أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ * قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ * مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ * إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:65-74].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم في الآيات السابقة التي تدارسناها بيان ما أعد الله لأهل الكفر والشرك من النار والجحيم والعذاب الأليم، وما أعد الله للمتقين الأبرار من جنات النعيم، وفي ذلك الترهيب من النار وما يجري فيها، وما يتم لأهلها، والترغيب في الجنة، وما يكون فيها من النعيم المقيم، وذو العقل السليم يرهب العذاب ويخشاه ويخافه، ويرغب فيما عند الله من النعيم المقيم، فيعمل بطاعة الله ليظفر بذلك، ولا يعص ربه، والذين لا عقول لهم أموات.
وقوله: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ [ص:65]، أي: قل يا رسولنا! المبلغ عنا لمشركي قريش كفار مكة: إنما أنا منذر، ولست بسلطان ولا جبار، ولا أريد أن أستغلكم ولا أن أستخدمكم، ولا أتخذ منكم العبيد وغير ذلك مما يفعله الجبارون، فليست هذه مهمتي، وإنما أنا منذر مخوف من العذاب في المستقبل، فلا آكل أموالكم ولا أتحكم فيكم، وهو والله كذلك، وقد أمره الله أن يصرح بهذا فقال: قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ [ص:65]، أي: للبشرية كلها، وأنتم أول من ينذركم أيها المستمرون على الشرك وعبادة الأصنام والأحجار.
وقوله: وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ [ص:65]، أي: أريد أن أبلغكم هذه الحقيقة، وهي أنه لا يوجد إله حق إلا الله، فالآلهة التي تعبدونها من أصنام وأحجار، وشمس وقمر وكواكب وما إلى ذلك كلها مخلوقة مربوبة لله، والله هو خالقها وربها، فلا ينبغي أن تؤله وتعبد.
وقوله: الْوَاحِدُ ،أي: الأحد.
وقوله: الْقَهَّارُ [ص:65]، أي: لكل ظالم وجبار، المذل لكل متكبر وطاغٍ من العصاة.
وقوله: الْعَزِيزُ ُ [ص:66]، أي: الذي لا يمانع في شيء يريده أبداً، والغالب الذي لا يُغلب أبداً.
وقوله: الْغَفَّار [ص:66]، أي: الذي يغفر ذنوب العبد إذا تاب ولو كانت مثل الجبال، فيمحي ويغطي ويستر ذنوب التائبين ولو كانوا عبدوا غيره مائة سنة، وكل من يدخل في الإسلام يغفر له ذنبه.
قال تعالى: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:68]، أي: لا تريدون أن تسمعوه ولا أن تتدبروه ولا أن تسألوا عن معانيه، ولكن تعرضون وتدبرون عنه، والعياذ بالله. وهذا هو الواقع، والكفار من أمريكا إلى الصين يسمعون بالقرآن، وأنه نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وأن المسلمين أهله، ولكنهم لا يأتون المسلمين ويسألونهم عنه أبداً إلا من هداه الله، ووفقه للدخول في الإسلام، فهم معرضون عنه إعراضاً كاملاً، ويعطونه ظهورهم.
وقوله: بِالْمَلَإِ الأَعْلَى [ص:69]، أي: بالملائكة في الملكوت الأعلى.
وقوله: إِذْ يَخْتَصِمُونَ [ص:69]، وذلك أن الله تعالى لما أراد أن يخلق آدم قال للملائكة: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة:30]. فقالت الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30]، أي: لست بحاجة إليهم، ونحن نكفي، هكذا اعترضوا، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم معهم حين قالوا ذلك، ولم يسمعهم أحد، فدل ذلك على أن الله أوحى إليه بهذا الأمر.
وقوله: إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا [ص:71]، وسمي الإنسان بشراً؛ لأن بشرته لا يغطيها ريش ولا وبر ولا صوف، وأما الإبل والبقر والغنم والدجاج فإن بشرتها مغطاة ، وأما بشرة الإنسان فمكشوفة.
وقوله: مِنْ طِينٍ [ص:71]، أي: من مادة الطين، وقد أمر الله الملائكة فجمعت الطين، ولما صار صلصالاً خلق الرب تبارك وتعالى آدم، ونفخ فيه من روحه.
وقوله: إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ [ص:74]، فإبليس عليه لعائن الله هو الذي يفتن البشرية ويمزقها ويشتتها، وهو من الجن، وقد خلقه الله تعالى من النار، وخلق آدم من الطين، وخلق الملائكة من النور. فلابد من معرفة هذه الأصول الثلاثة، وهي: أن الملائكة مادة خلقهم من النور، والجن مادة خلقهم من النار، والبشر مادة خلقهم من الطين.
وقوله: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:74]، فقد كفر حين رفض طاعة الله، وكل من قال: لن أصلي ولن أصوم ولن أعترف بحجاب المرأة كفر، وكل من رفض أمر الله وتكبر عنه كفر مع إبليس ومن معه، فاحذر أن تقول: أنا مؤمن أعرف الله، ولكن لن أصلي، فهذا كفر بالإجماع، ومن قال: أنا لا أعترف بهذه الزكاة أبداً كفر، ومن قال: ليس هناك فائدة من الصوم، ولن أصوم كفر والله وخرج من الإسلام، ولا يقال فيه: مسلم أبداً، وهذا عدونا إبليس كفر بعدم سجوده لآدم، فقال الله عنه: وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [ص:74]، أي: الجاحدين لشرع الله وأحكامه، وتوحيده وعبادته.
معشر المستمعين! هكذا يجب أن نتدارس كتاب الله عز وجل، ولا نكون ممن يقرأه على الموتى فقط. ولو أن أهل القرية أو أهل الحي في المدينة يلتزمون بحضور صلاة المغرب كل ليلة، وبعد الصلاة يجلس لهم عالم بكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمهم فلن يبق بعد عام واحد جاهل، وإذا لم يبق جاهل لن يبق فاسق، وسيسودهم الإخاء والمودة، والصدق والوفاء والطهر، وسيصبحون كأهل الجنة. ولكن مع الأسف القرآن لا نقرؤه إلا على الموتى، ولا نجتمع عليه أبداً. وإذا لم يجد أهل القرية من يعلمهم فليطلبوا من العالم الإسلامي عالماً بالكتاب والسنة ليعلمهم، ويجتمعوا عليه طول العام من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء. وهذه الكلمة والله العظيم إني أقولها على علم، فوالله لن نتفقه، ولن نتعلم، ولن نسموا، ولن نكمل، ولن نطهر، ولن نصفو إلا إذا علمنا كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأحلف بالله إن جميع الفساق والفجار والظلمة واللصوص وكل المشركين سبب ما هم فيه هو أنهم ما عرفوا الله، ولا عرفوا ما عنده وما لديه، فلهذا يجب أن يقوم بهذا الدعاة والحكام، فيقول أمير القرية أو شيخ القرية: يا أهل القرية! يوم الجمعة سيخطب الخطيب، فلا يتخلف رجل ولا امرأة ولا ولد عن المسجد، وسيحضرون رغم أنوفهم، وخلال فترة بسيطة سيصبحون ربانيين، ولو أراد أحد أن يطردهم من المسجد فلن يقبلوا أبداً، ولن يرضوا أن يتركوا المسجد.
وقد قلت غير ما مرة: لو أن أهل قرية أو حي من المدن قاموا بهذا والله لنزورنهم كزيارة الحج، ولنذهبن إليهم سواء كانوا في الهند أو في الصين أو في أمريكا إن استطعنا ذلك؛ لنشاهد أنوارهم، ونجلس معهم. فلن تمض سنة إلا وهم كالملائكة في طهرهم وصفائهم، على شرط أن يحضر النساء والرجال والأطفال، والنساء من وراء الستائر، والأطفال صفوف دونهن، والرجال من أمامهم، ثم يجلس لهم عالم بالكتاب والسنة وليلة يعلمهم آية ويرددها حتى يحفظوها نساء ورجالاً، ثم يشرحها ويبين مراد الله منها، ويضع أيديهم على المطلوب، فإن كان واجباً قال: التزموه، وإن كان حراماً قال: اتركوه، وإن كان عقيدة قال: اعتقدوها، وهكذا، وفي عام واحد سيكونون ربانيين أولياء الله بإذن الله.
[ من هداية ] هذه [ الآيات:
أولاً: تقرير التوحيد بأدلته ] وأنه لا يستحق أن يعبد إلا الله، وأنه لا معبود بحق إلا الله، فلا يُصلى ولا يُصام، ولا يزكى ولا يتصدق، ولا يركع ولا يسجد، ولا يعبد إلا لله، ولا يدعى إلا هو، ولا يستغاث ولا يستعاذ إلا به، ولا يسأل إلا هو، ولا يطرح إلا بين يديه. هذا هو التوحيد. فنوحد الله في عبادته، ولا نقر بعبادة غيره أبداً، لا عيسى ابن مريم ولا موسى ولا غيرهما. وكلمة لا إله إلا الله تمح كل الآلهة وتبطلها، ولا تبق إلا الله فقط، فهو الإله الحق، الذي يستحق أن يعبد، ولهذا لما عم الجهل أكثر الناس من قولهم: يا سيدي فلان، فيدعون غير الله، ويستغيثون بغير الله، وهذا شرك والعياذ بالله، ولا لوم لأنهم ما علموهم، ولا عرفوهم ولا هدوهم، وهم بحاجة إلى من يهديهم ويعرفهم ويعلمهم، فلقد هبطت الأمة من علياء السماء، وإلا الآن بقيت كما هي.
[ ثانياً: تقرير النبوة والوحي بشواهده من نبأ الملأ الأعلى ] فمحمد رسول الله حقاً وصدقاً، لأن هذه الآيات نزلت عليه، وهي تتحدث عن الأخبار الغيبية كالجنة والنار والملكوت الأعلى، وهي تقرر التوحيد ولقاء الله عز وجل والبعث الآخر.
وجاء في النهر حديث السنن: [ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي، فنعست في صلاتي حتى استيقظت، فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد! أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري يا رب! -فأعادها ثلاثاً- فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري، فتجلى لي كل شيء وعرفت، فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: في الكفارات. قال: وما الكفارات؟ قلت: نقل الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد بعد الصلوات، وإسباغ الوضوء عند الكريهات. قال: وما الدرجات؟ قلت: إطعام الطعام، ولين الكلام، والصلاة والناس نيام. قال: سل، قلت: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفني غير مفتون، وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك ). هذا حديث المنام ] والآية التي تدارسناها قال الله فيها: قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص:67-68] حدثت في الملكوت الأعلى للملائكة ، إذ أمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم فسجدوا، ورفض إبليس فكفر بذلك، وأُبلس من رحمة الله. وقد يروي بعض أهل السنن روايات تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه في المنام وقال له: كذا وكذا. ولكن هذه الآية لا علاقة لها بهذا.
[ ثالثاً: عداوة إبليس لآدم، وأن الحامل عليها الحسد والكبر، وهما من شر صفات العبد ] ولهذا نحذر كل الحذر أن يوجد في قلوبنا حسد لمؤمن أو مؤمنة، فإن الحسد من أخطر أنواع الظلم والعياذ بالله، وهو من أشر الصفات، والحاسد يعترض على الله في عطائه لأنه يقول: منعتني وأعطيت فلاناً، فلم أعطيته ومنعتني؟ وهذا كفر والعياذ بالله، لأن الاعتراض على الله كفر، والحاسد معترض على ربه، وللحسد صورتان إحداهما أقبح من الأخرى:
الأولى: أن يتمنى أن يكون ما عند فلان عنده من مال أو ولد، أو دولة أو سلطان، وهذا حسد.
الصورة الثانية وهي أقبح من الأولى، وهي: أن يتمنى زوال النعمة عن فلان ولو لم تحصل له هو، والعياذ بالله.
فلهذا فلنطهر قلوبنا ونزكي أرواحنا من هذا المرض.
والمرض الثاني الكبر، والعياذ بالله، وهو يمنع صاحبه من أن يقول كلمة الحق، ويمنع صاحبه أن يخر لله ساجداً، ويمنع صاحبه أن يعترف بما عليه من حق؛ لما في نفسه من الكبر. فلنبرأ إلى الله من الكبر والحسد، ونسأله تعالى ألا يبتلينا بذلك.
[ رابعاً: تقرير أن من القياس ما هو شر وباطل كقياس إبليس؛ إذ قاس النار على التراب، فرأى أن النار أفضل فهلك بذلك، إذ التراب أفضل، النار تحرق والتراب يحيي، وشتان ما بين الموت والحياة ] فينبغي أن يكون القياس سليماً صحيحاً، وإذا كان خطأ والعياذ بالله فإنه ضلال؛ لأن إبليس تكبر وأبى أن يسجد لآدم بحجة أنه مخلوق من النار، فهو أفضل من آدم، وأن آدم مخلوق من الطين، فهو دونه في الفضل، وقاس هذا القياس وهو فاسد، بدليل أن النار تحرق وتميت وتقتل، والطين يحيي. والروح تسري في الجسد مثل النار تسري في الفحم، والكهرباء تسري في أسلاكها، فإذا دخلت الروح في الإنسان حيا، وإذا سلبت منه مات.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر