إسلام ويب

يثبت الله الذين آمنواللشيخ : أحمد سعيد الفودعي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أضاف الله سبحانه وتعالى التثبيت إلى مشيئته؛ لأنه العالم بدخائل النفوس، فيثبت من يشاء ويضل من يشاء، وقد جعل للثبات أسباباً في الدنيا، وهي تحقيق الإيمان والاستقامة على صراط الله، ويترتب عليه الثبات في الآخرة عند سؤال الملكين والثبات على الصراط يوم القيامة.

    1.   

    مشيئة الله في التثبيت والإضلال

    الحمد لله رب العالمين, نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة.

    إخوتي في الله, لا نزال نتحدث عن الآيات العظيمة في سورة إبراهيم, والمثل العجيب الذي ضربه الله عز وجل للإيمان والكفران, وبعد أن ضرب الله عز وجل ذلك المثل, وأمر الناس بأن يتفكروا فيه, وأن يتنبهوا لكيفيته؛ ختم ذلك ببيان شيء عجيب, وهو جواب لسؤال قد يتبادر إلى ذهن بعض الناس, وهو إذا كان الإيمان وحقيقته وما يتفرع عنه بذلك الحسن والجمال, وإذا كان الكفر والنفاق وما يتفرع عنهما من الأعمال السيئة بتلك المثابة من القبح؛ فلماذا إذاً ينصرف بعض الناس عن الإيمان ويختار طريق الضلالة والكفران؟ وهذا السؤال أجاب الله عز وجل عنه في الآية التي بعد مضرب المثلين, فقال جل شأنه في آية عجيبة هي حديث اليوم: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].

    فلا تتعجب إذا رأيت أناساً يختارون الضلالة مع بيان حسن الإيمان وجماله, لا تستغرب إذا رأيت أناساً يختارون الشقاء بعد وضوح طريق السعادة, لا تتعجب من هذا كله, فإن سلطان الله تعالى قاهر على عباده, فهو سبحانه وتعالى يثبت من يشاء فضلاً, ويضل من يشاء حكمة وعدلاً, يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27], وفي هذه الآية أسند الأفعال إلى لفظ الجلالة تأكيداً ولم يأت بالضمائر, حتى تكون كل جملة من هذه الجمل بمثابة المثل السائر وحده, فلله عز وجل وحده الأمر كله, يثبت الله, ويضل الله, ويفعل الله, لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23], يثبت سبحانه من يشاء تكرماً وفضلاً, ويضل من يشاء حكمة وعدلاً, فهو سبحانه أعلم أين يضع فضله, أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53], فالله جل شأنه أعلم من يستحق التثبيت ممن يستحق الخذلان, فيثبت من يختاره للتثبيت, ويضل من علم أنه أهل للضلالة والشقاوة, يثبت الله, ويضل الله, وهذا تعليم للمؤمن بأن يعلق قلبه بالله وحده, وأن يتوجه إلى الله مصدر الخير سبحانه وتعالى, فما من خير في دنياك ولا في أخراك إلا وهو في خزائن الله, فعلق هذا القلب بالله, وتوجه به إليه يسق إليك خيرات الدنيا وأرزاق الآخرة.

    يُثَبِّتُ اللَّهُ [إبراهيم:27], وهذه الحقيقة أكد الله عليها في كتابه, بأن التثبيت منه وحده سبحانه وتعالى, وإلا فلو وُكِل الإنسان إلى نفسه وترك إلى اختياره لما اختار إلا الضلالة, ولما زينت له نفسه إلا القبيح, ولكن الله سبحانه بتوفيقه يعصم من يختارهم, ويعينهم على أنفسهم, فيبين لهم طريق الحق ويحببه إليهم, فيسلكوه سلوك المختار المحب, فيسعدون دنيا وأخرى, يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27], ولولا تثبيت الله ما ثبت أحد كائناً من كان, فلا يفرح عبد بطاعته, ولا يزهو إنسان بإيمانه, فإن الله عز وجل يقلب هذه القلوب.

    1.   

    تثبيت الله لعباده المؤمنين عند لقاء العدو

    الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    إخوتي في الله, من مواطن التثبيت التي يثبت الله عز وجل بها عباده المؤمنين في الدنيا التثبيت عند لقائهم لعدوهم, قال الله تعالى: إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [الأنفال:12], وأخبر سبحانه في سورة محمد بأنه يثبت من نصروا الله فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7]. فالتثبيت أمام عدو الله, التثبيت في المعارك وساحات القتال بيد الله وحده, لا يملك أحد من البشر أن ينزعه ممن ثبته الله, كما لا يقدر أحد من الناس على منحه لمن خذله الله, إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ [آل عمران:160], وكذب الروسي حين قال: بأن الجيش السوري الحر وبأن الثورة السورية لن تنتصر مهما دججت بالسلاح, فإن النصر من عند الله, وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [الأنفال:10], كذبت كل قوى الظلم والطغيان والاستبداد حين تبشر المظلومين وحين تبشر المستضعفين بعدم النصر, فإن النصر من الله عز وجل وحده, والمطلوب من العباد أن ينصروا الله, أن ينصروا دينه وأولياءه, أن ينصروا هذا الدين, وأن ينصروا حملة هذا الدين, والمجاهدين من أجل هذا الدين, وهذا النصر فرض كفاية على الأمة كلها, اليوم على أرض سوريا تقوم طائفة من المسلمين ولا أزال أكرر هذه الحقيقة مهما اختلفت أصنافها فإن كثيراً من الموسوسين - وهذا نراه على صفحات النت على اختلاف توجهاتها - يشكك في استحقاق هؤلاء الناس للنصر, إما بسبب اختلاطهم, وإما بسبب فسق بعضهم, وإما بسبب اختلاف راياتهم, ونحن نقول: بأن الله تعالى دعا المؤمنين إلى الجهاد والقتال من أجل نصرة المستضعفين أياً كان هذا المستضعف, ويسألنا سبحانه في كتابه سؤال تعجب واستغراب, فيقول سبحانه: وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ [النساء:75], أي عذر لكم في التخاذل عن القتال في سبيل الله؟ وعن القتال في سبيل نصرة المستضعفين؟ فنصرة المستضعفين عمل نبيل, وإن كان هذا المستضعف كافراً, وإن كان هذا المستضعف ملحداً, فلأنه مستضعف لا ينبغي للمؤمنين أن يتركوه فضلاً عن أن يكون هذا المستضعف مؤمناً موحداً, فضلاً عن أن يكون نائباً عنك في معركة هي مصيرك ومصيره, اليوم كشر الأعداء عن أنيابهم وقل حياؤهم, والطائفية التي كانوا يغلفونها ويحاولون ستر قبحها لم يعودوا قادرين على ستر ذلك القبح, ولم يعودوا قادرين على ترك ذلك الجفاء, تكالبوا من كل حدب وصوب, مع تباين وجهاتهم واختلاف مصالحهم, إلا أن العداء للسنة وحملتها جمعهم على هذا القاسم المشترك, فهي حرب طائفية بكل معنى، وإن كنا لا نحب إشاعة هذه الروح, ولكن ما نملك والناس يقاتلون من أجل هذا المعنى؟ ما نملك والأعراض تستباح من أجل هذا البغض الدفين؟ فواجب على أمة محمد صلى الله عليه وسلم, على أتباع منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكونوا عوناً ونصرة لإخوانهم في سوريا, اليوم الناس في سوريا يقولون: لا يحتاجون إلى عدد ورجال, وهذا من رحمة الله بنا وتيسيره علينا, وتخفيفه الأثقال والأحمال علينا, وإلا فلو كانوا يحتاجون ذلك لوجب على الأمة أن تنصرهم بأبدانها قبل مالها, لكنهم يقولون: لا نحتاج إلى العدد, ولا نحتاج إلى الرجال, إنما يعلنون بملء أفواههم أنهم يحتاجون إلى المال والعتاد, اليوم المقاتل في سوريا يحتاج إلى من يخلفه في زوجته وأطفاله, يحتاج إلى من يخلفه في أبيه وأمه, وهذا لون من ألوان الجهاد لنا, وهذه شعبة من شعبة الغزو لنا, قال عليه الصلاة والسلام: ( من جهز غازياً فقد غزى, ومن خلفه في أهله بخير فقد غزى ), نحن اليوم مأمورون بأن نخلفهم في أهليهم, فنوفر لهم الطعام والشراب والدواء والمسكن, ومأمورون بأن نعدهم بما نقدر عليه.

    فالواجب علينا أيها الأحباب ألا نبخل بشيء, فمن بخل فإنما يبخل عن نفسه, لا نستكثر كثيراً, ولا نستقل قليلاً, فصاحب الكثير لا ينبغي أن يستكثر ما ينفقه حين يراه كثيراً, وصاحب القليل لا يستقل ما ينفقه حين يراه قليلاً, فربما سبق درهم مائة ألف درهم, نحن مأمورون بنصرتهم, وهم مأمورون بنصرة أنفسهم بالثبات على دين الله, فإذا تحقق ذلك فوعد الله آت لا محالة, إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتولى نصر إخوتنا في سوريا, اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! نسألك اللهم بأسمائك كلها ما علمنا منها وما لم نعلم, اللهم يا حي يا قيوم! يا أرحم الراحمين! ثبت قلوبهم واجمع كلمتهم, وسدد رميتهم, ووحد صفهم, وقو عزائمهم, اللهم يا ذا الجلال والإكرام! يا أرحم الراحمين! أعنهم ولا تعن عليهم, وانصرهم ولا تنصر عليهم, وامكر لهم ولا تمكر عليهم, وكن لهم ولا تكن عليهم, اللهم يا ودود يا ودود! يا ذا العرش المجيد! يا فعالاً لما تريد! نسألك اللهم بعزك الذي لا يرام, وبملكك الذي لا يضام, وبنورك الذي ملأ أركان عرشك أن تكون عوناً للمجاهدين في سوريا يا رب العالمين, اللهم فرج عنهم ما هم فيه يا أرحم الراحمين, اللهم عجل لهم بالفرج, واكشف عنهم الكرب, اللهم أنزل عليهم سكينتك, وانشر عليهم فضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم لا تكلهم إلى أنفسهم ولا إلى أحد سواك طرفة عين، ولا أقل من ذلك، اللهم تول أمرهم برحمتك يا أرحم الراحمين, اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين, واخذل الكفرة والمشركين أعداءك أعداء الدين, اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فاجعل كيده في نحره, وأشغله في نفسه, واجعل تدميره في تدبيره يا قوي يا عزيز, اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها, دقها وجلها, أولها وآخرها, سرها وعلانيتها, اللهم اغفر لنا، ولآبائنا وأمهاتنا، وأزواجنا وذرياتنا، وسائر أحبتنا يا أرحم الراحمين, اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات, والمسلمين والمسلمات, الأحياء منهم والأموات, إنك سميع قريب مجيب الدعوات, اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد.

    1.   

    أسباب الثبات وحاجة المؤمن إلى التثبيت

    حاجة المؤمن إلى أن يثبت الله قلبه

    وقد قال عليه الصلاة والسلام: ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ), و ( كان إذا أقسم يقول: لا ومصرف القلوب ), فيقسم عليه الصلاة والسلام بهذه الصفة الفعلية من صفات الله؛ تصريف القلوب, ويخبر بأنه يثبت القلوب, ويصرف القلوب, فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء, وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لقلب المؤمن في تقلبه، وشدة تغير أحواله بالريشة المعلقة في مهب الريح, يقلبها الريح كيف يشاء يمنة ويسرة, وكلما فسد الزمان واقترب من نهايته, وكلما اشتد حب الناس للدنيا, وعظم تعلقهم بها, وكلما كبرت المادة في النفوس كان الإنسان أعظم تأثراً بهذا التغير, وأعظم عرضة لهذا التقلب؛ ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الحديث العجيب, الذي تطير له قلوب المؤمنين خوفاً, وتنخلع منه قلوب المؤمنين فزعاً, يقول عليه الصلاة والسلام: ( إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم يمسي الرجل فيها مؤمناً ويصبح كافراً ), ولو تأملنا هذا الحال العجيب لما ملئت أعيننا نوماً, ( يبيع دينه بعرض من الدنيا ), تأتي على الناس أزمان ومحن, وتعظم في نفوسهم الدنيا, فلا يبالي الواحد بالدين أين استقر وأين ذهب, إذا حصل على الدنيا رأى بأنه ظفر كل الظفر، وفاز كل الفوز, ولا حرج عنده أن يبيع الدين برمته, ويضحي بالآخرة بجملتها من أجل عرض بسيط من أعراض الدنيا, يبيع دينه بعرض من الدنيا, في مثل هذه الأحوال تشتد حاجة الإنسان إلى تثبيت الله تعالى, فإذا كان الله يخبرنا في كتابه عن نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لولا تثبيت الله تعالى له لما ثبت, حيث قال في كتابه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:74-75], فالتثبيت من الله تعالى وحده, وأخبره عن الحكمة في تنزيل القرآن منجماً, آية بعد آية, وسورة بعد سورة, ولم ينزله جملة واحدة, فقال في سورة الفرقان: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً [الفرقان:32], فقال الله: كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [الفرقان:32], فالرسول عليه الصلاة والسلام بحاجة إلى تثبيت فما بالك بنا نحن, فحق علينا أن نتوجه بقلوبنا إلى الله المثبت سبحانه وتعالى وحده.

    أسباب تثبيت القلوب

    يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:27], وهذا شروع وبداية في بيان أسباب هذا التثبيت, كيف يحقق الله تعالى لك صفات الخير, ويثبتها لك بصحائف أعمالك حتى تلقى الله تعالى بها:

    أول الأسباب: تحقيق الإيمان, يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم:27], وتحقيق الإيمان بفروعه الثلاثة: تحقيق إيمان القلب اعتقاداً وعملاً, وتحقيق إيمان اللسان نطقاً, وتحقيق إيمان الجسد وأركانه عملاً بشريعة الله تعالى, فكلما حقق الإنسان هذا الإيمان نال من التثبيت بقدر إيمانه.

    ثم بين الله سبحانه وتعالى وسيلة التثبيت, فقال: بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27], فيثبتون بسبب ذلك القول الثابت, والقول الثابت معناه: الكلام الحق, الكلام الثابت, الكلام الصدق الذي لا يتغير, الكلام الذي لا تعتريه شبهة ولا يدخله شك, الكلام الحق اليقين, وهذا كلام الله تعالى كله, فكلام الله كله وسيلة لتثبيتك أيها المؤمن, يضرب لك الأمثال, ويبين لك الحقائق, ويوضح لك مصائر الأمم والناس من قبلك, فيبين لك مصائر الظالمين, ويبين لك نهايات الطائعين, أين صار أولياء الله, وإلى أين انقلب أعداء الله, يوضح لك السبيل, ويحبب لك طريق الخير, وينفرك من المعصية وشؤمها, يثبتك بهذا كله, ويدلك على أرشد أمره, إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [الإسراء:9], فهذه وظيفة القرآن, فمن لم يستفد منه هذه الوظيفة فلم يستفد منه على الوجه الأكمل, فالقرآن جاء ليهديك, جاء ليثبتك, يحبب إليك الخير ويزينه في نفسك, ويقبح إليك الشر وينفرك منه, فإذا اتبعته وجعلته أمامك قادك إلى الجنة, ومن جعله وراء ظهره زج به في النار.

    معنى تثبيت الله للمؤمن في الدنيا والآخرة

    يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27], والقول الثابت من أعلاه وأجله هذه الكلمة الثابتة, التي ضرب الله عز وجل لها مثلاً بالنخلة الثابتة على الأرض, فإذا كانت النخلة مثلاً لكلمة التوحيد, فهذه الكلمة هي أثبت الكلام وأفصحه, وهي أيقن ما ينبغي أن يعقد عليه قلب الإنسان المؤمن, كلمة التوحيد؛ لا إله إلا الله, يثبت الله عز وجل بها الإنسان في حياته, فيدله على أعمال الإيمان ومقتضياته, فيعمل, ويثبته بهذه الكلمة في الآخرة، يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [إبراهيم:27], بأن يحقق في حياتهم أعمال الإيمان, فيحبب إليهم الطاعات فيعملون بها, ويتسابقون إليها, ويثبتهم بهذا الكلام أيضاً في الآخرة فيجيبون إذا سئلوا بهذا الكلام.

    وهناك أسئلة من وفق فيها نال سعادة لا يشقى بعدها أبداً, ومن خذل في الإجابة عنها انقلب إلى شقاوة لا تنقطع عنه أبداً, تلك هي مواقف التثبيت العظيمة, التي يحتاج فيها الإنسان إلى تثبيت الله.

    أول منازل الآخرة, تثبيت الإنسان في قبره حين يسأل الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ ما دينك, من نبيك؟ أو ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ وهذه الأسئلة الثلاثة على سهولتها ويسر الجواب عنها إلا أن هناك كثيراً من خلق الله لا يقدرون على الجواب, فيساقون بعد الإجابة إلى العذاب المقيم, وهناك من يثبت الله عز وجل قلوبهم وألسنتهم فيجيبون عن هذه الأسئلة بأيسر جواب وأثبته, فيساقون إلى النعيم المقيم, وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم هذا التثبيت المذكور في الآية بالإجابة عن هذه الأسئلة الثلاثة في أحاديث مختصرة, وأخرى مطولة, كلها ترشد هذا المؤمن إلى العمل بأسباب التثبيت ليجيب عن تلك الأسئلة.

    حال المؤمن والكافر عند الانتقال من الدنيا والآخرة

    القبر أول منازل الآخرة؛ كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: ( القبر أول منازل الآخرة, فإذا كان يسيراً كان ما بعده أيسر ), أو كما قال عليه الصلاة والسلام, وقد جاء في حديث البراء الطويل في وصفه حال الإنسان في لحظاته الأخيرة حين يغادر هذه الدنيا؛ لينقلب إلى الحياة الآخرة التي أول مراحلها ومنازلها القبر بيان لحالتي الإنسان المؤمن والكافر أو المنافق, وكيف ينقلب من هذه الدار, ويتبين لك بهذا الحديث فعل الله تعالى في خلقه, حيث يثبت ويضل, فيثبت من يشاء ويضل من يشاء, فقال عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث العظيم بعد أن اجتمع حوله أصحابه؛ كما قال البراء : ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار حتى إذا أتينا القبر ولما يلحد -يعني: قبل أن يلحد- فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير -يعني: مخفقي الرءوس, ساكني الحركة, لا يتحرك أحد منهم؛ كأن على رأسه طير يريد أن يصيده, وهذا من عظيم أدبهم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم- وفي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم عود ينكت به في الأرض, فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر, استعيذوا بالله من عذاب القبر، (قال الراوي: مرتين أو ثلاثاً) ثم قال عليه الصلاة والسلام: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا, وإقبال على الآخرة؛ نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس, معهم كفن من أكفان الجنة, وحنوط من حنوط الجنة -يعني: طيب من طيب الجنة, مخلوط, ليوضع عليه بعد ذلك في كفنه- فيجلسون إليه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت, فيقعد, أو فيجلس عند رأسه ثم يقول: أيتها النفس الطيبة ), وفي رواية: ( المطمئنة, اخرجي إلى مغفرة من الله ), اخرجي فليس أمامك إلا المغفرة, اخرجي ليس أمامك إلا الثواب, ولن يستقبلك إلا النعيم, فمن شدة فرحها بالبشرى تخرج مطاوعة سهلة لينة, وصفها عليه الصلاة السلام فقال: ( فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السقاء ), تخرج بسهولة ولين, تسيل من الجسد كما تسيل القطرة من القربة بلا عناء ولا مشقة, وفي رواية: ( وإن كنتم ترون غير ذلك ), نحن نرى اضطراب جسد الإنسان المؤمن، وشدة الهول والنزع عليه, ولكنها ليست الحقيقة, فإنه في غاية اليسر, وهو في غاية الفرح, بعد أن سيقت إليه البشرى, تخرج الروح سهلة طيبة فرحة, تسيل كما تسيل القطرة من السقاء, ( فيأخذها -أي: ملك الموت- فإذا أخذها لم يتركوها بيده -أي: الملائكة الذين يعاونونه- حتى يجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط, فيصعدون به -يعني: إلى السماء- وكلما مروا على ملأ من الملائكة ), بعد أن قال عليه الصلاة والسلام قبل ذلك: ( فتخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ), يصعدون بهذه الروح, وتصاحبها هذه الرائحة الطيبة, ( كلما مروا على ملأ من الملائكة قالت: -يعني: الملائكة- ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون لهم: هذا فلان بن فلان, بأحب أسمائه, أو بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه به في الدنيا, حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا, فيستفتح له, فتفتح الملائكة أبواب السماء الدنيا, قال عليه الصلاة والسلام: ويشيعه في كل سماء مقربوها حتى ينتهوا به إلى السماء التي تليها -كلما دخل سماء اجتمعت عليه الملائكة المقربون يعظمونه ويجلونه ويشيعونه حتى يصلوا به إلى السماء التي تليها- وهكذا يفعلون بكل سماء حتى يبلغوا به السماء السابعة -أي: قرب الجنة- وعند انتهاء السموات وقرب العرش، فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين -أثبتوا كتابه في عليين, أي: في الكتاب وفي الدفتر الذي تسجل فيه أرواح المقربين, ومصائر المقربين- وأعيدوه إلى الأرض, فإني منها خلقتهم وإليها أعيدهم, ومنها أخرجهم تارة أخرى, فتعاد روحه إلى جسده, ويأتيه ملكان فيقعدانه ويسألانه ) الأسئلة الثلاثة التي قلنا عنها قبل ذلك؛ ( من ربك؟ فيقول: ربي الله, ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام, ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله, فيقولون له: فيم علمت ذلك؟ ) من أين أخذت هذا العلم؟ أتقليداً واتباعاً لغيرك؟ أشيئاً سمعت الناس يقولونه فقلته؟ ( فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقته, فيناديهم مناد من السماء: أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة, وألبسوه من الجنة, وافتحوا له باباً إلى الجنة, فيأتيه من روحها -يأتيه من طيبها- ويرى نعيمها, فإذا رأى ذلك قال: رب أقم الساعة ), ويأتيه قبل هذه المسألة رجل, قال: ( ويأتيه رجل حسن الثياب, حسن الوجه, حسن الطيب, فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ), يعني: الوجه الذي بلغ الغاية في الحسن, بلغ النهاية في الجمال, ثم قال: يجيء بالخير, فمثل هذا الوجه لن ينتظر منه إلا الخير, ( فيقول له: أبشر بالذي يسرك, فهذا يومك الذي كنت توعد, أنا عملك الصالح, فيقول: رب أقم الساعة, رب أقم الساعة ), فهذا تثبيت الله تعالى للمؤمن, يسهل عليه الجواب, فيجيب بأجوبة سهلة واضحة بينة.

    الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله وأسكنه فسيح جناته جعل من هذه الأسئلة الثلاثة رسالة خاصة صغيرة الحجم, كبيرة القدر, واجب على كل مؤمن أن يعيها, وأن يعد لهذه الأسئلة أجوبتها, سماها الأصول الثلاثة, الأسئلة الثلاثة التي يجب على الإنسان المؤمن أن يكون متيقناً بها حتى يثبته الله على هذا الجواب فيسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً, وبخلاف هذا العبد الكافر, قال عليه الصلاة والسلام: ( وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة نزلت إليه ملائكة سود الوجوه, معهم المسوح -معهم ثياب خشنة للعذاب, مجهزة للنكال به- فيجلسون منه مد البصر, ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة, اخرجي إلى سخط الله ) ليس أمامك إلا العذاب, ولن ينتظرك إلا الشقاء, ولا ينتظرك إلا سخط الله, فمن شدة خوفها وفزعها تريد الفرار, تريد التخلص من هذا الخروج, فتتفرق في الجسد, وتتشتت في العروق, وتذهب في الخلايا خوفاً وفرقاً من الخروج, ولكنه كتاب الله عليها, لا بد وأن تخرج, قال عليه الصلاة والسلام: ( فتفرق بالجسد -يعني: تتفرق في الجسد- فيخرجها -يعني: ملك الموت- كما يخرج السفود من الصوف المبلول ), كما يخرج الحديدة التي أحمي عليها ليشوى عليها اللحم إذا أدخلت في القطن المبلول, فإن هذا القطن يلتصق بتلك الحديدة, ولا تخرج الحديدة منها سالمة فارغة منه, بل تخرج وقد التصق بها ما التصق؛ لشدة ما يعانيه ذلك الإنسان من نزع الروح من وسط عروقه وخلاياه, فينتزعها من جسده انتزاعاً كما ينتزع السفود إذا وضع في الصوف المبلول, فإذا خرجت, قال عليه الصلاة والسلام: ( فتخرج منها ريحة كأخبث نتن وجد على وجه الأرض ), أو كما قال عليه الصلاة والسلام, ( فإذا أخرجها أخذتها الملائكة فوضعتها في ذلك -أي: جعلتها في تلك المسوح التي جهزتها لها- وكلما صعدت على ملأ قبل أن تصل إلى السماء قالت الملائكة: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: هذا فلان بن فلان, بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا, فإذا وصلوا إلى سماء الدنيا يستفتحون له فلا تفتح, ثم تلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله سبحانه وتعالى: لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [الأعراف:40] ويأمرهم الله تعالى: أن اكتبوا كتابه في سجين -في الأرض السفلى, في قعر جهنم- فتطرح روحه طرحاً, لا تصاحبها الملائكة عند إرسالها إلى الأرض, تلقى إلقاء حتى ترجع إلى الجسد, فيأتيه ملكان ويجلسانه ويسألانه الأسئلة الثلاثة: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري, ما دينك: فيقول: هاه هاه لا أدري, ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه, لا أدري ), وهذا الجواب ينبئك عن حاله, فإنه لم يقل لا أدري ويسكت, ولكنه في حال كأنه يريد أن يتذكر شيئاً لكنه لا يستطيع أن يتذكره من شدة الهول, فالموقف عسير, يقول: هاه هاه, كأنه يريد تذكر شيء ذهب ولكنه لا يقدر على استذكاره, يريد أن يتدارك شيئاً فات ولكنه لا يستطيع تداركه, ولا يملك حينها إلا أن يقول: لا أدري, ( فيقول الله: كذب, بل كان يدري, أتته الرسل, وبلغه الكتاب, وأقيمت عليه الحجة, وبينت له المحجة -كيف يقول اليوم لا أدري- فافرشوه من النار, وافتحوا له باباً إلى النار, فيأتيه من سمومها, ويجيئه الرجل على خلاف رجل الإنسان المؤمن, رجل قبيح الوجه, قبيح الثياب, منتن الريح, فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر, فيقول: أبشر بسوء زمان أو بسوء يوم, فهذا زمانك الذي كنت توعد, أنا عملك الخبيث ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

    فهذا الموقف العسير يا معشر المؤمنين أحق ما ينبغي للإنسان المؤمن أن يستعد للثبات فيه, والاستعداد للأجوبة عن هذه الأسئلة, وهذا ليس إلا بيد الله تعالى وحده, والله جل شأنه جعل له أسباباً ومن أسباب ذلك: تحقيق الإيمان بالدنيا, فإن لله عز وجل صراطين: صراط في هذه الدار, وصراط في الدار الآخرة, فمن ثبت على هذا الصراط في الدنيا ثبته الله على ذلك الصراط في الدار الآخرة, اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7].

    نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه, ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

    أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766401900