وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، نهى البائع والمشتري).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل: وما تزهي؟ قال: حتى تحمر، قال: أرأيت إن منع الله الثمرة بم يستحل أحدكم مال أخيه؟)] .
الحديث الأول داخل في بيع الغرر الذي ورد النهي عنه، وقد كثرت الأمثلة لبيع الغرر.
والحكمة فيه أنه لابد من وجود غبن لأحد المتبايعين، ولا شك أن الغبن والغلبة تسبب بغضاء وحقداً فيما بين المتبايعين، إذا علم أنه خدعه في بيعه، فإنه يحقد عليه، ويضمر له العداوة، ولا يثق به بعد ذلك، وكلما رآه تذكر أنه الذي خدعه، وأنه الذي ضره، فلا يكون بينهما أخوة ولا محبة، وهذا ينافي ما يهدف إليه الشرع الشريف، فالشرع بأمر المسلمين بالمودة وبالمحبة، ويأمر المسلمين بأن يتحابوا فيما بينهم، وأن يتآلفوا وأن يتآخوا، ونهاهم عن أسباب التقاطع بقوله: (لا تقاطعوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تنافسوا)، وإذا اجتنب المسلمون مثل هذه البيوع التي فيها خداع وفيها غرر فإنه -بغير شك- تصفو قلوبهم، ويصيرون إخوة فيما بينهم، ويتحابون، وكلما تحابوا وتآخوا تعاونوا على الخير، وتعانوا على البر والتقوى، وتعانوا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى إظهار دين الله تعالى، وقوى بعضهم بعضاً، وساعد بعضهم بعضاً، بخلاف ما إذا تباغضوا وتحاقدوا وتقاطعوا، فلا شك أنه يحصل بينهم التهاجر والتقاطع، ويستبد كل منهم برأيه، ويحقد كل على أخيه، فلا تحصل الأخوة المطلوبة بين المسلمين.
فهذا من الحكم التي استنتجها المسلمون من تدخل الشرع في هذه الأمور، وإلا فالأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر الناس على معاملاتهم وعلى مبايعاتهم، ولم يأمرهم بأن يستعملوا صيغة كذا وكذا، فلم يقل لهم: لا تبع إلا بقولك: (بعت)، ولا تشتر إلا بقولك: (اشتريت)، ولا تبع إلا بصفة كذا وكذا، بل أقرهم على معاملاتهم، ولكن تدخل ببعض الأشياء لأجل ما فيها من المصلحة، وما في تركها من المضرة.
ففي الحديث الأول النهي عن بيع حبل الحبلة.
وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيع الثمار حتى تزهو.
وفي الحديث الذي بعده النهي عن بيعها حتى يبدو صلاحها.
وهناك من يقول: إن المراد الأجل، كأن يقول مثلاً: بعتك هذا الكيس إلى أجل بعيد، وهو أن تلد هذه الناقة، ثم تلد بنتها التي تلد، فعلى هذا يكون أجلاً مجهولاً؛ لأنه غير محدد، فهو إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج بنتها التي في بطنها، فيكون ذلك أجلاً مجهولاً.
فالحاصل أن هذا من البيوع الجاهلية، وقد جاء الإسلام بإزالتها ونسخها.
وكانوا كثيراً ما يحتاج أحدهم إلى نقود قبل أن تثمر ثمرته، فيأتي إليه أحد التجار فيقول: بعتك ثمرة هذه النخلة -أو ثمرة هذا العنب- والتمر لا يزال بسراً، فإذا باعه وهو بسر، وجاء وقت النضوج، إذا هو قد أصابه مرض من بياض أو نشاف أو غير ذلك من عاهات تصيب الثمر، فعند ذلك يكون المشتري قد اشترى شيئاً لا يناسبه ولا يصلح له، فيقول: هذه لا تصلح، فأعطني غيرها، أعطني ثمر النخلة الثانية أو الثالثة؛ فيتشاجرون عند ذلك أو يختلفون، فإذا رأى هذه الثمرة قد تحات ثمرها قال: ما بعتني هذه، إنما بعتني الأخرى، فيحصل بعد ذلك اختلاف فيما بينهم، ويكثر ترافعهم؛ لذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا البيع الذي هو البيع قبل أن يبدو الصلاح، فإذا بدا الصلاح، فالأصل أو العادة أن العاهات التي تصيبها قليلة، فحيئنذٍ يجوز البيع، ثم فسر بدو الصلاح في النخل بأن تحمر أو تصفر.
ومعلوم أن النخل أول ما يخرج من أكمامه يكون لونه أخضر، وعندما يقرب من النضج ينقلب بعضه إلى أحمر -وهو الذي يكون رطبه أسود-، وإلى أصفر وهو الذي يكون رطبه أحمر.
فبدو الصلاح أن يتغير لونه من الخضرة بأن يكون أحمر أو أصفر، فإذا وصل إلى هذه الألوان جاز بيعه والحال هذه لقلة الآفات التي تعتريه في هذه الحال.
هذا هو الأصل، فالصحيح أنه يجوز بيعه إذا وصل إلى هذه الحال.
أما بالنسبة للعنب فيجوز بيعه إذا بدا صلاحه، وبدو صلاحه أن بعضه يسود، فإذا انقلب إلى أسود أو إلى أحمر فذلك بدو صلاحه، والذي يبقى على لون الخضرة فإذا تموه حلواًً -أي: إذا انقلب ماؤه بعدما كان حامضاً إلى كونه حلواً- ففي هذه الحال يجوز بيعه.
وبقية الثمار كثمر التوت، والرمان، والبرتقال، والليمون، وسائر الثمار، لا يجوز بيع الثمرة وحدها إلا بعدما يبدو صلاحها، أي: حتى ينتفع بها فيصلح قطعها والانتفاع بها، فأما إذا كان قطعها قبل بدو ثمارها فلا يجوز بيعها والحال هذه.
وصورة ذلك: إذا اشترى إنسان ثمرة، ثم أصابتها جائحة قبل أن تصلح، فيقول: إنها تذهب على البائع، وإن البائع يرد الثمن إلى المشتري؛ حيث إن المشتري لم يحصل له شيء، ولم ينتفع بهذا البيع، ولم يقبض شيئاً، أما صاحب الشجر فإنه مقدم على مثل هذه الأمور، وتصيبه هذه الجوائح وهذه الآفات عادة، فليس له إلا الصبر والتسلي، فيقدر أنه ما باع شيئاً.
مثال ذلك: إذا اشتريت -مثلاً- ثمرة النخل قبل بدو صلاحه أو بعد بدو الصلاح، ثم بعدما اشتريتها أصابتها جائحة، جاءها برد فتحاتت، أو أصابتها ريح مثلاً فقلعتها، أو صواعق فأحرقتها، آفة من الآفات أو مرض من الأمراض، فإنها تذهب على البائع الذي هو المالك، ويرد عليك أنت المشتري ثمنك ودراهمك، وهذا ذهب إليه كثير من العلماء، وخصه بعضهم بما إذا باعها قبل أن يبدو الصلاح، أما إذا باعها بعدما بدا صلاحها وجاز بيعها فما دام المشتري قد أقدم على الشراء ودفع الثمن، والبائع قد خلى بينه وبينها، وأصابتها هذه الآفة السماوية التي لا صنع لآدمي فيها؛ فإنه -والحال هذه- يصبر كما يصبر البائع.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. والمزابنة: أن يبيع تمر حائطه إن كان نخلاً بتمر كيلاً، وإن كان كرماً أن يبيعه بزبيب كيلاً، أو كان براً أن يبيعه بكيل طعام، نهى عن ذلك كله)] .
في هذين الحديثين بعض البيوع المنهي عنها، وقد ذكرنا أن الأصل في البيوع الإباحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك الناس على معاملاتهم وعلى مبايعاتهم، إلا أنه نهى عما فيه ضرر، فكل شيء فيه ضرر على المتبايعين أو على أحدهما أو يسبب شحناء أو يسبب غبناً أو يوقع في الغرر أو نحو ذلك فقد نهى عنه، والنهي لأجل مصلحة المسلمين؛ وذلك لأن الضرر يسبب العداوة بين المسلمين، ويسبب المقاطعة، ويسبب التهاجر فيما بينهم والشحناء، ويحمل كل منهم على الآخر، ويكون بينهم ضغائن وعداوة، والإسلام جاء بما يجمع شمل المسلمين.
فالحاصل أنه إذا اجتمع كونه جاهلاً، وكونه جاء بها ليبيعها، وكونه عازماً على بيعها بسعر يومها، وكون الحاضر هو الذي جاء إليه أو تلقاه، وكون الناس بحاجة إليها؛ ففي هذه الحال لا يكون له سمساراً، فلا يقل: أعطني سلعك، أنا صاحب البلد أبيعها بتأنّ، حتى تربح فيها أكثر، فينفعه ويضر الناس، بل يقول في الحديث: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)، فيتركه ليبيعها كما يشاء، فهذا هو الأصل في بيع حاضر لباد.
وذكر للمزابنة ثلاثة أمثلة:
المثال الأول: أن يبيع التمر الذي في رءوس النخل بتمر مقطوع، فإن هذا فيه جهل، وفيه عدم تحقق التماثل؛ لأن التمر من الأشياء الربوية، فلا يجوز أن يباع إلا بمثله كيلاً مثلاً بمثل، فكونه يقول -مثلاً-: اشتريت منك ثمرة هذه النخلة بهذا المكتل من التمر -تمر بتمر من غير تحقق التماثل- لا يجوز، وهذا من المزابنة.
المثال الثاني: إذا كان عنده شجرة عنب، والعادة أنه يتركها حتى تصير زبيباً، فيقول: بعني ثمرة هذه الشجرة -شجرة العنب- بهذا المكتل من الزبيب، أو: بعشرة آصع أو: بعشرين صاعاً زبيباً، خذها الآن واترك لي ثمرة هذه الشجرة من العنب لآخذها، سواء زادت عن عشرين أو نقصت، وهذا أيضاً فيه اختلاف؛ وذلك لأنه لا يتحقق التساوي، فقد يكون ثمر الشجرة أربعين صاعاً، وقد لا يصفو منه إلا عشرة؛ لأنه شيء مجهول ولوكانوا ينظرون إليه، وكذلك ثمر النخلة، فلا يتحقق هنا التماثل.
المثال الثالث: في ثمر الزرع، فإذا جاء إليك وزرعك قد أثمر، وقد بدا سنبله؛ فقال: بعني زرعك هذا بمائة صاع، أو بهذه الأكياس التي فيها مائة صاع أو مائتان أو خمسمائة، خذ مني هذه الأكياس وأعطني هذا الزرع؛ فهذه الأكياس معلوم وزنها، ومعلوم كيلها، والزرع مجهول لا يدرى هل يكون كثيراً أو قليلاً، فلا يتحقق التماثل.
فهذه أمثلة للمزابنة، والنبي عليه الصلاة والسلام مثل بها، وأراد بذلك كل شيء يماثلها مما فيه غرر؛ لأنه أمر إذا بيع شيء من المكيلات أنه لابد من التساوي والتماثل، ولعله يأتينا ما يستثنى من ذلك إن شاء الله.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر