بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [وعن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرايا أن تبيع بخرصها كيلاً) متفق عليه، ولـمسلم : (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً].
(رخص) يعني: أعطى رخصة في شيء ممنوع.
(رخص في العرايا أن تباع) (أن) تفسيرية، تفسر معنى العرايا التي رخص فيها رسول الله.
(أن تباع -النخلة أو النخلات- بخرصها تمراً)، تباع ثمرة النخلة والنخلتين وهي رطب بخرصها تمراً، وصورة بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصها تمراً كيلاً معلوماً تقدم لنا في المزابنة، والمزابنة: هي بيع الرطب على رءوس النخيل بخرصه تمراً مكيلاً.
مثلاً: هذا البستان فيه مائة نخلة، فتعطيه خمسين وسقاً من التمر الآن، ويدع لك النخل، لكن عندما تأخذ رطباً، وتجفف التمر، تحصل على خمسين أو أربعين أو ستين، هذا ممنوع، وهو من المزابنة.
(رخص في العرايا) ما هي العرية؟ سيأتي بعد البيان الإجمالي (بخرصها تمراً) حالاً، ويدفع التمر لصاحب النخل، وكيف رخص في هذا وهي مزابنة؟ قال: لكي يأكلها المشتري رطباً لا أن يجففها، وموجب الترخيص فيها الرفق بالمسلمين، وهي: أن يأتي إنسان لصاحب بستان يأكل الرطب، وجيرانه ليس لديهم المال ليشتروا نخلة أو نخلتين، ويجوز أن تشتري ثمرة هذه النخلة من رطب بمبلغ كذا نقداً، تسلمه الآن أو لاحقاً، لا مانع، مثل الذين يشترون الثمر كله ويتولون أمره، ينزلون منه رطب، يجففون منه، هذا بيع وشراء طبيعي، لكن جيران البستان ليس عندهم نقد يشترون رطباً يتفكهون به كما يتفكه الناس، وعندهم تمر، جاءهم زكاة من فاعل خير، إذاً الناس يأكلون رطباً جنياً وهؤلاء يأكلون تمراً جافاً من العام الماضي، قالوا: نريد أن نأكل رطباً نحن أيضاً، فهؤلاء الناس الذين لا يستطيعون شراء رطب النخلة نقداً وعندهم تمر، رخص لهم صلى الله عليه وسلم أن يشتروا ذلك عرية، وسميت النخلة التي يباع رطبها بالتمر خرصاً عرية .. ليست عارية، بل عرية من عريانة؛ لأن العارية من الاستعارة ويستعير، لكن عرية عريانة عن ماذا؟ عن حكم المزابنة بمقتضى الرخصة، فخرجت عن حدود المزابنة، لماذا؟ لخصوص هؤلاء الناس ليتمكنوا من مشاركة أصحاب البساتين والنقود من أن يأكلوا رطباً مع الناس.
وهنا أحكام عديدة؛ من أهم تلك الأحكام في رخصة العرية: أن تكون في حدود التفكه، هل يجوز أن يشترى البستان كاملاً بخرصه تمراً ويقال: عرية أتفكه؟ هل كامل البستان للتفكه أو للتجارة؟ للتجارة، إذاً: في حدود التفكه.
إنسان عنده أسرة من شخصين أو ثلاثة أو أربعة هؤلاء يكفيهم نخلة .. نخلتين، فيأخذ بقدر ما يكفيه للتفكه.
فإذا اشترى على قدر ما يحتاج بتقديره، وبعد أن اشترى قال: ما لنا والرطب! دعنا نجففها وتصير تمراً لعلنا نحصل على أكثر مما دفعنا. هذا لا يجوز.
إذاً: الشرط الأول: أن يكون في حدود التفكه، الشرط الثاني: ألا يتعمد ترك الرطب على الشجر حتى يثمر؛ لأنه بهذا يكون قد باع تمراً بتمر مؤجلاً، ويكون قد استغنى عن الرطب، وما دام أنه استغنى عن الرطب فترجع العرية إلى المزابنة مرة أخرى، إذاً: رخص في بيع العرية.. والعرية هي: النخلة أو النخلات يشتريها صاحب العيال بخرص ما فيها من رطب تمراً يدفعه حالاً عند العقد ولا يؤجله.
ثم هو يباشر أخذ الرطب للأكل، وما سبقه عن الأكل وأتمر فلا بأس؛ لأنه لم يتعمد تركه حتى يجف ويصير تمراً.
وإذا زاد من رطبه ماذا يفعل في هذا الزائد هل يتركه على الشجر حتى يجف؟ لا، له أن يبيع أو أن يهدي؛ لأنه أخذ منه في حدود طاقته.
قال رحمه الله: [ ولـمسلم (رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً يأكلونها رطباً) ].
رخص أن يأخذها أهل البيت بخرصها تمراً، أي: يأكلها أهل البيت، إذاً العرية: هي بيع الرطب بخرصه تمراً، وهو عين المزابنة، لكن لما كانت للحاجة لأهل البيت لكي يأكلوا رطباً رخص في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هذا هو القيد، قلنا بأنه لا يحق أن يشتري ثمرة البستان كله عرية، ولكن يشتري نخلة أو نخلتين في حدود ما يخرج عن ظنية الاتجار، فما كان في حدود خمسة أوسق، والوسق ستون صاعاً، في حدود ثلاثمائة صاع، وقد تكون العائلة كبيرة وذات أرحام وأقارب، وقد يكونون مختصرين، لكن في مجال الخمسة أوسق، أما لو كان الرطب على النخل يخرص بستة أوسق فلا، هذه خرجت عن كونها عرية، هذا يريد أن يتاجر، إذاً: خمسة أوسق فأقل يجوز بيعها بخرصها رطباً يأكله أهل البيت، سواء زاد وأهدوا أو باعوا، أو جف عليهم وغلبهم.. اشتد الحر وسبق الصيف أوانه، أحياناً تأتي بعض السنوات في منتصف المدة، وتجد البستان بعد أن كان كله رطباً فإذا به في أسبوع واحد كله صار تمراً لشدة الحر.
إذاً: المقدار الذي يكون فيه الترخيص ببيع الرطب بخرصه تمراً إذا كان الخرص خمسة أوسق فأقل، هذا ما ذكره العلماء في التمر والرطب، وهل يقاس على ذلك الرخصة على العنب بالزبيب، والمشمش بالمجفف منه؟
بصفة عامة: الفواكه تجفف، التين يجفف، والعنب يجفف، والمشمش يجفف.
يهمنا: هل يقاس على الرطب والنخلة والتمر غيرها مما يشاكلها، وأهم ذلك العنب والتين أم أنها تقف عند المنصوص؟
يقول الأصوليون: الرخص لا تتعدى محلها؛ لأنها على خلاف الأصل وخلاف القاعدة، فيكون ما عداها محظوراً، ويكون ما عداها مغايراً لها.
إذاً: لا يقاس العنب بأن يخرص ويباع بخرصه زبيباً، ولا التين بخرصه تيناً مجففاً، فالعرية خاصة بالنخلة رطباً وتمراً، وما عدا ذلك لا يدخل في الرخصة.
وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل: وما زهوها؟ قال: تحمار وتصفار) متفق عليه، واللفظ للبخاري ].
هذا نوع من أنواع البيوع الممنوعة احتياطاً من الربا؛ ومن أكل المال بالباطل.
الثمار: جمع ثمرة، ويدخل في ذلك الرطب، العنب، التفاح، الخوخ، الرمان... كل ما يسمى ثمرة (حتى يبدو صلاحها) صلاحها في ماذا؟ في إمكانية أكلها عند متوسط الناس، لا عند الجائعين يأكلونها وهي خضراء، لكن متوسط الناس أصحاب الأذواق المعتدلة، فإذا بدا صلاح الثمرة جاز بيعها، وهل المراد بصلاح الثمرة كل حبة على حدة؟ قالوا: لا، بين صلى الله عليه وسلم ما هو صلاحها، قال: (أن تزهو)، فما زهوها؟ قال: (تحمار أو تصفار) ما الفرق بين: تحمار وتحمر؟ تفعال: تدل على الشروع في الشيء، والمضي فيه إلى النهاية، فمعنى (تحمار) بدأت مخايل الحمرة وإن لم تكتمل حمرة الثمرة كلها، بمجرد ابتداء اللون، أو الصفرة تميزت ثمرة هذه النخلة بالاحمرار، وثمرة تلك النخلة بالاصفرار ولو لم يكتمل الاحمرار في هذه، ولا الاصفرار في تلك.
وجاء في بعض الروايات عن العنب: (حتى يتموه حلواً)، يتموه موهاً من الماء، وأصل الماء: موهٌ، فإذا جرى الماء في العنب، بمعنى: العنب في أوله الحبة مثل قطعة لحم، فإذا بدأ في الصلاح بدأ الماء يجري داخل الحبة، ويتموه حلواً، وقد يتموه في بادئ أمره لكن على الحموضة، فحينئذ ما بدا صلاحها ولا تصلح للأكل، لكن إذا تموه وجرى فيه الماء، وكان الماء طعمه حلواً فيها فقد بدا صلاحها.
والعلة في هذا كله: ما جاء في الرواية: (حتى تؤمن العاهة)، أي: الآفة، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم)، أي: نجم الثريا، وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]، ذكر منكراً، ويفسره الجميع بأنه الثريا، أمنت العاهة على الثمار، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، وليس للثريا تأثير في الثمار، ولكن توقيت للفصول في السنة واختلاف الأجواء بما يناسب الزروع، وكل زرع له فصل معين يجود إن صادفه ويفشل إن لم يصادفه، قد يهيج ويخضر ولكن لا يثمر، وسمعت من الشيخ ابن صالح رحمة الله تعالى علينا وعليه يحكي عن شخص فلاح كبير السن، مر على جماعة يزرعون الدبا الحمراء -التي يقولون عنها: الشرقية- في الضحى، فقال: يا أولادي! لو صبرتم حتى تزول الشمس. قالوا: وما الفرق بين الآن وزوال الشمس إلا ساعة أو ساعتين. قال: لا، الشمس تنزل في برج كذا بعد زوال الشمس من هذا اليوم، وهو أول أوان زرع هذا النوع، فكأنهم شباب استخفوا بشيبته، قال: علموا ما زرعتموه قبل الزوال، وما زرعتموه بعد الزوال، فكانت النتيجة فارقاً بعيداً، فما زرعوه قبل الزوال ورقه كبير، وأخضر طويل، وثمرته قليلة، وما كان بعد الزوال الثمرة أكثر من الورق.
إذاً: هناك مواسم زراعية تتناسب مع الجو والهواء والحرارة والبرودة، وكلنا يعلم، والفلاح أعرف بهذا، هناك مزروعات صيفية ومزروعات شتوية، والآن جاءوا بالبيوت المحمية لإيجاد جو يتناسب طيلة السنة مع المزروعات، وأصبحت ترى مزروعات الصيف شتاءً، ومزروعات الشتاء صيفاً؛ لأن البيوت المحمية لا فرق فيها بين صيف وشتاء.
فقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى يطلع النجم)، (حتى تؤمن العاهة) ، (حتى يحمار أو يصفار) ، (حتى يزهو)، كل تلك أوصاف في الثمرة تدل على أنها تجاوزت مرحلة الإتلاف والآفة.
جاء في وضع الجوائح: بأنه إذا اشتراها بعد أن بدا صلاحها، ثم جاءت جائحة سماوية كبرد أسقط الثمرة -كما هو معروف عند أهل الزراعة آفة- وأتلفت الثمرة، ما حكم المشتري مع البائع؟ يرد الثمن، (علام يأكل أحدكم مال أخيه بغير حق) لأن الثمرة لا زالت في بستانك، فهي على حسابك.
يهمنا هنا: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة لتكون ثمرة. أما إذا بيعت لتكون علفاً أو غرضاً آخر، جاء إلى النخيل، والنخيل فيه أقنية بكثرة، فالبعض منها يزال تخفيفاً على النخل لتكون علفاً للدواب، فهل باعها على أن تكون ثمرة يبدو صلاحها؟ لا، ولا ينتظر بدو صلاحها، فهكذا إذا بيعت الثمرة لا لكونها ثمرة بل لغرض آخر فإن ذلك ليس فيه نهي، النهي عن بيع الثمرة لتبقى في مكانها في أصولها ثمرة يتم نضجها ويستوفيها المشتري، عندها لا يجوز عقد البيع حتى يبدو الصلاح.
بدو الصلاح يكون غالباً في البستان الواحد، وإذا كان هناك أصناف وأنواع فإنه يعم الأصناف، وحينئذ تباع الثمرة على بدو صلاحها بنقد لا من جنسها، وبعد ذلك له أكلها رطباً، أو باعها رطباً، أو جففها.. دخلت في ملكه فيصنع فيها ما بدا له.
تتمة لما تقدم: قال في حق النخيل: (حتى تحمار أو تصفار)، (تفعال)، هذه تدل على الشروع في الشيء والمضي فيه إلى الكمال، كما في قوله سبحانه: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ [الحجرات:14]، (ولما يدخل) يعني: يدخل ويستمر في دخوله إلى الكمال والتمام، فكذلك يحمار ويصفار، يعني: يبدأ اللون إلى أن يأتي في الكمال.
جاء في العنب: حتى يسود، وهل كل عنب سيسود؟ لا، هناك عنب أسود وأحمر وأبيض، وشريفي، وحجازي، ومصري، وبناتي... العنب كثير، لماذا أسود بالذات؟ الذي أصله أسود حتى يسود، ويسواد على وزن يحمار ويصفار، ولكن العنب الأبيض الذي ليس فيه سواد! هلا تذكرتم الأسودين، حتى يسواد يعني: يجري فيه اللون الأسود كناية عن الماء، (شهرين: هلال وهلال وهلال لم يوقد في بيت محمد صلى الله عليه وسلم ناراً. قال: فما كان طعامكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء) الماء إذا رأيته في مكان عميق رأيته أحمر أو أسود؛ لغزارة مائه، فيسود بمعنى يظهر فيه الماء، هو كان أخضر فيروزي، ثم لما وجد الماء فيه مال إلى السواد.
إذاً: حتى يسود بمعنى يجري فيه الماء، كما قال: (يتموه حلواً).
قال: [ (وعن بيع الحب حتى يشتد) ].
وكذلك بيع الحب في مزرعته، إنسان عنده عشرون فداناً، قمحاً، ثم جاء إنسان وقال: أريد أن أشتري منك مزرعتك هذه، فهل اشتراها ليحصدها علفاً، أو ليبقيها حتى يشتد الحب ويحصد ويذري؟ إن كان اشتراها لتكون علفاً فلا مانع، وإن كان اشترها ليبقيها في زرعها حتى يشتد الحب ويستحصد ويحصد ويدوس ويصفي ويأخذ حباً. لا يجوز البيع حتى يشتد الحب في سنبله؛ لأنها قبل اشتداد الحب أول ما تكون الحبة فارغة، ثم يجري فيها اللبن، سبحان الله! من أين جاء هذا اللبن؟ الأرض ليس فيها لبن، الماء ما فيه لبن، عود القمح ما فيه لبن، حينما ينعقد هذا اللبن داخل غلاف الحبة ويشتد، قبل الاشتداد يسمى فريكاً فتفرك السنبلة وتأكلها، حب أخضر. هذا لا يجوز، حتى يشتد وتريد أن تأكلها فصاحب الأسنان القوية هو الذي يستطيع أن يأكلها.
فإذا ما اشتد الحب في سنبله أمنت عليه الآفة، وإذا ما أردت أن تحصد فكيفما شئت، لكن لا يباع بقمح كيلاً، بل بالنقد، فإذا ما اشتراه نقداً بعد اشتداد حبه جاز، وقبل أن يشتد الحب لا يجوز بيعه.
وقلنا: إذا كان الشراء مراداً به التبقية حتى يحصد، أما إذا كان مراده بالشراء أخضر علف أو أي شيء آخر هذا ليس داخلاً في هذا.
يأتي المؤلف رحمه الله في نهاية باب البيوع بهذين الحديثين، الحديث الأول: (إذا باع أحدكم ثمراً لأخيه فأصابته جائحة؛ فلا يأخذ من ماله شيئاً)، وأمر صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح.
صورة هذا الحديث مما تقدم لنا في بيع الثمار وحدها دون الأصول: أنها لا تباع حتى يبدو صلاحها، وبدو الصلاح: هو أن يمكن لصاحب الذوق المعتدل أن يأكله، ثم بين صلى الله عليه وسلم نوع هذا الصلاح: بأن ثمر النخل.. تحمار أو يصفار، وفي العنب أن يتموه حلواً؛ فإذا حصلت تلك الصفات في الثمار جاز بيعها دون أصولها، كما هو المعروف عند أهل المدينة ببيع الصيف، يعني: ثمرة النخل صيفاً، ويكون هناك العنب والرمان والتين، وكل ذلك تباع الثمرة دون الأصل -أي: دون الشجرة- بخلاف ما إذا باع الشجرة والأرض وانتقل الأصل للمشتري، فسيأتي في الحديث حكم ذلك؛ فعلى أن الثمار لا تباع حتى يبدو صلاحها، وفي بعض الروايات: (حتى يطلع النجم وتؤمن العاهة)، والنجم هو الثريا، وبمشيئة الله سبحانه يعتدل الجو وتؤمن الآفات على الزراعة.
فإذا أمنت العاهة في غلبة الظن وأن الثمرة ستظل سليمة إلى النهاية جاز بيعها، فإذا باعها قبل بدو الصلاح كان مغايراً لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معرضاً لإصابة الآفة، أما إذا اشترى الثمرة بعد بدو الصلاح وعلى الوجه الشرعي، ثم جاءت جائحة، والجائحة هي الحدث العام الذي يجتاح -بمعنى: يكتسح ويدفع ما أمامه- بعد أن وقع البيع بعد بدو الصلاح على الوجه المشروع، وجاءت على غير العادة، فمثلاً: اشترى الصيف بعد بدو الصلاح، وبعد أن اشتراه بشهر -أو أكثر أو أقل- جاءت ريح عاتية فأسقطت الثمار وأتلفتها، أو جاء مطر مصحوب ببرد، وأسقط البرد الثمرة وأتلفته، أو نحو من ذلك الذي هو خلاف العاهات الزراعية والآفات التي تعتري الزراعة مما هو معهود عند علماء الزراعة، فتأتي آفة عامة بحدث مفاجئ فتتلف الثمرة، هذه هي الجائحة؛ فحينئذ وقع البيع ودفع المشتري الثمن أو لم يدفع وكان في ذمته، وخلى بينه وبين الثمرة يأخذ منها ما شاء، ويستغلها كيفما شاء.
وعلى صاحب النخلة أو الشجرة أن يسقي إذا احتاجت إلى سقي، أو يمنع من سقيها إذا كان ذلك يضرها، فلو كان لصاحب النخيل زراعة تحت النخل وتحتاج إلى سقي، لكن السقي يضر بالشجر؛ فيمنع للمضرة عما هو مبيع.
وهنا يقع الخلاف، ونجد القلة من العلماء من يقول: البائع لا يتحمل أي شيء، وإنما عوض هذا المثال وتلفه وضمانه على المشتري؛ لأن البائع باع ما تحت يده، وخلى بينه وبين المشتري، فهو في عهدة المشتري، إن سلم سلم له، وإن تلف تلف عليه.
يمكن أن يقول إنسان: هذا مقتضى العقل والقياس، ولكن تخلية البائع للمشتري بينه وبين الثمرة ليست تخلية كاملة، بل هي متعلقة ببقائها، ومن هنا كان الحديث صريحاً صحيحاً ولا يحتمل الاجتهاد عند من يعمل اجتهاده، وكما قيل: لا اجتهاد مع النص، والحديث في آخره يقول: (بأي حق يأكل مال أخيه)، أنت بعت الثمرة بألف ريال، والمشتري دفع الألف، وبعد لحظات، أو أيام، أو أسابيع، وبعد أن اشترى منك في أوائل بدو الصلاح، وبعد أن اكتمل الصلاح، وأراد أن يستثمر ما اشتراه، ويجني الثمرة؛ فإذا بجائحة تتلف الثمرة عليه، أين المبيع؟ لكأن البائع لم يسلم المشتري عين ما باعه عليه، إذاً: من أول بدو صلاحها إلى أن ينضج ويكتمل صلاحها، إلى أن يستنفد المشتري ثمرته هي في ضمان البائع، والحديث صريح، ولا ينبغي الاجتهاد في معارضة النص، والجمهور على أن: ضمان الثمرة هذه التي ما بيعت إلا بعد بدو الصلاح، وتلفت بآفة عامة سماوية، وليس من صنع أحد؛ فإنها من ضمان البائع.
أما إذا كان ذلك بصنع أحد بأن جاء وأطلق عليها الماء في الليل وزاد إلى أن أفسدها، أو جاء وكانت ثمرة أخرى دون النخيل، أو النخيل ليس مرتفعاً بكثرة؛ وجاء وأطلق فيها إبله أو بقره فأتلفت الثمرة، إذاً: يكون هناك متعدٍ، والمتعدي ضامن، فيكون ضمانها على من تعدى.
إذاً: الكلام في الجوائح العامة السماوية التي لا دخل لأحد فيها.
إذا عملت كل هذا ووقع المحظور، وجاءت جائحة عارضة بعد كل هذه الاحتياطات؛ فإن شركة التأمين هنا تضمن، والإسلام يقول: توضع الجوائح، فنظام الاقتصاد يحمل شركات التأمين ضمان ما ضمنت به في سلامة وصوله إلى المشتري؛ لأنها تأخذ على ذلك التأمين جعلاً، فلما أخذت الجعل وتوثقت من الأحوال التي تتعلق بإبحار البضاعة، وجاء أمر عارض، فتتحملها، وكونها تتحمل أو لا تتحمل فإنها قد تتحمل في السنة صفقة أو صفقتين، بينما تحصل من المؤمنين على مئات الصفقات وتصل بسلامة ولا تغرم شيئاً، فنسبة ما تغرمه في تلك الحالات لا يتجاوز العشرة في المائة أو العشرين في المائة من مجموع ما يدخل عليها من الصفقات الأخرى، هذا لا يهمنا، ولكن نقول: إن هذه القضية بذاتها عالجها رجال الاقتصاد وأخطئوا فيها، وهنا الإسلام يقول: (إذا باع أحدكم ثمراً فاجتاحته جائحة، فلا يأخذ من ماله شيئاً).
وما حد القليل من الكثير؟ يقدره البعض بالثلث، إذا وقعت الجائحة على ثلث الثمرة وضعت من قيمتها عند البائع، باع البستان بألف، وجاءت الجائحة وأتلفت ثلث الثمرة؛ فالبائع يرد ثلث ثمن الثمرة للمشتري، أما إذا كان المتلف أقل من ذلك فهذا يغتفر ويتسامح فيه؛ لأنه من عوارض البيع والشراء، ومن حالات البساتين والرياح وغير ذلك.
إذاً المبدأ الأساسي: ضمان البيع والشراء، وأن عهدة المبيع في ذمة البائع حتى يستوفيه المشتري، وتقدم لنا نظير ذلك: لو أن إنساناً اشترى من آخر مائة كيس من الحب، ودفع الثمن، ولم يستلم ذلك، ولم تزل تلك الأكياس في مستودع البائع، فتلفت الأكياس في مستودع البائع، فتكون من ضمان البائع؛ لأن المشتري لم يستلم السلعة من المبيع؛ فهي في عهدة البائع حتى يستلمها المشتري، فكذلك هنا النخيل بمثابة الأكياس في المستودع؛ فلما ضمن الشرع للبائع ما تلف في مستودعه كذلك ضمنه ما تلف على أشجاره، ثم أمر بوضع الجوائح -وهي ما يجتاح الثمار- ولكن تفصيل بعض العلماء: إذا كانت الجائحة اجتاحت الجميع فعلى هذا النص، وإذا كانت اجتاحت قليلة فهذا مما يتسامح فيه، والحد بين القلة والكثرة هو الثلث، والله تعالى أعلم.
هذا تابع لبيع الثمرة والأصول: إذا اشترى إنسان بستاناً، والبستان قد أُبر نخله، والتأبير وضع الوبار، وهو دقيق طلع فحل النخل في إناثها، وهذه الطريقة خاصة بالنخل، ولذا قالوا: إن أميز أنواع النباتات هي النخلة، كما قالوا: إن أميز أنواع الحيوانات الخيل، فالنخلة متميزة عن بقية الأشجار بصفات هي أقرب إلى صفات الإنسان، وأرقى أنواع النباتات النخلة؛ لما فيها من الشبه بالإنسان، في حياتها إذا جززت الرأس ماتت، وجميع الأشجار تقطع أغصانها يميناً وشمالاً، وتنبت وتعود إلى ما كانت عليه إلا النخلة، إذا جززت رأس النخلة ماتت، وكذلك ما يقال في أن النخلة ليست لها أغصان في وسطها كشجرة الرمان والتوت وغيرها، بل ساق واحد كالإنسان وعمود واحد، وكذلك قالوا: جميع أجزائها يستفاد منها، ولا يلقى منها شيء، وكذلك الإنسان مفيد للمجتمع بكليته: بعينه، بأذنه، بلسانه، بيده، برجله... كل ذلك يفيد الأمة، فكذلك النخلة: في ورقها، في جريدها، في ثمارها، في نوى ثمرها، في جذوعها، في كرانيفها... كل ذلك يستفاد منه ولا يتلف منه شيء.
ثم قالوا أيضاً في هذه العملية -عملية التلقيح وعدم التلقيح-: الإنسان لابد في تلقيحه من لقاء الذكر بالأنثى، فيكون هناك التلقيح كما يقال له فعلاً، ويكون هناك الولد بين الذكر والأنثى، فكذلك ثمرة النخلة لابد من تأبير وبار الذكر أو فحل النخل بطلع الأنثى، يعني تلقيحها متميز ذكر وأنثى، بخلاف بقية الأشجار، سواء كانت الحمضيات من ليمون وبرتقال وأترج وسوى ذلك أو العنب أو التين أو الرمان... جميع الفواكه فإن فيها أيضاً تأبير -فيها تلقيح- ولكن ليس هناك نوع من شجر العنب، ولا التين ولا البرتقال هذا ذكر وهذه أنثى، الكل منتج، والكل مثمر، ولابد للثمرة من لقاح.
كيف تلقح تلك الأشجار؟
أما النخلة فقد عرفنا بأن الإنسان يأتي ويأخذ أبار الفحل ويضعه في طلع الأنثى، وبقية الأشجار من الذي يلقحها؟ بين الله سبحانه ذلك فقال: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22]، يقولون: إن الشجرة بذاتها تكون فيها أزهار ملقحة، وأزهار تتلقح، فالشجرة الواحدة من كل صنف تحمل النوعين: زهور فيها لقاح ولا تثمر، وزهور تأخذ اللقاح وتثمر، ما الذي ينقل اللقاح من تلك الزهور الملقحة إلى تلك الزهور المتلقحة؟ الرياح، تمر بالشجرة فتأخذ من لقاح زهرة التلقيح وتمر على الزهور الأخرى فتعلق بها لواقح الزهور الملقحة فتلقحها بإذن الله.
وعلماء الزراعة يقولون: أيضاً الفراش والنحل وبعض الحيوانات أو الحشرات تساعد في التلقيح، فالنحلة: تنزل على هذه الزهرة -وهي زهرة لقاح- لتمتص منها، فيعلق بأرجلها نوع من اللقاح، فتنتقل إلى زهرة أخرى لتأخذ منها وجبة غذائها، ويسقط ما علق بأرجلها في تلك الزهرة الأخرى فتتلقح بذلك.
ويقول أيضاً علماء الزراعة: جميع الحبوب لها لقاح، وإذا لم يأتها اللقاح فلا تجد فيها الحبوب، وربما بعض الفلاحين يعرف أن في المزرعة كاملة بعض السنابل على هيئة الدخان، أو هيئة القطن المحروق، والسنبلة الطبيعية لها -كما يقال- السَفَاة، الإبر الصغيرة الممتدة إلى أعلى، وإذا مررت عليها بإصبعك وجدتها كالمنشار مسننة، تلك الفجوات الصغيرة في تلك السفاة الطويلة هي أنابيب ونوافذ تتلقى بها اللقاح الندى، ويدخل من خلالها إلى الحبة عند أول ظهورها في السنبلة، فهناك تلقح وتمشي في نموها، ثم تصير لبناً، ثم تعقد، ثم تكون حبة، فإذا مرت الرياح على تلك السنابل الملقحة لقحتها، وهي نادرة؛ لأن الواحدة تلقح آلاف الأفدنة.
إذاً يهمنا في هذا: أن النخل له طبيعة في التأبير، فإذا أبرت النخلة بدأت في النمو، وبدأت في مسيرتها إلى النضج، من الذي وضع أساس النضج في النخلة: المشتري أم البائع؟ البائع هو الذي أبر، إذاً: مسيرة نمو الثمرة ووصولها إلى النضج من عمل البائع، لذا فهي من حقه.
والذي يهمنا أن الثمر لمن أبر، ويأتي الحديث: (من باع نخلاً قد أُبرت، فإن الثمرة للبائع ما لم يشترط المبتاع)، وعلى هذا: فلو أن إنساناً أبر نخله، ثم جاء بعد التأبير وباع البستان، الثمرة التي في النخل المبيع تكون للبائع، إلا إذا اشترط المشتري أن الثمرة تابعة، ولو أن إنساناً جاء يستأجر البستان سنتين أو ثلاث، ووجد النخل مؤبراً، عقد الإجارة من الآن، ويمضي العقد ثلاث سنوات، ثمرة هذه السنة التي أبرها المؤجر للمؤجر، إلا إذا اشترطها المستأجر.
صاحب البستان احتاج نقداً فرهن البستان وقد أبر نخله، الثمرة الموجودة داخلة في الرهن مع الأصول أو خارجة عنه؟ خارجة؛ لأن صاحب النخل قد أبر، فلا تدخل الثمرة ضمن الرهن، وعلى هذا فالحديث مبين بأن من أبر نخلاً فإن الثمرة له، فلو باع النخل وقد أبرت فإن الثمرة ترجع للبائع ما لم يشترطه المبتاع -المشتري- فإذا اشترط ووافق على ذلك البائع، ف (المؤمنون عند شروطهم) .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر