وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فمع علم من أعلام السلف الكرام من علماء التابعين الأعلام وهو محمد بن سيرين إمام في الورع وتأويل الرؤيا.
قال أبو نعيم : ومنهم ذو العقل الرصين والورع المتين، المطعم للإخوان والزائرين، ومعظم الرجاء للمذنبين والموحدين أبو بكر محمد بن سيرين ، كان ذا ورع وأمانة، وحيطة وصيانة، كان بالليل بكَّاءً نائحاً، وبالنهار سائحاً بساماً، يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وقال محمد بن جرير الطبري : كان ابن سيرين فقيهاً عالماً ورعاً أديباً كثير الحديث، شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حجة.
اجتمعت في هذا الإمام خلال من فضل الكبير المتعال، جعلته من أكابر الرجال في الورع والاحتياط في الدين، والاجتهاد في طاعة رب العالمين، مع الديانة والصيانة وكثرة الرواية، ثم هو من بيت علم وفضل وكمال، فقد كان سابع سبعة من إخوته من ثقات التابعين، أُلهم في تأويل الرؤيا، وعلم من علم التعبير ما صار يضرب به المثل في هذا العلم، ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
فنسأل الله عز وجل أن ينفعنا بعلم هؤلاء الأكابر، ويجمعنا بهم في دار النعيم، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
مولده: قال أنس بن سيرين : ولد أخي محمد لسنتين بقيتا من خلافة عمر .
قال الحاكم : هكذا وجدت في كتابي : عمر ، وقال غيره: عثمان .
قال الذهبي : الثاني أشبه، ولو كان أولاهما الأول لكان ابن سيرين في سن الحسن ، ومعلوم أن محمداً كان أصغر بسنوات، فالراجح أنه لسنتين بقيتا من خلافة عثمان .
صفته: عن يوسف بن عطية قال: رأيت ابن سيرين قصيراً، عظيم البطن، له وفرة -(وفرة). يعني: شعر يصل إلى أذنيه- يفرق شعره، كثير المزاح والضحك، يخضب بالحناء.
وقال محمد بن سعد : كان ثقة مأموناً عالماً رفيعاً فقيهاً إماماً كثير العلم ورعاً، وكان به صمم. أي: ثقل في سمعه.
وقال العجلي : بصري تابعي ثقة، وهو من أروى الناس عن شريح وعبيدة السلماني ، وإنما تأدب بالكوفيين أصحاب عبد الله بن مسعود .
وإخوته: معبد ويحيى وأنس وحفصة أم الهذيل تابعون ثقاة.
وعن عمرو بن دينار قال: والله ما رأيت مثل طاوس ، فقال أيوب السختياني وكان جالساً: والله لو رأى محمد بن سيرين لم يقله.
وعن عثمان البتي قال: لم يكن بالبصرة أحد أعلم بالقضاء من ابن سيرين.
وعن شعيب بن الحبحاب قال: كان الشعبي يقول لنا: عليكم بذاك الأصم. يعني: ابن سيرين .
وعن ابن عون قال: ثلاثة لم تر عيناي مثلهم: ابن سيرين بالعراق أو بالبصرة، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا.
وعن ابن عون قال: كان محمد من أرجى الناس لهذه الأمة، وأشد الناس إزراءً على نفسه.
وعن أم عبدان امرأة هشام بن حسان قالت: كنا نزولاً مع محمد بن سيرين في الدار، فكنا نسمع بكاءه بالليل، وضحكه بالنهار.
وعن ابن عوف عن محمد بن سيرين : أنه لما ركبه الدين اغتم لذلك، فقال: إني لأعرف هذا الغم بذنب أصبته منذ أربعين سنة.
وعن عبد الله بن السري قال: قال ابن سيرين : إني لأعرف الذنب الذي حمل علي به الدين ما هو؟ قلت لرجل من أربعين سنة: يا مفلس، فحدثت به أبا سليمان الداراني ، فقال: قلت ذنوبهم فعرفوا من أين يؤتون، وكثرت ذنوبي وذنوبكم فليس ندري من أين نؤتى.
أي: أن الإنسان إذا كانت ذنوبه قليلة ونزل به بلاء فإنه يعرف أنه بسبب ذنب كذا، أما من كان له في كل لحظة ذنب، وفي كل يوم عشرات الذنوب أو مئات الذنوب فلا يدري من أين يؤتى.
وعن مورق العجلي قال: ما رأيت رجلاً أفقه في ورعه، ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين .
وقال أبو قلابة : اصرفوه حيث شئتم، فلتجدنه أشدكم ورعاً، وأملككم لنفسه.
وعن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال: لما حبس ابن سيرين في السجن قال له السجان: إذا كان الليل فاذهب إلى أهلك، فإذا أصبحت فتعال، فقال ابن سيرين : لا والله لا أعينك على خيانة السلطان.
وعن ابن عون قال: قال محمد في شيء راجعته فيه: إني لم أقل: ليس به بأس، وإنما قلت: لا أعلم به بأساً.
وعن جرير بن حازم قال: سمعت محمد بن سيرين يحدث رجلاً فقال: ما رأيت الرجل الأسود؟ ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبت الرجل.
وعن طلق بن وهب الطاحي قال: دخلت على محمد بن سيرين وقد كنت اشتكيت، فقال: ائتِ فلاناً فاستوصفه -يعني: اطلب منه وصفة أو علاجاً- فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً فإنه أعلم منه، ثم قال: أستغفر الله، ما أراني إلا قد اغتبته.
والغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره.
والإنسان ينبغي له أن يستحضر ما يذكر به أخاه، فإن كان يكره ما يذكره به كان ذلك من الغيبة، فـابن سيرين رحمه الله بعدما قال: ائت فلاناً فاستوصفه فإنه حسن العلم بالطب، ثم قال: ولكن ائت فلاناً، فلو أن الأول سمع ذلك لكرهه.
وقال بكر بن عبد الله المزني : من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا فلينظر إلى محمد بن سيرين .
وعن يونس بن عبيد قال: لم يكن يعرض لـمحمد أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما.
وعن عمارة بن مهران قال: كنا في جنازة حفصة بنت سيرين فوضعت الجنازة، ودخل محمد بن سيرين صهريجاً يتوضأ فقال الحسن : أين هو؟ قالوا: يتوضأ، صباً صباً، دلكاً دلكاً، عذاب على نفسه وعلى أهله.
وقال هشام بن حسان : كان محمد يتّجر فإذا ارتاب في شيء تركه.
وعن المدائني قال: كان سبب حبس ابن سيرين في الدين أنه اشترى زيتاً بأربعين ألف درهم، فوجد في زق منه فأرة فقال: الفأرة كانت بالمعصرة.
الفأرة وقعت في الزيت فماتت فتنجس الزيت، فصب الزيت كله.
وكان يقول: عيرت رجلاً بشيء منذ ثلاثين سنة أحسبني عوقبت به،وكانوا يرون أنه عير رجلاً بالفقر فابتلي به.
وعن ميمون بن مهران قال: قدمت الكوفة وأنا أريد أن أشتري البز، فأتيت ابن سيرين بالكوفة فساومته، فجعل إذا باعني صنفاً من أصناف البز قال: هل رضيت؟ فأقول: نعم، فيعيد ذلك علي ثلاث مرات، ثم يدعو رجلين فيشهدهما، ولا يشتري ولا يبيع بهذه الدراهم الحجاجية -نسبة إلى الحجاج - فلما رأيت ورعه ما تركت شيئاً من حاجتي أجده عنده إلا اشتريته حتى لفائف البز.
وهذا أحب الصيام إلى الله وهو صيام داود.
وعن أنس بن سيرين قال: كان لـمحمد سبعة أوراد، فكان إذا فاته شيء من الليل قرأه بالنهار.
وعن هشام بن حسان قال: حدثني بعض آل سيرين قال: ما رأيت محمد بن سيرين يكلم أمه قط إلا وهو يتضرع.
وعن ابن عون قال: دخل رجل على محمد وعنده أمه فقال: ما شأن محمد . أيشتكي شيئاً؟ قالوا: لا، ولكن هكذا يكون إذا كان عند أمه.
وعن عاصم الأحول قال: كنت عند ابن سيرين فدخل عليه رجل فقال: يا أبا بكر ! ما تقول في كذا؟ قال: ما أحفظ فيها شيئاً، فقلنا له: فقل فيها برأيك، قال: أقول فيها برأيي ثم أرجع عن ذلك الرأي، لا والله.
وعن ابن شبرمة قال: دخلت على محمد بن سيرين بواسط فلم أر أجبن على فتوى منه، ولا أجرأ على رؤيا منه.
وعن ابن عون قال: جاء رجل إلى محمد فذكر له شيئاً من القدر، فقال محمد : إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، قال ووضع إصبعي يديه في أذنيه، وقال: إما أن تخرج عني وإما أن أخرج عنك.
فهو رحمه الله لم يسمح لكلام أهل البدع أن يدخل في أذنيه، فإما أن يمرضه وإما أن يقتنع به فيصير من أهل البدع، وإما أن يحدث عنده شبهات فيظل قلبه مشوشاً.
فكانت عادة السلف أنهم لا يجالسون أهل البدع، ولا يسمعون كلامهم، ولا يلقون عليهم سلاماً، وإذا وجدوا مبتدعاً في طريق سلكوا طريقاً آخر.
قال: فخرج الرجل، فقال محمد : إن قلبي ليس بيدي، وإني خفت أن ينفث في قلبي شيئاً فلا أقدر على إخراجه منه، فكان أحب إلي ألا أسمع كلامه.
وعن عمر بن عبد العزيز قال: سمعت محمد بن سيرين وسمع عمن يسمع القرآن فيصعق، قال: ميعاد ما بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط، فيقرأ عليهم القرآن من أوله إلى آخره؛ فإن سقطوا فهم كما يقولون.
وهذا من فعل الصوفية أن الواحد منهم إذا سمع آية صعق، ولكن لم يكن هذا من هدي الصحابة رضي الله عنهم.
وعن جعفر بن مرزوق قال: بعث ابن هبيرة الوزير إلى ابن سيرين والحسن والشعبي قال: فدخلوا عليه، فقال لـابن سيرين : يا أبا بكر ماذا رأيت منذ قربت من بابنا؟ قال: رأيت ظلماً فاشياً، قال: فغمزه ابن أخيه بمنكبه، فالتفت إليه ابن سيرين فقال: إنك لست تسأل إنما أنا أُسأَل، فأرسل إلى الحسن بأربعة آلاف، وإلى ابن سيرين بثلاثة آلاف، وإلى الشعبي بألفين، فأما ابن سيرين فلم يأخذها، قال هشام : ما رأيت أحداً عند السلطان أصلب من ابن سيرين .
فالعلماء لا يحسنون إلا الصدق!
وعن عبد الله بن مسلم المروزي قال: كنت أجلس إلى ابن سيرين فتركته، وجالست الإباضية -فرقة من الخوارج- فرأيت كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم، فأتيت ابن سيرين فذكرته له، فقال: مالك جالست أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وعن المغيرة بن حفص قال: سئل ابن سيرين فقال: رأيت كأن الجوزاء تقدمت الثريا -يعني: كوكب الجوزاء سبق كوكب الثريا- فقال: هذا الحسن يموت قبلي ثم أتبعه وهو أرفع وأعلى مني منزلاً.
وكما ذكرنا في الترجمة السابقة أنه مات بعده بـمائةيوم تقريباً.
وعن يوسف الصباغ عن ابن سيرين قال: من رأى ربه تعالى في المنام دخل الجنة.
ورؤية الله عز وجل في المنام جائزة؛ لأنها ليست رؤية بالبصر، فرؤية البصر لا تحيط بالشيء، والله عز وجل يُرى في الآخرة ولا يدرك؛ لأن الإدراك فوق الرؤيا: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، فقد تحصل الرؤيا ولا يحصل الإدراك، فرؤية المنام رؤية بالبصيرة. يعني: بالقلب.
فرؤية الله عز وجل في المنام جائزة كما في حديث اختصام الملأ الأعلى: (فرأيت ربي عز وجل في أحسن صورة. فقال: يا محمد! فيم يختصم الملأ الأعلى؟).
فيقول: من رأى ربه تعالى في المنام دخل الجنة.
وعن أبي قلابة : أن رجلاً قال لـأبي بكر : رأيت كأني أبول دماً، فقال: أتأتي امرأتك وهي حائض؟ قال: نعم. قال: اتق الله ولا تعد.
وعن أبي جعفر عن ابن سيرين : أن رجلاً رأى في المنام كأن في حجره صبياً يصيح، فقص رؤياه على ابن سيرين فقال: اتق الله ولا تضرب بالعود.
وعن مبارك بن يزيد البصري قال: قال رجل لـابن سيرين : رأيت كأني أطير بين السماء والأرض، قال: أنت رجل تكثر المنى. يعني: أحلام اليقظة.
وعن هشام بن حسان قال: جاء رجل إلى ابن سيرين وأنا عنده فقال: إني رأيت كأن على رأسي تاجاً من ذهب، فقال له ابن سيرين : اتق الله فإن أباك في أرض غربة، وقد ذهب بصره، وهو يريد أن تأتيه، قال: فما زاده الرجل الكلام، حتى أدخل يده في حجزته فأخرج كتاباً من أبيه يذكر فيه ذهاب بصره، وأنه في أرض غربة، ويأمر بالإتيان إليه.
وقال الحافظ : روى عنه الشعبي وثابت البناني وخالد الحذاء وداود بن أبي هند وابن عون ويونس بن عبيد وجرير بن حازم وأيوب السختياني وأشعث بن عبد الملك وحبيب بن الشهيد وعاصم الأحول وعوف الأعرابي وقتادة وسليمان التيمي وغيرهم.
أي: أن العلم الشرعي لا يؤخذ عن أهل البدع ولا عن أهل المعاصي، كما يقول بعضهم: خذوا قرآني ولا تأخذوا دخاني فمثل هذا لا يؤخذ منه قرآن ولا دخان، وإنما يؤخذ العلم والدين من أهل الدين والورع، ومن اشتهر بالصيانة والديانة.
وعن ابن عون قال: جاء ناس إلى محمد فقالوا: إنا قد نلنا منك فاجعلنا في حل، فقال: لا أحل لكم شيئاً حرمه الله عليكم.
وعن هشام عن محمد قال: كانوا يقولون: المسلم المسلم عند الدراهم.
يعني: عند المعاملة بالدينار والدرهم.
وعن هشام عن محمد بن سيرين قال: كان مما يقال للرجل إذا أراد أن يسافر في التجارة: اتق الله تعالى واطلب ما قدر لك في الحلال؛ فإنك إن تطلبه من غير ذلك لم تصب أكثر مما قدر لك.
فالإنسان يطلب الرزق الحلال، وهو مقدر له رزق محدد، فلو ناله من الحرام فهو رزقه الذي يأتيه، لا يأتيه أكثر مما قدر له، فهو إذا اتقى الله عز وجل في الرزق فليس معنى ذلك أنه سوف يكون مقدراً عليه في الرزق ويأتيه الرزق قليلاً، فبالعكس فالتقوى تكون سبباً في البركة في الرزق: (وإن الرزق ليطلب ابن آدم كما يطلبه أجله، ولو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت).
وعن حبيب عن ابن سيرين قال: إذا أردا الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه يأمره وينهاه.
وعن قرة بن خالد عن ابن سيرين أنه كان يقول:
إنك إن كلفتني ما لم أطق ساءك ما سرك مني من خلق.
فالإنسان يطلب ما يطاق.
وعن ابن عون قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ثلاثة ليس معها غربة: حسن الأدب، وكف الأذى، ومجانبة الريب.
وعن خالد بن خداش قال: حدثنا حماد بن زيد قال: مات ابن سيرين لتسع مضين من شوال سنة (110) هـ.
وعن عبد الله بن محمد بن سيرين قال: لما ضمنت على أبي دينه قال لي: بالوفاء به، قلت: بالوفاء به، فابنه وعده أن يقضي عنه دينه، وهذا من أعظم البر، فدعا له بخير، قال: فقضى عبد الله عنه (30000) درهم، فما مات عبد الله حتى قومنا ماله (300000) درهم، أو نحوها. فبورك له في رزقه لبره بأبيه وقضاء دين أبيه.
نكتفي بهذا القدر، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر