قال الله تبارك وتعالى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5].
قوله: (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) دعاءه؛ لعجزه عنه.
(إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)؛ لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم.
(وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، قال
الناصر في قوله تعالى: (( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، قال: في قوله: (إلى يوم القيامة) نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، يعني: كأن عدم الاستجابة ممتد إلى يوم القيامة، فيفهم لأول وهلة أنه بعد يوم القيامة قد يستجيب، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ فعدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية قطعاً؛ لأنهم في يوم القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم.
فالوجه والله تعالى أعلم أنها من الغايات المستمرة؛ لأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه؛ لأن عدم الاستجابة بعد القيامة أشد من عدم الاستجابة فيما قبلها؛ إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالتالي، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، فعدم استجابتهم لهؤلاء التي تنتهي في الظاهر إلى يوم القيامة هي بعد يوم القيامة أشد، وذلك لأن الحالة الأولى التي جعلت غايتها إلى يوم القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، بل تقتصر فقط على عدم الاستجابة.
لكن الحالة الثانية التي في القيامة وما بعدها فيها زيادة على عدم الاستجابة العداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهم ينقلبون عليهم أعداء كما في الآية الثانية مباشرة، وهي قوله تعالى:
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فمع عدم الاستجابة ينضاف إليها في القيامة وبعد القيامة:
وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فليس هم فقط في غفلة عنهم أثناء الدنيا ويوم تقوم القيامة، وهذا هو معنى الغاية، فإن الغاية فقط هي عدم الاستجابة، وفي القيامة عدم الاستجابة ممتدة لكن ينضاف إليها أن يصيروا لهم أعداءً وأن يكفروا بعبادتهم إياهم.
,كنت قد طالعت كتاباً قديماً جداً من كتب التوحيد التي كان لها شأن عظيم في الماضي إلا أنه كتاب منقرض وهو كتاب: صراع بين الحق والباطل، تأليف الأستاذ
سعد صادق محمد، أرجو أن يكون الله قد مد في عمره إلى الآن، والكتاب مطبوع سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم جداً في التصدي للضلالات الصوفية، والأستاذ
سعد صادق محمد -رحمه الله حياً أو ميتاً- يعد من دعاة أبطال السنة الذين كان لهم قدم صدق في التصدي لبدع الصوفية والضالين.
وأرى أنه من المناسب أن نذكر هذا المثال العابر عند هذه الآية:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، يقول وهو يتكلم عن صور من هذا الضلال، (يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) يدعو
الشافعي ، يدعو
الدسوقي ، و
البدوي ، والموتى، والمقبورين، وهم في غفلة عما هو مهلك نفسه فيه، يقول: منذ سنوات مضت وجد في صندوق السيد
البدوي ظرف ختم بالشمع الأحمر وبه ورقة بعشرة جنيهات، يقول: أنا الذي استغربت له: ما الذي أتى بالشمع الأحمر؟! وكأن الرجل أتى كيما يقدم شكوى أو طلباً
للبدوي في ظرف مختوم حتى لا يفتحه إلا
البدوي بنفسه!! ختم بالشمع الأحمر وبه عشرة جنيهات، ومكتوب في الخطاب: أرجو المعذرة يا سيدي! فهذه الجنيهات العشرة هي كل ما حصلت عليه وما قدرت على جمعه، لذلك أرجو رجاءً خاصاً أن تنتظرني حتى شهر أكتوبر وهو شهر المحصول فأسدد لك باقي الحساب، فعليك الصفح وعلينا الوفاء.
وفي أحد صناديق النذور وجد عقد اتفاق قانوني بين السيد صاحب الضريح والسيدة الناذرة، حيث نذرت لصاحب الضريح في هذا العقد القانوني بين هذه الناذرة الحية وبين هذا الميت، أن الطرف الثاني يتعهد بأن يدفع للطرف الأول مبلغ جنيه واحد كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة ولا تسويف، إذا ما توسط الطرف الأول عند الله في أن يعيش ابن الطرف الثاني!! إلى آخر هذا الكلام.
يقول: وهنا يروى أيضاً أن أحدهم وضع في صندوق نذور
البدوي مبلغاً من المال على سبيل النصب، ثم رفع قضية إلى وزارة الأوقاف مدعياً أنه أراد أن يضع ورقة من فئة الجنيه فوضع بدلاً منها ورقة من فئة الخمسين جنيهاً!!
والكتاب مليء وحافل بنماذج من هذا القبيل، وإنما أردت أن آتي بمثال، ولعل هذا يحتاج إلى درس مستقل بمفرده.
والأفظع من ذلك أن بعض المسلمين يذهبون إلى قبر ما يسمى بالبابا بولس السادس أو الثالث، ويكتبون أمثال هذه الشكاوى وهذه الطلبات من مثل هذا المخلوق!!
قبر
البابا بولس تكتب له شكاوى ويخاطب ويطلب منه كل شيء مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى!! ويوجد في مجلة البيان عدد شهر رجب ألف وأربعمائة وتسعة عشر، ملف كبير بعنوان: فسطاط الخرافة، ولأول مرة تتعرض المجلة لهذا الأمر، وهو بحث رائع جداً، وللأسف فإنه تأخر عن وقته؛ لأن المفروض أن مثل هذه القضايا هي أولى أن يهتم بها؛ لأن خطرها معلوم، وشيوع الضلال في هذا الباب معلوم، فالحمد لله أن القائمين على المجلة استدركوا هذا التقصير، وهذه أول مرة يفتح فيها هذا الملف ويتعامل معه معاملة سلفية نقية مائة بالمائة.
قال الله تبارك وتعالى:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9].
(قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)، البدع والبديع من كل شيء هو المبتدع، والمعنى: أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى من قبلي، فقد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم فلم تستنكرون بعثتي وتستبعدون رسالتي؟ وهذا كقوله تعالى:
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، والبدع كالبديع، بمعنى: الجديد المبتدع.
قال
ابن جرير : ومن البدع قول
علي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد
أي: فلا أنا أول الناس الذي أصابتني هذه الحوادث بعد تقلب أحداث الزمان بالبؤس والتعس وبالشقاء والأفراح وغير ذلك.
ومن البديع الذي هو بمعنى الجديد أو المبتدأ قول
الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع
و
الأحوص -كما في الأغاني- كان يوماً عند
سكينة بنت الحسين، وهي من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن مؤذن، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فاخرت
سكينة بما سمعت من ذكر أبيها في الأذان، ولا شك أن هذا فخر في محله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال:
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، ورفع ذكر النبي عليه الصلاة والسلام رفع حسي ورفع معنوي، فمن الرفع الحسي: أن يذكر اسمه في الأذان خمس مرات على الأماكن العالية المرتفعة كما هي السنة، كما قال
حسان بن ثابت :
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
فيقترن الاسم باسم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن الذي فخرت به
سكينة فخر عن جدارة واستحقاق، ولا يستطيع أحد مهما حاول أن يدانيها في هذا الفخار وهذا الشرف، فهي لما سمعت المؤذن يؤذن ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله؛ فاخرت بما سمعت، فقال
الأحوص معلقاً على ذلك:
فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع
يعني: لست أنت أول من يفخر بهذه المكارم، فأنا أيضاً لي من المكارم ما أفخر به.
فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع
غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع
لأن
الأحوص الشاعر هو
أبو عاصم عبد الله بن محمد بن عبيد الله ابن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم
عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، فهو يفاخرها به، فيقول:
فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع
ويفتخر أيضاً بخاله
حنظلة :
غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع
قال
أبو زيد :
وقد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به
يعني: فعلاً هو افتخر بفخر لكن لو كان هذا الفخر على غير
سكينة.
وبأبي سكينة حمة أباه الدبر وغسلت خاله الملائكة
لأن ما قيمة
عاصم بن ثابت وما قيمة
حنظلة إن لم يكونا قد شرفا بالانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالفخر عائد أيضاً إلى
سكينة.
فالشاهد من كل هذا الكلام: أن كلمة (بديع) تساوي كلمة (بدع) وتساوي المبتدأ أو الجديد، فهو ذكر أولاً شاهد البدع في قول
علي بن زيد :
فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد
يقول: ومن استعمال كلمة البديع بنفس المعنى قول
الأحوص :
فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع
فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبـ ر قتيل اللحيان يوم الرجيع
غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع
وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9]، قال
أبو السعود : أي: لا أدري أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يقدر لنا من قضاياه، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله.
وعن
الحسن رضي الله عنه قال: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة، أي: وما أدري ما يفعل بي وبكم على جهة التفصيل، على أساس أنه يعرف من خبر الله أن الله سبحانه وتعالى مظهر دينه وناصر دعوته، فلعله يقصد على سبيل التفصيل، فالمنفي هو الدراية المفصلة.
يقول: والأظهر أن (ما) في قوله: (وما أدري ما يفعل) عبارة عما ليس عينه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع في الآخرة، ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني: في الدنيا، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين، بالنبي ومن معه وبالكافرين ومن معهم، انتهى كلام
أبي السعود .
وهذا القول هو الأظهر، وهو ما عول عليه
ابن جرير ، قال
ابن جرير : (بل لا يجوز غيره)، فلا يجوز ولا يصح على الإطلاق أن يدعي أحد أن المقصود بقوله: ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني: في الآخرة.
وقال
ابن كثير : (بل لا يجوز غيره)، يعني: لا يجوز غير أن يقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، إذ كيف يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة هو ومن اتبعه بإحسان، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون لكفرهم؟!
وأما الحديث الذي رواه الإمام
أحمد عن
أم العلاء وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: صار لنا في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين
عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه -أي: كان من نصيبهم حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين- فاشتكى
عثمان عندنا -أي: مرض- فمرضناه، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك
أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت: فقلت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لـ
عثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه
البخاري دون
مسلم .
وفي لفظ
للبخاري : (
ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به) ، وفي رواية: (
ما أدري ما يفعل بي)، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، أي: رواية: ( ما يفعل به)، بدليل قولها: فأحزنني ذلك على
عثمان ، فيكون متفقاً مع رواية
أم العلاء : (
فإنني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل به)، فلذلك حزنت بعدما كانت ظنت أن الله قد أكرمه بالفعل، فلما أدبها النبي عليه السلام بالأدب الواجب في مثل هذا، وأحزنها ذلك ونامت فرأت رؤيا ما يذهب عنها ذلك الحزن لاطمئنانها على
عثمان حين رأت هذه العين الجارية، وأولها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عمله.
وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة و
ابن سلام و
الرميصاء و
بلال و
سراقة و
عبد الله بن عمرو بن حرام والد
جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، و
زيد بن حارثة ، و
جعفر بن أبي طالب ، و
عبد الله بن رواحة ، وأشباه هؤلاء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا ينبغي المجازفة في القطع بالجنة لمن لم ينص الوحي على أنه من أهل الجنة، وهذا للأسف الشديد شائع الآن خاصة في الزعماء والكبراء من الدعاة أو العلماء المعظمين عند أتابعهم، يتكلمون كأنهم جاءهم صك من الوحي بأن فلاناً الآن في الجنة، فهذا مما لا يجوز، وهذا من العدوان، كما هو ظاهر في هذا الحديث.
ومعنى قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)، أي: فيما لم يوح إلي، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي، ولم يكن لي أن أنسب إلى الوحي كذباً من عندي.
(إِنْ أَتَّبِعُ)، أي: في تقرير الأمور الغيبية.
(إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: منذر عقاب الله على كفركم به، فقد أبان لكم إنذاره، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم.
وقد بين العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية فقال رحمه الله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) التحقيق -إن شاء الله-: أن معنى الآية الكريمة: في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء؟ وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة؟ وما أدري ما يفعل بكم: أيخسف بكم أم تنزل عليكم حجارة من السماء ونحو ذلك؟ هذا هو اختيار
ابن جرير وغير واحد من المحققين.
وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وقال تعالى آمراً إياه صلى الله عليه وسلم:
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، وبهذا تعلم أن ما يروى عن
ابن عباس و
-
تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله...)
قال الله تبارك وتعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10].
(قل أرأيتم إن كان من عند الله)، يعني: إن كان القرآن منزلاً من لدنه سبحانه وتعالى عليَّ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون.
(وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل)، أي: عالم من علماء بني إسرائيل، واقف على أسرار الوحي عن طريق التوراة التي يؤمن بها، (على مثله).
وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو موسى عليه السلام، (على مثله) أي: على التوراة.
وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو
عبد الله بن سلام عالم اليهود وكبيرهم في المدينة وقد أسلم، (على مثله) أي: على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المطابقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه كقوله تعالى:
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196]، وقوله تعالى:
إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *
صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى، أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله.
وقد يكون المثل هنا صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، وهذا تعبير معروف في اللغة العربية أن كلمة (مثل) تستعمل هذا الاستعمال، فقوله: (على مثله) أي: عليه، أي: على أنه من عند الله.
(فآمن) الشاهد وهو
ابن سلام ، (واستكبرتم) يا معشر اليهود.
والفاء تدل على أن هذا الشاهد سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه الشهادة.
(إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، هذا استئناف مشعر بأن كفرهم لضلالهم المتسبب عنه ظلمهم، وهذا دليل على جواب المحذوف؛ لأن الجواب هنا محذوف، فيقول: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم، أين الجواب؟ محذوف تقديره: ألستم ظالمين، أو فمن أضل منكم.
فيكون مثل قوله تعالى:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت:52]، فوافقهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم إنما هو لظلمهم.
يقول
القاسمي : روي أن الشاهد هو
عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فتكون الآيات مدنية مستثناة من السورة؛ لأن
عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، فهذا هو السبب في أن بعض المفسرين قالوا: إن هذه الآية من الآيات المستثنيات؛ لأن السورة مكية، وقالوا: إن هذه الآية آية مدينة؛ لأنه إذا كان الشاهد
عبد الله بن سلام فـ
عبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، وهذا استدلال غير قوي، لماذا؟
لأنه لا إشكال أن يخبر القرآن بذلك، وأن يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ويكون قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، إخبار عما سيقع في المستقبل.
إذاً: السورة مكية، وهذا إنما هو إخبار عما سيقع من إسلام
عبد الله بن سلام فيما بعد، فما الإشكال في ذلك؟
وتكون هذه من علامات النبوة، تماماً كقوله تعالى:
وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا [الأعراف:48]، فهذا إخبار بالماضي عن شيء سيحصل في المستقبل.
ويرشحه: أن (شهد) معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا خير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بياناً للواقع لا عن أنه مراد بخصوصه منها، هذا ما حققوه، وسواء كان هذا الشاهد
عبد الله بن سلام أو غيره من علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام فلا إشكال في هذا، فيكون معناها: أنه يصدق واقع استسلام
عبد الله بن سلام وشهادته للقرآن وللرسول عليه السلام، فيعم كل من يشهد من علماء وأحبار بني إسرائيل للإسلام وللقرآن، فالمقصود أن اللفظ الكريم يتناول هذا الشاهد كما يمكن أن يتناول غيره.
وقال العلامة
الشنقيطي في تفسير هذه الآية:
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10]: التحقيق -إن شاء الله- أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها، فإن المثل في لغة العرب تطلق أحياناً على الذات مثلها، وهذا مشهور جداً في لغتهم كما في قوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، معناها: ليس كالله شيء؛ لأن الله لا مثل له، فهذه الآية جارية على أسلوب عربي معروف وهو إطلاق المثل على الذات نفسها كقولهم: مثلك لا يفعل هذا، يعنون بذلك: أنت لا ينبغي لك أن تفعله، وعلى هذا فالمعنى: (( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ )): على هذا القرآن أنه وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له، ولذلك قال: (( فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ))، فهذا يرجح قول من فسرها بأنه شاهد على القرآن أنه حق من عند الله، فآمن هذا الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، بخلاف ما لو قلنا: (فشهد شاهد) وهو موسى عليه السلام، (على مثله) على التوراة، وماذا ستقولون في قوله: (فآمن واستكبرتم) في حق موسى عليه السلام والخطاب للمشركين؟ فأقوى وأوضح أن يقال: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وهو
عبد الله بن سلام ، (على مثله) على القرآن نفسه، وليس على شيء آخر كالتوراة مثلاً؛ لما علم من لغة العرب أن المثل تطلق ويراد بها الذات نفسها، فآمن الشاهد وأما أنتم فقد استكبرتم عن الإيمان والانقياد.
وهذا كقوله تعالى:
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، تفسيرها: كمن هو نفسه في الظلمات، وهذا أسلوب من أساليب العرب، وقال أيضاً تبارك وتعالى:
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، أي: فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق.
إذاً: القول المحقق في أمثال هذه الآيات: أنه لا يقال: إن (مثل) هنا بمعنى أنه يوجد مماثل آخر، وإنما المقصود هو نفس الشيء، فقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، تفسيرها: فإن آمنوا بما آمنتم به، وليس: فإن آمنوا بشيء آخر مماثل لما آمنتم به، ويستأنس له بالقراءة المروية عن
ابن مسعود و
ابن عباس رضي الله عنهم: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، وكأنها قراءة تفسيرية.
والشاهد في الآيات هو
عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية ليست مدنية كما سبق الجواب عن هذا، وأن القول بأنها مدنية غير لازم؛ لأنها في سورة مكية، بل يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل أن يقع، ويحمل قول من قال: إنها نزلت في
عبد الله بن سلام على أن لفظ الآية يشمل
عبد الله بن سلام وغيره، والله تعالى أعلم.
-
تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه...)
-
تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة...)
قال تعالى:
وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف:12].
(من قبله) أي: من قبل القرآن، (كتاب موسى) ومع ذلك لم يهتدوا به.
(إماماً) أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه.
(ورحمة) لمن آمن به وعمل بما فيه.
(وهذا كتاب) هذا الذي يقولون فيه ما يقولون.
(مصدق) أي: بكتاب موسى، من غير تعلّم من أُنزل عليه إياه.
(لساناً عربياً) (لساناً) حال، (عربياً)، أي: بيناً واضحاً، وفي تقييد الكتاب بذلك مع أن عربيته أمر معلوم للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية.
وهذا معنى جيد، وكان يكفي أن يقال: وهذا كتاب عربياً، لكن أتى بكلمة: (لساناً عربياً) للتوكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً، فزيادة (رجلاً) للتوكيد.
ويذكر
القاسمي هنا فائدة لذكر لفظ (لساناً عربياً) أي: بيناً واضحاً، وقيد الكتاب بأنه (لساناً عربياً) مع أن عربية القرآن أمر معلوم، ما سر ذلك؟
سر ذلك: للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية، وهذا كتاب مصدق للتوراة، أتى بلسان عربي فاتحدت معاني الدعوة للتوحيد بين التوراة والقرآن، فالقرآن يطابق التوراة باتحادهما في المعنى، مع أنها غير عربية، ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الذي أوحى القرآن إلى النبي عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعرف لغة التوراة ومع ذلك ففي كتابه نفس المعاني التي في هذا الكتاب.
(لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: المشركين.
(وَبُشْرَى)، أي: وهو بشرى، (لِلْمُحْسِنِينَ).
ومن الملاحظ أن القرآن الكريم حافل بالمواضع التي فيها ربط بين الرسولين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأيضاً في الكتب مواقف كثيرة فيها الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والربط دائماً بين التوراة وبين القرآن الكريم، وبين هذه الأمة وبين أمة بني إسرائيل، ومن ذلك قوله تعالى هنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن، (كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) أي: هذا القرآن، (مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)، فهذا ربط بين القرآن وبين التوراة.
وفي نفس السورة قال تعالى عن مؤمني الجن لما سمعوا القرآن:
قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30]، فلم يقولوا: من بعد عيسى؛ لأنه كما ذكرنا هناك ربط شديد في القرآن بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لماذا؟
لأن الشريعة الأساسية هي شريعة موسى عليه السلام، أما عيسى فجاءت شريعته مكملة فقط وليست هي الكتاب الأساس، وإنما الأساس هو التوراة.
كذلك أيضاً في مقدمة سورة الإسراء ربط هذا الربط الذي أشرنا إليه، وفي حديث إسلام
النجاشي لما تلا
جعفر على
النجاشي وأصحابه سورة مريم، بكى
النجاشي وقال: إن هذا هو الذي جاء به موسى، وإنهما ليخرجا من مشكاة واحدة.
وكذلك قال
ورقة بن نوفل مع أنه كان نصرانياً، كما في حديث بدء الوحي، قال: (هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى).. إلى آخر الحديث.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.