أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.
قال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:84-92].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:84]، هذا جدال وحجاج بين الله وبين المشركين والملاحدة والعلمانيين الذين ينفون الحياة الثانية ويكذبون بها، فها هو ذا تعالى يقول لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ [المؤمنون:84]، لهؤلاء المنكرين للبعث الآخر، والمكذبين به، والذين قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط، وليس هناك حياة أخرى بعدها، وذلك ليستمروا على الفحش والمنكر والباطل، قل لهم محاوراً ومجادلاً لهم: لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:84]، فليجيبوا، لمن؟ والله لا جواب إلا كلمة: لله فقط، إذ ما عندهم جواب، بل واسأل أي ملحد: لمن الأرض ومن فيها؟ ماذا يقول؟ لأبي؟ لأمي؟ للدولة؟ للجن؟ لمن؟ ما فيه جواب إلا أن يقول: لله، فإذا كانت لله فهو خالقها ومالكها ومدبر أمرها، فكيف يكذب بأن الله سيبعث الناس أحياء مرة أخرى ليحاسبهم ويجزيهم؟ بأي منطق أو ذوق أو عقل؟ ما دمت تؤمن أنه هو الذي يملك ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، فكيف إذاً تقول: ما يستطيع أن يبعثنا أحياء من جديد ليحاسبنا على أعمالنا في الدنيا؟! وهذه صفعة على وجوههم، والحمد لله أنهم سيعترفون.
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:85]، إذاً: قل لهم: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:85]، أفلا تتذكرون؟ أفلا تتعظون؟ أفلا تتفكرون فتعلموا وتعرفوا؟ كيف تعرفون أن مُلك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما لله، ولا خالق ولا رازق إلا هو، ولا مدبر إلا هو، وفي نفس الوقت تكذبون بالبعث والحياة الثانية؟!
قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:85]، هكذا يعلم الله رسوله الجدال والحوار مع هؤلاء المشركين لتقوم الحجة عليهم، فإن أصروا على التكذيب والكفر والعناد فمصيرهم الخلد في جهنم، وإن استجابوا وتابوا وأنابوا فهنيئاً لهم، وذلك أنهم سيسعدون في الدنيا والآخرة، والقرآن كتاب هداية.
مرة أخرى: هذه السموات العظيمة التي نشاهدها، وهذه السماء الدنيا وما فيها من كواكب على اتساعها وعرضها، لو ألصقنا سماء إلى سماء، وأرضاً إلى أرض، فالكرسي أوسع منها، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، والعرش الذي هو سرير الملك أعظم، فسبحان الله العظيم! وسنعرف هذا ونشاهده لما نلفظ أنفاسنا الأخيرة وتنتهي حياتنا لننتقل إلى عالم الغيب، وعندها سنشاهد كل شيء، بل ونؤمن بكل شيء.
قل لهم يا رسولنا: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [المؤمنون:86].
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:87]، وفي قراءة: ( سيقولون الله )، وهي كذلك، إذاً: قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:87]، أفلا تتقون ربكم أن يعذبكم ويحرقكم ويمزقكم ويهلككم بأنواع العذاب وأنتم تعرفون أنه رب السموات السبع ورب العرش العظيم، وفي نفس الوقت تجحدون وتكذبون رسوله، وتنكرون البعث وتثبتون آلهة باطلة مزعومة تعبدونها مع الله تعالى؟ أين يذهب بعقولكم؟ أما تتقون الله تعالى؟ أما تخافون الله تعالى؟
تسألهم: مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [المؤمنون:86]، يقولون: لله، أو يقولون: الله، إذاً: لم ما تتقونه؟ كيف تعيشون على عصيانه والتمرد على شرعه والمحاربة لدينه ورسوله، وتصرون على تكذيبه في قضية البعث والجزاء يوم القيامة.
وَهُوَ يُجِيرُ [المؤمنون:88]، أي: يحمي ويحفظ من أراد حفظه وحمايته، وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، أبداً، فلو تجتمع الخليقة كلها على أن تؤمِّن شخصاً ما أراد الله تأمينه والله ما استطاعوا، إذ هو يجير ويحفظ ويحمي من يشاء ولا يجار عليه مخلوق، فلو يجتمع الخلق كلهم على أن يقولوا: هذا لن يخاف، ولن يعذب، والله ما استطاعوا، يقال: أنتم في جوار الله، أي: في حفظه وحمايته، وكان العرب يجيرون بعضهم بعضاً، أي: يدخل هذا في حمى الآخر، والآن السياسة تجير، يقال: فلان في حمى الدولة الفلانية، أي: انتقل في جوارها.
هكذا يقول تعالى لرسوله: قُلْ [المؤمنون:88]، يا رسولنا! مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88]؟ والملكوت كالجبروت ويعني: العظمة، أي: خزائن كل الكون بيد الله عز وجل، وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:88]، فلو كان لكم علم بهذا والله ما عبدتم غيره، ووالله ما كذبتم رسوله، ووالله ما أنكرتم البعث والجزاء والدار الآخرة أبداً، ولكن أين العلم؟ جهل فقط، فليعترفوا بجهلهم، وليطلبوا العلم ويعلموا.
قُلْ [المؤمنون:89] لهم يا رسولنا فَأَنَّى [المؤمنون:89] كيف تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89] إذاً وتعيشون على الخيالات والظنون والأوهام؟ وأنتم تعلمون أن خزائن الكون كلها لله عز وجل، إذ هو الذي يجير ولا يجار عليه، وأنتم تعلمون هذا فكيف تشركون به أو تكذبونه أو تنكرون البعث والدار الآخرة والجزاء؟!
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون:90]، في كل دعواهم وقولهم، بل وفي كل ما يزعمون، فكله كذب وباطل، ووالله ما عندهم إلا الكذب.
ما داموا كذبوا رسول الله وقد أرسله إليهم وبعثه فيهم، وكذبوا كتابه وهو يقرأ عليهم، وكذبوا أخباره التي تلقى عليهم، إذاً فهم كاذبون.
وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون:90]، فلا تبال بهم يا رسولنا! ولا تلتفت إليهم أبداً. ومعنى هذا: أن الله قد نصره عليهم وقطع حججهم لكنهم مصرون على التكذيب والكفر والعناد والعياذ بالله.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، وإن قلت: إن هؤلاء العرب كانوا جهالاً وضلالاً، فأقول: إن علماء النصارى إلى اليوم يقولون: إن عيسى ابن الله! فكيف يكون لله ولد؟ الذي يقول للشيء: كن فيكون، يتخذ زوجة أو ولداً؟! إنها الشياطين التي تحسن الباطل وتزينه وترغب فيه، وكذلك الشياطين من الإنس يعملون على ذلك، إذ إنهم يحسنون القبيح ويزينون الشين حتى يقع الناس في هذه الضلالات والأباطيل.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، ثم الحجة والبرهان يقول تعالى: إِذًا [المؤمنون:91]، أي: لو كان هناك إله مع الله فمنطقياً: هل يصطلحان فنقول: هذا له عبيد وهذا له عبيد، وهذا له منطقة وهذا له منطقة؟! والله يتحاربان ويعلو بعضهم على بعض، ويقهر أحدهما الآخر، فهل حصل هذا؟!
إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91]، لو كان في السموات والأرضين إله مع الله ما يعلن الحرب عليه؟ ما يتحاربان؟ ما يقهر أحدهما الثاني؟ لكن أين الآلهة التي مع الله التي غلبته أو قهرته أو غلبها وقهرها؟ إنه منطق حقيقي، فحقيقة لو كان هناك آلهة لاقتسموا الملكوت بينهم، بل ولثارت الحرب فيما بينهم كما هو مشاهد في عالم الخلق، ونحن ننظر أنه لو كان لك ولد فقط فإنه ينازعك في الملك، فكيف الله يكون له ولد؟ إنه تضليل الشياطين من الجن والإنس، إذ الإنس يحسنون الباطل ويزينونه، وكما قلت لكم: إلى الآن والنصارى يعلقون الصليب في أعناقهم أو في سياراتهم ويعتقدون أن عيسى ابن الله! وحاشا لله أن يكون له ولد وهو رب كل شيء ومليك كل شيء وبيده كل شيء.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا [المؤمنون:91]، على فرض: لو كان معه إله، لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ [المؤمنون:91]، واقتسموا الكون أقساماً، وهل الكون مقسم؟ إنه تدبير واحد، فالله يحيي ويميت، ويعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويعز ويذل، وليس إلا هو سبحانه وتعالى.
وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ [المؤمنون:91]، فنزه الله تعالى نفسه وعلمنا هذا، فقولوا: سبحان الله عما يصفونه من هذه الأباطيل والترهات والأكاذيب والضلالات، وتنزه الله عن ذلك وتقدس، وسبحان الله عما يصفونه به من أن له ولداً أو بنتاً وأصنام يعبدونها ويقولون: آلهة مع الله.
فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:92]، أي: تعاظم وتنزه وترفع عما يشركونه به من هذه الأوهام والضلالة والخرافات، وذلك كاللات والعزى ومناة، والعزير عند اليهود، والمسيح عند النصارى، والملائكة عند بني لحيان.
إذاً: أرأيتم إلى هذا الحوار بين الله والمشركين؟ إن هذه السورة مكية، والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه الآيات وأهل مكة يسمعون.
إليكم تلاوة هذه الآيات مرة أخرى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:84-85]، إذاً، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:86-89]، إذاً، أي: كيف تسحر عقولكم وتقولون بالشرك والكفر وسيان البعث الآخر؟ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون:90]، وهذه هي الصفعة الأخيرة، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92].
مازال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء] في الدار الآخرة [ فقال تعالى لرسوله: قُلْ [المؤمنون:84]، لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث والجزاء، قل لهم: لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا [المؤمنون:84] من المخلوقات إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:84]. من هي له فسموه ] قولوا: لفلان وفلان، [ ولما لم يكن لهم من بُد أن يقولوا: لِلَّهِ [المؤمنون:85]، أخبر تعالى أنهم: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:85]، إذاً: قل لهم: أَفَلا تَذَكَّرُونَ [المؤمنون:85]، فتعلموا أن من له الأرض ومن فيها خلقاً وملكاً وتصرفاً لا يصلح أن يكون له شريك من عباده، وهو رب كل شيء ومليكه.
وقوله: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [المؤمنون:86]، أي: سلْهُم من هو رب السموات السبع وربّ العرش العظيم الذي أحاط بالملكوت كله، أي: من هو خالق السموات السبع، ومن فيهن ومن خالق العرش العظيم، ومالك ذلك كله والمتصرف فيه؟ ولما لم يكن من جواب سوى الله أخبر تعالى أنهم: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:87]، أي: خالقها وهي لله ملكاً وتدبيراً وتصرفاً. إذاً: قل لهم يا رسولنا! أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:87]، أي: أفلا تتقون الله وأنتم تنكرون عليه قدرته في إحياء الناس بعد موتهم، وتجعلون له أنداداً تعبدونها معه، أما تخافون عقابه؟ أما تخشون عذابه؟
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، أي: اسألهم يا رسولنا! فقل لهم: مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [المؤمنون:88]، أي: ملك كل شيء وخزائنه؟ وَهُوَ يُجِيرُ [المؤمنون:88]، من يشاء، أي: يحمي ويحفظ من يشاء، فلا يستطيع أحد أن يمسه بسوء، وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ [المؤمنون:88]، أي: ولا يستطيع أحد أن يجير، أي: يحمي ويحفظ عليه أحداً أراده بسوء.
وقوله: إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:88]، أي: إن كنتم تعلمون أحداً غير الله بيده ملكوت كل شيء، ويجير ولا يجار عليه، فاذكروه ] أي: سموه، [ ولما لم يكن لهم أن يقولوا: غير الله، أخبر تعالى أنهم: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [المؤمنون:89]، أي: هو الذي بيده ملكوت كل شيء، وهي لله حقاً خلقاً وملكاً وتصرفاً، إذاً: قل لهم: فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:89]؟! أي: كيف تخدعون فتصرفون عن الحق وتصدقون غير الحق، فتعبدون غير الخالق الرازق، وتنكرون على الخالق إحياء الأموات وبعثهم، وهو الذي أحياهم أولاً ثم أماتهم ثانياً، فكيف ينكر عليه إحياءهم مرة أخرى؟
وقوله تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ [المؤمنون:90]، أي: ليس الأمر كما يتوهمون ويخيل إليهم، بل أتيناهم بذكرهم الذي هو القرآن به يذكرون؛ لأنه ذكرى وذكر، وبه يذكرون؛ لأنه شرف لهم، وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [المؤمنون:90]، أي: في كل ما يدعون ويقولون.
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ [المؤمنون:91]، وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91]، ولا ينبغي ذلك، والدليل المنطقي العقلي الذي لا يرد هو أنه لو كان مع الله إله آخر لقاسمه الملك، وذهب كل إله بما خلق، ولحارب بعضهم بعضاً، وعلا بعضهم على بعض غلبة وقهراً ] وأين ذلك؟
[ وقوله تعالى: سُبْحَانَ اللَّهِ [المؤمنون:91]، تنزيهاً لله تعالى عما يصفه به الواصفون من صفات العجز كاتخاذ الولد والشريك، والعجز عن البعث.
وقوله تعالى: عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:92]، أي: ما ظهر وما بطن، وما غاب وما حضر، فلو كان معه آلهة أخرى لعرفهم وأخبر عنهم ]، لكن لا وجود لهم، [ ولكن هيهات هيهات أن يكون مع الله إله آخر وهو الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:92]، علواً كبيراً، وتنزه تنزهاً عظيماً ].
أولاً: مشروعية توبيخ المتغافل المتجاهل، وتأنيب المتعامي عن الحق وهو قادر على رؤيته ]. مشروعية وجواز توبيخ وتقريع وتأنيب من يعرف الحق ويعرض عنه ويكذب به، والآيات التي تلوناها كلها تحمل هذا المعنى. أي: توبيخ وتقريع وتأنيب المشركين الذين يعرفون الحق ثم يكذبون به وينكرونه، ولهذا يجوز للمؤمن أن يوبخ أو يقرع أو يؤدب من ينكر الحق وهو يعرفه.
[ ثانياً: تقرير ربوبية الله تعالى وألوهيته ]، هذه الآيات قررت وأثبتت ربوبية الله، وأنه رب كل شيء ومليكه، وقررت ألوهيته فهو الإله الحق، فلا إله في الأكوان أبداً إلا الله، فهو الذي خلق وهو الذي يستحق أن يعبد، أما غير الله من الآلهة الباطلة فهي كلها أباطيل من تزيين الشياطين والعياذ بالله، وتتأكد الحقيقة وهي: لا إله إلا الله، والله الذي لا إله إلا هو! لا إله إلا الله، أي: لا معبود إلا هو، فنقول هذا ولا نعبد معه غيره، أما من يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ويدعو غير الله ويذبح لغير الله ويحلف بغير الله ويخاف غير الله فهو كاذب في قوله، ولهذا نقول: من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله فيجب أن يقولها على علم ويقين، وثانياً: يجب أن يعبد الله الذي شهد ألا معبود إلا هو، وثالثاً: ألا يعبد معه أبداً أي عبادة، ورابعاً: ألا يعترف ويقر عبادة غير الله تعالى.
مرة أخرى: يا من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، يجب عليك أن تقول ما قلت على علم ويقين، وقد نظرت إلى الكون كله فعرفت أن الخالق واحد، وأن الرازق واحد، وهو الله الذي لا إله إلا هو، وذلك على علم ويقين، وهذا أولاً، وثانياً: أنه لا يوجد إله مع الله تعالى، وهنا يجب أن تعبده، وإلا كيف تعترف بأنه هو المعبود ولا تعبده؟! وثالثاً: يجب أن تعبده وحده ولا تشرك في عبادته غيره أبداً، وإلا فقد تناقضت ونقضت كلامك، ورابعاً: ألا تعترف وتقر عبادة غير الله تعالى، سواء كنت خائفاً أو غير خائف، فلا تقول: إن عبادة المسيح جائزة، أو أن عبادة صنم من الأصنام جائز.
وإن قلت: أشهد أن محمداً رسول الله، فذلك على علم أنه رسول الله، فيجب حبه بعد الإيمان به ومتابعته والمشي وراءه، فنأكل كما يأكل، ونشرب كما يشرب، ونلبس كما يلبس، ونجاهد كما يجاهد، وحياتنا منوطة به، فنمشي وراءه، وبذلك يصح شهادة أن محمداً رسول الله، أما أن أن تشهد أن محمداً رسول الله ولا تحبه ولا تتبعه، فأي شهادة هذه؟ كذب.
[ ثالثاً: تنزيه الله تعالى عن الصاحبة والولد وإبطال ترهات المفترين ]. تنزيه الله تعالى وتقديسه وإبعاده كل البعد على أن يكون له ولد أو بنت، أو تكون له زوجة وصاحبه، ولفظ (الصاحبة) في القرآن بمعنى: الزوجة، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ [المؤمنون:91].
[ رابعاً: الاستدلال العقلي ومشروعيته والعمل به لإحقاق الحق وإبطال الباطل ]. من هداية هذه الآيات: جواز الاستدلال بالعقل وبالمنطق وبالذوق وبالفهم؛ لأن الله قال: وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [المؤمنون:80]، فلا بد من استعمال العقل واستخدامه لنميز به بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين النافع والضار، وذلك بحكم أن العقل له ذلك، فكيف يعرض الإنسان عن عقله ولا يتدبر به ولا يفكر حتى ينكر الحق ويكذب به؟
والله تعالى أسأل أن يثبتنا وأن يتوفانا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر