وعد الله أهل الحديبية بمغانم؛ لأنهم عادوا بلا غنائم ولا مكاسب بينة واضحة، فوعدهم بحرب خيبر وأخذ المغانم منهم، وانفرادهم بها جزاء قتالهم وعهدهم ووجودهم وخروجهم لمعاهدة الحديبية حيث كان النصر المبين، فعندما سمع المخلفون ذلك قالوا: نريد أن نكون معكم (ذرونا نتبعكم)، فيريدون أن يشاركوا أهل الحديبية في حرب خيبر وكسب مغانمها، وهم واثقون بأنهم منتصرون لا محالة، ولكن الله أبعدهم عن ذلك وأمر نبيه ألا يقبل أحداً منهم.
فقوله تعالى: إِذَا انطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا [الفتح:15] أي: إذا انطلقتم وذهبتم وحاربتم لتأخذوا مغانم أهل خيبر وقد انتصرتم عليهم.
وهذه السورة نزلت في الطريق بين مكة والمدينة ولم يكن شيء من ذلك بعد ولكنه سيكون، والله وعد أهل الحديبية بتلك المغانم فطمع هؤلاء المخلفون بأن يكونوا معهم، وأن يكسبوا كسبهم، ويغنموا غنائمهم، لكن الله أمر رسوله بألا يذهب أحد منهم معهم؛ لأنهم رفضوا أن يحضروا معاهدة الحديبية، ثم تعللوا بعلل كاذبة منافقة فقالوا: شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [الفتح:11].
فهؤلاء المنافقون كذبة لم يكن لهم عذر، ولم يطلبوا الاستغفار من رسول الله وهم يريدون التوبة والاستغفار، ولكنه كلام قالته الألسن وأنكرته القلوب، فلم يكونوا صادقين.
وقوله تعالى: ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ [الفتح:15] أي: اتركونا نتبعكم في هذه الغزوة.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15]، وكلام الله كان قولاً ووحياً لرسوله في ألا يدع هؤلاء يذهبون معه للحرب والقتال، وإذا ذهبوا فلن يكسبوا غنائم، ولن يأخذوا ما يأخذه المحارب المجاهد الصابر.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ [الفتح:15] أي: يريدون تغييره ومعصيته وخلافه، وهيهات هيهات أن يمكنوا من ذلك.
قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ [الفتح:15] أي: لا ندعكم ولا نذركم تتبعوننا، فقد أمرنا ألا نقبلكم؛ لأنكم لم تحضروا معنا معاهدة الحديبية، ولن يقبل قولكم.
قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15] أي: فسيقول هؤلاء المخلفون من الأعراب للمؤمنين من الأصحاب: بل حسدتمونا في هذا الخير.
فقوله تعالى: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا [الفتح:15] أي: سيجيبكم هؤلاء الأعراب بأنكم حسدتموهم، ولم تريدوا لهم الخير بأن طردتموهم من أن يكونوا شركاء في هذه الغنائم، وما ذلك إلا حسد منكم.
قال الله تعالى: بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15] أي: ليس عندهم شيء يحسدون عليه فهم كذبة منافقون، ولكنهم قليلاً ما يفهمون، فلا يفقهون ديناً ولا فهماً ولا علماً، وإنما قالوا ذلك لجهلهم بحقائق الأمور، ولعدم إخلاصهم بالإيمان والإيقان.
ومجمع تفسير الآية الكريمة: بأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما عزم على الذهاب للعمرة أرسل رسله وبعوثه للقبائل المحيطة بالمدينة مثل قبيلة: أسلم وخزيمة؛ ليعتمروا معه صلى الله عليه وسلم، وليدحضوا الطوائف والقبائل التي تصد رسول الله ومن معه عن الدخول إلى مكة معتمرين،، ليكونوا قد استعدوا لهم بالكثرة وبالجند وبالسلاح، فحضرت قلة من المؤمنين المخلصين، وتخلف الكثرة وتبين أنهم كانوا منافقين.
ووعد الله المؤمنين بأنهم سيقاتلون أهل خيبر؛ لأنهم غدروا ونكثوا العهد، فقد ألّبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم القبائل من أهل الجزيرة يريدون قتاله وغلبته، وهيهات.. هيهات أن يتم لهم ما يريدون، ولكن المخلفين عندما سمعوا بأن هؤلاء سيذهبون لقتال خيبر - وكانت خيبر غنية بالأموال وبالإبل وبالزراعة - طمعوا في الحضور؛ ليكسبوا من هذه الغنائم.
وهم لم يحضروا من قبل معاهدة الحديبية؛ ظناً منهم أن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لا يعودون لأهلهم سالمين، فعندما كبتوا وعاد النبي صلى الله عليه وسلم سالماً منصوراً نصراً عزيزاً مؤزراً، طمعوا في حضور معركة خيبر؛ ليأخذوا من غنائمها ومن أموالها، ولكن الله منعهم من أن يشاركوا نبيهم، وسيجيبون بعد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الحسد هو الذي منعكم من أن تقبلوا حضورنا ووجودنا في غزوة خيبر؛ لكي لا نشرككم في الغنائم.
فسخّف الله عقولهم وفهمهم، وقال: بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا [الفتح:15] أي: بل كان فكرهم وفهمهم واطلاعهم قليلاً، ولم يكن منهم إلا القلة المؤمنة المخلصة هي التي تفهم، وأما الكثرة المنافقة فقد كانت تهرف بما لا تعرف.
قال الله لهؤلاء المخلفين: سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الفتح:16] أي: إلى قتال أقوام ذوي قوة وشدة، وحرب وبأس شديد، وسلاح كثير، فقاتلوهم ولا ترفعوا السيف عنهم حتى يسلموا، فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا [الفتح:16] أي: إن استجبتم لقتال هؤلاء القوم الأشداء ذوي البأس الشديد، وأطعتم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم فتحضروا هذه المعركة فإن الله سيثيبكم الأجر الحسن، ويغفر لكم ما مضى إن كنتم قد أخلصتم الإيمان والإسلام.
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا [الفتح:16] أي: إن تعصوا وتعرضوا كما أعرضتم وتوليتم وعصيتم من قبل؛ فامتنعتم من حضور معاهدة وصلح الحديبية، يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16] .
والذين سيدعى الأعراب إلى حربهم وقتالهم وهم ذوو بأس شديد، وقوة ومنعة في الحرب والقتال: اختلف الناس فيهم، فقال قوم: هم هوازن، وهم الذين حوربوا في السنة الثامنة من الهجرة بعد صلح الحديبية بسنتين، وهم أهل الطائف الذين حوربوا في غزوة حنين، وقال قوم: هم غطفان، وقال قوم: هم قوم سيأتون بعد ذلك لا يعلمونهم، وقال قوم: هم أهل فارس والروم، كما تقول اليوم: هم أمريكا وروسيا، فهؤلاء ما كان يخطر ببال العرب أنهم يستطيعون حربهم وقتالهم، والقدرة عليهم، والإتيان بمثل سلاحهم وبمثل جيوشهم وبمثل أنصارهم.
فقد كان العرب أيام فارس والروم فئة متخلفة، وكانوا أعز من أن يحاربوا أو يقارعوا مثل دولتي الروم وفارس في ذلك الزمان، فقد كانتا أعظم دولتين وأقوى دولتين وأوسع دولتين، ولذلك فإن الآية تشير إليهما بلا شك.
سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16] فستقاتلونهم حتى يسلموا ويقولوا: لا إله إلا الله أو يستسلموا لسلطانكم ولقوتكم ولجيوشكم، وهذا هو الذي كان بعد ذلك، فقد قاتل النبي صلى الله عليه وسلم الروم في غزوة تبوك، وأرسل في غزوة مؤتة من يحارب الروم ويقاتلهم، وأمر عليهم ثلاثة من القادة: جعفر بن أبي طالب ، وزيد بن حارثة ، وعبد الله بن رواحة ابتداء بـزيد ، فإذا قتل فـجعفر ، فإذا قتل فـابن رواحة ، فاستشهد الثلاثة، وتولى القيادة خالد وأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: ولي القيادة خالد سيف من سيوف الله.
وفي غزوة تبوك خرج النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولكن الروم استهتروا بالجيش العربي المسلم وما ظنوا أنهم سيجرءون على حربهم وقتالهم فضلاً عن ابتدائهم بالحرب وهجومهم إلى حدودهم، فلم يحضروا بل كانت مناوشات لا تكاد تذكر.
قال تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا [الفتح:16] أي: إن أنتم دعيتم وأطعتم أمر نبيكم وأمر قادتكم فالله يؤتيكم الأجر الحسن في الدنيا من الغنائم، وفي الآخرة من المغفرة ودخول الجنان.
قال تعالى: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16] أي: إن أعرضتم وعصيتم وخالفتم كما سبق أن خالفتم من قبل فلم تستجيبوا لحضور صلح الحديبية، فإن الله يعذبكم العذاب الأليم المهين.
وبعد أن انتهى أبو بكر من حرب المرتدين وحرب مانعي الزكاة، أمر بخروج الجيوش لحرب هرقل ملك الروم، وتوفي رضي الله عنه وجيوشه على أبواب دمشق.
فجاء عمر الأسد الضرغام وإذا به يفيض على هؤلاء وينساب عليهم انسياب البحار وهيجانها، فيقاتل الروم والفرس والأقباط والبربر وينتصر عليهم، فتدخل الشام والعراق في الدولة الإسلامية وفي المجتمع المسلم، وينتزعونهما من الفرس والروم، وحاربوا فارس حتى أصبحت ولاية من ولايات المسلمين.
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا قبل ذلك فقال: (إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده)، ثم أفاض إلى مصر وقضى على الأقباط وضم مصر للإسلام، ودخل البربر -وهي بلاد المغرب- وأخضعهم للإسلام، وتمت في ذلك النذارة الإلهية: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ [الفتح:16]، فقاتل من قاتل، وتخلف من تخلف، وعذب من عذب، وتم نصر الله المبين.
وكانت معاهدة الحديبية هي بداية النصر حيث بشر الله نبيه وقال له: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا [الفتح:1-3]، والانتصار على فارس والروم يعتبر النصر العام الشامل الكامل، وأما بداية النصر فكانت في غزوة بدر التي كانت في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان فتح مكة في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، كما كان استشهاد علي رضي الله عنه في اليوم السابع عشر من شهر رمضان المبارك، فرمضان كله ذكريات طيبة للمؤمن، وفيه نزل القرآن، قال تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، وفيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر:4].
فرمضان منذ اليوم الأول إلى آخر يوم فيه وهو شهر خير وبركة، وعز ونصر، وعبادة ومغفرة، وتقييد للشياطين بالسلاسل والأغلال، وهزيمة لأعداء الله من المنافقين والكفرة، ولو أن المسلمين جيشوا جيوشهم وقاتلوا اليهود وأنصارهم والمستسلمين لهم في شهر رمضان لنصرهم الله نصراً عزيزاً مؤزراً.
وما اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالاً لمشركي مكة في شهر رمضان إلا التماساً لبركة رمضان وخير رمضان وعز رمضان وفتح رمضان.
قال تعالى: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الفتح:16]، فهؤلاء الذين دعوا لقتال فارس والروم لو أعرضوا كما أعرضوا عندما دعوا لصلح الحديبية لعذبهم الله العذاب الأليم الموجع المهين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر