الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
ذكر أكثر أهل العلم أن دفن مسلمين في قبر واحد محرم إلا لحاجة، والواقع أن التحريم حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، والرسول صلى الله عليه وسلم في معركة أحد دفن الرجلين في قبر واحد، ومن المعلوم أنه ليس ثمة حاجة كبيرة، فعدد القتلى سبعون، وهناك مكان لدفنهم فليست الأماكن ضيقة، خاصة أن الدفن في الصحراء كان معروفاً، ولأجل هذا فإن القول بالتحريم يحتاج إلى دليل، والذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك مكروه، وكونه صلى الله عليه وسلم استمر على أن يدفن في كل قبر شخصاً هذا يدل على الاستحباب، وفعل الاستحباب لا يدل تركه على أنه محرم، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفن الرجلين في قبر واحد، فـجابر بن عبد الله دفن والده مع رجل آخر فأخرجه بعد ستة أشهر ودفنه في مكان آخر، ولم يتغير إلا جزء من أذنه، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في معركة أحد، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل الحرام بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ومن المعلوم أن فعل الحرام لا يتأتى إلا لضرورة، ولا ضرورة بدفن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قبر واحد، فدل ذلك على أنه مكروه، وليس بحرام، ولهذا ذهب الشافعية و أبو العباس ابن تيمية إلى أن ذلك مكروه وليس بحرام، وهذا هو الراجح والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (قبل بلي السابق)، يعني: إذا بلي السابق ثم أبعد ووضع في القبر رجل آخر لحاجة فلا حرج، وإذا لم يكن ثمة حاجة فالأصل ألا يفتح القبر لأنهم ربما يجدون في قبر فلان شيئاً من الأمور، وقد ستره الله عليه، ولهذا قال: ( فأنا قد سترتها لك في الدنيا، وأنا أسترها لك في الآخرة )، ففتح القبر مدعاة إلى أن ينظر الإنسان فيه ما ليس بمحمود، ولهذا فالذي يظهر والله أعلم أن الأصل أنه لا ينبغي فتح القبر إلا إذا كان ثمة ضيق في المقابر، وهذا يدل على الكراهة، أما الأصل فالقبر لا يدفن فيه آخر، والسنة ألا يدفن فيه إلا واحد، ويكره أن يفتح قبر مسلم؛ لأن القبر من الستر الذي ستره الله عليه، فلربما وقع فيه شيء واطلع عليه الناس، وقد قال سبحانه وتعالى: ( فأنا قد سترتها لك في الدنيا، وأنا أسترها لك في الآخرة )، والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن حفر فوجد عظام ميت دفنها وحفر في مكان آخر)، هذا هو السنة، يعني: إذا حفر فوجد عظاماً بالية، عظاماً نخرة، فإنه يدفنها ويحفر مرة ثانية؛ لأن المسلم له حرمة، أما إذا كانت قبور كفار، فإنها تنبش، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث أنس أنه نبش قبور المشركين وأقام فيها مسجده صلى الله عليه وسلم.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (إلا لضرورة)، والراجح إلا لحاجة، كما هو مذهب الشافعية واختيار ابن تيمية ، فالضرورة والحاجة هي كثرة الموتى، وقلة من يدفنهم، كما يوجد الآن بعض المقابر الجماعية التي يتسبب فيها بشار عليه من الله ما يستحق، فإن إخواننا يحتاجون إلى أن يدفنوا هؤلاء في دفن واحد، فلا حرج أن يجعل شريطاً محفوراً في الأرض، فيوضع المسلمون كل واحد بجوار الآخر وبينهما حاجز من تراب لا حرج إن شاء الله خاصة أنه يشق عليهم رائحة الموتى، ويفعل الشق بدون لحد، ولهذا قلنا: الصحيح أن اللحد سنة، والشق جائز؛ لأنه كان يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد )، والحديث رواه الثلاثة أبو داود و الترمذي و النسائي وإسناده جيد، والله أعلم، وجاء في حديث جابر أنه نبش قبر والده وكان فيه رجلان هما والده وشخص آخر.
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دفن الرجلين في غزوة أحد يسأل أيهما أكثر قرآناً فيقدمه، والله أعلم.
إذا وجدت مقابر جماعية وأراد المسلمون أن يحفروا فإنه لا بأس أن يحفروا شريطاً واحداً، ثم يضع كل واحد في مكان، ويكون بينه وبين صاحبه حاجز من تراب، والله أعلم.
يكره الدفن عند وقت غروب الشمس، أو حين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول -يعني: قبل زوال الشمس- أو وقت طلوع الشمس؛ لما روى مسلم في صحيحه من حديث علي بن رباح عن عقبة بن عامر أنه قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب )، وهذا لأجل أن هذه الأوقات أوقات قصيرة، وليس ثمة ضرر بأن يؤخر الدفن إلى بعد ارتفاع الشمس أو بعد زوال الشمس، أو بعد غروبها، فهذا الأقرب -والله أعلم- أن ذلك محرم خوفاً من أن يكون دفنها في ذلك الوقت نوع تعظيم للشمس، فإن أهل الوثن كانوا يعظمون هذه الأوقات تعظيماً للشمس والنور، ولأجل هذا نهي عند الدفن فيها، وهذا يدل على أن النهي يقتضي التحريم، والله أعلم.
ذهب جماهير أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى جواز الدفن ليلاً؛ لما روى أبو داود من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن رجلاً من أصحابه ليلاً )، ولهذا فالذي يظهر -والله أعلم- أن ذلك لا بأس به.
وأما ما جاء في صحيح مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يدفن الرجل بالليل حتى يصلى عليه ) إلا أن يضطر إنسان إلى ذلك، والنهي هنا بسبب خوف من عدم الصلاة عليه، أو عدم إقامة حق التكفين له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه )، واليوم أصبح الدفن بالليل مثل الدفن بالنهار، والراجح والله أعلم جواز ذلك، وأن النهي إنما هو خشية ألا يعطى الميت حقه من الكفن ومن الصلاة، ونحو ذلك، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روى أبو داود أنه دفن أحد أصحابه ليلاً، وقال: ( ناولوني صاحبكم ).
ومن حضر قبراً ثم وجد عظاماً دفن العظام وأعاد القبر كما كان ثم يحفر مكاناً آخر.
ولا ينبغي أن تجعل المقابر مكاناً يمر عليه الناس فلا أحب هذا، وينبغي أن يمنع، ولو كان لقصد المشي؛ لأن هذا مدعاة إلى أن الناس يأتون ثم تجيء النساء، ويأتي أهل البدع، فيجب على من ولاه الله أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن يمنع الناس من مثل هذا، ولا يجعل سبيل الماء مكاناً للمشي عند القبور ولا عند المقابر.
ولا مانع أن تمنع الكلاب من دخول المقابر، وأن تنظف من الأشواك، أما أن تحسن القبور، ويكون هناك يافطات فهذا منهي عنه.
ولا ينادى بتعظيم القبور إلا بسبب كثرة البدع وأهل البدع، وأهل الأهواء إذا كثروا كثر نعقهم، وأهل الإسلام أهل راية العلم والدين والعقيدة الصحيحة إذا خمدوا وخشوا وخافوا أن يحاربوا البدع والشرك والمنكرات ظهرت وعظمت وفشت بين الناس، والله المستعان.
نكتفي بهذا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر