ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر وبعذاب القبر ونعيمه.
فأما الفتنة فإن الناس يمتحنون في قبورهم، فيقال للرجل: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، فيقول المؤمن: ربي الله، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيي.
وأما المرتاب فيقول: هاه هاه لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته؛ فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق.
ثم بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب إلى أن تقوم القيامة الكبرى، فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمع عليها المسلمون ].
قوله: (وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عياناً بأبصارهم).
أي: لأن هذا أمر جاء في الوحي الذي جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فالإيمان به لازم لمن آمن بالله وباليوم الآخر، وقد تواترت الأحاديث في ذلك، والآيات ناطقة بهذا، يقول الله جل وعلا: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ويقول جل وعلا: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26].
ويقول جل وعلا: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، في هذه الآية دليل على أن المؤمنين لا يحجبون عن ربهم وأنهم يرونه، وهو مفهوم جلي واضح.
وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ [القيامة:22] أي: بهية جميلة حسنة من النضرة والتنعم، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23] أي: تنظر إلى ربها بأعينها. فأضاف النظر إلى الوجه الذي فيه البصر بعدما ذكر أنها منعمة، فدل دلالة صريحة واضحة على أن المقصود النظر بالبصر، وليس يقصد غير هذا، فكل قول يكون على خلاف ذلك فهو تحريف للآية.
وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] صح في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وهذا تفسير نبوي لا يجوز العدول عنه، فهو واضح وجلي، ولا عذر لمن خالفه، ولهذا السبب قال الإمامان أحمد وابن خزيمة وغيرهما من العلماء: إن من أنكر رؤية المؤمنين لربهم فهو كافر يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتد؛ لأنه مكذب لصريح القرآن.
وقوله: (عياناً بأبصارهم) هذا التصريح لرد ما قال أهل البدع: إن النظر هو زيادة علم. أو: إنه نظر إلى النعم أو إلى شيء آخر مما يجعله الله لهم، سواء أكان نعيماً أم غير نعيم. وهذا من التحريف الظاهر البطلان، ومعلوم أن الذي أنكر الرؤية هم الخوارج والمعتزلة والرافضة وأشباههم من أهل البدع.
أما الأشاعرة فهم أثبتوا رؤية غير الرؤية التي أثبتها المؤمنون، والواقع أن إثباتهم يرجع إلى النفي وإلى الإنكار، وذلك لأنهم أنكروا علو الله وفوقيته، فقالوا: يرى لا في جهة, فضحك عليهم العقلاء في ذلك؛ لأن هذه رؤية غير معقولة وغير واقعة، فإذا كانت الرؤية بالبصر فلا بد أن يكون المرئي مقابلاً، ومعلوم بصريح العقل فإنه إذا كان المرئي رب العالمين، أنه يرى من فوق؛ لأنه لا يكون عن يمين ولا عن شمال ولا من تحت ولا من خلف ولا من أمام، بل من فوق، وقد جاءت النصوص صريحة بهذا، فكل من خالف ذلك فهو مبطل وهو من أهل البدع، لهذا قال المصنف: (عياناً بأبصارهم) لئلا يقال: إنها رؤية قلبية.
أما كليم الرحمن موسى عليه السلام فقد سأل ربه الرؤية في الدنيا، فقال له جل وعلا: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، فنفى ذلك، ثم جعل له مثالاً لهذا، فقال: ولَكِن انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143]، وإذا اندك الجبل فكيف يثبت الآدمي الضعيف لرؤية الله.
فالرؤية في هذه الدنيا ممكنة في العقل لكنها غير واقعة؛ لأن موسى عليه السلام لا يسأل شيئاً مستحيلاً، لكنه منع لضعف البشر، أما إذا كان يوم القيامة فإنها تتم خلقته وتتم قواه، فيستطيع رؤية الله جل وعلا، ورؤية الله جل وعلا أعلى النعيم، فهي أفضل ما يعطى المؤمن، ولهذا سماها الله زيادة، أي: على ما في الجنة. والأحاديث في هذا صريحة واضحة.
فأتى بقوله: (بأبصارهم) لئلا يقال: إنها رؤية قلبية. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ابن صياد : (واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت)، وهذا عام، وفي لفظ: (وتعلموا)، وهو بمعنى: اعلموا. فالذي يدعي أنه يرى ربه في الدنيا ضال مبطل، ويوجد من الصوفية أهل الطرق وأهل المجاهدات الباطلة من يزعم أنه يرى ربه، والواقع أنهم يرون شياطين تتمثل لهم، فيقول الشيطان لأحدهم: أنا ربك. وتكون بين السماء والأرض على كراسي، وأحياناً يرون خيالاً يخيله لهم الشيطان، فالشيطان هو ربهم الذي يرونه؛ لأن هذا تكذيب لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلزم منه أن يكون هؤلاء أفضل من موسى عليه السلام، وهذا من أبطل الباطل.
وقوله: ( كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ) هذا نص أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنها جاءت بهذه الألفاظ، وهي ألفاظ واضحة جلية لو تكلف الإنسان البلاغة والفصاحة ليأتي بلفظ أوضح من هذا في إثبات الرؤية ما استطاع، فكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أوضح شيء، فإنه قال لهم ذلك لما سألوه مرة، ومرة بدأهم هو صلى الله عليه وسلم بغير سؤال فقال: (إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس ضحى ليس دونها سحاب ولا قتر)، وقال: (إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته) و(تضامون) جاء بالتخفيف والتشديد، فالأول من الضيم، والثاني من المضامة، والمعنى أن الرؤية واضحة لا يحتاج فيها إلى أن يقرب بعضكم من بعض حتى يساعده على رؤيته كما يكون ذلك في الأشياء الخفية، مثلما يصنع الناس عند رؤية الهلال أول الشهر، فمن كان قوي البصر يراه، ومن كان بصره أقل يأتي إليه حتى يساعده ويعين له المكان الذي هو فيه.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (كما ترون) الكاف كاف التشبيه، والتشبيه وقع للرؤية الواضحة الجلية وليس للمرئي تعالى الله وتقدس، والمعنى أن رؤيتكم لربكم تكون كرؤية الشيء الواضح الجلي، فهي مثل الشمس ومثل القمر في أتم ما يكون.
عرصة الدار: هي المتسع الذي يكون في الدار. وعرصة البلد: الفناء الذي يكون فيه. والمقصود بعرصات القيامة بعض المواقف، والقيامة لها مواقف يكون فيها مخاطبة ومحاسبة ووزن، فالله جل وعلا يراه المؤمنون في هذه العرصات.
أما الكافرون فهم محجوبون عنه لا يرونه، ولكن ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن الله جل وعلا إذا جاء للفصل بين عباده وهم وقوف يخاطبهم خطاباً عاماً، فيقول جل وعلا: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فيجيبون بـ(بلى) عند ذلك يؤتى بالمعبودات التي يعبدها الناس، فيقال: انظروا إلى معبوداتكم فتولوها واتبعوها)، فمن كان يعبد أصناماً جاءت الأصنام، وكذلك من كان يعبد شجراً أو حجراً أو أي شيء من المعبودات، حتى الذين يعبدون الأنبياء يؤتى بشياطين على الصورة التي كانوا يتخيلون، فيقال: هذه معبوداتكم فاتبعوها. فيذهب كل من كان يعبد غير الله، فيبقى المؤمنون من هذه الأمة وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا ويظهر لهم فيرونه، فيقول: ماذا تنتظرون وقد ذهب الناس؟ فيقولون: إن لنا رباً ننتظره، وقد تركنا الناس أحوج ما كنا إليهم -أي: في الدنيا- فيقول لهم جل وعلا: أنا ربكم -وقد تنكر لهم- فيقولون: نعوذ بالله منك، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا. فيقول: هل بينكم وبينه آية -أو قال: علامة-؟ فيقولون: نعم. الساق. فيكشف عن ساقه جل وعلا فيخر له كل مؤمن ساجداً ويبقى المنافق ظهره طبقة واحدة إذا أراد أن يسجد سقط على قفاه، فهذا معنى قول الله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ [القلم:42-43].
وأما في الجنة فرؤية المؤمنين لربهم تختلف على اختلاف منازلهم، فمنهم من يرى ربه في اليوم مرتين، وليس في الجنة ليل أو نهار، ولكنهم يعرفون الأيام بعلامات يجعلها الله جل وعلا لهم، ولهذا جاء في حديث جرير : (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر ليس بينكم وبينه حجاب، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) يقول العلماء: الإشارة هنا إلى صلاة العصر وصلاة الفجر، وأن المحافظة على هاتين الصلاتين في الجماعة يكون جزاؤها الرؤية، وأنها تكون في أول النهار وفي آخر النهار، فبعضهم يراه جل وعلا في اليوم مرتين، وبعضهم لا يراه إلا يوم الجمعة فقط كما جاء في حديث أبي هريرة ، وبعضهم يكون أقل من هذا أو أكثر على حسب درجاتهم.
وقوله: (كما يشاء) يعني أن الكيفية غير معلومة، وإنما يجب أن يعلم أنهم يرون وجهه.
ومن رأى النفي بلن مؤبداً فقوله اردد وسواه فاعضدا
بل الآيتان تدلان على عكس ما استدلوا به، فالإدراك في قوله: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103] هو الإحاطة، ونفيه لا ينفي الرؤية، يوضحه ما جاء في قصة موسى مع فرعون، حيث سرى موسى عليه السلام ببني إسرائيل من مصر، فاتجه إلى جهة البحر الأحمر حسب أمر ربه جل وعلا، فلما أصبح فرعون جمع جنوده فتبعهم، فلما تراءى الجمعان وصار آخر جمع بني إسرائيل يرى جمع فرعون والعكس قال أصحاب موسى لموسى عليه السلام: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، فنفى الإدراك مع ثبوت الرؤية والمعاينة، وهذا يدل على أن قوله: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ ) ليس معناه نفي الرؤية؛ لأن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء.
وأما قوله: ( لن تراني ) فهو دليل على الرؤية؛ لأن هذا كان في الدنيا، وقد علقت الرؤية على ثبوت الجبل، وثبوت الجبل ممكن، وإذ قد علقت على شيء ممكن فهي ممكنة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فالأمر غير ذلك.
إذاً فمن عقائد أهل السنة التي يجب على المرء أن يعتقدها الإيمان برؤية الله جل وعلا في عرصات القيامة، وسبق أن العرصات هي الأماكن والمواقف التي يقفون فيها، والعرصة في اللغة: المكان الذي لا بناء فيه. فهي المكان الواسع حول البيت أو حول البلد الذي لا بناء فيه.
وعرصات يوم القيامة مواقفه، ومعنى ذلك أن الرؤية تحصل للمؤمنين في عدة مواقف يوم القيامة، وكذلك يرونه في الجنة.
والرؤية التي تقع للمؤمنين يرونه في كلها من فوقهم كما صرحت الأحاديث بذلك، وهي أحاديث بلغت حد التواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الإيمان بها، وهي تدل على الأمور الآتية:
أولاً: على كلام الله جل وعلا لأنه يخاطبهم.
ثانياً: على أنه يرى تعالى وتقدس.
ثالثاً: على أنه عال على جميع خلقه.
وهذه الأمور الثلاثة يكذب بها الخوارج والمعتزلة والرافضة ونحوهم، ويكفرون من يعتقدها.
والواقع أن الذي ينكرها كافر بالله جل وعلا؛ لأنه مكذب لكتاب الله جل وعلا ولأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وخليق بمن ينكرها أن يحرم ذلك يوم القيامة.
فالمقصود أن الإدراك هو الإحاطة بالشيء من جميع جوانبه، والله سبحانه لا يدرك، فتجتمع الرؤية ونفي الإدراك في حقه، وذلك لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن الله يأخذ سماواته وأرضه بيده اليمنى فتكون كالخردلة في يد أحدكم وله المثل الأعلى تعالى وتقدس، فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وخلقه حقيرون بالنسبة إليه، فلا يحيطون به ولا يدركونه، ولكن أولياءه من المؤمنين يرونه رؤية مواجهة جل وعلا.
وأما استدلالهم بقوله جل وعلا في قصة موسى أيضاً: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143] فزعموا أن (لن) للنفي المؤبد فهذا، تحريف وكذب على اللغة العربية؛ فإن (لن) لا تدل على النفي المؤبد، ومع ذلك فالآية تدل على عكس ما استدلوا به من وجوه:
الوجه الأول: أنه لا يمكن لكليم الله موسى عليه السلام أن يسأل شيئاً مستحيلاً في العقل، فقد نزه الله أنبياءه عن أن يقعوا في مثل هذا الجهل.
الوجه الثاني: أن الرؤية علقت على شيء ممكن وهو استقرار الجبل فقال: انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي [الأعراف:143]، وإمكانية استقرار الجبل معقولة، ولكنه لم يقم لنور الله جل وعلا فتدكدك، فدل على أن الرؤية ممكنة.
الوجه الثالث: أن الله جل وعلا لم يقل له: إني لا أرى. ولكن قال: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143]، وعلق ذلك بشيء ممكن حصوله فدل على أن المانع هو أن التركيب الخلقي في الدنيا ضعيف، وأنه لا يستطيع الرؤية على هذا التركيب الذي ركب به على أنه يموت، فإذا كان يوم القيامة يركب الإنسان تركيباً تاماً فيستطيع رؤية الله جل وعلا، وهناك أوجه أخرى ترد كلام هؤلاء المبطلين.
وقوله: (ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى)، يعني أن كيفية الرؤية غير معروفة، وإنما نؤمن بالرؤية كما أخبرنا بذلك ولا نبحث عن الكيفية، وهكذا كل صفات الله جل وعلا لا يبحث عن كيفيتها، أي: عن الحالة التي يكون عليها الرب جل وعلا في اتصافه، فهذه تستدعي المشاهدة والمشاهدة ممتنعة في الدنيا، وكذلك تستدعي أن يكون له مثيلٌ فيقاس عليه، وهو سبحانه ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في أوصافه ولا في أفعاله، فتعين أن يكون كما يشاء الله جل وعلا، وأن تنقل الكيفية إلى علم الله تعالى.
الفتنة هي السؤال، وفتنة القبر سؤاله.
والمسائل التي جاء أن الميت يُسأل بها هي ثلاث مسائل، فيقال له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ أو: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟
واللذان يسألانه هما منكر ونكير، وقد نص الإمام أحمد رحمه الله على أن اسميهما كذلك؛ لما جاء في الأحاديث من ذلك، وجاء أنهم يأتيان بمنظر منكر مهول، وبأصوات مزعجة كالرعد القاصف أو كالصواعق، ومعهما مطرقة من حديد إذا ضُرب بها التهبت ناراً، فإذا رأى الإنسان هذا المنظر وسمع هذا الصوت فزع، فإن لم يثبته الله جل وعلا عجز عن أن يجيب، ولكن: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27] في هذه الفتنة.
وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يعلمنا السورة من القرآن أن نقول بعد الفراغ من الصلاة وقبل السلام: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال).
وجاء أنه قال: (أوحي ألي أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال) وقد اختلف العلماء في سؤال القبر هل هو خاص بهذه الأمة أو أنه عام. والصواب أنه عام للأمم كلها، فكل ميت يسأل.
والميت الذي يسأل هو الميت المكلف دون الأطفال الذين لم يكلفوا.
فالميت إن كان موقناً مؤمناً فإنه لا يتلعثم في الجواب، إلا من كان عنده بدع أو أمور يصر عليها من المعاصي التي لا تعلم، فهذا على خطر عظيم.
أما إن كان من أهل الشك والريب في اليوم الآخر فذلك هو المرتاب، وهو الذي يقول في الجواب: هاه هاه. لا أدري فيكون جوابه مطابقاً لحاله في الدنيا.
فهذه هي فتنة المسألة، وهي أول ما يقع للإنسان في قبره بعد دفنه، كما في الصحيحين أنه: (إذا دفن وولى عنه أصحابه وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان فيجلسانه، فيسألانه يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فإن كان مؤمناً قال: ربي الله...) الحديث، والمقصود بقولهما: (من ربك)، أي: الذي رباك وأوجب عليك عبادته. أي: من الذي كنت تعبده؟ لأن الرب يأتي بمعنى المعبود.
الجواب: المخلوقات كلها مطيعة لله، ولكن لم يوضع فيها العقل والتكليف، بل جعل الله جل وعلا التكليف والعقل للجن والإنس، ولهذا خلقت لهم الجنة والنار، أما هذه المخلوقات فهي مطيعة لله جل وعلا خاضعة وتسبح بحمده حقيقة، ولهذا لما ذكر الله جل وعلا السجود أخبر أنه يسجد له من في السماوات والأرض، ثم قال: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ [الحج:18]، فالاستثناء من الناس فقط، أما باقي المخلوقات فهي كلها منيبة طائعة قانتة.
وهذا يدل على أن الله خلق فيها الإحساس، ولهذا أخبر أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والذي جعله يحملها وصفه بأنه ظلوم جهول: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72].
الجواب: الكفار لا يرون الله جل وعلا، يقول الله جل وعلا: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16]، فالكفار محجوبون عن ربهم جل وعلا.
أما الإتيان المذكور في قوله: هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله [البقرة:210] فهذا فيه التخويف بأنه سيأتي لحسابهم والأمر بهم إلى جهنم، أي أن الأمر ينتهي إلى هذا الإتيان، وأن ذلك ليس بعيداً بل هو قريب، فما بين الإنسان وبين ذلك إلا أن يموت، ثم يدخل بمنازل الآخرة.
الجواب: الصواب في الحديث القدسي أن حروفه ومعناه من الله، ولكنه لم يُتعبد بتلاوته ولم يتحد به، فهو يفارق القرآن بأمور كثيرة همذان منها.
الجواب: كل الأسئلة مجملة في هذه الثلاثة الأسئلة للكافر وغيره، ولكن الجواب هنا لا يكون إلا عن علم، ولا يفيد الإنسان أن يحفظ جواب المسألة ويرددها كما لو كان يختبر في الدنيا؛ لأنه لن يجيب إلا بما هو مستقر في قلبه مقتنع به.
الجواب: ليس في هذا تأويل؛ لأن الذي يعين المقصود هو السياق والقرائن، ومثل ذلك قوله جل وعلا فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الحشر:2]، فنقول: أتاهم عذابه أو جنده. وقوله: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ [النحل:26] أي: أتى عذابه. فالذي يحدد المعنى هو القرائن والسياق، ولا يجوز أن يؤخذ الكلام كله على وتيرة واحدة، فكلما جاء لفظه في أي سياق نقول: المقصود به الشيء الحقيقي. فهذا لا يجوز.
الجواب: هي رؤيا خيالية ليست حقيقة، فهي أمثال يضربها الملك بالنسبة للمخلوقين وبالنسبة للخالق جل وعلا، فإذا رأيت مخلوقاً وأنت في النوم فليس هو ذلك المخلوق وإنما هو مثال ضرب لك، ولكن لما كنت تعرف ذلك المخلوق ترددت في ذهنك رؤيته، فرأيته كأنه هو لمعرفتك إياه، وأما إذا وقعت الرؤيا في المنام لله جل وعلا فهذا يتبع إيمان الإنسان، فإذا كان إيمانه حسناً رأى صورة حسنة، ولهذا جاء في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رأيت ربي في أحسن صورة) أي: في المنام. وذلك لأن إيمانه كان أحسن الإيمان فرأى أحسن الصور، أما غيره فلا يصل إيمانه إلى مثل إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يرى شيئاً يناسبه، وهذا المرئي ليس هو الله حقيقة، وإنما هو شيء خيل له ومثال ضرب له؛ لأن الرؤيا لها ملك موكل بها يضرب الأمثلة للأشياء إذا كانت الرؤيا حقاً، أما إذا كانت باطلاً فهي من الشيطان.
والرؤيا على أقسام ثلاثة:
القسم الأول: قسم يكون من حديث النفس وما يزاوله الإنسان في حياته ومعيشته، وما يكثر التردد عليه ويتعلق قلبه به، فإذا نام رأى أنه يزاول هذه الأشياء، وهذا دليل على أن قلبه متعلق بهذه الأشياء، ويجب عليه أن يتوب ويجعل قلبه متعلقاً بالله جل وعلا، ولا يكون همه اللعب أو الدنيا أو غير ذلك، وهذا الذي كان يخافه السلف، يخافون إذا حضر الموت أن يموت الإنسان بهذه المثابة، فيموت وهو يهذي بالأمور التي يزاولها في الدنيا.
القسم الثاني: تلاعب الشيطان وتخويفه. فإنه يتلاعب بكثير من الناس ويخوفهم ويأتي لهم بأمور تزعجهم، وقد يمنيهم بأشياء، فمثل هذا لا يجوز للإنسان أن يخبر به، وإذا رأى رؤيا من هذا النوع فعليه أن يصنع ما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم، أن ينفث عن يساره ثلاثاً، ثم يتعوذ بالله من الشيطان، ثم يغير وضعه الذي كان عليه في النوم، فإذا كان على جنبه الأيمن انقلب على جنبه الأيسر، ثم لا يحدث بذلك أحداً فإنها لا تضره.
والقسم الثالث: هي الرؤيا الصادقة التي يضربها الملك للمؤمن بأمثال تتحقق، وهي مبشرات.
الجواب: نعم. رآه رؤية القلب؛ فإن إيمان الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كإيمان آحاد أمته، فإيمانه بالنسبة إلى غيره كاليقين الذي يزاول، فالرؤيا التي جاءت فسرت بهذا، كما صح عن ابن عباس أنه قال: رآه بفؤاده. فإذا رآه بفؤاده فهذه ليست رؤيا حقيقية.
الجواب: هذا لا يجوز؛ لأن القرآن ليس مربوباً، بل هو كلام الله، ولكن يجوز أن يقول: والقرآن. أو: والمصحف. لأن الذي يحلف به هو كلام الله، ومع ذلك فقد سبق أن قلت: إنه جاء عن ابن عباس وعن ابن مسعود رضي الله عنه عنهما أن الذي يحلف بالقرآن ثم يخالف أنه يلزمه بكل حرفٍ كفارة، وذلك لأنه أمر عظيم.
وأما أن يقول: (ورب القرآن) فهذا لا يجوز؛ لأن المربوب مخلوق، والقرآن ليس مربوباً، بل هو صفة من صفات الله جل وعلا، ولا يجوز الحلف إلا بالله أو بصفة من صفاته.
الجواب: اللقاء هنا يقصد به الجزاء الذي يجزون به يوم القيامة، ويصح أن يقال لكل أحد: إنه سيلقى ربه. أي: لقاء المحاسبة والجزاء، فيفسر بالحساب والجزاء الذي يحصل له.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر