أما بعد:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون! نتابع ما ذكرناه في الخطبة الماضية حيث ذكرنا أدباً وخلقاً عظيماً، وهذا الخلق هو العدل والإنصاف بين الناس، وأن يتحلى الداعية إلى الله وطالب العلم والأخ مع أخيه بخلق العدل والإنصاف، وأن ينتهي عن خلق الجور والظلم الذي أصيب به كثير من الناس، فأصبحوا لا يرون إلا بعين واحدة، هي عين الإساءة، وعين العيوب، ولا يرون بغيرها، حتى قال بعضهم: "لو أصبت تسعة وتسعين مرة، وأخطأت واحدة، لعدوا عليّ خطئي" أي: نسوا فضائلي ومحاسني وما تذكروا إلا الأخطاء.
واليوم نتكلم عن خلق آخر يجب أن يتحلى به جميع الناس، بل أمرنا الله جل وعلا به، والله جل وعلا لا يأمر إلا بخير، وهذا الخلق كان لتركه أثر في طلاق كثير من الناس لنسائهم، وكان له سبب في افتراق كثير من الإخوان عن إخوانهم، وتدمير كثير من أعمال الخير.
فلو تحلينا بهذه الصفة لاستمر هذا الخير، هذه الصفة من أعظم الصفات التي لا يتحلى بها إلا من أطاع أوامر الله جل وعلا، واسمعها -يا عبد الله- وحاول أن تتخلق بها، وهي صفة (التثبت والتبين).
عبد الله! كم وكم من الناس قيل له: فلان قال: كذا.. فلان يقول: كذا.
فيقول: عليه من الله ما يستحق، هو الذي فيه كذا وكذا، ولو أنه تثبت وتبين لعلم أن فلاناً ما قالها، أو قالها وما أراد كذا، أو قالها في سياق كذا وكذا، ولكنه وللأسف! العجلة التي هي من الشيطان، كما قال عليه الصلاة والسلام: (التأني من الرحمن، والعجلة من الشيطان).
إنهم المؤمنون.. إنهم الذين آمنوا بالله رباً، وبمحمد نبياً، الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، الذين يؤمنون أن لهم موقفاً بين يدي الله جل وعلا فيحاسبهم على كل كلمة قالوها.
قال سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] وعامة قراءة أهل المدينة (فتثبتوا) لمَ يا رب نتبين؟
لمَ نتمهل ونتثبت من الكلام؟
قال: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6] كم.. وكم أصبنا قوماً بجهالة؟ وكم جاءنا إنسان فقال لنا: فلان الذي يدعو إلى الله.. فلان ذلك الرجل الصالح الذي يتظاهر بالصلاح فيه كذا وكذا.. يتعامل بالربا، وإذا بنا نتهمه ونبغضه، قال الله: (بجهالة) فهي عين الجهالة، والجهل ضد العلم، ولو تبين لعلم أنه أخطأ بالحكم عليه: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ [الحجرات:6].
ثم ماذا يحصل بعد أن تكبر الخصومة، ويظهر الحق: فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] تندم -يا عبد الله- إن لم تندم في الدنيا، فإنه سوف يصيبك الندم عند الله جل وعلا يوم القيامة، فيأتيك فلان، فيقول: يا رب! تكلم فيّ فلان، فيأتي هذا يأخذ من حسناته، وهذا يأخذ من حسناته، كيف إذا كان الأمر ليس متعلقاً بواحد، بل بمجموع كبير من الناس؟ الجماعة الفلانية فيها كذا وكذا.. من قال لك ذلك؟ قال لي: فلان. هل تبينت؟ هل تثبت؟ هل جئت وسألتهم؟ لا والله، قال: فلان كذا وكذا.
ومن فلان؟ فلان رجل صالح.. ثقة! والله يقول: فاسق، أما فلان فليس بفاسق، رجل عدل ثقة، ولكن -يا عبد الله- من أخبرك أن هذا الثقة نقل الخبر عن ثقة مثله.
يقول وكيع بن الجراح وذكر له رجلاً من السلف ، قال: "ذلك رجل صالح -وليس أي رجل- وللحديث رجال" نعم! مع أنه صالح وصاحب دين وعلم، لكن لا يؤخذ عنه الحديث، ولا أخبار الناس، ولا تقبل روايته إلا بعد أن نتبين ونتثبت، والله جل وعلا يقول: وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36] أي: لا تقل شيئاً ولم تتأكد وتتثبت منه، ثم يظهر لنا بعض الناس يقول: أنا لا أتكلم على أحدٍ، إذن: بهذه الطريقة لا نتهم أحداً.
أقول لك يا عبد الله: كفى بهذا الأمر شرفاً وعزاً أن تأتي عند الله -جل وعلا- ولم تحمل على ظهرك أوزاراً للناس، ولم تتكلم على أحد من البشر، إلا بعد أن تثبت وتبينت وتأكدت من الخبر.
قال الله جل وعلا وهو يحكي قصة سليمان مع أحد جنوده، ألا وهو (الهدهد) وكان الهدهد مقرباً إلى سليمان عليه السلام، بحث عنه يوماً من الأيام فلم يجده بين الجيش.. تفقده فلم يجده فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22] أي: لم ينتظر إلا قليلاً، فإذا بالهدهد قد قدم، فقال له الهدهد: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ [النمل:22] يا سليمان! جئتك بعلم لم تعلمه أنت يا رسول الله: أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِيْن [النمل:22] جئتك من سبأ وملكة سبأ، بخبر وأي خبر؟ قال: (بنبأ يقين)، وليس بالأمر المشكوك فيه، بل هو علم وأعلى درجات العلم.
قال: أي: أنني متيقن من الذي سوف أقوله لك، ثم قال له الخبر وقصة بلقيس مع قومها، أتعرف كيف رد سليمان عليه السلام على هذا الهدهد؟ وكيف أجابه؟ قَالَ سَنَنْظُر سنبحث في الأمر ونتأكد من الأمر: قَالَ سَنَنْظُر أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27] سنبحث في الأمر لعلك تكون قد كذبت، أو أخطأت.. أو وهمت.. لعل الذي نقل لك الكلام ليس بثقة، لعل في الأمر التباس قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27] وليكن هذا شعارنا بين الناس، كلما جاءنا رجل قال لنا: فلان في الدرس الفلاني قال كذا، وفلان يُتهم بكذا، لو أجبنا كل أحد بهذه الكلمة، سننظر، سنبحث، سنتأكد أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل:27] لو كان هذا شعارنا، لانتهت أكثر الخصومات بين الناس، ولحافظ كل منا على لسانه وما يتلفظ به من قول.
خبر ليس فيه جريمة، ولا اتهام كبير، ولكنه خبر كالأخبار وهو: أن بني سلمة سوف ينتقلون من بيوتهم؛ لأن بيوتهم بعيدة عن المسجد، فيشترون بدلها بيوتاً بالقرب من المسجد، فالأمر عادي، والخبر خفيف، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتكلم على أناس ولا ينصحهم من ورائهم إلا بعد أن يتثبت، فجاءهم فقال: (يا بني سلمة! إنه بلغني أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد) يريد أن يتأكد هل هذا الأمر صحيح؟ وهل هذا الخبر أكيد؟ ومن الذي نقله إليه؟ إنهم صحابة عدول رضي الله عنهم وأرضاهم ولكنه التثبت والخلق العظيم: (إنه قد بلغني عنكم، أنكم سوف تنتقلون قرب المسجد؟ قالوا: نعم يا رسول الله! فقال: يا بني سلمة! دياركم ديـاركم تكتب لكم آثاركم) لم ينصحهم ولم يتكلم عليهم، ولم يوصل إليهم النصيحة من وراء أظهرهم إلا بعد أن تثبت، لأنه تمثل قول الله جل وعلا: فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6] وفي قراءة قال: (تثبتوا) قال بعض المفسرين: "تبينوا وتثبتوا بمعنى واحد".
وقال بعضهم: تبينوا تختلف عن تثبتوا، فالتثبت يكون في الإسناد، أي: نتأكد هل قال أم لم يقل؟
وتبينوا في المعنى، أي: ماذا يريد بهذا الكلام؟ وما الذي حمله على هذا الكلام؟ فالأمر فيه معنى أوسع.
إنه التبين؛ ذلك الخلق القويم الذي فقدناه في أواسط كثير من الناس، ولو كانوا صالحين أو أهل علم وعبادة، ولكنه خلق لا يتمثل به إلا قليل منهم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.
أما بعد:
عباد الله! حاطب بن أبي بلتعة، لما تأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر وتثبت منه، جاء إليه فقال له: (يا
خالد بن الوليد في إحدى المعارك: فقتل رجل من المسلمين أحدَ الكفار، والسنة أنه إذا قتله فإنه يأخذ سلبه، أي: يأخذ ما معه من سلاح وما يحمل من غنيمة فيكون له، وقد دل على هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء خالد فمنع هذا المسلم من أخذ سلب الكافر، وهذا خطأ فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد، فقال له بعد أن تثبت وتأكد من الخبر، قال: (يا
ما أعظم هذا التدين، وما أكبر من هذا التثبت، صاحب الخطأ يأتيك فيقول: فعلت كذا وكذا، فيتأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويذهب إلى قومه، فيقول: أبه جنون؟ أفي عقله شيء؟ هل تشكون من أمره شيئاً؟ تثبت وأي تثبت يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات:6] تبينوا تمهلوا، يا عبد الله! إياك إياك كلما سمعت فلاناً ولو كان تقياً، ولو كان ورعاً، ولو كان صاحب عبادة، قال في فلان كذا، إياك أن تتعجل، فإن العجلة من الشيطان، قال الحسن البصري عليه رحمة الله: [المؤمن وقافٌ حتى يتبين] لا يلفظ لسانه شيئاً، ولا يتعجل بالحكم على الناس، ولا يتهم عباد الله الصالحين، فالمؤمن وقافٌ حتى يتبين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر اللهم أعداء الدين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر