الحمد لله الذي جعل هذه الحياة داراً للابتلاء والامتحان، وميداناً للصراع بين الإنسان وبين الشيطان، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:5-6] وقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:1-2] أيكم أخلص عملاً لله وأيكم أكثر اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
إخوتي الكرام..
إن ميدان الصراع بين القوتين العظيمتين: قوة الشيطان وقوة الإنسان ومنطقة النفوذ التي يشتد حولها الصراع هي: قلب الإنسان، لأنها مركز القوة، فإذا فسد القلب فسد الجسد كله، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله كما أخبر صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، ثم يمتد الصراع إلى سائر جوانب حياة الإنسان، وهذا القلب إما أن تسيطر عليه القوة الشيطانية ويحتله جنود إبليس، ويقتحمون حصونه، فيصبح مرور الخير ولَمَّة الملكِ فيه قليلاً نادراً سرعان ما يخرج، وإما أن تحتله قوة الخير والإيمان وتقتحم حصونه فيصبح مرور الشيطان وجنوده ووساوسه على القلب مروراً سريعاً خفيفاً لا يطول، والإنسان مطالب في هذه الدنيا بأن يحذر كيد الشيطان ويعرف أساليبه ووساوسه في المكر والخديعة.
أين يسكن إبليس؟
هل هو متزوج أم أعزب؟
هل له أولاد أو ليس له أولاد؟
كيف يوسوس الشيطان إلى قلب الإنسان؟!
لاشك أن الله عز وجل بين لنا من هذه الأمور ما فيه الكفاية فبين لنا أن له ذريه وأنه يكيد في قلب الإنسان، وأن الشياطين كثر، لكن كثيراً من الناس شغلوا أنفسهم بهذه الفرعيات، ولم يهتموا بالقضية الأصلية وهي قضية معرفة وسائل الشيطان للكيد، وكيفية مقاومته، ولذلك يذكرون عن الإمام المحدث الظريف سليمان الأعمش: أن رجلاً سأله وهو في مجلس حديثه، فقال له: يا إمام هل لإبليس زوجة، فقال له: ذاك نكاح لم أشهده.
وهذه طرفة لكن من ورائها تأديب من الإمام للسائل أن هذا السؤال لا ينبغي أن يوجه، ومن ينشغل بهذه الأشياء ويغفل عن كيفية المقاومة فشأنه شأن إنسان دخلت الحية بينه وبين ثيابه فأوسعته لسعاً ولدغاً، وأفرغت السم في جسده وهو يسأل: هذه الحية ما لونها؟ ما شكلها؟ ما طولها؟ من أي أنواع الحيات وفصائلها؟ هل هي حية أو ثعبان، أو كذا، أو كذا؟ وهذا منتهى الجنون!
كثيراً ما أسمع منهم الشكوى من الوسوسة في أشياء كثيرة من شئون دينهم ودنياهم، وبعضهم ممن لا يتيسر الحديث المباشر معه في هذه الأمور، فأحببت أن تكون هذه المحاضرة حديثاً إليهم جميعاً في هذه القضية التي يشتكي منها الكثيرون، وسأجعل هذا الحديث في النقاط التالية:
الأولى: ذكر سبب الوسوسة في النفس.
والثانية: ذكر أنواع الوسوسة.
والثالثة: ذكر آثار الوسواس ومضاره.
والرابعة: هي ذكر علاجه الذي يدفعه بإذن الله تعالى.
وبعض الناس أخذوا من هذه القصة فتوى فأفتوا لبعض من بلغ بهم الوسواس مبلغه بترك الصلاة، وفي هذه الفتوى نظر كبير، فإن الصلاة من أهم أركان الإسلام، ولا تسقط إلا عن من سقطت عنه في كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كالحائض والنفساء، ولكن المقصود من سياق هذه القصة الإشارة إلى أن غالب من يصاب بالوسواس ويتعمق فيه الوسواس يكون في عقله شيء من النقص والخفة.
وبعضهم يكون هذا الوسواس شديداً معه أو لا يوفق بمن يوجهه التوجيه الصحيح بل قد يزيد هذا الأمر ويزيد الطين بلة -كما يقال- فيزداد الوسواس معه، فهذه أسباب خمسة يظهر لي أن معظم ما يصيب الناس من الوسواس يعود إلى أحدها أو إلى أكثر من سبب منها.
أنواع الوسوسة كثيرة، لا تنحصر، وإذا كان الإمام أبو الوفاء بن عقيل، يقول: إن الوسواس نوع من الجنون؛ فإن العرب يقولون: إن الجنون فنون، لكنني أذكر معظم هذه الأنواع.
فمن أنواع الوسواس:
ومن الطريف ما ذكره أبو محمد المقدسي رحمه الله في كتابه في الوسوسة: أن أحدهم وقف ليصلي وهو من المصابين بالوسواس، فرفع يديه وبدأ يردد هذه النية: نويت أن اصلي -وهو يتنطع في إخراج الحروف ويكررها، فبدلاً من أن يقول: أصلي صلاة الظهر أداءً، نطق الدال ذالاً، فقال: أذاء لله عز وجل، فقطع الصلاة رجل إلى جواره فقال له: نعم، أذاء لله ولرسوله وللملائكة ولجماعة المصلين أي: أنك آذيت الله ورسوله والمؤمنين بهذه البدع المحدثة التي ما أنـزل الله بها من سلطان.
ويوسوس الواحد منهم في نيته في كل عمل، فإذا كبر للصلاة وانتصف فيها، شك في أمر من الأمور، ربما أنني ما نويت فقطع الصلاة فقال: لابد أن تبدأ الصلاة من جديد، ويصيبه من ذلك والعياذ بالله من المشقة والعنت ما لا يحمد عليه في الدنيا، ولا يؤجر عليه في الآخرة فنسأل الله السلامة بمنه وكرمه.
فالإنسان إذا استدعاه ربما لو جلس ساعات طويلة لخرج منه في الوقت بعد الوقت قطرة أو قطرتان، لكن إذا تركه بقي في مكانه لم يخرج، هذا في قضاء الحاجة.
ثم إذا أراد أن يتوضأ، بُلي بالمياه والوسوسة في المياه والشك فيها واحتمال نجاسة الماء أو أن يكون وصل إليه قطرة أو قطرات من البول، أو أن يكون خلت به امرأة، أو أن يكون.. أو أن يكون، ويضع مئات الاحتمالات لهذا الماء الذي بين يديه أن يكون تنجس، أو تلوث، ثم إذا اطمأن إلى الماء أتى بماء كثير جداً، وربما يكون عدداً من القرب، وربما يتوضأ به الفئام من الناس، فيبدأ يتوضأ، ويعرك أعضاءه مرة بعد أخرى، حتى إن بعضهم ليجلس في الخلاء الساعتين والثلاث ساعات والعياذ بالله محروم من ذكر الله عز وجل، في هذا المكان الذي هو مأوى الشياطين وربما فاتته الجماعة، بل ربما خرج وقت الصلاة وهو على هذه الحالة، ثم إذا توضأ بعد العرك، والفرك، والدلك والتعب والجهد الجهيد، أتى للنوع الرابع من الوسوسة.
وبطبيعة الحال فالوسوسة في العبادة ليست في الصلاة، فقط، بل قد يداخله الوسواس في الصيام وفي الحج، في عدد الطواف مثلاً، وفي عدد الحصوات التي رمى بها، وفي نوع العمل الذي عمله وفي كل عبادة من العبادات، فيفسدها عليه، ويحرمه من لذة العبادة وغير ذلك.
وربما يطول بكم العجب لو رأيتم بعض ما ابتلي به هؤلاء الموسوسون في مثل ذلك، ثم إذا اشترى شيئاً أو باع شيئاً، رجع إلى بيته فنسي، هل أديت المال وقيمة هذه السلعة أم لا؟ فغلب على ظنه أنه لم يؤدها فرجع وربما يدفع قيمة ما اشتراه مرتين وثلاث مرات، وربما يكثر من مراجعة نفسه، أنك قلت في فلان كذا والواقع أن الأمر كذا، وقلت في أمك كذا، وقلت في أبيك كذا، وقلت في زوجتك كذا، وبدأ الشيطان يتلاعب به في أقواله وأفعاله، حتى أفسد عليه دينه ودنياه، هذه أهم أنواع الوسوسة.
ومن المضار الدينية التي يبتلى بها الموسوس أنه قد يترك هذه العبادة، لا يكتفي ببغضها بل قد يتركها، فربما ترك الصلاة أو ترك على الأقل كثيراً من النوافل بسبب الوسوسة.
إن الوسوسة تشغل كثيراً من وقته فيما لا فائدة فيه فينشغل عن القراءة والذكر والعلم والدعوة بهذا البلاء المستطير، وربما دخل قلبه شيء من الخوف الذي هو خوف في غير مكانه، وأدى إلى ضرر عظيم على هذا الإنسان.
أعرف بعض الشباب ابتلي بالوسوسة في التبول، يطيل الأمر في ذلك ومع الزمن صار عنده شيء من سلس البول، فيقول له الأطباء: إن هذا السلس الذي تشعر به ليس سببه عضوياً، كأن يكون عندك مثلاً ارتخاء في أعضاء التبول وما أشبه ذلك، وإنما سببه أن كثرة اهتمامك وتركيزك على خشية نـزول البول وخروجه جعلك مع الاستمرار تشعر بخروج البول ثم يخرج فعلاً قطرات من البول، وهذا يزيد الإنسان ثقة أن الوسواس الذي ابتلي به هو حق، وهو ورع، وهو خروج من النجاسة لا بد منه في الصلاة، هكذا يفكر هذا الموسوس، وهذا ضرر ديني ودنيوي في نفس الوقت.
ومن مضاره الدنيوية: أنه يؤثر في صحته وجسمه، حتى إنك إذا رأيت بعض الموسوسين -وأقسم لكم بالله إن هذا الأمر واقع- إذا رأيت بعض الموسوسين عرفت من قسماته وآثاره وسيما وجهه وجسده أن هذا الرجل مبتلى بالوسواس، لأن هذا الوسواس فعل فيه وأثَّر فيه تأثيراً بليغاً خاصة إذا طال الزمن.
ومن أضراره الدنيوية أنه قد يحرم الإنسان من المنافع الدنيوية، فأعرف من ترك طلب العلم والدراسة، أو التجارة أو غير ذلك وانشغل بهذا الأمر، فإذا انشغل تفرغ لهذا الوسواس وتفرغ الشيطان له، وكما يقال: زاد الطين بلة.
ومن آثاره أيضاً أن بعض من يحسنون الظن بهذا الموسوس قد يجارونه ويسايرونه ويقتدون به فيما فعل، فيسبب لهؤلاء الناس ضرراً وإثماً، وكان قدوة سيئة لغيره في ذلك.
ومن أضراره على الناس أيضاً، وهذه من الأضرار العظيمة في هذا العصر خاصة أنه يفتح ثغرة على أهل الخير حيث إن كثيراً من الأشرار وأعداء المؤمنين قد يسخرون منهم بسبب هؤلاء الموسوسين، فإذا وجدوا بين المؤمنين شخصاً موسوساً أطلقوا الوسواس على كل المؤمنين، فإذا رأوا إنساناً يعمل عبادة مشروعة مستحبة، بل ربما يعمل واجباً قالوا: هذا موسوس، فألصقوا به هذه الفرية بسبب وجود فرد أو أفراد مبتلين بهذا الداء، وبعضهم يقول للأب إذا رأى ابنه مع الصالحين: ابنك سيتحول إلى موسوس ويصاب بما أصيب به فلان من ترك العمل، وترك الدراسة، وكثرة البقاء في دورات المياه وإطالة الصلاة، وما أشبه ذلك من الأمور التي قد يجدونها في بعض الموسوسين.
فيا أيها المبتلى بهذا الداء! عليك أن تعرف أين الطريق، وعليك أن تدرك أنك إن أُتيِتَ فمن قبل نفسك، قال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] وفي الآية الأخرى:قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: الآية165].
فما أصابك فهو بقضاء الله وقدره، وهو أيضاً من عند نفسك، فعليك أن تكون شجاعاً في مواجهة هذا البلاء المستطير ومعالجته، وذلك من خلال الوسائل التالية:
الدليل على أنه ليس عبادة تؤجر عليها: أن الله عز وجل يحب العبادات يحب الطهارة قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222] يحب الصلاة ويحب المصلين، وهو يبغض الوسواس والموسوسين، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وسعيد بن منصور بسند حسن، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم} إذاً الموسوس متعدٍ، والله عز وجل يقول في محكم التنـزيل: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [الأعراف:55].
إن الله لا يحب المعتدين في الوضوء، والطهارة، والصلاة، والدعاء، وغيره، وغاية ما يقال في شأن الموسوس: إنه مبتلى، وإلا فقد يقال: إنه لو اعتقد أنما هو فيه هو عين الحق والصواب، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله في بعض كتبه: إنه مشاقٌ لله ورسوله، مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، مخالف لمنهج السلف الصالح، قال: وقال شيخنا -يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية- إنه يستحق التعزير البليغ على مخالفته لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لابد أن يعرف الموسوس أنه مصاب ومبتلى، وإلا فلن يستجيب للعلاج، وقد صلى بجنبي يوماً من الأيام رجل في أحد المساجد، فرأيت من جهله بالصلاة وكثرة إعادته للتكبير وتشدده وابتلائه في ذلك ما جعلني بعد أن سلَّم وكان مسبوقاً بركعة، أحببت أن أحدثه في ذلك وأنصحه، فلما سلم عن شماله قام سريعاً وخرج يركض، وهو لا يريد أن يكلمه أحد في هذا السبيل، وبعضهم إذا علم أنك ستحادثه تجنب ملاقاتك خشية أن تفتح معه هذا الموضوع، إذاً القضية خطيرة وقد تودي بالإنسان إلى مخاطر ومحاذير كثيرة.
فعلى الموسوس أولاً: أن يكون لديه معرفة أنه مبتلى ويجب أن يستجيب للعلاج.
فقال: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، أي: من كل طريق يسلكه الإنسان، فالشيطان يقعد له بطريق الإسلام، بطريق الهجرة، بطريق الجهاد، بكل طريق يسلكه، ولكن المقصود في هذا الموضع، أن الشيطان ذكر اليمين والشمال، والأمام، والخلف، ولم يذكر الفوق، ما قال (ومن فوقهم) لماذا؟ لأنه يعرف أن الله فوقه، وأنه لا يستطيع أن يحول بينهم وبين الله عز وجل، وبينهم وبين رحمة الله تبارك وتعالى، ولذلك فالمبتلى بالوسواس أو بغيره، إذا سأل الله عز وجل بصدق قلب، وإقبال وحرارة فإن الله عز وجل لا يرد من قرع بابه في صدق:
لا تسألن بني آدم حاجة وسل الذي أبوابه لا تحجب |
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يُسأل يَغضب |
فمن سأل الله بصدق وإقبال فإن الله عز وجل لا يخيبه أبدا، ولذلك ما قال الشيطان: من فوقهم؛ لأنه يعرف أن الله عز وجل قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وليعلم الموسوس أن الانطراح بين يدي الله عز وجل هو مفتاح الشفاء لهذا المرض ولغيره، بل ولأمراضه الحسية والجسدية.
ومن ذلك أن يعلم الموسوس أن الله رحيم بعباده، هذه مهمة جداً فالشيطان لا يحول بينك وبين رحمة الله، فإذا قال لك الشيطان: إنما أنت فيه من الدين؛ فتذكر أن الله عز وجل لا يريد أن يشق على عباده ولا أن يهلكهم بهذه الأشياء، وإذا قال لك الشيطان: يمكن أن تموت على الكفر بهذه الوساوس والشكوك؛ فتذكر أن الله عز وجل عليم بعبادة مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ [النساء:147] فالله عز وجل يريد أن يرحم عباده يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185].
1- في الإيمانيات:
انظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد والإيمانيات، أعطاهم الدين يسيراً واضحاً لا تعقيد فيه ولا إشكال، وبين لهم أسماء الله عز وجل وصفاته وأفعاله، وحين جاء الصحابة يشتكون إليه ما يجدون من وسوسة الشيطان، هون الموضوع عليهم صلى الله عليه وسلم، فقال لهم كما في صحيح مسلم: {هل وجدتموه قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان، الحمدالله الذي رد كيده إلى الوسوسة} فبين لهم أن ما أصابهم هو بسبب إيمانهم؛ لأن الشيطان إنما يوسوس في القلب الذي فيه إيمان، واللص لا يتسور البيت الخرب، وإنما يتسور البيت المليء بالحلي والذهب، فهذا الوسواس وشعور المؤمن بكراهيته وخوفه منه هو دليل على الإيمان، لكن عليه أن يعمل بوصية النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال في الحديث الآخر الصحيح:{فليستعذ بالله ولينته} وهو في الصحيحين، وحين ذكر أبو هريرة رضي الله عنه كما في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن الشيطان لا يزال يسألكم مَنْ خلق كذا، مَنْ خلق كذا، حتى يقول: مَنْ خلق الله، فليقل الإنسان: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم} وفي حديث صحيح {أنه أمره بقراءة قل هو الله أحد}.
إذاً: القضية سهلة وميسرة وهي أن عليك أن تغفل هذا الأمر ولا تعيره اهتماماً، اقرأ هذه الأدعية والأذكار وتحصن من الشيطان، وادع الله عز وجل ولا تكترث بهذا الأمر، فكثرة تفكيرك به وحرصك الشديد المبالغ فيه على مدافعته يجعل الأمر يزيد وينتشر في قلبك، فإن الشيطان مثل الكلب، إذا التفتَّ إليه ودافعته فإنه ينبحك ويركض وراءك، فإذا أعرضت عنه نبح مرة أو مرتين ثم ذهب وتركك. هذا جانب من هديه صلى الله عليه وسلم في الإيمانيات.
2- في قضايا المياه:
تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في قضايا المياه كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر في شرقي المدينة يلقى فيها النتن والحيض ولحوم الكلاب، فقالوا: يا رسول الله! إنك تتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها النتن، والحيض، ولحوم الكلاب، فقال صلى الله عليه وسلم:{الماء طهور لا ينجسه شيء} والحديث رواه أصحاب السنن والإمام أحمد وغيرهم، وصححه أحمد، ويحي بن معين، والترمذي، وغيرهم، فهو حديث صحيح، فلا وسع الله على من لم يسعه هدي محمد صلى الله عليه وسلم: {الماء طهور لا ينجسه شيء}.
وكان من هديه أن يتوضأ بكل ماء إلا أن يظهر على هذا الماء أثر نجاسة بلونه أو طعمه أو ريحه، توضأ من قصعة فيها من اثر العجين، وكان صلى الله عليه وسلم يتوضأ من الحياض، والمقالي التي تردها السباع والدواب في الصحراء، فقال بعض الصحابة، لعله عمر بن الخطاب أو غيره بحسب الروايات: {يا صاحب المقراة! أخبرنا عن مقراتك تردها السباع، أم لا، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تخبره، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطهور} والحديث صح عن ابن عمر وأبي سعيد الخدري في السنن وغيرها، وقيل له كما في حديث جابر: {يا رسول الله! أنتوضأ بما أفضلت الحمر، قال: نعم، وبما أفضلت السباع كلها} رواه الدارقطني، والبيهقي بأسانيد إذا ضم بعضها إلى بعض أصبحت قوية كما يقول البيهقي.
وفي حديث عائشة عند الطحاوي أنه صلى الله عليه وسلم: {جيء له بماء يتوضأ، فأقبلت الهرة فأصغى لها الإناء لتشرب ثم توضأ بفضلها}.
هذا هديه صلى الله عليه وسلم في المياه، ما تنطّع وما تشدّد على نفسه، ولا ذهب ليسأل هل هذا الماء طاهر أو نجس أو ما أشبه ذلك، ثم كان يتوضأ بالماء القليل، فكان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع، والمد هو قدر راحة الإنسان المتوسط مبسوطتين، -كما يقول صاحب القاموس وغيره- يتوضأ بقدر ما يملأ راحتيك إذا مددتهما وبسطتهما وملأتهما بالماء، ويغتسل بالصاع: وهو أربعة أمداد بل يغتسل بما دون ذلك، ففي صحيح مسلم من حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم كان يغتسل معها بإناء يسع ثلاثة أمداد أو نحو ذلك، وكان يغتسل مع زوجاته، مع عائشة، وأم سلمة، كما في الصحيحين ويغتسل بفضل ميمونة كما في صحيح مسلم، ومعروف أن آنيتهم كانت صغيرة، وعائشة وأم سلمة تقولان: إنهما كانتا تغتسلان معه، فـعائشة تقول: {كنت أغتسل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء تختلف أيدينا فيه} كأن هذا الإناء الصغير لا يسع يدي النبي صلى الله عليه وسلم ويدي أم المؤمنين فإذا رفع يديه، أدخلت يديها، زاد البخاري من حديث عائشة، {فيبادرني، وأبادره} أي: كل واحد منهما يستعجل ليأخذ شيئاً من الماء وفي رواية النسائي: {حتى أقول: دع لي دع لي، ويقول: دعي لي دعي لي} ما كان يتوضأ بإناء يسع خمس قرب أو ست قرب، ولا كان يفتح الصنبور مدة ربع ساعة أو نصف ساعة صلى الله عليه وسلم.
3- هدي النبي في الطهارة:
ثم هديه صلى الله عليه وسلم في الوضوء: كان يتوضأ مرة، مرة، ومرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً، كما في الصحيحين لا يزيد على ذلك، وسبق قبل قليل الحديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم: {توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وقال: هذا الوضوء فمن زاد فقد أساء، وتعدى وظلم} ثم انظر إلى هديه صلى الله عليه وسلم في النجاسات في الثياب وغيرها، كان يحمل الصبيان والغلمان فربما بال أحدهم على ثوبه صلى الله عليه وسلم، فلا يصنع عليه الصلاة والسلام أكثر من أن يدعو بماء فيرشه وينضحه بالنسبة للصبيان، كما في الصحيحين من حديث أم قيس بنت محصن ومن حديث عائشة في صحيح البخاري، وأحاديث كثيرة ربما بلغت حد التواتر: {وهي أنه كان ينضح ما يصيبه من بول الصبيان} وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع زوجاته، وربما أصاب ثوبه شيء من دم الحيض فيكتفي بأن يغسل موضع الدم ثم يصلي به صلى الله عليه وسلم، وربما أصاب ثوبه شيء من منيه عليه الصلاة والسلام، فاكتفى بأن يفركه، أو تفركه إحدى زوجاته إن كان يابساً، أو تميطه بخرقة، أو أذخرةٍ، أو تغسله إن كان رطباً.
وفي صحيح ابن خزيمة وسنن البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم: {صلى والمني في ثوبه، فكانت
ثم تأمل هديه صلى الله عليه وسلم في هذا تجد أنه أكمل الهدي، وأسلمه، وأبعده عن التعمق، والتكلف وأخذ هذا عنه أصحابه رضي الله عنهم، فما كانوا يقبلون غير ذلك، وكذلك أخذه عنه من بعدهم، فكان التابعون يتوضئون بالماء اليسير، حتى أن منهم من توضأ بنصف المد، ومنهم من توضأ بربعه، وهذا كما يقول ابن قدامة مبالغة شديدة، ومنهم من توضأ فلا يبل وضوءه الأرض، وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يقول: من فقه الرجل قلة وضوئه بالماء، وقال المغوزي: أردت أن أوضئ الإمام أحمد وأنا في العسكر، فسترته من الناس لئلا يراه العوام فيظنون أنه لا يحسن الوضوء لقلة استعماله للماء.
انظروا إلى هديه صلى الله عليه وسلم في انتقاض الوضوء الذي ابتلى كثير من الموسوسين بأنه قد يكون خرج منه شيء، فيعيد الوضوء مرات -كما سبق- ويتنطع، ويذهب لينظر في ذكره وما أشبه ذلك، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين في حديث عبد الله بن زيد: {شُكِي إليه الرجل يجد الشيء في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً} وفي حديث أبي هريرة بنحو ذلك.
إذاً: الطهارة أصل، والحدث طارئ عليها مشكوك فيه فلا ينصرف حتى يقطع بأن حدثه قد انتقض، ولا ينبغي أن يشغل نفسه بالتفكير والنظر هل خرج منه شيء أو لم يخرج، لكن إذا علم ذلك بصوت أو ريح أو ما أشبههما من الوسائل اليقينية القاطعة فحينئذٍ يتوضأ، أما تكرير الوضوء وإعادته وتكريره وكثرة العرك، والفرك فهذه من مخالفة هدي طائفة السلف رضي الله عنهم.
4- هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة:
كذلك هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة وعدم الوسوسة أو كثرة التكرير أو الشك فيها كما يفعل كثير من الموسوسين في التكبير، ثم في أفعال الصلاة ربما زاد وربما نقص، وربما أعاد وربما لا يكاد يصلي أحد منهم إلا ويسجد للسهو، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان بعيداً عن هذا كله مع استحضار قلبه للصلاة وخشوعه فيها، وكمال ذكره، قل ما يسهو، وربما سها فنبه إلى ذلك كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين فاستقبل القبلة فصلى ركعتين ثم سجد للسهو صلى الله عليه وسلم، وكان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص، وهي بنت بنته صلى الله عليه وسلم فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها وهذا أيضاً في الصحيحين، وربما صلى صلى الله عليه وسلم وبجواره الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره عليه الصلاة والسلام، فتأخر في السجود حتى ينـزل، فيسأله الصحابة فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أعجله).
لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهيج هذا الصبي الصغير حتى يقضي وطره من ركوبه على ظهر هذا النبي المصطفى المختار عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في هذا عدة أحاديث قوية.
انظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم في سائر العبادات تجده بعيداً عن هذا التكلف والتنطع الذي يعانيه الموسوسون، فعليك أن تدرك أن هذا هديه صلى الله عليه وسلم وأنه لا يسعك إلا هذا، ومن أراد أن يكون من أتباعه عليه الصلاة والسلام فليتعلم هذا الهدي وليلتزم به وإن ضاق صدره، وإن خالف الشيطان وإن خالف العادة، وإن خالف المألوف والمعتاد عليه من ذلك، فلا بد لعلاج هذا الأمر من شيء من التعب والمجاهدة.
ومن العلم: المعرفة بالوسواس، وأسبابه ودوافعه، وكيفية التغلب عليه ولذلك أشير إلى بعض الكتب والمواضع، التي تكلم فيها أئمة الإسلام عن الوسواس وأسبابه وكيفية دفعه وعلاجه، فمن ذلك ما كتبه الإمام، إمام الحرمين أبو محمد الجويني، في كتابه الذي سماه: التبصرة في الوسوسة، ولا أظن هذا الكتاب مطبوعاً، ولكن نقل كثير من مقاصده الإمام النووي في كتابه المسمى بـالمجموع شرح المهذب، نقلها في المواضع المختلفة بحسبها في باب الوضوء وفي باب الصلاة، وفي غيرها، ومن ذلك ما كتبه الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين، في الجزء الثالث المتعلق بربع المهلكات، حيث تكلم عن الوسوسة ومداخلها وقال: إن مد الله في الأجل، ونسأ في العمر كتبت كتاباً خاصاً عن تلبيس إبليس، ولكنه لم يكتب في ذلك كتاب خاصاً فيما أعلم، فلذلك كتب الإمام ابن الجوزي وهذا من المصادر المهمة في معرفة الوسواس ودفعه، فكتب كتابه القيم الذي سماه "تلبيس إبليس" وهو كتاب مطبوع، ومن ضمن ما تحدث فيه عن الوسوسة في الطهارة، والوسوسة في العبادة والصلاة وفي المعاملات وفي غيرها.
ومن الكتب المفيدة جداً في ذلك ما كتبه الإمام ابن القيم في كتابه إغاثة اللهفان من مكايد الشيطان، في مطلع الجزء الأول حيث تكلم عن مدخل الشيطان على بني آدم بالوسوسة، ونقل عن أبي محمد المقدسي في ذلك فصولاً، وكتب فيه كتابةً لا يكاد يكون غيره من العلماء كتب مثلها، فأنصح إخوتي وأخواتي من المؤمنين والمؤمنات بقراءة هذا الفصل، خاصة مرة ومرتين وتكراره، حتى يرسخ في قلب الإنسان، ويكون له بصيرة، ونوراً في دفع هذا الوسواس.
فإذا قويت إرادة الإنسان بالاستعاذة بالله عز وجل وصدق العبادة، وصدق التوكل، مع استجماع قوته، ومع معرفة ما هو مبتلى به، فإنه يستطيع أن يتغلب على ذلك، لأن الشيطان حينئذٍ يأتيه بعد أن ينتهي من الوضوء، فيقول: مسكين! أين أنت ما توضأت الآن، هذا الوضوء لا تقبل صلاتك به، وربما تصلي على غير وضوء فتكون كافراً لأن أهل العلم يقولون: من صلى على غير طهارة فهو مستهزئ، والمستهزئ كافر، وأنت سمعت الشيخ فلان يقرر هذا الكلام، مسكين!
ولا يزال الشيطان يثكله في الغالب، حتى يقول إنك ضائع، ولا يغرك فلان وفلان، فعليك أن تعيد الوضوء، فينخدع المسكين، ويعود يرتكس في الحمأة من جديد، فيحتاج إلى أن يكون عنده قوة عزيمة أن يقول للشيطان: رغم أنفك، كما علمنا الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره: {أن الشيطان إذا جاء إلى أحدكم فقال: إنك أحدثت، فليقل له كذبت} زاد ابن حبان في صحيحه {فليقل له في نفسه: كذبت}.
لكن بعض الموسوسين -أيضاً- يقول بصوت مرتفع كذبت، وبعد أن يقول: كذبت يذهب يعيد الوضوء، فما نفعه قوله: كذبت، إلا أنه زاده والعياذ بالله بلاءً على بلائه، إذاً يحتاج الموسوس إلى أن يستجمع قوته وإرادته، وأن يتغلب على هذا الشيء الذي لابس قلبه، مهما أصابه من الهم والحزن، إذ يقول له الشيطان يوماً، ويومين، وثلاثة: إنك على غير سبيل، وعلى غير جادة، ويمكن أن تموت وأنت على هذه الحال، هذا الكلام قد لا يفقهه إلا الموسوسون الذين يشعرون فعلاً بأن الشيطان ربما أكثر ما يأتيهم من هذا الباب، فإذا حاولوا أن يطبقوا ما يسمعون من النصائح، أحبط الشيطان هذه المحاولة بهذا الأسلوب.
فتحتاج أيها الموسوس، إلى أن تمتلك قوة في عزيمتك، وقوة في إرادتك، وقوة في معرفتك تجعلك لا تلتفت إطلاقاً إلى هذا الإيراد الشيطاني، وصلّ صلاةً معتدلة، وتوضأ وضوءاً معتدلاً، ولا تُعِد الوضوء، ولا تعد الصلاة مهما جاءك من الإرادات، ومهما أصابك من الهم والحزن، ومهما أجلب عليك الشيطان بخيله ورجله، واستمر على ذلك أياماً، ومن المؤكد الملزوم به المجرب، ولعلي أقول لكم إني أعرف عدداً من الإخوة الذين جربوا هذا الأمر، فوجدوه رأي العين، بل وجدوه في أنفسهم، فإن الإنسان إذا أصر وتحدى هذا الكيد الشيطاني، واستمر على ما هو عليه من المجاهدة، ولم يلتفت ولا يعيد الوضوء، ولا يغسل العضو أكثر من ثلاث مرات، ولا يعيد الصلاة، ولا يرفع صوته فيها، ولا يسجد للسهو، أنه لا يكاد يمر عليه أسبوع، أو عشرة أيام على أكثر تقدير، إلا ويخرج من هذا كأنه لم يصبه، وهذا أمر مجرب ومؤكد لا يشك فيه أحد إلا جاهل.
والفيصل في ذلك أن يقال لكل موسوس: جرب هذا الأمر، أنت مبتلى بالوسواس ربما من سنة أو سنتين، ما تركت عالماً، ولا طبيباً نفسياً، ولا طالب علم، ولا إمام مسجد، ولا جاهلاً، ولا عامياً، ولا قريباً، ولا بعيداً؛ إلا وسألته وأشغلته بالليل والنهار.
ومن بلايا الموسوسين -أجارنا الله وإياكم- أنهم ما أكثر تكرارهم للكلام، بدئه وإعادته، يأتيك الصباح، ويأتيك الظهر، ويأتيك في المساء، ثلاث مرات صباحاً، وظهراً، ومساءً، وربما أزعجك من نومك، وربما أوقفك في الشارع وأنت في عملك، وربما كتب لك الكتابات، وربما أشغلك بالهاتف، يقال له: أنت ما تركت أحداً إلا طرقت بابه، فجرب الآن مرة واحدة أن ترفض جميع ما أنت فيه من الشكوك ومن الإعادات، ومن التكرار ومن الوساوس، وافعل كما يفعل غيرك، ممن يلتزمون بالسنة، ولا تتنطع، وستجد أنك بعد أسبوع تخلصت من ذلك نهائياً، وجرب تجد.
لكن هذه التجربة مع أنها أسبوع، وربما المعافى -ولله الحمد عافانا الله وإياكم- يتصور أن أسبوعاً سهل، لكن -والله- إن تطبيق هذا الأمر يوماً واحداً، بل وقتاً أو وقتين على الموسوس، إنه عليه أثقل من أشياء كثيرة، ربما يكون أثقل عليه من أن ينقل جبلاً من مكانه، أثقل عليه من كل شئ، وربما يقول لك: سأفعل ونحن من أولاد اليوم، وأنا أعطيك وعداً، وبعضهم يقول: أتمنى أن أخرج الآن حتى أبدأ في التطبيق، فإذا خرج عاد كل شيء كما كان، لأن الشيطان قد تشرب قلبه ولابسه، ولأنه واهن الإرادة، ضعيف القوة، سرعان ما يخور.
فيا أيها الإخوة والأخوات: يا من ابتلوا بالوسوسة، اتقوا الله في أنفسكم، واتقوا الله في دينكم، واتقوا الله في إخوانكم، واعلموا أنه لا هدي إلا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا دين إلا دينه، ولا شرع إلا شرعه، ولو أنفق أحدكم عمر نوح ليبحث عن حديث واحد صحيح، أو حسن، أو ضعيف، أو موضوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم شك في وضوء فأعاده، أو شك في صلاة، فأعادها، أو وسوس في أمر من هذه الأمور، أو ترك ماءً للشك، أو أعاد صلاةً للشك، أو خلع ثوباً للشك، لو أنفق عمر نوح ما وجد شيئاً واحداً عن النبي صلى الله عليه وسلم يسنده في ذلك، ولا عن أصحابه، والمؤمنون يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره لقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11] قال: أما المؤمنون فإنهم لا يبتدعون، ولا يحدثون أشياء من عندهم، بل يقولون: لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: لو كان هذا الفعل خيراً لسبقنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والتابعون لهم بإحسان، فاسلك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتجنب الجواد، والطرق التي على كل جادة، منها شيطان يدعوك إليه ويزينه لك، ويغريك به، ويصور لك أن هذا هو طريق الجنة، ولا يلتبس عليك الحق بالباطل، فإن الحجة قائمة، والدين محفوظ: فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا [يونس:108] ولا يجوز لمؤمن أن يبغض إلى نفسه عبادة الله تعالى ولا يبغض ذلك إلى غيره، ولا أن يفتح ثغرة لأعداء الإسلام، ليطعنوا منها في المؤمنين، ولا أن يفتح ثغرة للجهلة ليسخروا منه ويغتابوه، ويقعوا في عرضه.
حماني الله وإياكم من كيد الشيطان ووسواسه، وثبتني وإياكم بقوله الثابت، وبصرني وإياكم بمواطن الضعف في نفوسنا، ورزقني وإياكم قوة التوكل عليه، والإنابة إليه، وصدق اللجوء، والانطراح بين يديه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الجواب: الواقع أن الله عز وجل ذكر لنا إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِين * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّون َ المطففين:29-32] فليس من الغريب أن يُسخَر من المؤمن، لأنه أعفى لحيته، أو لأنه مقصر ثوبه، أو يبكر إلى المسجد، أو يكثر من تلاوة القرآن، أو طلب العلم، أو يتجنب أكل الربا والحرام، أو لا يدخل أجهزة الهدم والدمار والتخريب إلى بيته.
ليس غريباً أن يُسخر منه لأن الله جل وعلا أخبرنا أن هذا سنجده في الطريق، بل الغريب لو لم يقع هذا، بل لا يمكن أن لا يقع هذا، كيف لا يقع والله سبحانه أخبرنا أنه سيقع؟! لكن المؤمن يصبر، ويدرك أنه إذا كان الله معه فلا يضيره أن يعاديه الناس، وإذا كان واثقاً من طريقه فما يبالي أن يسخر منه التائهون، ولك أسوة وقدوة بنوح عليه الصلاة والسلام، قال الله فيه: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ [هود:38] سخروا سخرية الجاهل، يا نوح أتصنع السفينة وأنت في بر أين عقلك؟ سخروا منه: قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ [هود:39] تسخرون بالباطل ونسخر منكم بالحق.
الجواب: أولاً الحيض أمر طبيعي ليس فيه عيب أو عار، وكل بنات آدم كتب الله عليهن هذا الأمر، وليس هناك مجال حتى تكتمه المرأة أو تستره، ولا يجوز بحال من الأحوال لغير متوضئ أن يصلي، لكن ننتبه، لا يأتي أحد الموسوسين إلى هذه الفتيا فيجريها لصالحه -كما أشرت قبل قليل- فإذا توضأ مرتين، أو ثلاثاً، أو عشر مرات، وجلس ساعتين، أو ثلاث ساعات في الخلاء، ثم خرج، وقال: والله يمكن إني نسيت أن أمسح رأسي، فإذا كبر تسلط عليه الشيطان، وقال أنت تصلي بدون وضوء، وأنت سمعت فلاناً يقول: إنه لا تجوز الصلاة بدون وضوء، أو أن الصلاة بدون وضوء قد تكون سخرية واستهزاء، لا،امرأة حائض لا يجوز أن تصلي، ورجل يعلم من نفسه أنه غير متوضئ لا يجوز أن يصلي، لكن الموسوس إذا توضأ وغسل أعضاءه ولو مرة واحدة يصلي ولا شيء في ذلك.
الجواب: إذا كان لمجرد التلذذ بالماء لبرودته -مثلاً- أو لسخونته في وقت الشتاء أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يعد من الوسواس ولكنه يعد من الإسراف، وقبل قليل سمعتم ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: {أنه كان يتوضأ بمد، ويغتسل بصاع} وحديث عائشة في صحيح مسلم {أنها كانت تغتسل هي ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء يسع ثلاثة أمداد} وفي حديث سعد عند أحمد {لا تسرف} قال: أو في الماء إسراف يا رسول الله؟ قال: نعم ولو كنت على نهر جار}.
الجواب: ذكرت بعض الكتب سابقاً، وعلى من ابتلي بهذا مع قراءة الكتب أن يتصل بأحد المشايخ أو غيرهم، ويعرض عليه حاله، لكن يحذر من أن يكون ممن يسمع بأذن، ويخرج ما يسمع من الأذن الأخرى إما أن يكون رجلاً يسمع ويطيع، وينفذ، وإما أن يجلس في حاله، ولا يشغل الناس فيما هو فيه.
الجواب: إذا كانت الوسوسة في هذا الأمر فقط، فهذه ليست وسوسة، هذا شك أو جهل بالحكم الشرعي، أما إن كانت وسوسة عامة في أمور كثيرة، فالكلام السابق كله يتعلق بالوسواس، أما فيما يتعلق بهذا الأمر فلا تعطه قيمة هذا الشيء المحرم الذي اشتريته منه، لكن أنصحك بأن تتصدق بقيمته في سبيل الله.
الجواب: إذا كان ذلك من باب الوسوسة فسبق الجواب.
إما إن كان فعلاً عنده شيء من السلس، ويحس بعدم خروج هذه القطرات، فإن كان يكفي أن ينتظر دقيقتين أو ثلاث دقائق حتى تخرج ثم يتوضأ فحسن وإن كان سلساً مستمراً معه فحكم السلس معروف، وهو أنه يتحفظ بما يمنع وصول النجاسة إلى المسجد أو غيره، ثم يتوضأ إذا دخل وقت الصلاة ويصلي، كما في أحاديث المستحاضة، وهي أحاديث في الصحيحين وغيرها، أنها تتوضأ لكل صلاة، وتصلي، وهكذا من به حدث دائم كالسلس.
وكذلك أرشد الأخ إلى أنه بعد أن ينتهي من الوضوء، عليه أن ينضح فرجه، وسراويله بشيء من الماء، وقد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه كان إذا توضأ نضح فرجه} وكذلك ورد عن الصحابة، والتابعين، وكثير من السلف، كان إذا توضأ نضح فرجه، حتى إذا وسوس له الشيطان بوجود رطوبة، قال: هذا من الماء الذي نضحت به فرجي، أو سراويلي.
الجواب: أما كون الإنسان دائماً يتطلع إلى الأفضل، فهذا خير ومطلوب، والعبد لا يزال في جهاد حتى يموت، ولا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه بلغ الكمال، فإن اعتقد أنه بلغ الكمال، فإنه من نقصه، أما إن كان يحس بأن هذا شعور غير طبيعي، وكلما عمل عملاً يحصل عنده تردد، وتذبذب، وشك، ووسوسة، فعليه أن يعمل، ويتوكل على الله عز وجل ولا يلتفت إلى هذا الشعور.
الجواب: هذا من الأشياء التي يدخل منها الشيطان على الإنسان، تشكيكه في النية، والنية ظاهرة أحياناً، فالإنسان يعرف نيته في كثير من الأشياء، أرأيت فيما يتعلق بالوضوء؟ إذا أحضر إنسان ماءً ودخل دورة المياه، وأغلق الباب، ماذا يريد؟ أيريد أن ينام؟! يريد أن يتوضأ ثم يخرج ليصلي؟
وإذا جاء إنسان إلى المسجد، وجلس خلف الإمام ينتظر إقامة الصلاة، لماذا يجلس؟ ماذا ينتظر؟ كل الناس يعرفون أنه جالس للصلاة، هذه قضية معروفة، والشك في النية من أعظم الأدلة على الخبل في عقل الموسوس، لأن الناس يعرفون نيتك في مثل هذه الأمور من آثارها، فكيف لا تعرف نيتك وقصدك؟! ولا داعي للتنطع، ولو كلف الإنسان أن يدفع النية عن قلبه لما استطاع، لا يستطيع الإنسان أن يعمل عملاً بدون نية، ولا يتنطع في إحضار النية، لأن النية مجرد هذا القصد الموجود في قلبك.
الأعمال الأخرى: إذا كان أصل قصد الإنسان فيها حسناً، أو دافعه ليس بسيئ، لم يكن عمل هذا العمل من أجل أن يمدح، ولا من أجل نيل أمر من أمور الدنيا، فعليه أن يستمر في هذا العمل، ويحرص على إخلاص النية، ولا يجعل مدخلاً للشيطان أنه قد يترك أعمالاً طيبة، لأن الشيطان شككه بأن قصده ليس بحسن.
اعمل هذا العمل من خدمة زملائك، أو طلب العلم، أو الدعوة إلى الله، أو التعليم، وإن كنت تحس أن نيتك ليست تامة، فليس الحل هو أن تترك هذا العمل، الحل أن تستمر في هذا العمل، وترغم أنف الشيطان، وتجاهد نفسك في إصلاح نيتك.
الجواب: العلاج سبق، ولو صح أنه عاجز فعلاً، فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، لكن غير صحيح أنه عاجز، كيف يكون عاجزاً؟ وهو رجل مستطيع قادر، فلا يمكن أن يقال: إنه عاجز، وهذا يذكرني بالسؤال الطريف الذي سأله أحدهم الإمام أبا محمد المقدسي، قال له يا أبا محمد! إنني عجزت أن أقول السلام عليكم، إذا أردت أن أسلم للصلاة لا أستطيع أن أقول السلام عليكم ورحمة الله، فضحك الإمام أبو محمد، وقال: قل مثلما قلت الآن! فما بالك إذا كنت تتحدث مع الناس تقولها بهدوء، فإذا جاء وقت الصلاة أصابك ما قرب وما بعد، أنت الآن تقول: إنك لا تستطيع أن تغسل أعضاءك بسهولة، لو كنت تريد أن تغسلها غسلاً عادياً لغير الوضوء لغسلتها بكل يسر، فلم إذا جاء غسلها من أجل الوضوء أصابك هذا! لا، أنت تستطيع ولست بعاجز.
الجواب: كل أمر إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، أحد الشباب كان يقول: أصابه الخوف والذعر من الموت، وبدأ يوسوس في الموت ليل نهار، وتعدى الأمر إلى وساوس كثيرة جداً في الوضوء، والطهارة، والصلاة، لكن بلغ الأمر - والعياذ بالله- إلى أنه يتجنب المرور في الشوارع القريبة من المقابر وهي في طريق عمله، فيذهب في طريق بعيد لئلا يمر بهذا، لأنه يصيبه ما يصيبه.
وإذا رأى الناس في المسجد أصابه ما أصابه، هذا من ضعف النفس من خور القلب، وقلة الإيمان، فعلى الإنسان أن يحرص أن يملأ قلبه بالمادة الصالحة، كل هذه الأسئلة الإجابة عنها أن تملأ قلبك بالمواد الصالحة: بحفظ القرآن، بطلب العلم النافع، بالدعوة إلى الله، بكثرة التسبيح والتهليل، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينئذٍ تنطرد جميع المواد الخبيثة، ويقول بعضها لبعض لا مقام لكم فارجعوا، فتخرج من قلبك، أما إذا خلا القلب فإن الشياطين تتلاعب وتتراكض كما تتراكض الذئاب في الصحراء الخالية.
الجواب: موضوع طرد الوسواس واستحضار النية، باختصار شديد: سبب الانشغال في الصلاة بالخواطر، والواردات، إما أن يكون سبباً خارجياً، مثل أن يكون الجو الذي فيه الإنسان، أو المسجد فيه ما يشغل الإنسان من صوت، أو صورة، أو ما أشبه ذلك، فعلى الإنسان أن يحرص على دفع هذا الأمر، وإبعاده عنه، وإما أن يكون سبباً داخلياً، وهو أن يكون قلب المصلي مشغولاً بدنيا، بطلب تجارة، برئاسة، بشيء من هذه الأشياء، وهذا هو الأمر الذي يحتاج إلى مجاهدة شديدة في علاجه.
فعلى الإنسان أن يجعل حياته في طاعة الله، وألاَّ يشغل دنياه إلا في مرضاة الله، وحتى ما يشتغل به من أمور الدنيا لا يكثر منه ويشغل قلبه به، أما إذا أشغل قلبه به، فليبشر أنه إذا صف في الصلاة فإن هذه الواردات ستخطر على قلبه، وإذا كان سبق معكم قبل قليل من أسباب دفع الوسواس، الانطراح، والدعاء وذكر الله عز وجل فما بالكم حين يكون هذا السبب لدفع الوسواس هو نفسه قد وسوس فيه الشيطان، حتى إن كثيراً من الناس لا ترد عليه الخواطر، والواردات إلا إذا بدأ يصلي.
وكلكم تعرفون قصة الرجل الذي جاء إلى أبي حنيفة، فقال: إنه فقد مبلغاً من المال ونسي، لا يدري أين وضعه فقال له: اذهب وصلّ عشر ركعات، فصلى هذا الرجل ركعتين، ثم جاء لـأبي حنيفة وقال: جزاك الله خيراً قد تذكرت أين هو، قال أبو حنيفة: إن الشيطان لما رأى أنك تريد أن تصلي عشر ركعات، قطع عليك الطريق وأخبرك أين هو، حتى لا تكمل هذه الركعات العشر التي نويت أن تصليها، فالشيطان يحول بين الإنسان وصلاته، كما في حديث أبي هريرة في الصحيح.
فعلى الإنسان أن يستحضر معنى ما يقرأ من الأذكار والأدعية، يبكر إلى الصلاة، ويقرأ ما تيسر من القرآن، ويتنفل، ويخبت لله عز وجل ولا يكثر الحركة، ومهما تذكر أنه في صلاة فيحرص على استحضار النية، واستحضار الخشوع.
أحياناً قد لا تذكر أنك في صلاة إلا وأنت في التشهد الأخير، وأنت تقول: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، تذكرت أنك في صلاة، فتقول: هل فاتت علي هذه؟ لا، ما فاتت بقي عليك هذا الدعاء الأخير، حاول أن تستذكر معناه، وتسأل الله بقلب صادق، وبالمجاهدة، فالدنيا ميدان جهاد.
الجواب: هذا الكلام أظن أنه بنصه بنصها من كلام الإمام الجويني، وفيما يبدو لي أنه وجيه، أن العقل غريزة، بمعنى أنه مغروز، لأن أصل كلمة غريزة في اللغة، أي أنها شيء مغروز، أو مغروس، أو مخلوق مع الإنسان، وليس من كسبه هو.
الجواب: نعم، هذه من الوساوس، وهو أن الشيطان يلبس على الإنسان ويقول له: قد تكون مرائياً، حتى يترك العمل، وكونك تركت العمل دليل أنك لست مرائياً، لأنك لو كنت مرائياً لاستمررت على العمل، فكونك تركته خشية الرياء دليل على أنك تحاذر الرياء، فالشيطان له مداخله العظيمة، قد يدخل من الأبواب التي يخيل إليك أنك تتقي الشيطان فيها، فإذا وسوس لك الشيطان في عمل بأنك تقصد غير وجه الله بهذا العمل، وبدأت نفسك تقول: أترك هذا العمل، فالذي أنصحك به وغيرك، أقول: اعمل هذا العمل وزد عليه وأرغم أنف الشيطان.
الجواب: هذا من الوسواس، وهو معروف عند العلماء يسمونه -كما أسلفت قبل قليل- بالشك الديني، والواقع أنه وسوسة تصيب كثيراً من الشباب في هذه المرحلة، حتى إن منهم من يوسوس في البديهيات، أحد الشباب يوسوس يقول: ما هو الدليل على أنه كان هناك رسول موجود؟! ما هو الدليل على أنه كان هناك خلفاء راشدون؟! ما هو الدليل على وجود الدولة الأموية؟! ودولة أخرى تسمى الدولة العباسية؟! ودولة ثالثة تسمى دولة العثمانيين؟! ما هو الدليل على ذلك؟!
أقول: ما هو الدليل إذاً على وجود دول في أوروبا وأمريكا؟! ما هو الدليل على وجود عقلك أيها السائل؟!!
يشكك الإنسان، ثم إن هذا الإنسان جاء يوماً من الأيام فرحاً مسروراً، وكأنه قد اكتشف أمراً عظيماً، ماذا اكتشف؟! وجد أن هناك درهماً أو ديناراً مضروباً في عهد عبد الملك بن مروان، فقال: إنه اكتشف الآن أنه موجود أي عبد الملك بن مروان، لماذا هو موجود؟! قال: لأن اسمه مضروب على هذه السكة. فتح الله عليك!!
هذه الدنيا كلها، وهذه الكتب، والناس كلهم، مسلمهم، وكافرهم، عربهم، وعجمهم، ذكرهم، وأنثاهم، عالمهم، وجاهلهم، يعرفون هذه الحقائق، فوجود الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يشكك فيه ولا اليهود، ولا النصارى، ولا البوذيون، ولا الوثنيون، ولا غيرهم.
قد يكفرون به عليه الصلاة والسلام، لكن جميع هذه الطوائف لا يشككون في وجوده عليه الصلاة والسلام، فهذا نوع من الخفة تصيب عقل الإنسان، قد يكون سببها أحياناً فترة المراهقة، والشيء الخطير جداً هو إنصات الإنسان لهذا الشيء، وكثرت اهتمامه به، واكتراثه له، وتفكيره فيه، ولذلك النصيحة الذهبية التي تُهدى لكل شباب مبتلى بهذا الأمر، أن يقال له: اشتغل بأمورك، وأمض في سبيلك، في دراستك، وصداقتك مع زملائك، وأعمالك في البيت، وما أنت بشأنه، ولا تكترث لهذه الأشياء، لا تكترث لها، وكل ما يخطر في بالك فادفعه ولا تبالي به.
وإن كان في شأن الله عز وجل فتذكر النصيحة التي أثبتها بعض العلماء كـالغزالي رحمه الله وغيره: كل ما خطر ببالك فالله ليس كذلك، أيّ صورة يصورها لك الشيطان عن الله عز وجل فيها نقص فلا تكترث؛ لأن هذا ليس هو الله عز وجل والله لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به العقول، فلا تبال بذلك، ولا تكترث، ولا تضق به ذرعاً، لأن الشيطان يريد أن يحزن الذين آمنوا.
الجواب: بعض الفقهاء ذكروا أنه يسلت ذكره، وقد ورد في ذلك حديث عند ابن ماجة لكنه لا يصح، وقد أنكره شيخ الإسلام ابن تيمية، أنكر السلت، والنتر، وراجعه ابن القيم في ذلك مراراً، فقال: لا يفعل ونهاه عن ذلك، وقال-كما سبق-: إن البول إذا استدعي در، وإذا ترك قر، فإذا كان الإنسان جرب عملياً، أنه بعدما يتبول ينتظر بعد ذلك دقيقة أو نحو ذلك، ثم يخرج قطرة أو قطرتين عادة، وأنه لو توضأ وقام خرجت منه فعلاً وقطعاً بلا شك ينتظر حتى تخرج منه، لكن أقول التحفظ السابق، هذا الكلام قد يستغله بعض المصابين بالوسواس.
الجواب: التوجيه بما سبق، وامرأة في هذا السن، ولا زالت على الوسواس الأمر فيه صعوبة، ولكن على الأخ ألاَّ ييئس وأن يستمر شيئاً فشيئاً، ويذكرها بالله، ويسمعها كلام أهل العلم في ذلك، ويقرأ عليها الأحاديث، ويعلمها بعض الأحكام التي قد تجهلها، وإن كانت تنسى أو غير ذلك، فيعيد عليها هذا الأمر مرة بعد أخرى، لعل الله أن يعينها على ما هي فيه.
الجواب: "العمر سريع التقضي، أبي التأني، بطيء الرجوع" كما يقول شيخ الإسلام الهروي في منازل السائرين، ولذلك على الإنسان أن يغتنم ساعات العمر، والأيام، والليالي، فأفٍ وتف، ثم أفٍ وتف، لعمر يضيع في لهو، ولعب، وهو الفرصة الوحيدة لي ولكم أن نقدم لأخرانا ما استطعنا من الأعمال الصالحة.
فالإنسان الشاب عليه أن يتدارك عمره في طلب العلم النافع، وصحبة الأخيار، وحضور مجالس الذكر، وحفظ القرآن، وتدريسه، وأن يعمل بما علم، ويعلّم غيره، فإن زكاة العلم العمل والتعليم، وأنا أعتذر إليكم عن هذه الإطالة.
ونسأل الله أن يجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاه، وآخر كلامنا من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وجزاكم الله خيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر