ولهذا قرن الله سبحانه بين التوحيد والاستغفار في غير آية، كما قال تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19]، وقال تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ [فصلت:6]، وقال تعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ * وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ [هود:1-3].
وفي الحديث الذي رواه ابن أبي عاصم .. وغيره: (يقول الشيطان: أهلكت الناس بالذنوب، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار، فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا).
وقد ذكر سبحانه عن ذي النون أنه نادى في الظلمات: أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87]، قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ [الأنبياء:88]، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (دعوة أخي ذي النون ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه) ].
هذا الوعد حق، لكن هو كسائر النصوص العامة المجملة التي تحتاج إلى أن يرجع في تفسيرها تفصيلاً إلى نصوص أخرى؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: (ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه) حق، لكن بشرط أن تتوافر الشروط وتنتفي الموانع، وهذا في كل عمل، كما أن الله عز وجل وعد من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله بأن يدخل الجنة، لكن هذا مشروط بشروط وانتفاء موانع، وكذلك من حقق أركان الإيمان، وحقق أركان الإسلام، وحقق بعض الأخلاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها من ألفاظ الوعد، ترد إلى ما يفصلها، وبعض الناس يقول: أنا أدعو ولا أجد أن الله فرج عني كربتي، فلعله تخلفت عنده شروط ووجدت عنده موانع، فالإنسان عندما يدعو الله عز وجل ولا يستجاب له، فلا يعني ذلك أن وعد الله يخلف، ولا يعني أن خبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يخلف، بل يعني ذلك أن الموانع قد خفيت عليه، أو أن الذهول والغفلة جعلت الإنسان يقع في موانع إجابة الدعاء، وعدم تحقق الشروط وهو لا يدري، فهو معرض للخطأ والنسيان، والسهو والخلل، والأهواء والأدواء، وأمراض النفوس، وكيد الشيطان، فكل هذه الأمور صوارف عن الحق، وصوارف عن أسباب الأخذ بدواعي الإجابة، لذا فليعلم الإنسان أنه لو دعا ولم يجد نتيجة الدعاء أنه قد أوتي من قبل العمل، ومع ذلك غالباً أن من كرر الدعاء يستجاب له؛ لأن كثيراً ممن يدعون الله يستعجلون الإجابة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم شرط في إجابة الدعاء: (ما لم يعجل) وكذلك لابد أن يكون من قلب حاضر لا من قلب لاه أو ساه، وأن يكون ذلك مسبوقاً بالعمل بالواجبات والأركان، فلا يكون الإنسان مخلاً بالفرائض، ثم يريد أن يتحقق له ما طلبه من ربه عز وجل.
ولهذا كان من المشروع أن يختم جميع الأعمال بالاستغفار، فـ(كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا)، وقد قال الله تعالى: وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ [آل عمران:17]، فقاموا بالليل وختموه بالاستغفار، وآخر سورة نزلت قول الله تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر:1-3]، وفي الصحيح (أنه كان صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفرلي. يتأول القرآن) ].
أشار الشيخ هنا إلى الأصلين اللذين لابد منهما في الأمر: الأول: الاجتهاد في الامتثال، فيجتهد العبد بتوجه قلبه إلى الله عز وجل، بالمحبة والخوف والرجاء والاستعانة والإنابة إليه عز وجل.
الثاني: أن يستغفر ويتوب من تفريطه في المأمور، والاستغفار والتوبة يكون بأمرين: باللسان، وبعمل الجوارح، بأن يعمل ما يكفر به ذنوبه من كثرة الذكر والاستغفار والتسبيح والتهليل وعمل الصالحات، فهذا نوع من الاستغفار أو نوع من التوبة، والاستغفار يكون أوسع من التوبة من وجه، والتوبة أوسع من الاستغفار من وجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما في القدر فعليه أن يستعين بالله في فعل ما أمر به، ويتوكل عليه، ويدعوه، ويرغب إليه، ويستعيذ به، ويكون مفتقرًا إليه في طلب الخير وترك الشر، وعليه أن يصبر على المقدور، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا آذاه الناس علم أن ذلك مقدر عليه ].
كما جعل الشيخ هنا القدر في أصلين: أولاً: أن يستعين بالله، ثانياً: الصبر على المقدور، ومن مقتضى الصبر أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وإذا علم ذلك المؤمن، وعلم أن ما أصابه إنما هو لحكمة وفائدة غائبة عنه؛ هان عليه أي مقدور، وتحمل أي شيء يصيبه، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن)؛ لأن غير المؤمن لا تتوافر عنده الصفات الشرعية للرضا بالمقدور والصبر عليه، وحلاوة تلقي المقدور، ولأن المؤمن هو الذي إذا قوي إيمانه تلقى المقدور بأمن وطمأنينة وسعادة، ووجد لذلك طعماً في قلبه وفي حسه ومشاعره، وهذا لا يكون إلا للمؤمن، بينما غير المؤمن قد يكون بطبعه أو بفطرته الصبر، لكنه لا يتلذذ ولا يسعد بقيمة هذا الصبر؛ لأنه لا يؤمل بالآجل الذي وعد الله به عباده الصابرين.
رغم أن السياق واضح في قصة آدم وموسى عليهما السلام، إلا أنه مع ذلك قد يكون فيه نوع من اللبس أحياناً؛ لأن القصة جاءت على سياق أن آدم سأل موسى، فقال: فبكم؟ وهذا تقرير أصل، وكأنه قال: يا موسى! ألست تعلم أن ذلك مكتوباً ومقدراً علي؟ قال: بلى أعلم. قال: إذاً انتهى الأمر. فالمصيبة التي حدثت قدر، أما الذنب فإن موسى لم يعتب عليه؛ لأنه يعرف أنه استغفر ربه فغفر له، لكنه عاتبه على المقدور الذي هو عقوبة الذنب، لأن هناك ذنباً وهناك عقوبة الذنب، فالذنب انتهى أمره، وموسى عليه السلام أفقه من أنه يعاتب آدم على ذنب حدث، ثم استغفر منه وغفر الله له، لكن المصيبة التي عمت البشرية جمعاء هي كون آدم نزل من الجنة إلى الأرض، إلى الكدح والنكد، فهذا هو مجال العتاب، لذلك قال له: أنت تسببت في هذا القدر، وآدم عليه السلام يعلم أن موسى مؤمن بالقدر، وأنه يعرف أن هذه مقادير، لكن أراد أن ينبهه لأمر قد يكون غفل عنه، وهو قوله: ألم تعلم أن ذلك مقدور علي، أي: أن الله قد كتبه علي، بصرف النظر عن كونه كتبه قبل كذا أو كذا سنة، فهذا مجرد تقرير خبر جديد فيه فائدة أخرى، ككتابة المقادير، لكن القصد من كلام آدم لموسى أن يقول له: أنت تعلم أن هذا مقدر علي، قال: نعم أعلم. قال: إذاً القدر لا يد لي فيه، وهي المصيبة التي قد حصلت، والذنب قد استغفرت منه.
وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في مواضع، كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، وقوله: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وقوله: عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى:10]، وقوله: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3] ].
نجد أن الفرق بين الأصلين في هذه النصوص واضح جداً.
فقوله: (إياك نعبد) تعني: الأصل الأول، وهو تحقيق الأمر، فنعبدك استجابة لأمرك.
وقوله تعالى: (وإياك نستعين) تحقيق للمقدور، بأن الاستعانة لا تكون إلا بالله عز وجل، وهي عبادة، إذ إنها نوع من التوكل على مقدور الله سبحانه.
كما في الآيتين تضمن واستلزام، فـ(إياك نعبد) كما أنها عبادة واستجابة للأمر، فهي كذلك نوع من الخضوع للقدر، لكنها إلى الأمر أقرب؛ و(وإياك نستعين) كما أن فيها استعانة بقدرته، إلا أنها تتضمن العبادة؛ لأن الاستعانة عبادة، ولذا فكل عبارة في أحد الأصلين تستلزم الأصل الآخر.
وكذلك الآية التي بعدها: (فاعبده) إذ هي في أصل الأمر، و(توكل عليه) في أصل القدر، وبينهما كذلك تضمن وتلازم كما بين العبارتين السابقتين.
وقوله: (عليه توكلت) بدأ في مسألة الاعتماد، وهي نوع من الربوبية والقدر، ثم قال: (وإليه أنيب) كذلك فيها جانب قدر، وجانب أمر، كما في العبارتين هنا التأكيد على الأمرين أكثر، بمعنى: أن وضوح القدر والشرع في العبارتين أكثر من العبارات التي سبقت، فالتوكل كما أنه نوع عبادة، فهو كذلك أخذ بالأسباب وتسليم لقدر الله، والإنابة بالعبادة فهي أقرب إلى الأمر، وكذلك بقية النصوص على هذا النهج.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالعبادة لله والاستعانة به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عند الأضحية: (اللهم! منك ولك)، فما لم يكن بالله لا يكون، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله، وما لم يكن لله فلا ينفع ولا يدوم ].
أحدهما: إخلاص الدين له، والثاني: موافقة أمره الذي بعث به رسله.
ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه: (اللّهم! اجعل عملي كله صالحًا، واجعله لوجهك خالصًا، ولا تجعل لأحد فيه شيئًا).
وقال الفضيل بن عياض في قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ [الملك:2]. قال: أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي! ما أخلصه وأصوبه ؟ قال: إذا كان العمل خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السُّنَّة.
ولهذا ذم الله المشركين في القرآن على اتباع ما شرع لهم شركاؤهم من الدين ما لم يأذن به الله من عبادة غيره، وفعل ما لم يشرعه من الدين، كما قال تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، كما ذمهم على أنهم حرموا ما لم يحرمه الله، والدين الحق أنه لا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه ].
يقصد بـ(الناس) عموم البشر، المسلمين وغير المسلمين.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالمؤمنون المتقون هم له وبه، يعبدونه ويستعينونه.
وطائفة تعبده من غير استعانة ولا صبر، فتجد عند أحدهم تحريًا للطاعة والورع ولزوم السنة، لكن ليس لهم توكل واستعانة وصبر، بل فيهم عجز وجزع.
وطائفة فيهم استعانة وتوكل وصبر، من غير استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة ].
الأقسام الأربعة هي كالتالي:
الأول: المؤمنون المتقون الذين جمعوا بين الأمرين، ولا يعني ذلك أن الذين بعدهم ليسوا كلهم من المؤمنين، كما لا يفهم أن هذا يشمل كل المسلمين، بل هو خاص بأهل السنة والاستقامة الذين يجمعون بين الأمرين على وجه معتدل، فيعبدون الله ويستعينونه على وجه شرعي، ويمتثلون الأمر ويخضعون للقدر، وعملهم هو الخالص الصواب بإذن الله، ويرجون ذلك.
الثاني: طوائف من المسلمين، أو طائفة من المسلمين تعبد الله عز وجل، لكن ليس عندهم صبر، ولا عندهم كبير استعانة، فاستعانتهم ضعيفة، وهذا ما عليه عامة أصحاب الغفلة من المسلمين، وهو لازم مذهب بعض المعتزلة، إذ من لوازم مذهب بعض المعتزلة في القدر أنهم يرون أن أفعال الإنسان ليست من فعل الله عز وجل، بل هي من فعل الإنسان نفسه، فألزموهم بأن الإنسان خالق أفعاله، لذلك ما كانت عندهم قوة الاستعانة والصبر، مع أنهم قد يكون عندهم ورع ولزوم سنة، وهذا كثير في رءوس المعتزلة، فتجد عندهم ورع، وتجد عندهم اهتمام بالطاعات، وليس هذا عند كلهم، وإلا فمنهم من عرف بعكس ذلك، ولزومهم للسنة هو لزوم ظاهر، بمعنى: أنهم يلتزمون شعائر الإسلام الظاهرة، لكنهم في جانب التوكل والاستعانة عندهم ضعف؛ لأنه من الطبيعي ما دام أنهم يرون أن الإنسان موجد لأفعاله أن يقل توكله على الله، وما دام أن الإنسان يعتقد بأنه هو الذي يوجد أفعاله، فنتيجة تلقائية يضعف توكله على الله، سواء عملوا بها أو لم يعملوا، وهذا كما قلت ليس خاصاً بالمعتزلة، أو بطوائف المعتزلة، بل هو سمة عامة لكل أصحاب التقصير وضعاف الإيمان، وأصحاب الغفلة من المسلمين.
الثالث: فئة من المسلمين فيهم استعانة وتوكل وصبر، لكنهم لا يستقيمون على الشريعة، وهؤلاء غالباً أصحاب الطرق الصوفية، وقد بدأت هذه السمة حتى عند العباد الأوائل، أي: قبل أن تكون طرقاً، فالعباد في أواخر القرن الأول الهجري والثاني والثالث قبل أن تظهر الطرق، العباد الذين سلكوا مسالك التنطع في العبادة، والذين سلكوا مسالك المناهج البدعية في العبادة أياً كان نوعها، عامتهم ليس عندهم استقامة على الأمر، ولا متابعة للسنة، وإنما متابعة للجهل والتقليد، ولأنهم أيضاً سيطرت عليهم الأهواء، فهم لا يطلبون العلم الشرعي ولا يتفقهون في الدين، ويتلقون دينهم عن عباد الأمم وعن الكتب، فلذلك صارت استقامتهم على الأمر الشرعي ضعيفة، وإلا لو استقاموا على الأمر الشرعي ما أنشئوا مذاهب تحريم الزواج، وتحريم طلب العيش، وتحريم طلب العلم، فالذي يفعل ذلك ما استقام على دين الله، وإن كان يجتهد ويقول: إن العلم دُخل، أي: دخله الرياء، والشيطان أسس فيهم المذاهب بشبهات، فتجد العباد الأوائل أصحاب الورع حينما انقطعوا عن الناس، وانقطعوا عن الجمعة والجماعات، وانقطعوا عن العلم الشرعي لاتهامهم نيات الناس، إذ قالوا: كل الذين سلكوا هذه المسالك نيتهم فيها شيء! فنقول لهؤلاء: ما الذي يمنعك أن تجرد نيتك، فتطلب العلم، وتطلب العيش، وتطلب الرزق، وتحضر الجمع والجماعات، وتعاشر العلماء وأهل العلم؟!
إذاً: هذه الطائفة هي التي أسست مذاهب الصوفية والطرق، وأغلب أصول الطرق الصوفية تقوم على هذا الأصل، فتجد عند الواحد منهم توكلاً وصبراً على العبادة، وصبراً على السفر، وصبراً على العبادات البدعية وغير البدعية، وأغلب ما يتعب أهل هذا الصنف: التعبدات البدعية التي ابتدعوها من عند أنفسهم، وعلى سبيل المثال: ننظر كيف يكدح المساكين أصحاب البدع في الحج، فيتلفون أموالهم وتضيع أوقاتهم في تتبع البدع، ويضيع أجرهم؛ لأنهم عبدوا الله من غير استقامة، وأذكر أني رأيت ورأى غيري أن أناساً يحملون رجالاً أو نساء مسنين على ظهورهم، ويصعدون بهم غار حراء، والشباب الأقوياء يحتاج الواحد منهم إلى ساعة ونصف لكي يصل إلى الغار، وهذا يحمل فوق ظهره عجوزاً، ويظن أنه يتعبد لله بذلك، وكذلك تتبعهم للمشاهد والآثار بشكل مرهق، في حين أن الله عز وجل أراح الحاج بأن يقر في منى، ويتعبد ويسبح ويهلل ويلبي ويكبر ويستغفر ويصلي مع المسلمين، ويشهد مناسك الحج، ويجلس في المشاعر والشعائر، وهذا المسكين يتعب نفسه في أمور بدعية! وبهذا نعرف أن هذه الطائفة فيها استعانة وتوكل وصبر فيما يتعلق بمسالكهم في العبادة البدعية، لكنهم من غير استقامة على الأمر ولا متابعة للسنة.
بينما أوائل المعتزلة قد اشتهروا بالورع ولزوم السنة الظاهرة، والشيخ قد جمع بين فئتين: طوائف من المعتزلة، وأهل البدع من العقلانيين الكلاميين، مع أن كل أهل الكلام الذين عندهم ورع وعبادة، ثم أيضاً جهلة أهل السنة الذين عندهم غفلة ونوع إعراض وضعف إيمان، يحرصون على السنة الظاهرة، لكنهم عند المصائب لا يصبرون.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فقد يمكن أحدهم، ويكون له نوع من الحال باطنًا وظاهرًا، ويعطى من المكاشفات والتأثيرات ما لم يعطه الصنف الأول، ولكن لا عاقبة له، فإنه ليس من المتقين، والعاقبة للتقوى، فالأولون لهم دين ضعيف، ولكنه مستمر باق إن لم يفسده صاحبه بالجزع والعجز، وهؤلاء لأحدهم حال وقوة، ولكن لا يبقى له إلا ما وافق فيه الأمر، واتبع فيه السنة.
وشر الأقسام من لا يعبده ولا يستعينه، فهو لا يشهد أن علمه لله، ولا أنه بالله ].
هذا القسم يشمل سائر الخلق الذين لا يلتزمون بالدين الحق، يعني: لا يعبدون الله ولا يستعينون به على الوجه الصحيح، فلا يشهد الواحد منهم أن عمله لله، وأن عمله بالله، وإن شهد فإنه يعمل بالشرك، حتى لو ظن أن عمله بالله ولله، فهو ليس على استقامة، لا في الأمر ولا في القدر، وهذا غالباً يقصد به الملاحدة والفلاسفة، وقمة الهرم في هذا التوجه أو في هذا القسم هم العقلانيون الملاحدة، والفلاسفة الذين لا يخضعون للدين، ولا يستجيبون للأنبياء، وتبعاً لهم كثير من الأمم التي تنهج مناهج الديانات الوضعية، وإن كان يوجد في الديانات الوضعية من العباد من يدخل في القسم الثالث، كالصابئة والمجوس والديانات الهندية، لكن عامة أتباع هذه الديانات الذين لا يتعبدون -وهم الغالب- يدخلون في صنف الملاحدة والفلاسفة الذين لا يعبدون الله ولا يستعينونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ فالمعتزلة ونحوهم من القدرية الذين أنكروا القدر هم في تعظيم الأمر والنهي، والوعد والوعيد، خير من هؤلاء الجبرية القدرية، الذين يعرضون عن الشرع، والأمر والنهي ].
أدخل الشيخ الجبرية والقدرية في القسم الرابع، والمقصود: الجبرية الخالصة، وليس جبرية المتكلمين الأشاعرة .. وغيرهم، فهذا جبر خفيف، والجبرية الخالصة هم غلاة الجهمية الذين مذهبهم مذهب الفلاسفة والملاحدة، والذين يقارب بينهم الشيخ وبين المعتزلة من المنتسبين للإسلام، فالمعتزلة أنكروا القدر، لكنهم يعظمون الأمر والنهي، والوعد والوعيد، فهم خير من الجبرية الجهمية الخالصة القدرية، وسميت قدرية عكس التسمية المشهورة، إذ التسمية المشهورة للقدرية: القدرية النافية للقدر، وهنا يقصد: القدرية التي تبالغ بإثبات القدر، القدرية الجبرية التي تقول: إن الإنسان قدر عليه الجبر، فسميت قدرية من هذا الوجه، كما يقولون: الأمر كله قدر، فلا للإنسان فيه حرية ولا إرادة ولا اختيار، وإنما قدر خالص، يكون الإنسان فيه كالريشة في مهب الريح، وسموا قدرية لأنهم يرون أن الإنسان مجبور قدراً، ولذلك هذه من المصطلحات التي يندر استعمالها، لكنه مصطلح صحيح، أعني: القدرية الجبرية، وإلا فالأصل في القدرية هم النفاة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ والصوفية هم في القدر ومشاهدة توحيد الربوبية خير من المعتزلة، ولكن فيهم من فيه نوع بدع مع إعراض عن بعض الأمر والنهي، والوعد والوعيد، حتى يجعلوا الغاية هي مشاهدة توحيد الربوبية والفناء في ذلك، ويصيرون أيضًا معتزلين لجماعة المسلمين وسنتهم، فهم معتزلة من هذا الوجه، وقد يكون ما وقعوا فيه من البدعة شرًا من بدعة أولئك المعتزلة، وكلتا الطائفتين نشأت من البصرة ].
وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: (من كان منكم مُسْتنّا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفًا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بدينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقال حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما: (يا معشر القراء! استقيموا وخذوا طريق من كان قبلكم، فوالله! لئن اتبعتموهم لقد سبقتم سبقًا بعيدًا، ولأن أخذتُم يمينًا وشمالاً لقد ضللتم ضلالا بعيدًا) ].
فيما يتعلق بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم عن خير القرون، وأن خير القرون قرن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، فقد اختلف السلف في تفسير القرون، هل هي الأجيال، بحيث تشمل المائة السنة الأولى، أم هي مئات السنين، إذ المئون تعد قروناً، والأجيال تعد قروناً؟ الراجح والله أعلم أنه يقصد بذلك المئات، أعني: المائة الأولى والثانية والثالثة، ولذلك شواهد وقرائن كثيرة من التاريخ وحال السلف، وهو الذي يرجحه جمهور السلف، من أن المقصود به الثلاثمائة السنة الأولى.
أيضاً: الخيرية لهذه القرون، بعض الناس من المنافقين ومرضى القلوب والجهلة والذين استجابوا لشبهات الذين بدءوا يتجرءون على نهج السلف، قد بدءوا يشككون في معنى الخيرية، وأن الخيرية لا تعني الخيرية التي نقصدها، أي: المنهج في الدين والعقيدة والتعامل .. إلى آخر منهج هؤلاء الجيل، وصاروا يفسرون الخيرية بتفسيرات جزئية، منها: أن منهم أخيار، وأن الخيرية المقصود بها أن الأمة في ذلك التاريخ أقرب إلى النبوة، وهذه كلها معان صحيحة، لكن ليست هي كل المعنى، بل الخيرية تشمل جميع هذه المعاني قطعاً، فالخيرية من حيث النوع، أي: نوعية الأخيار في القرون الثلاثة الأولى، لا شك أنهم خير ممن جاء بعدهم، هذا من جانب.
والجانب الآخر أن الفرق لم تستفحل بعد وإن وجدت.
والجانب الثالث: أنه رغم وجود الفرق إلا أن الفرق التي خرجت عن الملة كانت نادرة جداً، إذ لم تخرج فرق الردة إلا بعد القرن الثالث.
والجانب الرابع: أن الأهواء والبدع لم تكن لها شأن في تقرير مصائر الأمة في القرون الثلاثة، بينما بعد القرون الثلاثة الفاضلة صار هناك للبدع دول وشعوب وأقاليم، وكيانات حل وعقد في بعض مصائر الأمة ومصالحها العظمى، ثم أيضاً الخيرية تشمل سلامة المناهج في الجملة، واستقرار الدين من حيث المصادر في الثلاثة القرون الفاضلة، فقد استقر الدين في منهجه العام، واستقر سبيل المؤمنين من حيث تنقية المصادر، فبعد القرون الثلاثة الفاضلة لا توجد -مثلاً- مناهج استطاعت أن تجدد في تدوين السنة ودراسة الأسانيد إلا على قواعد الأولين، واستقرت قواعد حفظ الدين ومناهج الاستدلال كذلك، وهي مهمة، وأهم شيء في نهج الدين تحرير المصادر ومناهج الاستدلال والتطبيق.
فهذه كلها تمت في القرون الثلاثة الفاضلة على الوجه الذي استقر به نهج أهل السنة والجماعة، وما بعده مجرد خدمة فقط، حتى جهود الجهابذة مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، ومن جاء بعده من أئمة السنة لا تعدو أن تكون جهوداً في تجديد الكيان وخدمته الذي بناه أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة، كيان الدين من حيث إنه منهج المؤمنين في التلقي والاستدلال والمصادر والتطبيق.
وكذلك التجارب والعبر التاريخية التي مرت في القرون الثلاثة الفاضلة طُّبقت فيها جميع ما تحتاجه الأمة من تطبيقات الدين، وعليه فالخيرية في هذه القرون الثلاثة تعني جميع معاني الخيرية، فهي عامة، ولا تعني معنى معيناً، هذا شيء.
والشيء الآخر في كلام ابن مسعود : (فمن كان مستناً فليستن بمن قد مات)، فقد بدأنا نسمع من بعض المفتونين كلاماً غريباً، وهو أنهم يقولون: أنتم الآن تتعلقون بالمشايخ الأحياء -وهذا غلط- فلا تتعلقون إلا بالأموات! ويستدلون بمثل هذا النص، وهذا يدل على الجهل، فنحن حينما نتبع أئمة الهدى فإنا نقسّم الاتباع من حيث اتباع الأئمة إلى قسمين:
القسم الأول: الأئمة الذين ماتوا، بمعنى: أننا عرفنا أنهم ماتوا على ما كانوا عليه من الهداية والتوفيق والعلم، فهؤلاء ضمنّا بإذن الله أن الاقتداء بهم والاهتداء ممن لم يملك الاستدلال أنه استن بإمام عدل مات على الإسلام ومات على الهداية.
القسم الثاني: الاقتداء بالأحياء فيما وافقوا فيه الكتاب والسنة، وما وافقوا فيه من مات من أهل السنة، فهذا لا يزال باقياً، وإلا فما معنى قول الله عز وجل: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]؟ فكيف نسأل أهل الذكر وهم أموات؟ لابد من سؤال الأحياء، لكن لا نعتبر أن الأحياء قد عصموا من الضلالة والزلل ما داموا أحياء؛ لأنه لا يؤمن الزلل على الحي، وهذا هو المقصود.
إذاً: الاستنان الكامل الذي يجعل الإنسان يطمئن هو الاستنان بمن قد مات من أهل الهدى، وممن عرفنا أنهم ماتوا على السنة، أما الاستنان بالأحياء فهو مضبوط بضوابط: الاتباع، والأخذ بالدليل، وألا يؤخذ بزلة العالم، وأن يُقاس علمه بعلم غيره، بحيث إني لا أتعصب لواحد منهم، فهذه الشروط تنطبق على الحي، وقد يكون من مات أمره أيسر في تطبيق هذه الشروط.
في هذا الحديث والآية أصل من الأصول البدهية والمسلّمات والثوابت في الدين، والتي أيضاً بدأ يشكك فيها بعض المفتونين والمنافقين، وذلك حينما نجم النفاق في هذا الوقت، وهي دعوى أن الدين والإسلام يشمل سبلاً، وأن كل هذه السبل مرضية، وأنها على الحق! وهذا عين الباطل، فالدين الحق سبيله واحد وليست سبلاً، والسبل الأخرى إنما هي أهواء وافتراق، وأصحابها من المسلمين نرعى لهم حقهم في الإسلام، لكن لا نجعل بدعهم من الدين، ولا نساوم على السنة، ولا نتنازل عنها قيد شعرة، ولا يكون مبدأ الحوار بيننا وبينهم أن نتنازل عن شيء، وهم يتنازلون عن شيء، ثم بعد ذلك نتقارب، لا، نتقارب في التعامل وفيما يتعلق بمصالحنا العامة في المصالح المعيشية، وفيما فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، ودرء للمفاسد وجلب للمصالح، ودفع للضرر عن الأمة من العدو المشترك.
أما أن نتقارب بمعنى نتنازل عن السنة فلا، وأذكر أني حضرت بعض المناسبات أو بعض الفرص التي كان فيها نوع من محاولة جر أهل السنة إلى أن يتنازلوا عن بعض الثوابت التي لا يملكون التنازل عنها، فلما قُدّمت أحد البحوث في هذا الملتقى التي تقول: إنه يجب أن نفرّق بين العقيدة والثوابت، صاح أولئك الذين حضروا -حتى ممن ينتسبون للسنة-: هذا حجر على الآخرين، هذا ظلم، هذا ليس بتفاهم ولا حوار! حتى الناس من أهل السنة قالوا: إذاً لماذا أتينا؟ لا بد أن نتنازل ويتنازلون! فقيل لهم: لا يمكن أن نتنازل، نعم نتنازل في كذا وكذا، أما أن نتنازل عن السنة، والحق البيّن فلا نملك ذلك أصلاً، ولو تنازلنا فإنا سنخسر ديننا وذممنا، والحق ليس فيه تنازلات، بل الحق طريق وسبيل واحد، ليس فيه سبل ولا خيارات، وإن تكلم بهذا بعض الكبار من الدعاة، فهو خطأ وزلل منهم، ولا نتبعهم في ذلك، مع أننا لا نلزم الآخرين، ولا نملك أن نكره أحداً في الدين، لكن لا نتنازل عن الحق، وإن خفيت خدعة التنازلات على بعض المنتسبين للسنة، وبعض من ينتسبون للعلم، فلا يعني ذلك أن هذا هو الحق، فهذه زلات وجهالات، وربما تكون أموراً تعتري القلوب والمصالح، أو أموراً تحدث من أفراد أهل السنة، حتى وإن كانوا علماء، أو منتسبين للعلم لملابسات أخرى، لكنها لا تخرق المنهج، فالصراط الذي نحن عليه هو واحد، ولذلك كثيراً ما نؤكد أن أصول السنة واحدة، ولم يختلف عليها أهل السنة قديماً ولا حديثاً، وما يجري من بعض أهل السنة والعلماء .. وغيرهم من خلاف على بعض المسائل الملتحقة بالعقيدة فلا يعني ذلك اختلاف في الأصول، ولو قُدّر أن عالماً من علماء السنة خالف في أصل من الأصول، فهذه زلة وليس عيباً في المنهج، مع أني لا أعرف من أئمة السنة الكبار أنه خالف في أصل من الأصول القطعية والثوابت، وأنا أدّعي هذا، وسبق أن عرضت هذا الأمر أكثر من مرة، وقلت: من يدّعي أنه توجد مخالفة من إمام معتبر من أئمة السنة في أصل من الثوابت والقواطع فليأت ببينة، نعم هناك مسائل ملحقة بالثوابت خالف فيها بعض الأئمة؛ لأنها مسائل أشكل فيها الدليل فقط، أما الثوابت والقطعيات والأصول، كأركان الإيمان، وأركان الإسلام، والشفاعة، والرؤيا، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد .. وغيرها من القضايا القطعية، فليس فيها خلاف.
وكذلك قوله تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:1-5]، فأخبر أن هؤلاء مهتدون مفلحون، وذلك خلاف المغضوب عليهم والضالين.
فنسأل الله العظيم أن يهدينا وسائر إخواننا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ].
الجواب: مسألة تقنين الشريعة من الأمور التي تحتاج إلى شيء من التفصيل، فأولاً: يختلف مفهوم تقنين الشريعة بين علماء الشريعة اليوم وقبل اليوم، فبعضهم يقصد بتقنين الشريعة: عنصرتها ووضعها على شكل فقرات واضحة عند القاضي أو المحامي أو طالب العلم .. أو غيرهم، بمعنى: وضعها على شكل مواد تشبه المواد القانونية، لكنها فقهية خالصة، فيضم بعضها إلى بعض، وتضم إلى اجتهادات المعاصرين، وتضم إليها المسائل التي تتعلق بالأنظمة الحاكمة عليها، مثل: نظام الحكم، نظام الحكم عندنا الآن ولله الحمد إسلامي شرعي يعتمد على الكتاب والسنة في أكثر من مادة، فمن الممكن مثلاً التقنين، فتربط الأحكام الفقهية بالأصول التي قام عليها هذا النظام، وذلك من باب أنها قواعد شرعية عامة متفق عليها، أو أنها قواعد عامة تنبني على قواعد الشرع، وهذا النوع من التقنين قد يكون سائغاً إذا توافرت الضمانات في ألا يؤدي ذلك إلى مرحلة الخروج من مقتضى الشريعة.
وهناك نوع آخر من التقنين: وهو إعطاء القوانين صفة الشرعية، المسألة عكسية، بمعنى: محاولة تسويغ القوانين وتعديلها، وجعلها نفس المواد، مثل: القانون المصري، فإنه يدّعي بعض واضعيه أنه ينسجم مع المذاهب الفقهية خاصة المذهب الحنفي، وهذه في الحقيقة دعوى عريضة، مع أنك إذا اطّلعت فيه لم تجد فيه من علامات الفقه والشرع سوى في المضامين أو الصياغة، إلا ما يتعلق بالنزعة الإنسانية فقط، فتجد حماية الأخلاق، والعدل، ودفع الظلم، وهذا كلام مجمل تقوله جميع الأمم، لكن لا تجد في هذه القوانين التي رأيتها مصطلحات فقهية شرعية، ويريدون أن يعطوها صفة القانون! بل ويقول لك: إنها تنسجم مع القواعد العامة للمذهب الفلاني. مع أن عبارة: (القواعد العامة) فضفاضة، فتجد مثلاً القانون الفرنسي والقانون الإنجليزي والقانون المصري الذي يدّعون أنه ينسجم مع الفقه سواء، ولا تجد بينهما فرقاً، فهذا النوع من التقنين لا شك أنه خطير، وليس هو المقصود عندنا -ولله الحمد- في هذا البلد، وأكثر الذين يتكلمون عن التقنين من طلاب العلم أو المشايخ -وهم قلة- يقصدون النوع الأول، والذي هو: وضع الأحكام الفقهية على شكل مواد تقرب للقاضي والحاكم والناظر والمستشار والباحث المسائل الشرعية، بشكل يتناسب مع مستجدات العصر الإدارية والأساليب والوسائل التي تتجدد، فمثلاً: القضاء، فلابد أن يحكم قضايا المرور، وقضايا الاقتصاد، وقضايا الطب الحديث .. وغيرها؛ لأننا إذا أخذنا زاد المستقنع أو شرح الزاد لا نستطيع أن نأخذ منه أحكاماً واضحة لمعالجة مشكلات معاصرة، مثل: صدام السيارات، فلا يوجد في الفقه القديم أحكام تنص على ذلك، لكن توجد له قواعد ونظائر، لذا فهم يريدون بالتقنين: جعل هذه القواعد والنظائر على شكل مواد تُريح من التخبيط والاجتهاد الخاطئ الذي يكثر في تطبيق القضايا المعاصرة على القديمة، وعليه فنقول: إن تسمية هذا النوع من العمل تقنيناً هو الذي أدخل اللبس على الناس، وإلا فهو يعني عنصرة الفقه المعاصر؛ ليمكن تنفيذه أمام القاضي بدون أن يتعب ذهنياً، فيبحث عن المسألة ويقارب ويقارن، وبدون أن يخالفه المدّعي العام أو المُحامي، أو الخصم أو أي معترض؛ لأن الأمر بين وواضح، فلا يبقى في ضمير القاضي أي شيء.
وأخيراً: أنا أتوقف عن هذه المسألة؛ لأنها في الحقيقة مهمة ويكثر فيها اللبس، والأمر إذا كان -في تقديري وقد أكون مخطئاً- في أيد أمينة، فأرجو ألا يكون فيه حرج، ومع ذلك الذين يتخوّفون، أو يتوجسون خيفة من هذا التوجه معهم الحق؛ لأنه من خلال تجاربي السابقة قد وجدنا الألم، والمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فأنا حينما أرى بعض الغيورين يتوجّسون خيفة من شعارات التقنين، فأنا أعذرهم، لكن ينبغي أيضاً أن يعالجوا الأمور باعتدال وحكمة.
الجواب: هذا الكلام فيه جانب حق وجانب باطل، فأما أن تكون دخلتنا عبر مناهج الإخوان وغيرها بعض المناهج البدعية فكرية وعقدية فنعم دخلتنا، وخاصة في جانب المناهج في الدين، ومناهج الدعوة، وفي جانب العقيدة، وقد يكون تأثير الإخوان عقدياً ممن تأثروا بمنهج الإخوان في المملكة، وقد يكون تأثيرهم ضعيفاً جداً، بل لا أعرف أن واحداً مثلاً تحوّل إلى أشعري بسبب أنه إخواني، أو تحوّل إلى صوفي بسبب أنه إخواني، بل تجد بدعاً أخرى، كبدع المواقف من العلماء، وبدع المواقف من الدولة، وبدع الثرثرة في السياسة أكثر من اللازم إلى حد الوسوسة، وبدع مناهج الدعوة والتعبد بها، وبدع التنظيمات التي تتخذ بشكل إلزامي، وبدع الأفكار تجاه السنة وأهلها، فقد تكون من جانب بعضها بدعاً صريحة، وبعضها تدخل في التوجه البدعي، وأخذناها كمفردات ولا نقول: هذه بدعة، لكنها تخدم التوجه البدعي، أو تخدم مناهج أهل البدع، وكذلك: التساهل، والتميع، والإرجاء، والتصوّف مما يتساهل فيه الإخوان، كما أصبح منهج الإخوان منهجاً عاماً يدخل فيه عدة فئات أيضاً، فقد يُصنّفون على أن إخوانهم ليسوا على منهج الإخوان في العقيدة، أو في بعض الأفكار، فهناك مناهج توصف بأنها إخوانية وهي تخالف بعض أصول الإخوان، وقد وجد هذا فعلاً، وهو من أمراضنا اليوم، رغم أن المشاكل التي تجري أسبابها كثيرة، لا يجوز أننا نحيلها على الإخوان وهذا غلط، فنحن نتحمل بتفريطنا وبتقصيرنا في تنشئة الأجيال، ونتحمل جزءاً من المشكلة والمسئولية، وأيضاً عوامل كثيرة أدت إلى ما وصلنا إليه من الفرقة بين الشباب، ووجود مظاهر الغلو والمواقف الحادة من الدولة ومن العلماء، فهذه توافرت فيها عوامل كثيرة، ومن الظلم أننا نرجعها إلى عامل أو عاملين أو حتى عشرة عوامل، بل توافرت فيها عوامل كثيرة جداً، من ضمن هذه العوامل مناهج الإخوان، وتربيتهم للشباب تربية فيها انحراف عن نهج السنة، وعزلهم عن العلماء ولو لم يتعمدوا ذلك، وإنما المنهج التطبيقي للإخوان هو الذي يعزل الشباب الصغار عن العلماء، أيضاً اتخاذ المواقف المريبة تجاه الدولة والمسئولين، فقد ربت طوائف منهم الشباب على هذا المنهج قصدوه أو ما قصدوه، أيضاً إهمال الثوابت عندنا، وإهمال التعلق بدعوة السنة في هذا البلد، وإهمال البيعة، وإهمال شرعية الدولة، بل ربما بعضهم يرى عكس ذلك، لكن لا نتهم النيات، فإذا ما رأوا عكس ذلك فهم أهملوا هذا الجانب وتربية الأجيال عليه، فحدث هذا الفصام، وكان لمناهج الإخوان أثر في ذلك، لكن من جانب آخر أيضاً ليس كل من ينتسب إلى الإخوان أو نُسب يكون بهذه الصفة، خاصة في الآونة الأخيرة بعد الأحداث وبعد التجارب، فقد وجد اعتدال كبير حتى عند كثير ممن ينسبون إلى الإخوان أو ينتسبون، ووجد أيضاً عوامل أخرى كثيرة تسببت في هذا الفصام، فأنا أقول: الأمر يحتاج إلى التوازن.
أيضاً كل الدعوات لها إسهام في جوانب الخير، فيجب أن تُذكر وتشكر، كاحتضان الشباب عما هو أعظم، مثل: صرف الشباب إلى التدين، وإلى الخير، وإلى طلب العلم الشرعي، وإن كان اهتمامهم بالعلم الشرعي ضعيفاً، لكن مع ذلك فمبدأ طلب العلم الشرعي موجود، خاصة وإن كان لا يوجد عند التبليغ، لكن يوجد عند غيرهم، فأقول: هذه الجماعات لها حسنات يجب أن تُذكر وتُشكر؛ لأن القضية قضية غفلة في المجتمع عن الشباب، فلو تصورنا أن الشباب تُركوا من جميع هذه الدعوات فما الذي أمامهم؟ الأحزاب، اتجاهات علمانية، اتجاهات حادة من قوميات، وناصرية، وبعثية، ومخدرات، ومصائب، وانفلات أخلاقي، وانفلات عقدي.
فإذاً: الأمر يؤخذ بتوازن إذا نظرنا إلى ظروف الأمة وأحوالها، ونقول هذا رغم أن الجماعات عندها كثير من الأخطاء، إلا أنها أيضاً حملت معنا شيئاً من العبء في احتضان كثير من شبابنا، فكان المفروض أن تعالج هذه المشكلات بالتناصح، وأن يكون الأمر بعلاج الأخطاء لا بهدم الكيانات؛ لأن الهدم لا يؤدي إلى نتيجة، بل يضر الجميع، فأنا أعتقد أن هذه اللهجة لهجة هدّامة ليست لهجة إصلاح، مع أني لا أدري ماذا قال الشيخ؟ وربما قال كلاماً أحسن من هذا، فإذا كان الأمر -وأنا صرّحت- قد وصل إلى وسائل الإعلام فلا بد أيضاً أن نقول ما نرى أنه الحق، أما أن يقال: إنهم أهل بدع مطلقاً فلا؛ لأنني أعرف أن الغالبية الكبرى من الشباب الذين يُنسبون للإخوان ليسوا من البدع في شيء، وما قلته قبل قليل هو موجود في المناهج وليس في تصرفات الأفراد.
فإذاً: الأمر يحتاج إلى توازن وإلى المعالجة بالحكمة، وأعود فأقول: نعم هذه الأمور توجد، لكن علاجها هو بعلاج الأخطاء لا بالتشهير والتنفير، ولا بالاستعداء، ولا بالمحاسبة على الماضي بالشكل الذي يهدم ولا يبني، فنحتاج إلى أن نتناصح، وإلى أن نصحح أخطاء، وإلى أن نبيّن وجه الحق من غير أن نُسقط ذمم الآخرين، فهؤلاء اجتهدوا وأخطئوا، ولهم علينا حق المناصحة، وأخطاؤهم لا مانع أن تُبيّن منهجياً، لكن لا يكون ذلك بالعدوان وإلغاء الاعتبار، فنحن بحاجة الآن إلى أن نبني كياننا من حيث تربية الشباب والتعليم، بحاجة إلى أن نتبنى المنهج الحق بعيداً عن غوائل هذه التوجهات، وأنا مقتنع تمام الاقتناع أننا إذا أردنا أن نُخرج مجتمعنا من غوائل الفرقة والتحزبات فلابد أن نبني منهجنا على الأسس الشرعية التي غفلنا عنها، والتي تقوم على أسس السنة بعيداً عن كل هذه التوجهات والحزبيات، وما مضى من تاريخ حصل فيه ما حصل نعالجه بالحكمة وبالرفق؛ لأن الناس لا يرضون أن تتهم ذممهم حتى وإن أخطئوا، وأغلبهم يرى أنه ما أخطأ ويرى أنه مجتهد، فالأمر يحتاج إلى شيء من الرفق والهدوء، والله أعلم.
الجواب: لاشك أن هذا الأمر شنيع، لكن لابد أن تؤخذ الأمور بالضوابط الشرعية، وخاصة الأمور الكبار التي تتعلق بمصالح الأمة، وأنا أرى أنه لابد من الرجوع إلى أهل العلم والعقل والحكمة في ذلك، كما لابد من إنكار هذا المنكر بالوسائل المتاحة بحدود وضوابط؛ لأنه يجب أن نراعي الظروف التي نعيشها، من حيث إننا لا نستفز عدواً متربصاً خبيثاً، بل لا أستبعد أن يكون لها أصل، لكن ربما يكون لا أصل لها، وإنما هي نوع من إبقاء الحجر الاستفزازي لاستثارة الأمة، ومن أجل التذرع بالتدخل في شئون المسلمين بشكل أكبر، وأنا منذ أن سمعت هذه القصة ورد في خاطري -ولا تزال الأحداث تؤكد ما أظنه- أن القضية قضية استفزازية، وذلك من أجل جر الأمة إلى فتنة عظيمة، فالذي ينبغي أن نأخذ الأمور بقدر، ولا نترك القضية تمر بسلام، بل لابد أن نرجع إلى مشايخنا وعلمائنا والدعاة الراشدين، ونأخذ الأمور بالطرق التي تؤدي إلى أن نحفظ كرامتنا وكرامة ديننا، بدون التصرفات المتشنجة التي يفرح بها العدو، ويتخذها ذريعة لأن يتدخل أكثر، فكفى الأمة هواناً وذلاً فيما هي فيه الآن، فلا نزيد من تصرفاتنا المتشنجة التي تؤدي إلى مزيد من الهوان والذل، فلابد أن يكون هناك تثبت على مستوى يُطمئن إليه، ولذا فهم قد نفوا، وأنا قد قرأت نفيهم، وزعموا أن الصحيفة التي نشرت هذا ما تثبتت، بل كانت مجرد عبارات طليقة، وأن هذا ما ثبت عندنا لكنه من مصدر مسئول، فيبقى الأمر نحسب له حساباً في نتائجه، والإنكار الإعلامي والخطابات مطلوب، لكن إلهاب المشاعر بشكل يؤدي إلى تصرفات هوجاء ترجع إلينا بالضرر في ديننا وأنفسنا، أمر يجب أن نحسب له حساباً.
الجواب: التيمن مطلوب، وكون الإنسان يكون على يمين الإمام هذا نوع من التيمن، لكن من الأشياء التي يلاحظها بعض المشايخ وبعض أهل العلم: أنه إذا انحاز الناس كلهم إلى اليمين وتركوا شمال الإمام أن هذا يؤدي إلى الخلل في المصافّة، ونحن مأمورون بالتوازن خاصة في العبادة، وبالذات في الصلاة، فقد جاءت التوجيهات الربانية والسنة النبوية بالأمر بالإتقان في كل شيء، لذا فليس من اللائق أن يكون المصلون على جهة من الإمام والجهة الأخرى فاضية، فهذا غير لائق ولا يناسب التوازن في المصافّة، أما إذا كان الأمر مقارب فلا مانع أن الإنسان يختار اليمين.
الجواب: كلمة: (الليبرالية) تعني: العلمانية، وهي عزل الدين عن الدولة وعن الحياة، كما تعني الإعراض عن شرع الله، وكلمة: الليبرالية لكونها ألطف وجديدة فقد فرح بها العلمانيون، وبدأ الواحد يقول: أنا ليبرالي، وما درى أن الناس عندهم عقول، لذا نقول: ليبرالي يساوي علمانياً؛ لأنه ليس هناك فرق، ثم إن هذه المصطلحات كمصطلحات أجنبية بينها نوع من الاختلاف، لكن الغايات والمقاصد واحدة، فكلها مصطلحات تخدم التوجهات الغربية، وكلها تنخر في عقيدة الأمة وفي دينها وأخلاقها وكيانها؛ بل وكلها عوامل هدم.
الجواب: هذا كأنه استشكل أو تصور وتوهم أن هناك اختلافاً بين قوله عز وجل: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ [المائدة:16] وقوله عز وجل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا [الأنعام:153]، وتفسير النبي صلى الله عليه وسلم لها وتفسير ابن مسعود، وهو الصحيح، أي: أن المقصود: الصراط المستقيم فاتبعوه، ولا أظن أن هناك تعارضاً، أي: بين مسألة الهداية والإضلال من الله عز وجل ابتداءً، ومسألة تكليف العباد بأن يسلكوا سبيل الهداية ويتركوا طريق الضلالة، فهذا مما كلّف الله به جميع العباد وأمرهم به، ومع ذلك فمسألة الهداية مبنية على توفيق الله عز وجل ولا تناقض؛ لأنه قد يقول قائل: إذا كانت مبنية على توفيق الله، فكيف يُطلب منا أن نتبع الصراط ونهتدي به، مع أن هذا أمر مقرر قدراً؟! فنقول: قد سبق الكلام عن هذا، أي: عن مسألة تقدير الله عز وجل في الهداية والإضلال، السعادة والشقاوة، وقلنا: إنها مبنية على علم الله السابق عن كل إنسان ماذا سيفعل؟ فلما علم الله عز وجل عن هذا الكافر بأنه سيضل قدّر عليه الضلالة، يعني: كتبها عليه بناء على علمه سبحانه بأنه سيضل، وسيختار طريق الضلالة، وكذلك حينما كتب الله عز وجل السعادة والهداية على من سعدوا واهتدوا، فلسابق علمه عز وجل بأنهم سيهتدون في الاختبار وسينجحون في الاختبار، وهذا مبني على علم الله بمصائر العباد بالاختبار، فهذا الأول: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [المائدة:16] بأن الله عز وجل جعل اتباع الرضوان سبباً للهداية، والتي هي التوفيق، ومع ذلك أمر الجميع بأن يتبعوا الصراط فقال: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فهذا أمر عام، من تبعه صار من المهتدين، وقدّر الله لهم ذلك، وضل من ضل فصار من الضالين، وقدّر الله عليهم ذلك بناء على علمه السابق، فلا تنافي بين هذا وذاك؛ لأن الفارق بين التقدير والاختيار فارق غيبي لا ندرك منه إلا ما تقوم به الحجة علينا، فالقاسم بين التقدير والاختيار للعباد قاسم غيبي لا يعلمه إلى الله عز وجل، لكن الفارق فيما يتعلق بأفعالنا أمر بين لكل ذي بصيرة، وهو أن كل عاقل يجد أنه قادر على أن يفعل الشر أو يفعل الخير، وكل عاقل يجد أن عنده تمييزاً فضلاً عن مسلم يدّعي الإسلام، فإنه إذا نظر في أدلة القرآن وأدلة السنة وجد أبواب الهداية مفتوحة، والتحذير من الضلالة بيّنة، وهو إن سلك أبواب الهداية فعن بصيرة مستجابة لأمر الله، ولم يُرغم عن ذلك إرغاماً، وإن سلك طريق الضلالة والعصيان فهو يعلم أن ذلك باختياره، ولم يرغمه أحد ولا ألزمه، ولذلك إذا فقد الإنسان عقله فلا يكلف؛ لأنه لم يعد عنده تمييز بين النافع والضار، بين الصالح والفاسد، والتمييز نوعان: تمييز فطري، ويكون في القضايا العامة، وتمييز شرعي، وهو الذي يُعرف بأدلة الكتاب والسنة، ومن هنا يؤتى كثير من الناس في تفريطه بالأخذ بأدلة الكتاب والسنة، فقد لا يعرف طريق الهداية؛ لأنه لم يتسبب في معرفته، وقد يقع في طريق الضلالة؛ لأنه لم يتسبب في معرفته ليتجنبه، وهذه كلها راجعة إلى أمور يدركها العباد في أنفسهم لو تأملوا وأنصتوا، أما جانب الغيب فهو أمر محجوب عن العباد، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم كتابة مصير الإنسان عندما يبلغ (120) يوماً: شقي أو سعيد، قال الصحابة رضي الله عنهم: (فبم العمل يا رسول الله؟ قال: اعملوا فكل ميسّر لما خُلق له)، فهناك جانب غيبي، وهو ماذا كتب الله لهذا العبد؟ فإن كان لا يدري، والغيب محجوب عنه، وعنده الأسباب وهي أمامه، فليسلكها، وكلنا الآن يُدرك، بل وكل عاقل يدرك ويجزم أن كل واحد منا يعلم أن المصير المكتوب غيب، كما كلنا يُدرك أيضاً أن سبيل الحق بيّن، وسبيل الضلال بيّن، فإذاً: بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ [القيامة:14-15]، والله أعلم.
الجواب: أسألكم بالله هل عرفتم مني هذه العبارة، أو قلت: في الجملة؟!
إن مشكلة الفهم في الإسقاط، وينبني على هذا الفهم فوارق، وأنا أعذر الأخ القائل بذلك وأسامحه، لكن كونه ينبني على مثل هذا الكلام أحكاماً خطيرة، ينبغي التثبت عند نقل الكلام، لذا فأقول: حتى في عهد الخلفاء الراشدين أحياناً لا تطبق الشريعة في كل شيء، بل ولا أحد يقول: الشريعة تطبق في كل شيء، لكن قد ترد العبارة بمعنى آخر: أنه مجملاً النظام العام كذلك.
ثم يقول السائل: وفي وزارة التجارة والعمل تطبّق القوانين الوضعية التي ليست في كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في القضايا التجارية وقضايا العمل؟
وأقول: الأصل في الأنظمة أنها مبنية على الالتزام بالشريعة الإسلامية، وهذا نظام الحكم موجود، وأغلب الأنظمة تسند إلى هذا وتشير إليه، مع أنه توجد تجاوزات في بعض الوزارات .. وغيرها، وهذه التجاوزات لا نستطيع أن نحكم عليها؛ لأن كلانا طرف غائب ولم نتحقق، والأمر يحتاج إلى أن نتثبت عن مدى شرعية مثل هذه الأعمال، أو مخالفتها للشرع، هذا من ناحية.
والناحية الأخرى: ما هي حجة القائمين على هذه الأعمال؟ وهل عندهم مسوغ؟ وهل عندهم تأول؟ وهل عندهم فتاوى؟ وهل هم يزعمون أن هذه ليست محاكم .. إلى آخر ذلك من الأسئلة الواردة؟ إذاً: هذا يترك للراسخين في العلم، لذا فأنصح نفسي والسائل وأمثاله بأن يترك هذه المسائل للأئمة الكبار الراسخين في العلم، فهم الذين يحكمون فيها، إذ هي قضايا لا تزال تهمهم وأهمتهم قديماً، ولا يزالون يبحثونها، ولهم مع ولاة الأمر كلام كثير، ونصائح وتبادل آراء، والموضوع يناقش وما أُهمل، لكن ومع ذلك قد لا يستطيعون عمل كل شيء، فتبقى أعمال البشر تعتريها الخطأ والسهو والخلل، ويعتريها الانحراف، ومثل هذه الأمور تعتبر من الأمور التي تعد من مصالح الأمة العظمى، فلا يجوز في مثل هذا الدرس أن أفصّل فيها بغير بيّنة، أنا ولا غيري ولا السائل أيضاً، أو يبني مثل هذه الأحكام، فليتق الله في نفسه وفي أمته وفي دينه، وليحرص أن يتفقه، وإذا تمكّن -إن شاء الله- وصار من الراسخين في العلم، فالله يقويه ويعينه، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر