الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
قال المصنف رحمه الله: [ فصل: في صفة الغسل.
وهو ضربان: كامل يأتي فيه بعشرة أشياء: النية، والتسمية، وغسل يديه ثلاثاً، وغسل ما به من أذى، والوضوء، ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر، ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً، ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيده، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه ].
قوله: (فصل في صفة الغسل وهو ضربان) أي: صفتان، وأراد المصنف بذلك ذكر ما كان من الغسل مجزياً بمعنى: أنه يسقط به الواجب، وذكر ما كان من الغسل مستحباً بحيث يأتي بما وجب، وبما كان من السنن المشروعة فيه، فهذا هو الغسل الكامل، وهو ما أتى فيه بما وجب وبما شرع من المستحب، وإذا اقتصد على ما وجب سمي الغسل المجزئ.
قال: (وهو ضربان: كامل)، أي: يأتي فيه بالسنن والواجب.
قال المصنف: (يأتي فيه بعشرة أشياء: النية والتسمية)، والنية واجبة، والتسمية مستحبة.
قال: (وغسل يديه ثلاثاً)، وهذا مما يستحب، (وغسل ما به من أذى) أي: يزيل ما به من أذى، وهذا إن كان في النجاسة فإنه واجب، وإن كان فيما دونها فإنه يكون مستحباً كالمني، (والوضوء)، وهذا إنما يكون قبل أن يفيض الماء على جسده، لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل غسل يديه وتوضأ وضوءه للصلاة )، فظاهر حديث عائشة رضي الله عنها أن الوضوء يكون قبل الغسل، بل هو صريح في حديث عائشة ، وإن كان في حديث ميمونة يقتضي بنوع من الدلالة -وإن لم تكن صريحة كدلالة حديث عائشة - أن الوضوء قد يتأخر، فإن في حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر وغسل قدميه، فأخذ منه بعضهم أن الوضوء يكون بعد الغسل.
والذي عليه جمهور أهل العلم وهو الأظهر أن السنة أن يكون الوضوء قبل ذلك، ولعل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ميمونة هو من تتمة الغسل، فإن في حديث ميمونة -وهو حديث متفق على صحته- أنه تأخر عن محل غسله، فغسل قدميه، فهذا أيضاً مما يشرع، ولكن الأولى من حيث السنة أن يتقدم الوضوء كما جاء مصرحاً به في حديث عائشة وهو متفق عليه أيضاً.
قال: (ويحثي على رأسه ثلاثاً يروي بها أصول الشعر)، وهذا أيضاً مما يستحب فعله ثلاثاً، (ويفيض الماء على سائر جسده ثلاثاً)، وكونه ثلاثاً مما يستحب، (ويبدأ بشقه الأيمن، ويدلك بدنه بيده، وينتقل من موضعه فيغسل قدميه)، هذا كله مما يستحب.
والأصل في الغسل الكامل ما جاء في حديث عائشة وحديث ميمونة وغيرهما.
قال رحمه الله: [ ومجزئ وهو: أن يغسل ما به من أذى وينوي، ويعم بدنه بالغسل ].
أي: يغسل سائر بدنه سواء بدأ بمقدم رأسه أو غير ذلك، وسواء بدأ باليمين قبل اليسار أو خلاف ذلك، فإذا خالف ما شرع ترك السنة، وهذا يكفي فيه ما ذكره المصنف وهو الغسل المجزئ، وبهذا تصح صلاته، وهذا مجمع عليه بين العلماء.
قال رحمه الله: [ ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع، فإن أسبغ بدونهما أجزأ ].
(ويتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع)، عملاً بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع )، فكان صلى الله عليه وسلم يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد، فيزيد على الصاع شيئاً، وهذا الاغتسال الذي ذكره المصنف جاء من حديث أنس رضي الله تعالى عنه، وهو حديث متفق عليه: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد )، وجاء في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، وهذا باعتبار المشروع، وأراد به المصنف ألا يسرف، فإن كانت الزيادة على ذلك مقصودة معتبرة في الشريعة كالنظافة ونحوها، فهذا لا يكون من باب الإسراف.
وفي صفة الغسل ينبه إلى ما يتعلق بأمر النساء من جهة إلزام المرأة بنقض شعرها إذا ضفرته، فيقال: ثمة فرق بين الجنابة والحيضة، فإن كان هذا في غسل الجنابة، فإنه لا يلزمها نقضه؛ لما جاء في صحيح مسلم من حديث أم سلمة أنها قالت: ( يا رسول الله! إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا ). ففي غسل الجنابة لا يلزم المرأة أن تنقض شعرها إذا هي شدته، وعلى هذا الجماهير من أهل العلم.
وأما في الحيضة فإنه يلزمها ذلك على الصحيح وهو أظهر قولي الفقهاء، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله عملاً بالأصل؛ لأن الرخصة في حديث أم سلمة إنما صحت في الجنابة، وأما ( أفأنقضه لغسل الجنابة والحيضة )، فهذه الرواية ليست محفوظة، إنما المحفوظ فيه: ( أفأنقضه لغسل الجنابة؟ قال: لا )، ولهذا نص الإمام أحمد على أن هذا لا يثبت، والأصل خلافه، فلا يصح ذلك في الحيض وإنما هو في الجنابة.
قال رحمه الله: [ وإذا اغتسل ينوي الطهارتين أجزأ عنهما، وعنه لا يجزئه حتى يتوضأ عنهما ].
إنما قالوا: يجزئ عنهما، قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى في كتابه ذكر أن الغسل مبيح للصلاة، ولم يذكر فيه الوضوء، فدل على أنه إن اغتسل بنية رفع الحدث أجزأ ذلك، وهذه الدلالة ليست صريحة ولا ظاهرة من الآية، إنما المراد في الآية ذكر ما يكون على سبيل الاختصاص بهذا المقام، وهو أن الجنابة تختص بالغسل، وليست كمطلق الحدث الذي يجزئ فيه الوضوء، فليس في الآية إفادة بينة لما ذكر، وإن كانت هذه الدلالة مما يحتمله الاستدلال، لكن هناك فرق بين كونها دلالة محتملة، وبين قولك: إن هذا هو ظاهر القرآن، فالقول بأنه ظاهر الآية هذا فيه بعد، ولكنها دلالة محتملة من جهة الاجتهاد والاعتبار بها، ولهذا اختلف الفقهاء في ذلك، وإن كان الجمهور من الفقهاء على أن ذلك يجزئ.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد رحمه الله أن هذا لا يجزئ، وأنه لا بد له من الوضوء، وأن هذا لا يدخل في هذا.
فهما روايتان كما سبق، والقول بأنه لا يجزئ من مفردات المذهب، لكن المسألة خلافية؛ لأن بعض أصحاب مالك رحمهم الله حكوا فيها إجماعاً أو شبه إجماع، وهذا لا يتأتى، فالخلاف في المسألة محفوظ، والرواية عن الإمام أحمد تنص على أنه لا يجزئ، وإن كان بين الأصحاب -رحمهم الله- خلاف في الصحيح من المذهب.
قال رحمه الله: [ ويستحب للجنب إذا أراد النوم أو الأكل أو الوطء ثانياً أن يغسل فرجه ويتوضأ ].
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي سعيد في الصحيح: ( إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ )، وفي رواية: ( فإنه أنشط للعود )، وهذه مدرجة.
واستحب ذلك إذا أراد النوم كما جاء من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ويكره أن ينام جنباً على غير وضوء، وهذا فيه نهي جاء في حديث عمر رضي الله تعالى عنه.
ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: ( أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا هو توضأ )، فإذا توضأ صح نومه ولو كان على جنابة، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما، ولهذا كره أن ينام على غير وضوء.
قال المصنف رحمه الله: [ باب التيمم.
وهو بدل ].
لما ذكر الوضوء وأحكامه ذكر التيمم، والتيمم هو ما جعلته الشريعة بدلاً في قول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فذكر الله التيمم في سورة النساء وفي سورة المائدة، وهو من رخص الشريعة وتيسيرها، وشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وذكر ذلك في خصائصه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث أبي هريرة وحديث جابر رضي الله عنهما في ذكر ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم وفضل به، قال: ( فضلت على الأنبياء بخمس )، وذكر مما فضل به على الأنبياء أنه جعلت له الأرض مسجداً وطهوراً.
قال: (وهو بدل)، ومراد الفقهاء بكونه بدلاً أنه لا يرفع الحدث، بل بدل عن الوضوء، فهو بدل مبيح، وليس برافع، فلا يصح مع القدرة على الوضوء إنما هو بدل عنه، وعلى هذا الجماهير من أهل العلم، وهذه مسألة خلافية.
ويترتب على هذا الخلاف ثمرة وفروع، ومعنى كونه مبيحاً أي: مبيح لما لا يصح إلا بالوضوء، كالصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف، فهل التيمم مبيح لذلك أم أنه يرفع الحدث؟
هذا فيه قولان مشهوران للفقهاء، والذي عليه جماهيرهم وهو صريح مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن التيمم مبيح وليس برافع، وهذا القول هو مذهب الإمام أحمد و مالك و الشافعي خلافاً لـأبي حنيفة ، وهو الأظهر، ويترتب على ذلك فروع كما سيأتي، وإن كانت أقوال الفقهاء رحمهم الله كالحنفية الذين قالوا: إنه رافع، لا تؤخذ باللزوم، وإنما تؤخذ بما نصوا عليه، وأحياناً بعض الفروع قد يقتضي اللازم العقلي والترتيب النظري أن من لازم هذا القول أن يكون قولهم في هذا الفرع كذا وكذا، ولكن هذا لا يلزم الجزم به حتى ينظر فيما قالوه، فأحياناً لا يسلمون بأن هذا من لازمه، وقد يخرجونه عن الأصل للموجب عندهم ونحو ذلك، وإنما المقصود أن الخلاف في هذا مشهور وإن كان مذهب الجمهور على أنه مبيح وهو الراجح، دلت على ذلك الأحاديث كحديث أبي ذر ، ولهذا وجب عليه إذا وجد الماء أن يمسه بشره، كما جاء في حديث أبي ذر وهو حديث حسن، ولو كان رافعاً للحدث لكان كالماء فإنه إذا وجد الماء لا يلزمه أن يستعمله، ولكن هذا خلاف ظاهر السنة.
فالراجح أن التيمم مبيح وليس برافع.
قال رحمه الله: [ لا يجوز إلا بشرطين: أحدهما: دخول الوقت، فلا يجوز لفرض قبل وقته، ولا لنفل في وقت النهي عنه ].
فإذا كان محتاجاً إلى التيمم لصلاة الظهر فلا يجوز له أن يتيمم من الضحى، بل ينتظر حتى يدخل وقتها، أي: وقت الظهر، ثم له التيمم بعد دخول الوقت، (ولا لنفل في وقت النهي عنه)، كتيممه لنافلة الضحى في وقت النهي عنها.
[ الثاني: العجز عن استعمال الماء لعدمه ].
والعجز عن استعمال الماء، إما أن يكون عجزاً حسياً، فقول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6]، وعدم الوجود إما أن يكون الوجود الحسي لكونه فاقداً للماء، أو عدم الوجود الحكمي، وهو أن يكون واجداً للماء، لكنه لا يستطيع أن يستعمله لكونه مضراً به أو لنحو ذلك من الموجبات، فهذا داخل في عدم وجود الماء، أو فيما سماه الفقهاء: العجز عن استعماله.
قال: [ أو لضرر في استعماله من جرح أو ضرب شديد، أو مرض يخشى زيادته، أو تطاوله، أو عطش يخافه على نفسه، أو رفيقه أو بهيمته، أو خشية على نفسه أو ماله في طلبه ] يعني: كل هذه من أوجه العجز إما الحسي أو الحكمي.
[ أو تعذره، إلا بزيادة كثيرة على ثمن مثله، أو ثمن يعجز عن أدائه ] فإذا زاد ثمن الماء زيادة فاحشة، فإنه لا يلزمه أن يشتريه، وأما إذا كانت زيادة معتادة ومغتفرة عادة، فإنه يعتبر واجداً للماء ولا يصح له التيمم، بل يجب عليه شراؤه.
قال رحمه الله: [ فإن كان بعض بدنه جريحاً تيمم له وغسل الباقي ] وهذا هو الذي ذهب إليه الإمام أحمد و الشافعي خلافاً لـمالك و أبي حنيفة .
والراجح: أنه يجمع بين الغسل لبعض البدن، والتيمم عن بعضه، فما كان بريئاً ويستطيع أن يغسله بالماء فيجب غسله بالماء من أعضائه ومن جسده، وما كان غير ذلك فإنه يتقي ذلك بالتيمم، فالجمع بينهما هو ظاهر السنة، وهو مذهب الإمام أحمد خلافاً لـمالك و أبي حنيفة .
قال: [ وإن وجد ماءً يكفي بعض بدنه لزمه استعماله، وتيمم للباقي إن كان جنباً، وإن كان محدثاً فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين ] وكذلك إن وجد ما يكفي بعضه، كما لو كان جريحاً فإن حاله تكون كذلك، فذكر المصنف مسألة الجريح، ثم ذكر بعد ذلك من لم يكن جريحاً ولكن الماء الذي بين يديه لا يكفي إلا لغسل بعض جسده، كما لو كان الماء يسيراً لا يكفي إلا لغسل شقه الأيمن مثلاً.
فالمصنف يقول: إنه يغسل به شقه الأيمن ويتيمم لما بقي، وهذا هو الراجح وهو أن يستعمل الماء بقدر الطاقة ويتيمم لما بقي.
قوله: (وإن كان محدثاً فهل يلزمه استعماله؟ على وجهين).
الراجح أنه يستعمله؛ حتى لا يقع له أنه تيمم وهو واجد لشيء من الماء.
والشريعة قد صححت في الفعل من غير وجه فيها أن بعض الأعضاء تكون مغسولة، وبعضها تكون مسقطة عن هذا الحكم بالمسح ونحوه، كما في المسح على الخفين والمسح على العمامة ونحو ذلك.
قال رحمه الله: [ ومن عدم الماء لزمه طلبه في رحله، وما قرب منه، فإن دل عليه قريباً لزمه قصده، وعنه: لا يجب الطلب ].
للإمام أحمد رحمه الله روايتان في هذا والراجح في المذهب أن طلب الماء لا بد منه، وبعض الأصحاب يعبر عنه بأنه واجب، وبعضهم يعبر عنه بأنه شرط، وهذا هو الأصل فقول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] فلا يسمى عادماً للماء إلا إذا طلبه الطلب المعتاد ثم لم يجده، فإن القادر عليه قدرة حكمية كالقادر عليه قدرة حسية، فإذا كان يستطيع أن يطلب الماء ويأتيه وإن لم يكن بحضرته فهو في الحقيقة العرفية يعتبر واجداً للماء، وكذلك يعتبر في الحقيقة الشرعية، وليس معنى كونه واجداً للماء أن يكون الماء بحضرته وفي رحله، فإذا كان رحله ليس فيه ماء وبين يديه مسافة يسيرة من باديته، أو قومه أو قبيلته، وعندهم الماء، أو الماء عند إبله أو عند غنمه، وبينه وبين الحصول عليه شيء يسير، فلا يسمي نفسه في هذا المحل فاقداً للماء، أو كان الماء يمكن أن يصل إليه عادة في محل يباع فيه الماء وجب عليه قصده، ومثله الذين في الطرقات، فالذين في الطرقات الماء مبذول بيعه في محطات البيع، فهذا لا يجوز له أن يتيمم بحجة أنه ليس في سيارته ماء، إنما يكون كذلك إذا كان في سفر، وقد دخل وقت الصلاة وهو عادم للماء، فهذا محل النظر، أما في الطرق المبذولة، فلا يصح الترخص بمثل ذلك؛ لأنه إنما بينه وبين الماء شيء يسير من الزمان حتى يصل إليه، عشر دقائق .. ربع ساعة .. نصف ساعة، ثم يصل إلى هذا المحل الذي فيه الماء، فهذا لا يسمي نفسه فاقداً للماء.
ولهذا قال المصنف: (ومن عدم الماء لزمه طلبه في رحله وما قرب منه)، أما ما بعد وتفاحش فهذا لا يلزمه؛ لأنه لو كان كذلك لأغلقت هذه الرخصة وشدد على الناس فيها، ولهذا قيد المصنف الطلب بالقرب، فقال: (وما قرب منه)، أما البعيد فإنه لا يلزمه طلبه فيه.
قال: (فإن دل عليه قريباً لزمه قصده، قال: وعنه لا يجب الطلب)، وهذه الرواية الثانية عن أحمد ، وهي مذهب الإمام أبي حنيفة ، والأولى مذهب الشافعي وهي الأظهر من حيث الدليل؛ لأن الله جل ذكره قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [المائدة:6]، فمن كان واجداً له بين يديه وجوداً بالقوة وإن لم يكن وجوداً بالفعل، ولكنه قادر على الوصول إليه قدرةً معتادة، فهذا يسمى في العرف والشرع أنه واجد للماء.
وبعض الفقهاء يقولون: إن قوله: فلم تجدوا)) أنه لا يسمى غير واجد إلا لمن طلب، هذا وجه من النظر والاستدلال، والوجه الآخر أن الوجود في حقيقته لا يختص بالوجود الذي في الرحل أو الذي بين يديه يعلمه، بل كلما قاربه فيعتبر واجداً للماء، فإذا كان قريباً منه فإنه واجد له.
وهذه مسألة فيما يظهر لي أنها بينة من حيث الدليل، فلا ينبغي التساهل فيها؛ لأن بعض العامة يقفون على عرض الطريق وبين يديهم من محطات البيع ما بينهم وبينها إلا مسافة يسيرة دقائق أحياناً أو زمن يسير، ولا يقصدون إلى الماء الذي فيها، مع أنه مبذول في الغالب بغير ثمن بل يوجد فيه المصليات والمساجد، ومع ذلك يتيمم بحجة أنه ليس في سيارته ماء، وهذا لا يصح.
قال رحمه الله: [ وإن نسي الماء بموضع يمكنه استعماله وتيمم لم يجزئه ] وهذا نص عليه الإمام أحمد ، وفيه خلاف بين العلماء، فذهب أبو حنيفة إلى إجزائه، والقول الثاني وهو مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجزئه، وعن أحمد رواية ثالثة وهي: التوقف في هذه المسألة.
وصورتها: أن ينسى الماء بموضع يمكنه استعماله، فهذا النسيان هل يكون مصححاً لفعل التيمم أو لا يكون مصححاً؟
الراجح في مذهب الإمام أحمد : أنه لا يكون مصححاً، وهذا الأظهر، والقاعدة المطردة أن النسيان في كل طهارة طلبها الشارع -وهي الطهارة المبنية على توصيف الشريعة غير الاجتناب، فالاجتناب مقام آخر- إنما يرفع الإثم، وأما العبادة فلا تصح به، فلو أنه نسي الطهارة المائية كأن كان محدثاً فصلى وهو يظن أنه ليس بمحدث، فلما فرغ من صلاته تذكر أنه كان قد أحدث فيلزمه الوضوء وإعادة الصلاة.
وهذا مجمع عليه أنه يلزمه الوضوء وإعادة الصلاة، فليس نسيانه مصححاً لفعله.
وهذا مما يجب على طالب العلم أن يفقهه في القواعد، فإن البعض توهم فيما ذكر الله في كتابه فهماً ليس في محله، وإلا فإن الله جل وعلا قال: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )، فهذا مما صرحت الشريعة برفعه، لكن يبقى محل النظر والفقه ما هو الذي رفع بالخطأ والنسيان، فليس المراد تصحيح الأفعال بالخطأ والنسيان، فهذا لا يطرد، ومن فهم من قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286] أنه يصح فعله لكونه ناسياً، فهذا خلاف الإجماع؛ لأن طرد هذا الفقه وهذا الفهم في مثل من نسي الطهارة المائية، أو من نسي الوضوء وهو محدث فإنه بإجماع العلماء صلاته باطلة، ولا بد له من إعادتها، فلم تصح مع ترك الوضوء نسياناً بالإجماع، فدل على أن قوله: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، إنما هو في المؤاخذة، وهكذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( عفي عن أمتي الخطأ والنسيان )، وما زاد على المؤاخذة عند الله الذي هو الإثم والموافاة به، والمخالفة للشريعة عند الله، فهل يكون النسيان مؤثراً أو ليس بمؤثر؟ هذا بحث آخر، ويستقرأ من أدلة أخرى.
أما أن الناظر ينظر في فرع فيصححه بالنسيان ثم ينظر إلى نظيره فلا يصححه مع أن المناط واحد، فهذا لا يكون فقهاً مطرداً.
والراجح: أن التيمم بدل عن الطهارة بالماء، وعليه يصح بدلاً عن الوضوء مطلقاً، ويصح بدلاً عن الغسل مطلقاً، فكل محلٍ للوضوء أو للغسل فهو محل للتيمم بشرط أن يكون فاقداً للماء، لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، وذكر الفقهاء لكونه مبيحاً دخول الوقت، فلا بد من هذين الشرطين، وما عدا ذلك فالراجح أنه ليس بشرط، وإلا فإن بعض الفقهاء لهم كلام في التيمم حال الحضر، والتفريق بين حال الحضر وحال السفر، وفهموا من ظاهر الآية أن التيمم إنما هو في السفر، والراجح أن التيمم يكون في الحضر ويكون في السفر، وليس هو من خصائص السفر، إنما هو بدل وضعته الشريعة، ورخصة من الله لعباده لمن لم يجد الماء كما هو صريح في كتاب الله: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].
قال المصنف رحمه الله: [ ويجوز التيمم لجميع الأحداث، وللنجاسة على جرح تضره إزالتها ] كذلك يكون التيمم عن الأحداث، وعن النجاسة؛ لأن اجتناب النجاسة شرط لصحة الصلاة، فإذا كانت النجاسة على جرح تضره -أي: المكلف- إزالة النجاسة من جرحه ساغ له التيمم.
[ وإن تيمم للنجاسة لعدم الماء وصلى فلا إعادة عليه إلا عند أبي الخطاب ] و أبو الخطاب من الأصحاب، والراجح في مسألة الإعادة أن كل من صلى على وفق شرط الشريعة وفرغ من صلاته، فلا يلزمه إعادتها، ومعنى أنه صلى على شرط الشريعة: أنه لم يكن ناسياً، فيخرج الناسي لأن الناسي عفي عنه نسيانه من جهة الإثم، لكن المقصود صلى على شرط الشريعة، أي: صلى بتيممه بعد دخول الوقت، وليس واجداً للماء، فهذا هو الضابط في هذه المسألة، من صلى وهو على شرط الشريعة، وفرغ من صلاته، فبان بعد صلاته تحقق الشرط حال فعله، ثم وجد الماء بعد ذلك، فهذا لا يعيد، ومن صلى وهو يظن أنه أتى بشرط الشريعة، فبان بعد صلاته أنه أخل بذلك جهلاً أو نسياناً، فهذا تلزمه الإعادة، وجهله ونسيانه يسقط عنه المؤاخذة، ولا يسقط عنه تصحيح الفعل، أو وجوب تصحيح الفعل، فالجهل والنسيان لا يصحح الفعل، وإنما يسقط المؤاخذة.
فمن صلى وقد أتى بشرط الشريعة وفرغ من صلاته فبان له أنه عند فراغه من الصلاة لا يزال الشرط متحققاً في حقه، ثم وجد الماء أو شفي أو نحو ذلك، فإنه لا يلزمه الإعادة، وأما من صلى يظن أنه أتى بشرط الشريعة فبان بخلافه كمن نسي الماء في رحله، ثم ذكر بعد فراغه من الصلاة، فهذا يعيد.
فكل من صلى على شرط الشريعة ولم يبن خلافه حتى فرغ من صلاته، ولم يتبين له بعد ذلك أنه وقع في جهل أو نسيان، وإنما طرأ الماء له، فهذا لا يعيد ولو كان في الوقت، وأما إذا وجد الماء أثناء الصلاة، فهذا فيه قولان للعلماء، والراجح فيه أنه يقطع الصلاة ويعيدها؛ لأن التيمم مبيح، وليس برافع، وهذا هو الراجح في مذهب الإمام أحمد ، وأما من قال: إنه دخل الصلاة بفعل صحيح، فلا يقطع إلا بدليل صحيح فهذا تقعيد مجمل صحيح، لكن إنما قطعت صلاته؛ لأنه لم يستتم الشرط في بقيتها، فهذا استدلال في غير محله؛ لأن الفرق بين أول الصلاة وآخرها ظاهر، فلا يسوى حاله أولها وهو فاقد للماء بحاله آخرها وهو واجد للماء.
قال رحمه الله: [ وإن تيمم في الحضر خوفاً من البرد وصلى، ففي وجوب الإعادة روايتان ].
والراجح أنه لا يعيد، فكل من تيمم على شرط الشريعة ولم يبن جهله أو نسيانه فيه، فإنه لا يعيد بعد فراغه من صلاته، قال: (ففي وجوب الإعادة روايتان).
قال رحمه الله: [ ولو عدم الماء والتراب صلى على حسب حاله، وفي الإعادة روايتان ].
فلو عدم الماء والتراب صلى على حسب حاله، وهذا هو الراجح وهو الذي عليه الجماهير أن الصلاة لا تسقط عنه إذا كان لا يستطيع التيمم، لعدم وجود التراب عنده أو ما يتيمم به، ومثله إذا كان لا يمكنه فعل ذلك، فإنه يجب عليه الصلاة. فالصلاة لا تسقط بحال.
قال رحمه الله: [ ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد ].
هذه من أشهر مسائل الخلاف في التيمم، فأشهر ما اختلف فيه في التيمم عند الفقهاء مسألتان:
الأولى: هل التيمم مبيح أو رافع؟ وهذه لها فروع، والمسألة الثانية: بم يكون التيمم؟
فالحنابلة يقولون وهو قول كثير من الفقهاء كما قال المصنف: (ولا يجوز التيمم إلا بتراب طاهر له غبار يعلق باليد)، وأخذوا ذلك من قوله جل وعلا: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، وهذا قول طائفة من السلف والخلف: أن التيمم يكون بالتراب.
وفي المسألة أقوال للفقهاء أوصلها بعضهم إلى سبعة أقوال أو تزيد. فلـأبي حنيفة فيها قول بخلاف ذلك، و للأوزاعي طريقة، ولـإسحاق طريقة، فالخلاف في هذه المسألة من الخلاف المشهور، وإذا نظرت في قول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، رأيت الآية ليست نصاً في التراب، وإنما هي في الصعيد، والصعيد على الراجح لا يختص بالتراب.
وأما قوله: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً )، فهذا باعتبار أن هذا الاسم يطلق بالغلبة على ما على الأرض، ولا يراد به المعنى الأخص الذي هو التراب الذي يفارق الرمل والحجارة ونحو ذلك، وتوسع بعض العلماء رحمهم الله، فقالوا: كلما كان صاعداً على الأرض من غير فعل الآدمي، فجوزوا التيمم بالشجر ونحو ذلك، وقالوا: كلما نبت على الأرض فإنه كالأرض، فيجوز التيمم بالشجر وأوراقها ونحو ذلك، ومذهب مالك فيه واسع، وكذلك الأوزاعي ، وإن كان بين طريقة مالك و الأوزاعي بعض الفرق.
والأظهر في هذه المسألة أن كل ما كان أرضاً معتادة فإنه يصح التيمم به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، وهذه الرخصة جعلها الله للمسلمين كافة، والأصل في دعوته أنها لجميع بني آدم، والأرض مختلفة الحال، فأقاليم منها فيه التراب، وأقاليم منها فيه الرمل، وأقاليم منها فيه الحجارة، وهلم جراً، فكلما كانت أرضاً معتادة فإنه يصح التيمم به، وهذا مبني في الحقيقة على مسألة قد لا تكون من اختصاص الفقيه، وهو أنه: هل تنفك الأرض المعتادة عما يقصده الفقهاء بكلمة التراب؟
هذا محل بحث أيضاً، فإن الرمل يخالطه شيء من ذلك ولا بد، والحجارة يخالطها شيء من ذلك ولا بد، وإن كان لا يتمحض أنه التراب الذي يقصده الفقهاء، لكن تجد أن مادتها يخالطها شيء من ذلك، فهذا من حيث التحقيق أيضاً في ماهية هذا الشيء هل هو متأتٍ أو ليس بمتأتٍ؟ لكن على كل تقدير فإنهم يقولون: الحجارة، مع أننا لا نرى في الأرض حجارة ملساء صافية لا يخالطها شيء من مادة التراب، فهذا يكاد يكون غير متأت إلا في مواضع مقصودة، لكن كصفة لأرض، فالحجارة لا تنفك عما هو من التراب، على المقصود في كلامهم.
فالخلاصة: أن ما كان أرضاً معتادة صح التيمم به؛ لعموم قول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، فذكر في القرآن مطلقاً، وما قيد إلا بكونه طيباً: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، وهذا الوصف أنه طيب ليس راجعاً إلى ماهية اختلاف أقاليم الأرض من جهة كونه تراباً أو رملاً، فإنك لا تستطيع أن تقول: إن الطيب هو ما كان تراباً، وأما ما كان رملاً فلا يسمى طيباً فالوصف الذي ذكر هنا دل على أنه إعلان للمقصود، ولهذا أخذ منها الفقهاء أن يكون طاهراً مباحاً؛ لأنه هو الطيب في قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، فالطيب هو: المباح الطاهر، وما بعد ذلك فكلما كان صعيداً -أي: أرضاً معتادة- وفيما يظهر لي أن هذا وصف مناسب، وهو شبيه بما عبر عنه كثير من السلف كـمالك في إحدى الروايتين والإمام الأوزاعي وجملة من العلماء رحمهم الله، ويخرج عن ذلك الشجر وما في معناه مما اتصل بالأرض ولا يسمى أرضاً، فإن الشجر لا يسمى أرضاً؛ ولهذا اختلف العلماء فيما إذا باع الأرض هل يدخل فيها الشجر وما عليها أو لا يدخل؟ فمن أدخل ذلك جعله من باب التبع، فهذا بدهي في العرف والشرع أنه ليس أرضاً، فلا يكون كذلك، ومن قصره على التراب وحده يرد عليه سؤال وهو: ومن لم يكن بين أيديهم تراب؟ على معنى التراب عندهم، وكالأقاليم التي ليس فيها تراب، ولا سيما أنهم يقولون: التراب والرمل والحجارة، فيجعلون الحجارة ليست من التراب، مع أن الحجارة لا تنفك عما هو كذلك في الغالب، وهي مركبة في كثير من الحال من شيء من ذلك، بمعنى أنه يخالطها التراب، ويقع بين جنباتها التراب، ويغطيها بفعل الرياح وحركة الرياح أجزاء كثيرة من التراب، فلا تأتي حجارة مصمتة لا يخالطها أو يغطيها شيء من التراب.
قال رحمه الله: [ فإن خالطه ذو غبارٍ فلا يجوز التيمم به كالجص ونحوه، فهو كالماء إذا خالطته الطهارات ]، الجص لا يصح التيمم به؛ لأنه ليس أرضاً معتادة، والملح كذلك؛ لأنه ليس أرضاً معتادة، وهو معدن منفصل، فمثل هذه الأشياء الجص والملح لا يصح التيمم بها؛ لأنها ليست أرضاً معتادة، وهي في حكم المنفصل عن الأرض.
قال رحمه الله: [ فصل: وفرائض التيمم أربعة: مسح جميع وجهه ] فروض التيمم كما سبق أن ذكر فروض الوضوء، أي: ما لا بد منه في التيمم، قال: (مسح جميع وجهه)، فلا بد من استيعاب الوجه بالمسح، وإن كانت صفة المسح ليست هي كاستيعاب الغسل، فالغسل لا يعفى عن شيء منه ألبتة، أما المسح فالمقصود الإمرار على جميع الوجه، لكن ليس بالضرورة أن أصابعه أو كفه تنال كل جزء من وجهه، إنما أراد رحمه الله أنه لا يأتي على جزء منه، فلا يقصد إلى أسفله أو إلى أعلاه فقط.
قال: [ ويديه إلى كوعيه، والترتيب، والموالاة على إحدى الروايتين ].
قوله: (ويديه إلى كوعيه) أي: الكفين، والمراد بالكوع كما هو معروف: العظم الذي يلي الإبهام من اليد، فما يلي الإبهام من اليد فهو الكوع، وما يقابله مما يلي الخنصر يسمى الكرسوع، فهذا هو الواجب من جهة التيمم.
قال: (والترتيب والموالاة على إحدى الروايتين)، و(الترتيب والموالاة)، أما اليدان والوجه، فلقول الله جل وعلا: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فذكر الله الوجه واليدين، وأصل اليدين أنها إلى الكوع ما جاء في السنة من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأما ما ذكره المصنف في الترتيب والموالاة، فهذا هو الأصل، وفيه عن أحمد روايتان، وهما قولان للفقهاء، والراجح أنه لا بد من الترتيب والموالاة؛ لأنها رخصة، وبدل عن الوضوء، فأعطي حكمه.
قال رحمه الله: [ ويجب تعيين النية لما يتيمم له من حدث أو غيره ] النية شرط للتيمم في مذهب أكثر العلماء، وهو مذهب الأئمة الأربعة، مع العلم أن أبا حنيفة رحمه الله لم يشترط النية في الطهارة بالماء، ولكنه اشترطها في التيمم، بل أوجبها في التيمم، فهي واجبة في التيمم عند الأئمة الأربعة.
قال: [ فإن نوى جميعها جاز، وإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر ].
(فإن نوى جميعها جاز) أي: نوى جميع ما يشترط له رفع الحدث، وهو غير واجد للماء، فنوى أكثر من ذلك، أي: أكثر من سبب، (فإن نوى جميعها جاز، وإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر) إذا لم يستصحب، وهذا معنى قول المصنف: (وإن نوى أحدها لم يجزئه عن الآخر)، والراجح من مذهب الإمام أحمد وهو مذهب مالك خلافاً للشافعي و أبي حنيفة ، فعند الشافعي و أبي حنيفة أنه إذا تيمم ارتفع ما تجب له الطهارة ولو لم ينوه، ما دام أنه نوى ما هو برتبته مما يجب له التيمم بدلاً عن الطهارة بالماء.
أما على مذهب أبي حنيفة ، فهذا يتأتى؛ لأن أبا حنيفة يجعل التيمم رافعاً، وأما على مذهب الشافعي ، فهذا أخذوه على نوع من القياس والترتيب، ولهذا سبق الإشارة إلى أنه لا ترتب نتيجة هذا الخلاف بشكل مسبق، بل لا بد من النظر في كلام الفقهاء وما التزموا به من هذه اللوازم، وما لم يلتزموا به.
قال المصنف رحمه الله: [ وإن نوى نفلاً أو أطلق النية للصلاة لم يصل إلا نفلاً ] وهذا هو الراجح؛ لكون التيمم مبيحاً وليس رافعاً، لكن لو نوى فرضاً صلى به نفلاً، وإن نوى الأدنى لم يصل به الأعلى، إن نوى الأدنى أي: النفل لم يصل به الفرض؛ لأنه لا يرفع حدثه، وهو لا بد فيه من تعيين النية.
قال: [ وإن نوى فرضاً فله فعله، والجمع بين الصلاتين وقضاء الفوائت، والتنفل إلى آخر الوقت ].
سبق أن ذكر أن التيمم لا يكون إلا بعد دخول الوقت، فهو باقٍ معه إلى أن يخرج الوقت، فإن صلى به في الوقت جمعاً كما لو تيمم لصلاة الظهر فجمع العصر معها جمع تقديم، أو قضى فائتة في أثناء وقتها كل ذلك يصح، وإذا انتهى الوقت بطل تيممه ولا بد له من تيمم آخر.
قال رحمه الله: [ ويبطل التيمم بخروج الوقت ووجود الماء ومبطلات الوضوء ] أما مبطلات الوضوء، فهذا بيّن وليس فيه شيء من الخلاف، فهذا بدهي، أنه يبطل بمبطلات الوضوء، فإذا بال مثلاً بطل وضوءه، فيقال: بطل تيممه.
وأما خروج الوقت، فهذه مسألة فيها خلاف بين العلماء، وليس فيها نص صريح وإنما هي مأخوذة من فهمهم لهذه الرخصة، وما جاء من الآثار فيها، والذي عليه جماهير العلماء، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله، و مالك و الشافعي أن خروج الوقت يبطل التيمم.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب الإمام أبي حنيفة ، وحكاه طائفة رواية عن الإمام أحمد : أن خروج الوقت لا يبطل التيمم.
والراجح هو القول الأول: أن خروج الوقت يبطل التيمم؛ لأنه سبق أن التيمم مبيح للصلاة، ولا يكون مبيحاً إلا بشرط أن يكون بعد دخول وقتها، لأن الشريعة رتبت الأسباب على المسببات، فإذا صلى صلاة الظهر بالتيمم، وخرج وقتها، ثم حضرت فريضة أخرى ودخل وقتها وليس معه ماء، فتيممه السابق لا يفيده، لأنه إنما رخص له في التيمم عند قيام سببه، والفريضة إنما يكون سببها قد قام إذا دخل وقتها؛ لأن فعلها قبل الوقت لا يصح.
ومن طرد القول أنه يصح قبل دخول الوقت قال بعدم بطلانه بخروج الوقت، وهذا فيه بعد، ومبنى ذلك أن العبرة بقيام السبب، فقبل دخول وقت الفريضة ما قام سببها؛ لأنها لو فعلت قبل دخول وقتها ما صحت إلا لو كان الشارع قد رخص في جمعها، ولهذا صححوا الجمع في الوقت الواحد بتيمم واحد في المذهب وهو قول الجمهور.
لكن إذا خرج وقتها فهو كالمسح على الخفين إذا انتهى وقته، فإن الرخصة إذا انتهى وقتها بطل حكمها، وإنما يقال: إنه انتهى وقتها؛ لأن السبب قد انتهى وفعلت العبادة، والعبادة الثانية قام سببها مستأنف، فلا بد فيه من تيمم؛ لأن الأصل أنه يتوضأ بالماء، فهذا فيما يظهر -والله أعلم- أن الراجح ما ذهب إليه جماهير العلماء وهو مذهب الإمام أحمد و مالك و الشافعي رحمهم الله أن خروج الوقت يبطل التيمم؛ لأن من صحح ذلك فقد صحح التيمم قبل قيام سببه، وصحح الرخصة قبل قيام سببها، والفريضة لا يكون سببها قد قام قبل دخول وقتها؛ لأن فعلها قبله لا يصح؛ لأنه لم يقم السبب المرخص له، هذا مأخذ المسألة.
وهذا النوع من المسائل: أن التيمم مبيح، وأن خروج الوقت فيه يبطل التيمم ومثله ما سبق في مسائل المسح على الخفين ربما المشهور في هذا العصر أن الترجيح على خلاف ذلك، لأجل بعض التقعيد البسيط الذي صار الكثير يستعملونه أن الأصل صحة التيمم فلا يبطل إلا بدليل، ولا يوجد دليل، ونفي الدليل هنا فيه نوع من التحكم؛ لأن نفي الدليل هو محل النزاع، وهذا أشبه ما يكون بالاستدلال بمحل النزاع؛ لأنه لو لم يكن هناك دليل لرجعنا إلى استصحاب الأصل، ثم يقال: ما هو الأصل في ذلك.
فالمقصود أن هذه المسائل لا ينبغي لطالب العلم أن يستغرب الراجح فيها على هذا الترتيب، وإن كان الخلاف فيها محفوظاً، وكلا القولين له وجهه واعتباره، فلا يقصد الإسقاط للقول الثاني، وإنما يقصد أن بعض هذه المسائل صار يستغرب فيها القول بأن التيمم مبيح، وكأن هذا على خلاف الدليل، وأن ظاهر القرآن جاء بخلافه وليس كذلك، فظاهر القرآن فيه: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشره )، فلو كان التيمم رافعاً لما كان هناك حاجة إلى أنه إذا وجد الماء مسه بشره كما في حديث أبي ذر ، فظاهر السنة بيّن في أن التيمم مبيح وليس برافع، ويرتب عليه هذه الأحكام.
قال: (ووجود الماء)، وكذلك إذا وجد الماء على الراجح كما في حديث أبي ذر ، واحتج به الإمام أحمد ورواه أبو داود وغيره.
[ فإن تيمم وعليه ما يجوز المسح عليه ثم خلعه، لم يبطل تيممه، وقال أصحابنا: يبطل ].
(لم يبطل تيممه) في أحد القولين في مذهب الإمام أحمد ؛ لأنه لم يكن فرضه هو الغسل بالماء خلافاً لما قالوه في الطهارة المائية.
قال: [ وإن وجد الماء بعد الصلاة لم تجب إعادتها ]. وهذا سبق أنه إذا وجد الماء بعد خروج الوقت وقد صلى بالتيمم، فالإجماع منعقد على أنه لا يلزمه الإعادة، وأما إذا كان في الوقت، فهذا فيه بعض الخلاف، والراجح فيه ما سبق، أنه إن تيمم على شرط الشريعة ولم يبن خلافه فإنه لا يجب عليه أن يعيد، وإن تيمم على ما ظنه كذلك فبان خلافه وجب عليه أن يعيد في الوقت أو بعده.
قال: [ وإن وجده فيها بطلت، وعنه لا تبطل ] فهما روايتان عن الإمام أحمد ، وقولان للفقهاء، والراجح أنه إن وجد الماء أثناء الصلاة بطلت، ويجب عليه أن يستأنف الطهارة والصلاة.
قال رحمه الله: [ ويستحب تأخير التيمم إلى آخر الوقت لمن يرجو وجود الماء ] استحب ذلك طائفة من الأصحاب، وهو مذهب مالك رحمه الله، والقول الثاني: عدم استحباب ذلك، وإنما وجه الاستحباب لعله يكون واجداً للماء، فيكون آخذاً بالفاضل، فإن استعمال الماء هو الفاضل في الأصل، وهذا مرتب على وجه الاعتبار والقياس، وليس فيه نص في ذلك، وفيه عن الإمام أحمد أكثر من رواية، كما ذكر الأصحاب رحمهم الله.
[ وإن تيمم وصلى في أول الوقت أجزأه، والسنة في التيمم أن ينوي ويسمي ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابعه، وكفيه براحتيه ].
فالسنة (أن ينوي ويسمي) والنية شرط أو واجب على ما سبق، والتسمية مستحبة.
(ويضرب بيديه مفرجتي الأصابع على التراب ضربة واحدة)، وهذا محل خلاف بين العلماء: هل التيمم ضربتان أم ضربة واحدة؟
والصحيح في مذهب الإمام أحمد أن التيمم ضربة واحدة، وهذا هو ظاهر السنة كما جاء في حديث عمار رضي الله عنه في الصحيح، قال: ( بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت بالصعيد كما تمرغ الدابة، ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، وقال: إنما كان يكفيك أن تقول هكذا، ثم ضرب بيده الأرض ضربة واحدة، ومسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه )، فحديث عمار في الصحيح بيّن في أنه ضربة واحدة، ولا يصح في الضربتين حديث كما نص عليه الإمام أحمد وغيره من أهل الحديث، وأما حديث ( التيمم ضربتان )، فإنه حديث ليس بمحفوظ، بل قال الإمام أحمد : إنه منكر، فلا يصح حديث في التيمم أنه ضربتان، كما صرح به كثير من متقدمي أهل الحديث كالإمام أحمد وغيره، والمعتبر فيه حديث عمار ، لكنه لو تيمم بضربتين صح؛ لأنه أتى بالمجزئ، وإن كان هذا خلاف السنة.
[ وقال القاضي: المسنون ضربتان ] كما هو مذهب طائفة من العلماء منهم الشافعي ، ولكنه خلاف السنة.
قال: [ يمسح بإحداهما وجهه وبالأخرى يديه إلى المرفقين، فيضع بطون أصابع اليسرى على ظهر أصابع اليمنى، ويمرها إلى مرفقه، ويدير بطن كفه إلى بطن الذراع ويمرها عليه، ويمر إبهام اليسرى على ظهر إبهام اليمنى، ويمسح اليسرى باليمنى كذلك، ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل الأصابع ].
هذه هي صفة التيمم على ما ذكره المصنف، والراجح فيه عدم استحباب التخليل.
قال رحمه الله: [ ومن حبس في المصر صلى بالتيمم ولا إعادة عليه ].
(ومن حبس في المصر) أي: منع من الماء (صلى بالتيمم ولا إعادة عليه).
قال: [ ولا يجوز لواجد الماء التيمم خوفاً من فوات المكتوبة، ولا الجنازة، وعنه يجوز للجنازة ].
فلا يجوز إذا كان واجداً للماء أن يتيمم خوف فوات المكتوبة، ولا خوف فوات الجنازة إذا كان المقصود جماعة، وعنه يجوز للجنازة، اختار ذلك طائفة منهم ابن تيمية رحمه الله: أنه إذا خشي أن ينصرف الإمام عن صلاة الجنازة، لو ذهب يتوضأ، فإنه يتيمم ويدخل مع الإمام في صلاة الجنازة حتى لا تفوته، وهو خلاف الأصل كما ترى.
قال رحمه الله: [ وإن اجتمع جنب وميت ومن عليها غسل حيض فبُذِلَ ما يكفي أحدهما لأولاهم به فهو للميت، وعنه أنه للحي، وأيهما يقدم؟ فيه وجهان ].
(وأيهما يقدم) أي: من عليها غسل حيض، أو من عليه جنابة على هذه الرواية، ولكن الراجح أنه للميت، أي: يقدم غسل الميت به؛ لأن حق الميت فرض كفاية على المسلمين جميعاً، فهو متعلق بمن وجده، فيقدم الميت على الصحيح من مذهب الإمام أحمد ، ولأن الحي مظنة أنه يجد الماء.
نقف على هذا، وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر