وها نحن اليوم مع سورة الممتحنة المدنية المباركة، فهيا بنا نصغي مستمعين لتلاوة هذه الآيات الأولى مجودة مرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:1-3].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هذه السورة المدنية آياتها ثلاث عشرة آية، وهي مدنية, وقد افتتحها الله عز وجل بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1].
وسبب نزول هذه الآيات: هو أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه، كان ممن شهد بدراً وقاتل فيها، وهو من اليمن، ولم يكن له حلف مع أهل مكة، وله في مكة أولاد وأقارب، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم عزم على أن يغزو مكة ليفتحها، لكن المعلن بين الناس هو أن النبي صلى الله عليه وسلم خارج إلى خيبر أو منطقة أخرى، وقد أسر النبي صلى الله عليه وسلم بخروجه إلى مكة حتى يفاجئهم بالغزو فلا يقتل منهم إلا القليل، بخلاف لو علموا زحفه عليهم فإنهم سيتهيئون لذلك ويكون القتال بينهم وبين رسول الله كثيراً كبيراً.
فوجد حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه امرأة يقال لها: سارة، وكانت قد جاءت من مكة وهي مشركة، وذلك أن كفار قريش قبل وقعة بدر كانوا قد استعاروها مع المغنيات التي استعاروهن ليغنين لهم فلما حصل ما حصل في غزوة بدر: من هزيمة قريش وقتل سبعين من أعاظم رجالهم تركوها، فشعرت بالفقر والحاجة فجاءت إلى المدينة وكانت من بني هاشم، فأخبرت الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لم تسلم وأنها ما زالت على ملة أبيها، ولكن الحاجة دفعتها إلى أن تأتي إلى المدينة؛ لتأخذ بعض الشيء وتستعين به على حياتها، فجمع لها الرسول صلى الله عليه وسلم من بني هاشم بن عبد المطلب ما شاء، ثم عزمت على العودة إلى مكة.
ولما عزمت على العودة إلى مكة اختلى بها حاطب بن أبي بلتعة وقال لها: خذي هذا الكتاب وأعطيه قريشاً، وكان عبارة عن رسالة صغيرة كتبها يعلن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزم على غزو بلادكم, لا أقل ولا أكثر، ثم أعطاها دنانير مقابل حملها للكتاب فذهبت، وأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فدعا علياً والزبير بن العوام والمقداد بن الأسود وقال: ( انطلقوا إلى روضة خاخ فستجدون فيها امرأة فخذوا منها الكتاب ) ، فانطلق علي رضي الله عنه وصاحباه حتى انتهيا إلى المرأة، فقالوا لها: هات الكتاب، قالت: ما عندي كتاب. فقالوا لها: إما أن تخرجي الكتاب وإما أن تنزعي الثياب، فلما عرفت شدتهم وأنهم لن يتركوها أخرجته من عفاصها أي: من شعر رأسها، ثم رجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستدعى النبي صلى الله عليه وسلم: حاطباً وقال له: ألست مسلماً؟ قال: بلى والله إني لمسلم، وما ارتددت ولا رجعت عن ديني أبداً، ولكن يا رسول الله! إن المؤمنين من المهاجرين لهم صلات في مكة يحمون أقاربهم وليس لي من يحمي أقاربي، وقد عرفت أنك ستغزوهم وينصرك الله عليهم، وأن الكتاب لن يغني عنهم شيئاً، وإنما فعلت ذلك؛ ليحموا أولادي وأسرتي لكوني بعيد عنها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( صدقت، قال
وقوله: تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]؛ لأن الكتاب الذي أرسله حاطب فيه إعلان عن مودتهم ويطلب منهم مقابل ذلك أن يحفظوا أولاده وأسرته.
وقوله تعالى: وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1], أي: والحال أنهم قد كفروا بما جاءكم من الحق، وهذا فيه لوم وعتاب, وكفار مكة كذبوا رسول الله ولم يؤمنوا برسالته، وكذبوا بالبعث وبالدار الآخرة وبالقرآن, وقالوا عن القرآن: شعر من الأشعار وغير ذلك من الافتراءات.
ثم قال تعالى: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1], أي: وهم قد عملوا على إخراج الرسول صلى الله عليه وسلم والمهاجرين وأنت منهم, وذلك بتعذيبهم وتشريدهم ومحاولة قتلهم, فكيف توالونهم وتوادونهم وتحبونهم؟
وقوله تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ [الممتحنة:1]؛ أي: من أجل إيمانكم بالله أخرجوكم من مكة فتركتم نساءكم وأموالكم، فهم أعداء الله ورسوله والمؤمنين, فكيف تكتب إليهم الكتاب وتنصحهم أن يتخذوا الحيطة حتى لا يموتوا في القتال وهم يصنعون بكم ذلك؟
وقوله تعالى: إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي [الممتحنة:1], أي: فلا تسرون إليهم بالمودة إن كنتم خرجتم من مكة مجاهدين مرابطين في سبيل الله ولا توالوهم ولا تعطوهم الأخبار التي يكون غيابها عنهم في صالح رسول الله والمؤمنين.
وقوله تعالى: تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ [الممتحنة:1], أي: ما أعلنتموه أنا عليم به، وما أخفيتموه وجحدتموه أنا عليم به، وهذا كله تقرير لـحاطب رضي الله عنه، وفي نفس الوقت تحذير بألا يقدم على هذا الباطل أحد.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1], أي: ومن يفعل هذا الذي هو موالاة الكافرين والاتصال بهم وإعلامهم بحربهم وبما يريده الرسول بهم من يفعل ذلك فقد أخطأ طريق النجاة والسلامة ودخول الجنة.
وقوله تعالى: وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]. وودوا, أي: رغبوا وأحبوا لو تكفرون بالإسلام وتعودون إلى ملة الكفر والشرك، والعياذ بالله تعالى.
فهو أولاً: لا يحب هزيمة رسول الله والمؤمنين أبداً، بل يرضى بالموت ولا يرضاها.
ثانياً: لا يحب نصرة المشركين أبداً ولا انتصارهم، وكل ما في الأمر عنده: أنه ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم ذاهب إليهم والله ناصره فلا بأس أن أتخذ يداً عندهم ليحفظوا أسرتي. ولما اسمع الرسول صلى الله عليه وسلم هذا صدقه وقال: ( صدقت.فقال
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1] وهو عام إلى يوم القيامة، فلا يجوز للمؤمنين أن يحبوا الكافرين، وأن ينصروهم ضد المؤمنين، فلا يجوز هذا ولا يحل أبداً.
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]. وفي هذا تقريع وتوبيخ، تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ [الممتحنة:1]. وقد كفر المشركون بالقرآن والوحي والنبوة المحمدية والتوحيد. وفوق ذلك؛ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ [الممتحنة:1].وقد أخرجوهم من مكة, أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ [الممتحنة:1], أي: من أجل إيمانكم بالله أخرجوكم من مكة، فهم يريدون أن تبقوا مشركين معهم، وإلا أخرجوكم.
ثم قال تعالى: إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [الممتحنة:1]. أي: يا حافظ! لقد خرجت من مكة ابتغاء وجه الله ونصرة الإسلام ومصاحبة محمد صلى الله عليه وسلم, كيف تودهم؟
ثم قال تعالى: وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ [الممتحنة:1]. ولهذا أوحاه الله إلى الرسول، وما كان رسول الله ولا أحد من المؤمنين يعرف عن هذه الرسالة حتى أوحى الله إلى رسوله، فبعث علياً والزبير والمقداد فجاءوا بكتاب مكتوب بيد حاطب ، لكن حاطباً لم يكن كافراً ولا يحب الكفار ولا يواليهم، وإنما اجتهد في أن يصنع له يداً عندهم، ومع هذا عاتبه الله, ولكنه أبقاه على إيمانه وصحبته لرسول الله.
وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ [الممتحنة:1], أي: موالاة المشركين ونقل الأخبار إليهم؛ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:1] فلم يهتد ولم يعرف طريق الجنة، فاحذروا من هذا الشيء.
ثم قال تعالى يبين واقعهم: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة:2], أي: إن يتمكنوا منكم يقتلوكم ويؤذوكم ويسبوكم ويشتموكم، ولو ذهب حاطب إليهم لقتلوه. وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ [الممتحنة:2]. أي: وأحبوا من قلوبهم لو تعودون إلى الكفر والشرك والعياذ بالله.
ثم قال تعالى: إن كفرتم لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [الممتحنة:3]. أي: يا حاطب ، لن ينفعك أولادك الذين بعثت الكتاب من أجلهم ولا أرحامك وأصهارك. يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:3]. فيكون أهل الإيمان في الجنة وأهل الكفر والشرك في جهنم، ولا فصل أعظم من هذا.
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة:3], أي: مطلع لا يخفى عليه من عملنا شيء، وبهذا أدب الله أصحاب رسول الله, وأدب هذه الأمة إلى يوم القيامة.
معاشر المؤمنين والمؤمنات! إنه لا يحل مودة كافر ولا كافرة، والذي يكرهه ربك ونبيك ودينك ثم تحبه! هل تظن بأنك ستبقى مؤمناً؟ والله لن تبقى مؤمناً، فلا بد من كرههم وبغضهم وعدم مودتهم، وأما التجسس ونقل أخبار المسلمين إليهم، فإن كانت الحرب قائمة فإن الجاسوس الذي ينقل أخبار المسلمين إليهم يقتل على الفور، وإن كان لا حرب بيننا وبينهم فإن الجاسوس يؤدب، إما بالسجن، وإما بالضرب، وإما بغيرها من العقوبات التي لا تبلغ القتل.
[ من هداية هذه الآيات:
أولاً: حرمة موالاة الكافرين بالنصرة والتأييد والمودة دون المسلمين ]، فلا يحل لمؤمن أن يود كافراً وأن يحبه كما يحب مؤمناً، ولا أن ينصره على مؤمن أبداً.
[ ثانياً: الذي ينقل أسرار المسلمين الحربية إلى الكافرين على خطر عظيم وإن صام وصلى ] وقد أفتى الإمام مالك بأنه يقتل إذا كان المسلمون في حالة حرب وهو يتجسس عليهم لكونه خطر عليهم، وهذا وإن كان يدعي الإيمان فلا إيمان له.
[ ثالثاً: بيان أن الكافرين لا يرحمون المؤمنين متى تمكنوا منهم؛ لأن قلوبهم عمياء، لا يعرفون معروفاً ولا منكراً، بظلمة الكفر في نفوسهم وعدم مراقبة الله عز وجل؛ لأنهم لا يعرفونه، ولا يؤمنون بما عنده من نعيم وجحيم يوم القيامة ] فهم لا يودون المسلمين ولا يحبونهم ولا ينصرونهم، لظلمة قلوبهم، لأنهم ما آمنوا بالله ولا برسوله ولا بلقائه، فلا خير فيهم أبداً، فلهذا يجب لعنهم والبعد منهم.
[ رابعاً: فضل أهل بدر وكرامتهم على الله عز وجل ] وقد كانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، وموقع الغزوة موجود إلى الآن، ومع الأسف بلغني أن بعض الجهّال من الزوار ما زالوا يذهبون إلى بدر ويزورون القبور، وهذا خطأ فاحش، فعلينا أن نبلغهم أنه لا يجوز هذا أبداً، فقد وقعت الوقعة قبل ألف وأربعمائة سنة, ولو أن فيها قبر صحابي لبيناه وعرفناه، فما فيها إلا قبور المشركين, فلا يحل زيارتهم أبداً ولا يجوز، ومن أراد أن يزور قبور المسلمين فليزر البقيع وشهداء أحد، أما زيارة قبور بدر فهو خطأ فاحش، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: ( وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر وقال: اعملوا ما شئتم قد غفرت لكم ). وحاطب بن أبي بلتعة من أهل بدر.
[ خامساً: قبول عذر الصادقين الصالحين ذوي السبق في الإسلام إذا عثر أحدهم اجتهاداً منه ] فإذا أخطأ المؤمن الصادق وزلت قدمه باجتهاد منه فلا يؤذى ولا يسخط عليه ولا يلعن، فـحاطب رضي الله عنه أخطأ في اجتهاده، وهو لا يريد نصرة الكافرين ولا يريد هزيمة المؤمنين أبداً، فمن كان مؤمناً صادق الإيمان معروفاً بالصلاح إذا زلت قدمه بكلمة قالها فلا نكرهه ونلعنه ولكن نقول له كما قال الرسول لـحاطب.
[ سادساً: عدم انتفاع المرء بقرابته يوم القيامة إذا كان مسلماً وهم كافرون ] فلا ينتفع المؤمن بولاية الكافر يوم القيامة، وإذا كان أولاد حاطب وأرحامه في جهنم لن ينقذهم حاطب يوم القيامة, ومن هنا كانت مودة الكافرين لا تنفع لا في الدنيا ولا في الآخرة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر