جاء الماء ينهمر من السماء، وفجر الله الأرض عيوناً، هل الله عاجز عن هذه القوى الكافرة؟!! بل الله قادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
إننا أمة مرتبطة بربوبية الله تعالى حق الارتباط، فلذلك يجب أن نعلم في قصة نوح أن الكون بكامله غرق، من الذي نجا مع نوح؟! إنهم أهل العقيدة، سفينة العقيدة تنجو وما تصاب بأذى، والكون كله يصبح أهله غرقى ببهائمهم، ولم ينج الله إلا من كان مع نوح عليه الصلاة والسلام.
إلى غير ذلك من الأمور، أوليس الله قادراً على أن ينطق الجلود: وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ [فصلت:21] إذاً معنا ربنا سبحانه وتعالى إذا تمسكنا به حق التمسك، وارتبطنا به حق الارتباط نصرنا بنصر من عنده.
أليس من أسماء الله (القدير)؟ أين معنى هذا الاسم؟ إن لهذا الاسم مدلولاً عظيماً، فالله له مطلق القدرة الكاملة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [فاطر:44] .. مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [لقمان:28] .. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] الله يقول: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيراً [النساء:133] .. أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً [فاطر:44] إلى غير ذلك من الآيات العظيمة التي تثبت لنا هذا الأمر.
أليس من أسماء الله الملك؟ ما مدلول هذا الاسم؟ مالك للكون كله يصرفه كيف يشاء، فالله قادر على تصريف هذا الكون بكامله سبحانه وتعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الملك:1] الذي يصرف العالم صغيره وكبيره، كل جزئية من جزئياته هي بتصريف الملك: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26].
أليس من أسماء الله (الحكيم)؟ والحكيم عندنا هو الذي يضع الشيء في موضعه، فما حدث للدول المجاورة فإنما هو بحكمة الحكيم، بل هو أحكم الحاكمين سبحانه وتعالى، وليس لنا اعتراض على ما قدره سبحانه وتعالى، فلله فيه الحكمة العظيمة، فالحمد لله على قضائه وقدره، فإن ما مضى وما حدث أمر قد انتهى، لكن يجب أن نخطط للأمر المستقبل، فعند ذلك نعد العدة لئلا يقع فينا ما يقع من أمور مستقبلية، وهذا أصل من أصول الإيمان.
ومع ذلك نقول: إن الإيمان بالملائكة يؤثر على كل مسلم، إن من البشرى التي نسأل الله أن نكون من أهلها، إذا اجتمع الناس في حلقات العلم إذا بالملائكة تأتي فتقول: هذه بغيتكم، فتأتي الملائكة فيجتمعون ليسمعوا الخير والذكر، الله أكبر! أهل الإيمان تحفهم الملائكة وأهل الزمر والطرب تحفهم الشياطين، والحمد لله على طريق الخير والاستقامة، ونسأل الله أن يتوفانا عليه. هذا الأصل العظيم أليس الله أمرنا بالإيمان به؟!
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ [البقرة:285] ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل الذي رواه مسلم في صحيحه لما سأل عن الإيمان، قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ..) ويؤصل لنا قضية الإيمان بالملائكة، أن الملائكة يكونون معنا ونحن لا نراهم، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] وتكون مع الناس وهم لا يرونهم، لم؟ قال الله لنا في كثير من الآيات: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [غافر:7] إن حملة العرش تستغفر لأهل الإيمان، هناك فوق السموات السبع وهي تقول: (اللهم اغفر لأهل الإيمان، اللهم ارحمهم) الله أكبر! عند من تكون تلك المنقبة إلا لأهل العقيدة الصحيحة.
ويبين لنا النبي كما ثبت في سنن أبي داود بسند صحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدثكم عن ملك من الملائكة من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة خمسمائة عام).
ونتساءل: هذا الملك على ضخامته يستغفر لأهل الإيمان، الله أكبر! إن هذا يوجب لنا أن نتمسك بهذه العقيدة وبهذا الإيمان لتستغفر لنا تلك الملائكة، إننا جلسنا في هذا المسجد ننتظر صلاة العشاء، إن الملائكة تقول لكل واحد: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ونحن جلوس، من دعت له الملائكة فهذا حري بالإجابة.
إن الملائكة تنصر أهل الإيمان: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12] .. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلائِكَةِ [الأنفال:9] ثبت في صحيح مسلم : (جاء أحد الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: يا رسول الله! كنت في الجهاد فسمعت هاتفاً يقول: أقدم حيزوم أقدم، لكن لا أدري ما هو، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا من مدد السماء الثالثة جاء معكم يقاتل).
إذاً: أمتنا يكون الله معها، ويمدها الله بإمدادات عجيبة في النصر بملائكة من عنده، يمدها الله بالريح وبقذف الرعب في قلوب الأعداء.
فعلينا أن نرجع إلى هذه العقيدة، ويبين الله لأهل الخير والاستقامة: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] نفس المؤمن تودع هذه الدنيا وهذا أمر حق، وهذا من عقيدتنا، لا يدري الإنسان متى يموت ولا بأي أرض يموت، فإذا نزل ملك الموت على المستقيم إذا بالملائكة تحيط من حوله تقول له: ألّا خوف عليك ولا حزن. لا خوف عليك مما أنت قادم إليه؛ لأنك قادم إلى جنة وإلى رب رحيم، ولا حزن على ما تركت من الأموال والذرية: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [فصلت:31].
قصة واقعية: كان أحد العلماء يذكر لنا عن شيخ له لما نزل به الأجل، وكان عنده أولاده وهو يرمق إلى الباب، فنظر أبناؤه إلى الباب ما وجدوا أحداً، قالوا: لعله نظر إلى أحد يتمنى رؤيته، فانطلقوا إلى الباب فما وجدوا أحداً، رجعوا إليه وإذا به شاخص ببصره إلى الباب، سألوه: لم تنظر؟ قال: إني أرى أناساً معهم ثياب بيض ينتظرون روحي متى تخرج. هذا يبين لنا أنهم الملائكة.
هذه عقيدتنا نحن، فلنرجع لهذه العقيدة رجعة صادقة متمسكين بها.
إن مات لنا عزيز عرفنا أن هناك يوماً آخر، إن وجدنا أحداً أصيب بمصيبة تذكرنا الانطلاق من الدنيا إلى الآخرة.
لما قال لنا الله: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم:42] ما يعمله كل طاغوت في هذه الأرض من ظلم بأكل أموال الناس بغير حق، من ظلمٍ بضرب الناس أو جلدهم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيِه الأَبْصَار [إبراهيم:42] أي هذا اليوم؟
إنه اليوم الآخر، فلئن لم ينصف لنا في الدنيا، فإن الله سيقتص للخلائق جميعاً من هؤلاء الطواغيت، سواء كانوا من الظلمة الذين اعتدوا على أناس أو أخذوا أموالهم بغير حق، إن هذا يوجب لنا إيماناً باليوم الآخر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة يربط الصحابة رضي الله عنهم بقضية اليوم الآخر، وكأنها عندنا هذه الأيام تحيط بنا، حالنا هذه الأيام كحال الأحزاب لما أحدق الأعداء بـالمدينة، وجاءت العرب بقضها وقضيضها وأحاطت بـالمدينة، وإذا بالنبي يرى حال الصحابة فيهم الجوع والبرد وقلة العتاد ويعملون، ومضى لهم ثلاثة أيام ما ذاقوا شيئاً رضي الله عنهم، ويأتي الصحابي يكشف عن بطنه وقد ربط حجراً على بطنه من شدة الجوع، ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ما أصابه من الجهد، فلما رآه المصطفى كشف عن بطنه وإذا بالمصطفى قد ربط حجرين صلى الله عليه وسلم، وتكون النتيجة بعد ذلك أن يسليهم النبي تسلية عجيبة، ما يقول لهم: إنها ستنفرج ونرجع إلى رغد العيش، بل كان يقول لهم: (اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة) أين نحن من هذه المفاهيم في عقيدتنا وفي أصول إيماننا؟!!
إيماننا وعقيدتنا دائماً تربط بقضية الآخرة، ويجيب الأخيار رضي الله عنهم:
نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً |
لا وقفة للجهاد أبداً حتى تعلو كلمة الله في الأرض خفاقة براية التوحيد، في كل صقع من أصقاع الأرض.
ونجد النبي صلى الله عليه وسلم يعرض للصحابة قضية الآخرة وكأنهم يرونها رأي العين، أوليس النبي في غزوة بدر كما ثبت في الصحيح : (لما صف الصحابة صفوفاً وهو يقول لهم: قوموا إلى جنة عرضها كعرض السماوات والأرض - يشير إلى أن الجنة أمام هؤلاء الأعداء- يقول
إن هذا يدلنا على أن أمتنا يجب أن تربط بالآخرة لا بالدنيا، كم نربي أبناءنا على الشهادات والمستقبل ولقمة العيش، ويقول الناس: إن هذا الشاب قد أمن مستقبله.
إن مستقبل الأمة المسلمة هناك في الفردوس الأعلى، في جنة عرضها السماوات والأرض، ليس مستقبلها في بيت أو وظيفة أو شهادة تحملها، هكذا هي عقيدتنا.
ويأتي الصحابي يقول: أخبرتنا يا رسول الله بالجنة فكم بيني وبينها؟ قال: أن تقتل فتدخل الجنة، وكان في يده تمرات فيلقيها وراء ظهره وهو يقول: إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات، لسان حاله: من يريد زاد الدنيا فهاهو في يدي فليأخذه من شاء.
إذاً: هذه عقيدتنا، وينطلق ويدخل الجنة.
أين يوجد هذا إلا في عقيدة التوحيد الإسلام!
الله أكبر! أين نحن عن عقيدتنا التي دائماً ننادي بها؟! ويا أسفى على قومي وأمتي إذا انتصرنا في الرياضة قلنا: بتمسكنا بعقيدتنا، أي عقيدة تكون في اللهو والزمر والطرب وضياع الأوقات؟!!
عقيدتنا تخرج في الشدائد والمدلهمات ونُربط بها ربطاً عجيباً، النبي لا يؤمل الصحابة برجوعهم إلى الدنيا، بل يؤملهم بقضايا الجنة والآخرة، حتى أصبحوا يرونها رأي العين، بل يقول أنس بن النضر رضي الله عنه: [والله إني لأجد ريح الجنة دون أحد] فتحت له الجنة فشم رائحتها، فاشتاق إليها، وانطلق حتى يدخلها رضي الله عنه وأرضاه.
لو قلنا لكثير من المسلمين: قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، كم من المسلمين يتخلفون عن ذلك؟ أين عقيدتنا التي دائماً ننادي بها، أهي مجرد دعوى؟! تلك لا رصيد لها عندنا في أمة الإسلام، بل هي سلوك وعمل وانطلاق بعمل لهذه الأصول الإيمانية.
الله لما قال لنا: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8] أين يجد الإنسان حصائد تلك الأعمال؟!
إنها في الآخرة يجدها دائماً أمام عينيه، إن قضية اليوم الآخر تعطينا أصلاً عظيماً، ليعلم أولئك الطغاة والظلمة واللصوص الذين يسرقون أموال الناس ويبذرونها في غير حقها أن ربي لهم بالمرصاد ولن يغفل عنهم إطلاقاً، سواء في الدنيا يعاقبون أم في الآخرة، أوليس الله يقول: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ [غافر:58]؟! والله يقول: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] ويقول سبحانه: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21].
إن الإيمان باليوم الآخر يجعل صاحب العمل يجد في عمله ويجتهد، كم هم الذين يفرطون في أعمالهم في الدوام وفي الإنتاج وغير ذلك؛ لأنهم غفلوا عن قضية المحاسبة، وغفلوا عن قضية تأمين مستقبلهم.
إننا أمة قيل لها: إن الدنيا هي مزرعة الآخرة، قيل لها: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197] قيل لها: انطلقي بالأعمال الصالحات لترتقي في درجات الجنة.
كثيرون هم الذين إذا قيل لأحدهم: اتق الله. قال: الدنيا فانية؛ فينبغي لك أن تعيش وتأكل من متاعها، وتنسى ما أنت قادم إليه!! وهذا من الجهل والخطأ، بل إننا أمة لها زاد؛ وزادها التقوى والصلاح والأعمال الصالحة، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث البراء بن عازب قال: (بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ بصر بجماعة فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقيل: على قبر يحفرونه، ففزع النبي صلى الله عليه وسلم، فبدر بين يدي أصحابه مسرعاً حتى انتهى إلى القبر فجثا على ركبتيه -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- يقول
بعض الناس يبقى في المقبرة يضحك مع صاحبه، وربما يعزمه ويستضيفه، أين التذكر للدار الآخرة، والعرض على الله سبحانه وتعالى؟!
قال صلى الله عليه وسلم: (الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت) الذكي عندنا نحن في الدنيا، من يجمع الدينار والدرهم ويستطيع أن يكسب، لكن الكيس الحقيقي الذكي هو الذي يجمع للدار الآخرة لا لأمور الدنيا.
من آثار ذلك: أن إيماننا باليوم الآخر يسهل علينا بذل النفس والنفيس والدينار والدرهم في سبيل الله تعالى، جاء أحد الصحابة بناقة مخطومة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هذه في سبيل الله افعل بها ما شئت، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة) يقدمون الأعمال ويجدونها أمام أعينهم: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ [التوبة:111].
ويبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في أحاديث كثيرة؛ كما في حديث أنس لما قال: (قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض) ولتذهب تلك النفس ولا ترجع للدنيا؛ لأني أضعها في موقع أفضل من ذلك، الصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا ذهبوا للجهاد يودعونهم لا يريدون منهم الرجوع، ولما رجع أهل مؤتة استقبلهم الصبية وصغار الناس يحثون في وجوههم التراب يقولون: أنتم الفرَّار لم رجعتم ودعناكم على ألا ترجعوا، موعدكم هناك في جنة الفردوس، لم رجعتم إلى الدنيا وإلى أهليكم؟!!
هكذا كان الصحابة ينشئون رضي الله عنهم، وعند ذلك ما يهمهم شيء:
ولست أبالي حين أقتل مسلمـاً على أي جنب كان في الله مصرعي |
إن الإيمان باليوم الآخر يهون على المسلم الشدائد مهما كانت تلك الشدائد، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى كما في الحديث القدسي: (من ابتليته في حبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة) .. (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير؛ إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له).
إن القضاء والقدر في عقيدتنا لا بد له من مراتب أربع:
- المرتبة الأولى: مرتبة العلم.
يجب أن يعلم الناس أن الله سبحانه وتعالى عالم بكل شيء، وأنه أحاط بكل شيء علما، وأنه علم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون -سبحانه وتعالى- وأنه عالم بالخلق جميعاً بكل جزئية صغيرة أو كبيرة، حتى ورق الشجر؛ ما تسقط من ورقة في هذا الكون إلا ويعلم ربي متى تسقط، وفي أي موضع من الأرض تسقط، والله يقول: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59] ويقول سبحانه وتعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22] أي: عالم السر والعلانية، وعالم أمور الدنيا والآخرة سبحانه وتعالى إِنَّمَا إِلَهُكُمْ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً [طه:98] وإلى غير ذلك من الآيات.
- المرتبة الثانية: مرتبة الكتابة.
ما حدث لأمتنا وما حدث للدول المجاورة أحدث فلتة؟!
أليس من أصولنا أن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟!
أليس أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال القلم: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى قيام الساعة، فما حدث للأمة أمر قد كُتب، فلا بد من وقوعه!! ليس معنى هذا أن نسلم، بل ما مضى نسلم به فالحمد لله على قضائه وقدره، ونصبر، وما كان مستقبلياً نعد العدة لئلا يقع شيء من ذلك، وهكذا أمرنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له) ويقول الله تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38] .. أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70] ويقول: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61] ليبين لنا هذا الأصل العظيم.
- المرتبة الثالثة: وهي مرتبة الإرادة والمشيئة.
يجب أن نعلم أن ما حدث إنما هو بإرادة الله، ليس صدام هو الذي أراد هذا الشيء، بل الله المريد: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30] .. إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] الله هو المريد سبحانه وتعالى.
إن كل شيء يجري في هذا الكون فهو بمشيئته: (فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن) فلا يخرج شيء في هذا الكون عن مشيئته: قُلْ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:26] ويقول: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:6] ويقول: وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الإنسان:30].
- المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق.
فالله سبحانه خالق كل شيء، ومنها أفعال العباد، فلا يقع شيء في هذا الكون إلا وهو خالقه سبحانه وتعالى، والله يقول: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] .. اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16].. ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [غافر:62] .. اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ [الزمر:62].
أولاً: إن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للمسلم ارتياحاً، فلا يمرض نفسياً، إن الكفار متى حدثت بهم أدنى مصيبة جزعوا ولجئوا إلى الانتحار، أو البعد عن الواقع بمخدرات أو غيرها، أما أمة الإسلام فمهما أصابها من الشدائد والابتلاء لا تلجأ إلى هذا الشيء، بل تتمسك بعقيدتها؛ لأن لديها أصولاً إيمانية تجعل نفسها تستقر استقراراً كاملاً:
ثانياً: إن المؤمن بالقضاء والقدر يوجد له أثر أنه لا يتكبر ولا يتجبر، فإما أن يكون الإنسان عنده كثرة مال، فالمال مال الله هو الذي أعطاك إياه، هل أنا أعلم ماذا أكسب غداً؟ لا أعلم أبداً، فالمال أولاً وآخراً هو من الله سبحانه وتعالى، فلم تتكبر؟ والمعطي الحقيقي هو الله، حتى ولو كان لديك قوة جسدية، فالله هو الذي أعطاك إياها سبحانه وتعالى، لست أنت الذي أعطيت نفسك، فعند ذلك لا مجال للتكبر والتجبر على عباد الله.
إن العبد إذا أصابه الخير فإنه لا يبطر، بل إنه يسبب له هذا الخير شكر الله تعالى وحمده وتصديقه، والإيمان به، ويزداد في عبادة الله، لكن إن أصابه الشر صبر على ذلك ورضي بقضاء الله وقدره.
ثالثاً: إن من آثار الإيمان بالقضاء والقدر أنه يسحب الأمراض التي توجد بين الناس، كم هم التجار الذين يتنافسون في جمع الدينار والدرهم؟ فإذا باع صاحبه نافسه هو وأوجد له حسداً، كم هم الطلاب الذين يكونون في الفصل ويوجد بينهم التنافس والحسد والحقد؟ لماذا يأخذ درجات أكثر مني؟! ولم هذا كسب من المال؟!
إن ذلك من الله تعالى ليس منك، يجب أن نعلم أن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب للإنسان شجاعةً وصبراً عند الشدائد، وثباتاً في ساحات القتال، إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
رابعاً: خالد بن الوليد الشجعان من الصحابة رضي الله عنهم، ألم يدخل المعارك كلها وما قتل رضي الله عنه، وتمنى الشهادة وما تحققت له، يبحث عن الموت في كل موقعة، وفي كل مكان، ولم يقتل رضي الله عنه وأرضاه.
إن المؤمن بالقضاء والقدر يعلم أن الأجل بيد الله: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] ويبين لنا في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران:154].
البراء بن مالك في حديقة الموت يقول للصحابة: [ارفعوني على الرماح حتى أقفز على الحديقة] وينزل على الأعداء أجمع.. يعلم أن الأجل بيد الله، ويقاتل الأعداء ثم يفتح باب الحصن ويكبر الصحابة فيدخلون، وينصرهم الله بنصر من عنده.
خامساً: إن من آثار إيماننا بقضاء الله وقدره يوجب على الداعية إلى الله تعالى أن يصدع بالحق، لا يخاف في الله لومة لائم؛ لأنه يثق بأن الأجل بيد الله، وإن الرزق هو بيد الله تعالى، ليس بيد أحد كائناً من كان ذلك الإنسان، فلذلك يجب أن نعلم أن لهذا القضاء والقدر آثاراً علينا.
سادساً: إن الإيمان بالقضاء والقدر يوجب علينا أن نتوكل على الله سبحانه وتعالى حق توكله، إلى غير ذلك من الآثار.
ربعي رضي الله عنه وأرضاه، انطلق مع سعد في إحدى الغزوات رضي الله عنه وأعطاه سعد كتاباً إلى ملك الأعداء، وقال: انطلق به إليه.
وينطلق ربعي فلما جاء إلى قصره نظر الناس إليه؛ ترون أن كثيراً من المحلات لا يدخلها الناس إلا بصفة معينة، وإلا فلا يسمح له بالدخول، وإذا به بيت ملك من ملوك العجم، نظروا إليه وإذا ثيابه مرقعة، وكان أسمر فارع الطول رضي الله عنه، ومعه رمحه، ليس مؤهلاً لأن يدخل، لكن معه العقيدة ستدخله على رغم أنوفهم، قالوا له: أعطنا الكتاب نحن نوصله إلى الملك؟
قال: إن أميري أمرني أن أوصله إلى يده.
قالوا له: إذاً تأتي بسلاحك فلا تدخل به.
قال: ولا أدخل إلا بسلاحي وإلا رجعت.
فيدخلونه إلى بلاط الملك، وكلكم يعلم ما في بيوت الملوك من الأبهة وغيرها، فيها الحرير والديباج والرخام وغير ذلك.
دخل ربعي رضي الله عنه وأرضاه.
أهو كحالنا إذا دخلنا ننظر إلى السقف وإلى الفرشات، وننظر يمنة ويسرة فتنبهر قلوبنا؟! كلا.
انطلق بكتابه وهو يمشي إلى ذلك الملك، ثم يعطيه الكتاب ويسأله: لم جئت؟
جاء بعقيدته من جزيرة العرب يغزو بها، يقول: جئت لأخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. جئنا لنخرج الناس من عبادتك أيها الملك فإنك لا تستحق العبودية، ليعبدوا لهم رباً يقول للشيء: كن فيكون، برب يكلأ الخلق بالليل والنهار سبحانه وتعالى.
وجئنا لنخرجهم من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة.
إنك أيها الملك وما معك من المتاع والعدة وغيره والله إنك لفي ضيق، وما وعدنا النبي صلى الله عليه وسلم بالآخرة لهو السعة، ولا ننظر إلى دنياك.
هذا هو رجل العقيدة.
ثم يسأله الملك ويقول له: كم في جيش الإسلام مثلك؟
قال: إني قد خلفت في جيش الإسلام آلافاً مثلي.
قال الملك: والله ليملكن ما تحت قدمي هاتين.
كلنا ننظر إلى الأبهة وما أعددنا، إنه رمح وأسلحة يسيرة، لكن معهم العقيدة يغزون بها في كل مكان.
إذاً: نحن في حاجة إلى عقيدتنا أشد من حاجتنا إلى العتاد وغيره، وليس معنى ذلك إغفال العتاد، بل لا بد منه بمقتضى قول الله: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60].
مثال آخر ولعلكم سمعتموه، وهي قضية المساومة على العقيدة.
عبد الله بن حذافة السهمي رضي الله عنه وأرضاه؛ هو رجل العقيدة، رباه المصطفى لعقيدة يدافع عنها في كل مكان، خرج في عهد عمر بن الخطاب فأسره الروم مع بعض الجنود، وأخبر الملك أن فيهم عبد الله بن حذافة شخصية نادرة، وهو ممن رأى النبي ورباه المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال: ائتوني به لأرى كيف تربية هذا الرسول.
وجيء بـعبد الله بن حذافة ، فقال له الملك: أعطيك نصف ملكي وترجع عن دين محمد وتكون على ديني.
فماذا يقول رجل العقيدة؟
يقول: لو أعطيتني ملكك كله وملك العرب عليه ما رجعت عن دين محمد طرفة عين واحدة.
الله أكبر! كيف يعتزون بعقيدتهم؟!! ولا يتنازلون عنها في الشدائد والرخاء، عقيدتهم معهم، تمشي وتسري معهم؛ لأنها تتحرك في الجسد كتحرك الدم.
انطلق إلى أسلوب ثانٍ: صلبه على خشبة وجاء بالرماة وقال: ارموه يمنة ويسرة علَّه يخاف ويرجع عن عقيدته، يرمون السهام تمر أمام عينيه وبين جسده ويقال: أترجع عن دين محمد؟
قال: لا. من قال إنني سأرجع. ما خرجت إلا لأدافع عن عقيدة محمد، وعن دين محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم يأتي أسلوب أشد: يوقد قدرين ويضع فيهما الزيت فيغلي الزيت، ثم يؤتى بأسيرين من المسلمين، ثم يلقى أحدهما في الزيت فيتفسخ لحمه عن عظامه، وعبد الله بن حذافة ينظر، ثم يلقى الثاني أمام عينيه فيقال لـعبد الله : ترجع عن دينك وإلا ألقيناك مثلهما؟
ويذهبان رضي الله عنهما شهيدين برحمة أرحم الراحمين، ثم يجر عبد الله بن حذافة ليلقى، فلما قرب من القدر ذرفت عيناه بالدمع، فقالوا: لعله خاف، لعله يريد أن يرجع، فسأله الملك فقال له: هل ترجع عن دين محمد؟
قال: من قال لكم إني سأرجع.
قالوا: إذاً لماذا بكيت؟
قال: تذكرت أنها نفس واحدة تلقى في القدر فساعة ثم تنتقل إلى الرفيق الأعلى، وتمنيت أن لي أنفساً عدد شعر جسدي تلقى في القدر واحدة تلو الأخرى. الله أكبر! أين يوجد ذلك إلا في عقيدة التوحيد؟
هذه عقيدتنا التي دائماً نُنادي المجتمع كله فنقول: لنرجع إلى عقيدتنا، لنحيا حياة أولئك الأبطال رضي الله عنهم.
حبيب بن زيد رضي الله عنه يقطعه مسيلمة الكذاب ويقول: تتبعني. قال: لا، والعجب منهم رضي الله عنهم أن عقيدتهم تجعلهم يتحملون الشدائد فما يبكون! أحدنا لو ضربت يده أو جرحت إصبعه طلب إجازة، وترك العمل أسبوعاً أو شهراً، وذهب للإسعاف مخافة أن يموت، أولئك تأتي جراحاتهم ضخمة رضي الله عنهم، ولكن العقيدة تصبرهم وتربط على قلوبهم فما تذرف أعينهم دمعاً.
صحابي يخرج في الجهاد رضي الله عنه ويضربه أحد المشركين، وتظل يده متدلية بقطعة لحم، ويمشي بها سائر النهار يقاتل، فلما أثقلته وضعها تحت قدمه فقطعها ثم يكمل الجهاد في سبيل الله. أليس فيه عروق وشرايين ويخشى عليه الموت؟!! هو خرج بنفسه كاملة لتموت، لم يرد هذه اليد لتقطع فقط، بل جاء برقبته لتستأصل في سبيل الله. الله أكبر! هذه عقيدتنا التي ندافع عنها.
أين نحن من أناس يدعوننا إلى نبذ الحجاب، والانطلاق بالنساء في الطرقات لتصبح كنساء الغرب، أهذه هي أمة العقيدة؟!!
إذاً: أمة الإسلام تتحاكم إلى شرع الله في كل صغير وكبير، لسنا كحال بعض الأمم تتحاكم لشرع الله في قضايا الأحوال الشخصية، أما بقية شرع الله فيعطل وما ندري متى تقوم قائمته ليحكم؟ أمة العقيدة تحكم شرع الله في كل جزئية من جزئيات حياتها.
كم من الآباء يريدون أبناءهم أن يموتوا على فرشهم، أو أن يموتوا عندهم في البيت، وما يريدون رفع راية الإسلام، ولا رفع رءوسهم؟ لأن هؤلاء الأبناء قتلوا تحت راية التوحيد، جاء أحد الصحابة يقول: (يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، يقاتل شجاعة، يقاتل شهرة، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) وهكذا هي أمة الإسلام؛ لأنها تعلم أنه: فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34] ولئن آثرت الأمة بمالها وأنفقته في الجهاد في سبيل الله، فهي تعلم بأن الله يقول: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ [البقرة:261] إلى آخر الآية.
إن ربنا معنا في كل مكان سبحانه وتعالى، ربي الذي أعبده وأراقبه معي في أمريكا وفي غيرها من أصقاع الدنيا، لسنا نقول إذا خرجنا من هذا البلد:
خـلا لكِ الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري |
بل ربنا نراقبه في كل مكان سبحانه وتعالى.
أمة الإسلام في حاجة أولاً إلى أن تفهم هذا الإسلام فهماً عميقاً، إن كثيراً من المسلمين يفهمون هذا الدين أنه ليس إلا صلاة، وإعفاء لحية، وتقصير ثوب، هذا والله من الجهل، فهؤلاء لم يعرفوا العقيدة حق المعرفة، إن الفهم الصحيح أن نتمثل قول الله تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] فكل شيء في هذه الحياة الدنيا يجب أن يكون مرتبطاً بعقيدتنا، أن نستشعر بمعية الله لنا، بمراقبة الله لنا، بأننا مع الله إذا استقمنا على طاعته، وبأن الله معنا إذا تمسكنا بشرعه.
ثم نقول كذلك: ما تأثير هذا الفهم أصلاً على سلوكنا؟ فنريد أن تُدرس العقيدة لا لأجل أن يختبر فيها في آخر الفصل، ولا لأجل أن يحصل عليها درجات، ولا لأن يحمل شهادة، بل تدرس العقيدة لينطلق الإنسان بسلوكه في الحياة، إن المسلم إذا درس الكيمياء، أو الفيزياء، أو الرياضيات، ما منا أحد إذا علم معادلة ازداد إيماناً وخشوعاً وتقوى وصلى لله ركعتين، لكنني إذا ارتبطت بربٍ يقول للشيء كن فيكون، تمسكت حق التمسك، وعلمت بأن هذا يزيدني إيماناً وصلاحاً وتقوى.
كم من الناس إذا عرضت عليهم أوامر الله وحذروا من النواهي قالوا: بعد التدريج، والله المستعان، وتغير الوضع، أين رصيد العقيدة لتنفذ الجوارح تبعاً لتلك العقيدة؟!
ديننا يقاوم هذه القومية وينبذها، لسنا ننادي بقومية بل ننادي بالإسلام، وننادي بعقيدة الإسلام، القومية قد التغت منذ بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قد وضعها تحت قدميه، ويقول لرسوله: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ [الأنعام:52] .. وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28] يقال للنبي: أتريد زينة الحياة الدنيا؟ لما جاء كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (لو تركت لنا يوماً ولهؤلاء الضعفة يوماً، وينزل الخطاب من الله: وَلا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ [الأنعام:52]).
إذاً: الرابطة عندنا هي العقيدة ليست غيرها، ويجب أن يعلم الشباب فضائح العلمانية والبعثية والشيوعية يجب أن يبصر الناس بها، لا أقول العامة، لكن الطبقة المثقفة يجب أن تعلم هذه المبادئ الهدامة، والعقائد الفاسدة؛ لأنهم يخططون على عقيدتنا، يريدون أن يهدموها، يريدون أن يربطونا بروابط غير العقيدة، فنقول لهم: لا وكلا، لا رابطة عندنا إلا تحت راية التوحيد، لا إله إلا الله نرتبط تحت لوائها في كل مكان، واخسئوا أينما كنتم في أي مكان، فلا نقبل منهم مهما كان الأمر.
يجب أن نعلم أن كل من حاول مساساً لعقيدتنا ضربناه بيد من حديد، فلا هوادة في الوقوف معه، ولا مجاملة له ولا إصغاء إلى مقالته، بل عقيدتنا هي أهم علينا، نغار متى تعرض لها، وتثور ثائرتنا متى تعرض لها، ونقف بدمائنا وأنفسنا دفاعاً عن هذه العقيدة، لا نتنازل عنها بوجه من الوجوه.
إن عقيدتنا شيء غالٍ وثمين، ليست رخيصة عندنا نجعلها مجرد دعوى، كم هم الناس الذين إذا قيل لهم: أرونا سلوك هذه العقيدة. قالوا: الحمد لله تراها أنت على ظواهرنا، العقيدة ما يخرج رصيدها إلا في الشدائد، كما يقول أحد السلف: الناس في العافية سواء، وفي حال الشدائد يتميز الناس. كم خرج لنا في هذه الأحداث من مرضى القلوب، كم خرج لنا من التصرفات السيئة، كم خرج لنا من الألفاظ الكفرية، قال بعض الناس: إن قوى الكفر تقول للشيء: كن فيكون. إننا إذا ارتبطنا بالله وبقوى الكفر فلا شيء علينا ولا تثريب. من قال هذا الشيء عقيدتنا تأبى هذه الكلمات، وتحكم على أصحابها بأنهم مرقوا من الإسلام فيجب عليهم أن يرجعوا، لسنا نحابي أحداً ونقول: إن هذه الألفاظ ليست يسيرة وسهلة، بل هي ألفاظ خطيرة، فلنتمسك بعقيدة التوحيد ولنرجع إليها رجعة صادقة.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعني وإياكم في مستقر رحمته، وأن يجعلنا نموت على هذه العقيدة، وأن يتوفانا على راية التوحيد، وأن يجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله، وأن يرفع راية الجهاد خفاقة، وأن يقمع أولئك العلمانيين ومن حذا حذوهم، اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، اللهم اخسف بهم، اللهم مزقهم كل ممزق، اللهم إنهم لا يعجزونك وهم أكالوا لنا بحرب فنجعلك ربنا في نحورهم، اللهم اكفنا شرورهم بما شئت، اللهم لا تجعل لهم قائمة، وأعل راية التوحيد خفاقة في هذه البلاد، واجعلنا ممن يتمسك بهذا الدين، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعلهم آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر، معزين لمن أطاعك مذلين لمن عصاك، خاذلين لمن أراد أن ينحرف عن هذا الطريق المستقيم.
ونصلي ونسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر