لهذه السورة سبب نزول ألا وهو ما أخرجه البخاري وغيره، وفيه: (لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] صعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبل الصفا، فنادى بأعلى صوته: يا معشر قريش! يا بني عبد مناف! ونادى على قبائل قريش، فأجابوه إلى طلبه، ومن لم يستطع منهم الإتيان إليه بعث إليه نائباً عنه، فلما اجتمعوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم خاطبهم قائلاً: أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد غزوكم، أكنتم مصدقيَّ؟ قالوا: نعم. ما جربنا عليك كذباً قط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب : تباً لك، ألهذا جمعتنا؟! فنزل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:1-3]
فعلى ذلك فقوله تعالى: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214] نزل قبل قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:1-2].
وأبو لهب اسمه: عبد العزى بن عبد المطلب ، وهو عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أخو عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وامرأته اسمها: العوراء أم جميل ، وكانت امرأة مؤذية كافرة، تؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
هذه السورة تعد علماً من أعلام النبوة، ودليلاً من أدلة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمن دلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أخبر عن أمور مستقبلية ستحدث، فحدثت كما أخبر النبي صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هذه الأمور المستقبلية أمور جاء ذكرها في كتاب الله، كقوله تعالى: غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ [الروم:2-4] ، وقد كان كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن هذه الدلائل: الأشراط الصغرى والأشراط الكبرى للساعة.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ببعض الأشراط الصغرى وبعض الأشراط الكبرى، فوقع جلّ الأشراط الصغرى ووقع بعض الأشراط الكبرى، كالنار التي حشرت الناس، وباتت معهم حيث باتوا، وقالت معهم حيث قالوا.
فمن دلائل نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أخبر في هذه السورة أن أبا لهب سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3].
ومن مقتضيات ذلك ومن لوازمه: أن يموت أبو لهب على الكفر، فكان من الممكن أن يسلم أبو لهب كما أسلم غيره من الكفار؛ ولكن مات أبو لهب على الكفر، فصدِّقت الآيات بعد موته على الكفر.
فكان في قوله تعالى: سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] وتحقُّقِ ذلك بموت أبي لهب على الكفر علماً من أعلام نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودليلاً من أدلة نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] ، لماذا كرر (تَبَّتْ) (وَتَبَّ)؟
الجواب: من العلماء من قال: إن التكرير للتأكيد، وهو يأتي كثيراً جداً، كما في قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [المرسلات:15] وكررت هذه الآية مراراً في السورة.
وكما في قوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ [التكاثر:3-4].
وكما في قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشرح:5-6].
وكما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن آل أبي جهل استأذنوني أن ينكحوا ابنتهم
وكقول الشاعر:
يا علقمة يا علقمة يا علقمة خير تميم كلها وأكرمه
وقوله:
يا أقرع بن حابس يا أقرع إنك إن يصرع أخوك تصرع
وكل هذه للتأكيد.
فمن العلماء من قال: إن قوله تعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] تأكيد لهلاك أبي لهب .
ومن العلماء من قال: هلكت يداه وقد هلك.
وقوله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1]، لماذا عُبِّر باليد دون غيرها من الجوارح؟
قال فريق من العلماء: لأن اليد هي التي تسعى بالأعمال؛ أعمال الخير أو أعمال الشر، كما قال تعالى: ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [الحج:10] أي: ذلك بما عملت، فلأن أغلب الأعمال تكون باليد؛ سواء كانت أعمال خير أو أعمال شر، فوُصفت اليد بالهلاك؛ لأنها هي صاحبة الأعمال.
ولا يُعترض على هذا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يا
وقوله: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] كان أبو لهب يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بصور كثيرة من الأذى، فكانت الوفود تأتي إلى مكة وإلى أسواقها يسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعما جاء به، وأبو لهب يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم يضربه بالحجارة والطوب من خلفه حتى يُدمي رجليه، ويقول: أيها الناس! هذا هو ابن أخي وأنا أعرَف الناس به، إنه كذاب، يكذب على الله.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول لقريش: (قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)، وأبو لهب يتبع رسول الله، ويقول: هذا ابن أخي وهو كذاب ويكذب على الله، وأنا أعرَف الناس به.
فكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم أذىً شديداً.
وفي الحقيقة: أن الأذى بالتكذيب أشد من الأذى بالضرب.
ولذلك لما سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: (يا رسول الله! هل أتى عليك يوم أشد عليك من يوم أحد؟ قال: نعم يا
يقول الله سبحانه: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد:1] أي: هلكت يداه وقد هلك، أو هلك وهلك للتأكيد.
فقوله: مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ [المسد:2] أي: ولا الذي كسب.
وقد ورد أن ابن عباس رضي الله عنهما تدخل ذات مرة للإصلاح بين أولاد أبي لهب ، فجاء أحدهم وكان ابن عباس قد عمي، فضرب ابن عباس ضربة أسقطته على الأرض، فقال ابن عباس: ( كسبٌ خبيث )، فحمل الكسب على الولد.
فكثير من أهل العلم من فسروا الكسب هنا بالولد.
وبعضهم يحمل الكسب على العمل، كقوله تعالى: وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا [الأنعام:164]، والمعنى: فما أغنى عنه ماله ولا عمله.
لكن في مثل هذا الموطن حمل الكسب على الولد أليق؛ لوجود نظائر لهذه الآية تحمل معنى المال والولد أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً [الكهف:34]، فكان الافتخار في الغالب بالمال وبالنفر الذين هم الولد والحاشية وغير ذلك.
قال تعالى: (سَيَصْلَى) أي: سيدخل ويذوق، نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ [المسد:3] أي: ذات شرر.
لذلك تعليلات عند العلماء:
التعليل الأول: أن هذه المرأة كانت تسعى بين الناس بالنميمة، والذي يسعى بين الناس بالنميمة يقال فيه: إنه يحمل الحطب بين الناس، أي: يحمل الحطب لكي يوقد النار ويشعل الفتنة بين الناس.
التعليل الثاني: لأنها كانت تحمل الحطب والشوك وتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التعليل الثالث: أن هذا تعيير لها وتوبيخ، فقد كانت تعير رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفقر، وعملها كان الاحتطاب، فالمعنى: كيف تعيرين رسول الله بالفقر وأنت حمالة الحطب؟!
التعليل الرابع أن: حَمَّالَةَ الْحَطَبِ أي: حمالة الذنوب والأوزار.
قيل: إن المسد هو: النار، أي: في رقبتها حبل من نار جَزَاءً وِفَاقاً [النبأ:26]، فكما كانت تحمل الحبل في رقبتها وتربط فيه الحطب الذي تؤذي به رسول الله، فكذلك في النار سيكون في رقبتها حبل.
وقيل: إن الحبل من مسد: الحبل من الليف، فالمسد هو الليف.
وقيل: إن المسد هو السلسلة المذكورة في قوله تعالى: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:30-32].
فقوله: فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ [المسد:5] أي: يوم القيامة، وهذا يفيد أن الجزاء دائماً من جنس العمل، فكما كانت تربط في رقبتها حبلاً وتربط به الشوك الذي تلقيه في طريق رسول الله، كذلك يُربط في رقبتها حبل من نار يوم القيامة، والجزاء من جنس العمل.
كذلك كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17]، لما فكر وقدر وشخص ببصره إلى أعلى وخفض وأدبر واستكبر، قال الله سبحانه: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً [المدثر:17] أي: سيطلع وينزل ويصعد في جهنم ويُرهَق؛ لأن الصعود يُرهِق، فالصعود في النار أشد إرهاقاً؛ لأن المقرر أن الجزاء من جنس العمل.
وعلى ذلك جملة أدلة في الخير أو في الشر، كقوله عليه الصلاة والسلام: (من يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)، (ارحموا تُرحموا)، (اغفروا يُغفر لكم)، (يُحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر يطؤهم الناس بأخفافهم).
فدائماً (الجزاء من جنس العمل).
صحيحٌ أن سور القرآن تتفاضل، فـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] تعدل ثلث القرآن، و(الفاتحة) هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيه رسول الله، و(آية الكرسي) هي أعظم آي القرآن؛ لكن ليس معنى ذلك أن يُتخذ شيء من القرآن مهجوراً.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر