أيها الأحبة في الله! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أسأل الله جل وعلا أن يُحرم أقداماً مشيتم بها إلى هذا المقام علىالنار، وأسأل الله أن يُحرم وجوهاً نظرتم ونظرنا إليكم فيها عن النار، وأسأل الله أن يُحرم والدينا ووالد والدينا وإياكم عن النار.
اللهم اجعل اجتماعنا هذا مرحوماً، وتفرقنا من بعده معصوماً، اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا، واسمك الأعظم الذي إذا سُئلت به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت، ألا تدع في هذا المجتمع وهذا المقام ضالاً إلا هديته، ولا تائباً إلا قبلته، ولا أسيراً إلا فككته، ولا أسير ذنوبه إلا فككته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا حيران إلا دللته، ولا أيماً إلا زوجته، ولا متزوجاً إلا ذريةً صالحة وهبته بمنك وكرمك يا رب العالمين.
أيها الأحبة! اختار أحبابنا بالشئون الدينية أن يكون عنوان المحاضرة: "المسارعة إلى الخيرات".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران:133] ويقول جل وعلا: سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الحديد:21].
أيها الأحبة! هذه الآيات البينات الجليات الواضحات من خِطاب رب الأرضين والسماوات، يدعونا فيها ربنا الغني عنا، ربنا القوي يدعو عباده الضعفاء، العزيز يدعو عباده الأذلاء، الجبار يدعو عباده المساكين أن يسارعوا، وأن يسابقوا، وأن يبادروا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والمسارعة والمسابقة تعنيان: المبادرة إلى تحصيل شيء ربما فات بالتأخر عنه، وربما ندم من تكاسل في طلبه، سيما إذا كان الأمر الذي يفوت شيئاً عظيماً تتعلق به النفوس، فكيف إذا كانت الدعوة إلى المسارعة إلى دارٍ خلودها أبدي، ونعيمها سرمدي، وأحبابها لا يتفرقون، وصحتها لا سقم فيها، وسعادتها لا يُكدرها شقاء، فمن فاتته الجنة، فأسألكم بالله في أي مقام وأي فريق يكون؟ فما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار:
فحيَّ على جنات عدنٍ فإنـها منازلك الأولى وفيها المخيمُ |
ولكننا سبي العدو فهل تـرى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ |
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها |
فإن بناها بخيرٍ طاب مسكنه وإن بناها بشرٍ خاب بانيها |
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها |
هذه الدار يدعونا ربنا جل وعلا أن نُسارع إليها، والطريق إليها سهلٌ، والسبيل إليها ميسرةٌ، والأسباب إليها ميسرةٌ بمنٍّ من الله جل وعلا، فلا تظنوا أن هذه الجنة بعيدة المنال، وأن طلبها ضربٌ من المحال، بل كما صلى الله عليه وسلم: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله) فاللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة.
يقول نبينا صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي يرويه الإمام البخاري: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) أي: ربما وقع العبد في عداد أهل النار، وكان منهم بعملٍ يسير حقير يظن أن مثل هذا العمل لا يُورد إلى المهالك، وإلى دركات النار والشقاء والجحيم، وربما يستقل العبد عملاً من الأعمال، وهذا العمل هو بإذن الله من موجبات الجنة.
إنما الدنيا إلى الجنة والنار طريقُ |
والليالي متجر الإنسان والأيام سوقُ |
استبقوا إليها، سارعوا، بادروا، اطلبوا وهلموا، قال ربنا: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أي: سارعوا إليها، وقال صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) رواه الإمام مسلم .
أيها الأحبة! إننا في زمن الفتن، وإننا في زمن الأهواء، وفي زمن الضلالات، وفي زمن الأفكار الهدامة، والمذاهب الضالة، والغوايات المبهرجة، والدعايات المضللة التي وقع بسببها كثيرٌ من الناس، ربما أمسى مهتدياً فأصبح ضالاً، وربما أصبح مهتدياً فأمسى ضالاً، وأقوامٌ أصبحوا مؤمنين فأمسوا كافرين، وآخرون أمسوا مؤمنين فأصبحوا كافرين.
فالنبي يدعونا أن نبادر أوقاتنا وأنفاسنا وأعمالنا وحياتنا قبل أن نقع في هذه الفتن، أو تقع بنا، قبل أن نرد عليها، أو ترد علينا، والعاقل من اجتهد، والكيس من دان نفسه.
نعم هؤلاء أنبياء الله ورسله مع أنهم في أعلى درجات الجنة، قد أكرمهم الله بجلاله، وأدناهم سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما اتكلوا على هذا، نعم، تعلقوا ورجوا، وأناخوا رواحلهم بباب رحمة ربهم جل وعلا، ولكنهم مع هذا سارعوا إلى الخيرات، واجتهدوا ورغبوا في الجنة، وخافوا من النار، وهذا الدليل، وهذه الآية أعظم ضربة قاضية، وضربة مسددة قاصمة للمخرفين الصوفية الضالين الذين يقولون: إن العبادة ليست خوفاً من النار، ولا حباً في الجنة، وإنما هي حبٌ في الله جل وعلا.
بل طوائف كثيرة من الصوفية يقول قائلهم: ربنا ما عبدناك طمعاً في جنتك، وما عبدناك خوفاً من نارك، وإنما عبدناك حباً في ذاتك، وهؤلاء خابوا وخسروا وخسئوا، فلن يكونوا أكمل إيماناً، وأفضل تعبداً، وأمثل طريقةً واستقامةً من أنبياء الله ورسله الذين وصفهم الله ورضي فعلهم فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] يبادرون إليها، يتسابقون إليها، يطلبونها، وما كانوا يقعدون عن همم الأمور ومعالي الأفعال، لما قام القوم يحفرون الخندق ما قعد صلى الله عليه وسلم، وما جلس متكئاً واضعاً رجلاً على رجل وهو نبيهم وإمامهم وسيدهم وكبيرهم وأميرهم، بل سارع معهم حتى بلغ بهم الجوع مبلغاً، ربطوا على بطونهم حجراً، وهو صلى الله عليه وسلم قد بلغ به من الجوع أعظم مما بهم، فربط صلى الله عليه وسلم على بطنه حجرين اثنين، ربما فر القوم حال شدة قتال إذا حمي الوطيس، وكشفت المعركة عن ساق، وأشجع القوم، وأكرم القوم، وسيد القوم صلى الله عليه وسلم يكر ويفر ويُقبل ويُقاتل أعداء الله ويصيح وسط المعمعة: (أنا النبي لا كذب.. أنا ابن عبد المطلب) يسارع إلى الخيرات في الجهاد، وما قعد متخلفاً عن عباد الله المجاهدين في سبيله.
يسابق في الصلاة حتى تتفطر قدماه، يسابق في الصيام حتى تقول عائشة: [ما شئنا نراه صائماً إلا رأيناه صائماً] يسابق في التواضع حتى إنه ليدني نفسه، وينزل بطول قامته ليحمل طفلاً صغيراً يتعثر على الأرض.
وربما قادته عجوزٌ إلى ناحية الطريق، فوقفت به الساعة والساعات يسمع منها تواضعاً ليقضي حاجتها.
سابق صلى الله عليه وسلم في كل خير، هكذا كما وصفه ربه جل وعلا بوصفه واحداً من أنبياء الله ورسله: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء:90] يرغبون في الجنة، يطلبون الجنة، يتعلقون بالجنة، يريدون رضا الله، وما قالوا: ربنا هو الذي اختارنا واصطفانا، وانتقانا من بين الخلق لنكون أنبياء ورسلاً، فقد ضمن لنا الجنة، بل سارعوا إليها وطلبوها.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيسأله المصطفى -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- فيقول له: (يا أعرابي! كيف تدعو؟ فيقول الأعرابي: والله يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
المسابقة إلى المغفرة، المسابقة إلى الجنة، المسابقة إلى الفضل العظيم، ذلك هو الوعد الذي يعد به النبي صلى الله عليه وسلم، لما جاء المهاجرون وآمنوا به وعزروه ونصروه، وبذلوا المُهج والأرواح بين يديه ما أعطاهم وعداً بإمارة، ولا بوزارة، ولا بمنصب، ولا بملك، ولا بولاية عهد، ولا بترشيح، أو امتياز، أو وكالة معتمدة، وإنما قال: لكم الجنة، إنما قال: إن وفيتم وأديتم وأعطيتم وقمتم بهذا رضاً لله، وابتغاء ما عند الله، واستجابة لأمر الله ورسوله، فلكم الجنة.
ما كان يعد إلا بما أمر الله أن يسابق إليه وهو الجنة، وكذا لما قَدم الأنصار، ما قال: لكم من الأمر كذا وكذا، وإنما وعدهم بالجنة تلك الدار التي أمر الله أن يسابق إليها: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأحرِ بـأبي بكر أن يفعلها- (قال: يا
أبو بكر جاء بالمال كله وهو يعلم أنه لن ينزل في آخر الشهر مُسير الرواتب ليوقع عليه، ثم يقبض راتبه، شتان بين حسناتنا وملايينا ومليارتنا وجبال أعمالنا مجتمعين على وجه الكرة الأرضية، وعمل مدٍ أو نصف مُدَّ من واحد من الصحابة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي، فإنه لو أنفق أحدكم مثل: جبل أحد ذهباً، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه) لو أن واحداً من الأغنياء أنفق زنة جبل أحد ذهباً ولآلئ ودرراً وزبرجداً ويواقيت، لو أنفقها في سبيل الله وقدم صحابي بنصف مُدَّ -سدس كيلو تقريباً- فإن ذلك المد ليرجح بذلك الجبل.
نعم. كانوا ينفقون، وينفقون قبل المحسوس معاني عظيمة يريدون بها وجه الله، جاءوا بالمال، ولا يعلمون أن أموالاً ستأتي، وإنما خلفهم الله، وعوضهم الله، ورجاؤهم في الله، امتلأت قلوبهم بالله ورسوله فاغتنت، وتعلقت قلوبنا بآخر الشهر، فمحقت بركة كثير من أموالنا، وربما لم نُسدد إلى حسن صرف أو تدبير في ذلك، شتان بيننا وبينهم حتى وإن أعطينا وأنفقنا، لو فرغنا جيوبنا اليوم وأمضيناها في سبيل الله، فنحن نعلم أننا في آخر الشهر سنقبض مالاً.
أما أولئك فالواحد منهم ينفض جيبه وينظف بيته ويخرج كل ما عنده، لا يبقى في البيت إلا حلسٌ بالٍ، أو شيء لا ينفع للجهاد والبذل، فيقول الرسول: (ماذا أبقيت؟) فيقول: أبقيت الله ورسوله.
يسارع عمر رضي الله عنه وأرضاه إلى هذا، فيأتي بنصف ماله، يسارع عثمان الذي يعلم أن الله يُضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، فيجهز ويعطي وينفق ويبذل ويمد ويزيد حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قطعة ذهبٍ تتلألأ، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (ما ضر
هكذا كان شأنهم، وهكذا كان طريقهم .. مسارعةٌ في الخيرات مع أن أبا بكر ذكره الله في القرآن وأثنى عليه، وشهد له النبي بالجنة، وعمر شُهد له بالجنة، وعثمان شُهد له بالجنة، وعلي شهد له بالجنة، وما قالوا: الآن بلغنا البشارة، وحققنا الأمارة، وأدركنا الغاية، قد ضُمنت الجنة فلتقعد بنا المراحل في قوارع الطرق، بل بذلوا وأعطوا في سبيل الله، وما زالوا يُعطون ويبذلون النفس والنفيس والغالي والرخيص في سبيل الله، يسابقون ويبادرون إلى الخيرات.
بادروا، أي: أسرعوا، اعملوا، اجتهدوا قبل أن يُغلق باب التوبة، فتطلع الشمس من مغربها، أو أن تأتي آية وعلامة من علامات القيامة: فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الدخان:10-11] أو الدجال فتنةٌ قد ضل كثيرٌ من الخلق في فتن دونها، فما بالك لو خرج الدجال في زمن تعلقت عقول البشر وأفئدة بعضهم بالخرافات والخزعبلات والسحرة والكهنة والشياطين.
ألم يُصدق كثيرٌ من الناس أن تيساً من البهائم يشفي، أو ينفع، أو يضر، وأن ضريحاً لأحد المخرفين يجلب نفعاً، أو يدفع ضراً؟
ألم يصدق بعض المساكين أن بعض الأولياء يدبر أو يتصرف؟ ألم يصدق بعض الذين وقعوا من حيث يعلمون، أو لا يعملون في الشرك أن الذبح عند ضريح أو دعاء ميت، أو الاستغاثة بولي ربما دفعت عنهم كربة، وكشفت سقماً، وأحضرت خيراً ونفعاًُ، فما بالك لو خرج الدجال بين أعينهم، فقسم ونشر رجلاً من الناس قسمين، ثم رده كما كان، أتظنون أن الذين ضعفوا وانهاروا وخاروا وصدقوا فتناً صغيرةً يسيرةً، مع ما فيها من الكذب والسحر والشعوذة والخزعبلات، أتظن أولئك الذين انطلت عليهم الصغائر يثبت إيمانهم عند تلك الكبائر؟
يأتي الدجال إلى المكان الخرب من الأرض، فيقول: أخرجي كنوزك، فتتبعه كيعاسيب النحل، ويشق الرجل شقين، ويمر بينهما، ثم يأمر كل قسم أن يعود فيعود، ويعود الرجل ماشياً كما كان.
الدجال فتنة، وما من نبي إلا حذر أمته من الدجال، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ما من نبي إلا حذر أمته الدجال، فإن يخرج- يعني: الدجال- وأنا فيكم فأنا حجيجه، وإن يخرج وقد هلكت، فامرؤ حجيج نفسه، ألا هل بلغت.. اللهم فاشهد).
المسابقة إلى الخيرات مطلوبة، المسابقة مهمة جداً، وكما مر معنا في الحديث الآنف الذكر: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرضٍ من الدنيا) وهذا حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم.
إن الفرص ممكنة، وإن المجالات متاحة، وإنا على مقدرة.
أحسن إذا كان إمكانٌ ومقدرةٌ فلا يدوم على الإمكان إحسانُ |
وكم من عبد كان قوياً جلداً صحيحاً قادراً على الحج والعمرة، والقيام والصيام، والجهاد والبذل والشفاعة، وقضاء حاجات الناس، فقعد عنها واشتغل بغيرها، وقام ساعياً حثيثاً إلى أمر قد فُرغ منه، وإلى كتاب قد طُويت صحائفه، وإلى أقلام جف مدادها، قام يريد مزيداً من المال والمال قد قسم وفرغ منه يوم أن كان جنيناً في بطن أمه كما في الحديث الصحيح: (ثم يُؤمر الملك بكتب أربع كلمات: برزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد) فالواحد يسعى في الرزق، والرزق أمرٌ مفروغٌ منه، إنما عليك أن تسعى ببذل السبب بمقدار ما أمرت به ليكون سبباً؛ محتسباً في ذلك استجابة أمر الله بقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ [الملك:15] ولم يُطلب أن نكذب لأجل الرزق، أو نَعُقَ لأجل الرزق، أو نقطع الرحم لأجل الرزق، أو نختلس، أو نغش، أو ننافق، أو نداهن لأجل الرزق، لأن الرزق قد فُرغ منه، فيا لله كم من عبدٍ غُبن في هذا الزمان ساعات، بل أيام، بل أشهر، بل سنوات مضت عليه وكان بوسعه أن يُودعها أعمالاً صالحة، فأودعها غفلات وخطيئات وسيئات ومنكرات، وكم من عبد كان قوياً جلداً، فلما ضعفت قواه وخارت وعجز عن فعل الصالحات، قال: يا ليتني فعلت كذا يوم كنت قوياً.
ومن غرس البذور وما سقاهـا تأوه نادماً يوم الحصادِ |
اغتنموا الفرصة، فإن كثيراً من الناس مغبونون في الصحة، مغبونون في الفراغ، يصرفون العافية في غير ما هي له، يصرف كثير من الناس عافيةً أودعها الله في بدنه في غير ما خُلق لأجله، ومن أعمل شيئاً في غير ما صنع له وفي غير ما خلق له، ربما حصل له خبلٌ أو خلل في عقله ومنهجه.
قال الإمام ابن الجوزي : قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش، وقد يكون مستغنياً، ولا يكون صحيحاً، فإذا اجتمعا عليه، وغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون، وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة، فمن استعمل الصحة والفراغ في طاعة الله، فهو المغبوط، ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون، لأن الفراغ يعقبه الشغل، والصحة يعقبها السقم، انتهى كلام ابن الجوزي رحمه الله.
اغتنموا الفرصة، فالوقت هو رأس المال، الوقت هو البضاعة بعينها، صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال: سبحان الله وبحمده، غُرست له نخلة في الجنة) حديث حسن أخرجه الترمذي، قال ابن الجوزي في هذا: فكم يُضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل، وهذه الأيام مثل المزرعة، فهل يجوز للعاقل أن يتوقف عن البذر أو يتوانى.
نهارك يا مغرورُ سهوٌ وغفلـةٌ وليلك نومٌ والردى لك لازمُ |
وسعيك فيما سوف تكره رغبةً كذلك في الدنيا تعيش البهائم |
فيا عبد الله:
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العبادِ |
وتب مهما جنيت.. تب إلى الله مهما فعلت، عد إلى الله مهما ارتكبت، راجع نفسك مهما أخطأت.
وتب مهما جنيت وأنت حـيٌ وكن متنبهاً قبل الرقادِ |
ستندم إن رحلت بغير سـعيٍ وتشقى إذ يناديك المنادي |
أترضى أن تكون رفيق قومٍ لهم زادٌ وأنت بغير زادِ |
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه؛ نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي].
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: [إن الليل والنهار يعملان فيك، فاعمل فيهما].
وقال الحسن البصري: [أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد حرصاً منكم على دراهمكم ودنانيركم].
ويقول الجاحظ الأديب وهو من المعتزلة في أبيات ينشدها:
أترجو أن تكون وأنت شيـخٌ كما قد كنت أيام الشبابِ |
لقد كذبتك نفسك ليس ثوبٌ دريسٌ كالجديد من الثيابِ |
نعم إن التسويف علتنا، إن التأجيل مصيبتنا، الواحد منا في شبابه يقول: إذا خط الشيب في عارضي فسأتوب، إذا اشتعل الرأس شيباً.. إذا جمعت كذا.. وما يدريك أنك تبلغ هذه الآجال حتى تتوب، وقد يخطفك الموت قبلها.
يا غافلاً عن العمل وغره طول الأمل |
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل |
يقول الحسن البصري: [يا بن آدم! إنما أنت أيام، فإذا ذهب يومٌ ذهب بعضك] وقال أيضاً: [يا بن آدم! إنما أنت بين مطيتين يوضعانك، يوضعك النهار إلى الليل، والليل إلى النهار حتى يُسلمانك إلى الآخرة، فما أخطر شأنك يا بن آدم].
تخيل أن مائة جندي قد وكلوا أن يستلموك وهم طابورٌ صفوفٌ وقوف على هذا، استلموك من هذا الباب، وكل واحد يسلمك من يده إلى عهدة الآخر، ومن الآخر إلى الثالث، ومن الثالث إلى الرابع، وهكذا الدنيا أسلمتك أول يوم ولدت فيه إلى ليلة أعقبتها، ثم أسلمتك الليلة إلى يوم، ثم اليوم إلى ليله، وما زالت الليالي جنودٌ يسلمونك، وخفيرٌ، وحارسٌ، هذا يودعك، وهذا يسلمك إلى من بعده حتى تقوم آخر ليلة لتسلمك إلى دار برزخية لتكون إما في روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
وما هذه الأيام إلا مراحلٌ يحث بها داعٍ إلى الموت قاصدُ |
وأعجب شيءٍ لو تأملت أنها منازلُ تُطوى والمسافر قاعدُ |
أيها الأحبة! إننا ركبنا مقصورة الحياة، والقطار يسير إلى الآخرة، فسواء وقفنا في القطار، أو جلسنا، أو أدرنا وجوه مقاعدنا إلى عكس اتجاه القطار، أو أدرنا مقاعدنا إلى الجهة التي يقود بها قائد القطار، فإن القطار ماضٍ، وسوف يصل .. هذا قطار الدنيا يسير بنا إلى الآخرة.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل يومٍ مضى يدني من الأجل |
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العملِ |
جاء في وصية أبي بكر الصديق رضي الله عنه لـعمر بن الخطاب حينما استخلفه من بعده، فقال له: [إنا لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وإن لله في الليل حقاً لا يقبله في النهار].
أفيقوا يا عباد الله! أفيقوا يا عباد الله! عودوا يا عباد الله! أي غفلةٍ أنتم نيامٌ فيها، نغماتٌ تدندن ليل نهار، ومشاهد لا تُرضي الواحد القهار، وسعي حثيثٌ في الدنيا، والموت يطلب هذه النفوس، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
قال الفضيل بن عياض لرجل: [كم عمرك ؟ قال: ستون سنة، فقال
نعم. إنما الأعمال بالخواتيم، إن من فضل الله ومنِّه أن العبد إذا استرجع وندم وآب وتاب وعاد إلى الله راغباً فيما عند الله، راهباً من عذاب الله، فإن الله يُسدل ستره على ما مضى من حياته، ويمحو سيئاته، ويبدلها حسنات، قال تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً [الفرقان:68-70] فما باله ؟ ما شأن من تاب؟ ما شأن من غير ؟ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفرقان:70].
اللهم لك الحمد يا حي يا قيوم، يا دائم المنة والإحسان، يا كريم يا عظيم، يا ذا الفضل العظيم، يا واسع يا عليم نسألك اللهم أن تمحو ما سلف من ذنوبنا، وأن تستر ما سلف من خطايانا، وأن تُبدل سيئاتنا حسنات.
إلهنا! إن العباد قد أعجبوا بنا، وإنما أعجبهم فينا سترك علينا -هذا الكلام يقوله كل واحد فينا، ونناجي به ربنا- إلهنا لقد نظر الناس إلى صالح أعمالنا، وما نظروا إلى سيئات خطايانا، وإنك سترتنا وأكرمتنا وأسبغت علينا سترك، وجملتنا بجميل سترك، اللهم فكما سترتنا مع علمك وحلمك وعظمتك، فاستر ما بقي، وأعنا وتب علينا فيما مضى، واجعل اللهم سيئاتنا حسنات.
لن ينفعنا أيها الأحبة إلا أعمالنا.
قال صلى الله عليه وسلم: (يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان، ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله) أنت أيها الأخ الكريم وأنا مثلك شأننا في دنيانا بثلاثة أمور: أهل ومال وعمل، أما أهلونا فربما اختاروا غيرنا بعدنا، ربما مات بعضنا فتزوجت زوجته من بعده، وتفرق أبناؤه وأهله، ثم عادوا وتركوه وحيداً فريداً في المقبرة، شريداً رهيناً في حفرته ولحده، ويعود المال، فيختلف الورثة عليه، ويتقاسمونه، ويتحاصّون ويتشاحون، وربما تقاتلوا وتباغضوا وتدابروا، ولحكمة عظيمة قدرها الله جل وعلا أن المواريث تُقسم بالثلث وبالربع وبالثمن وبالسدس، وبأقل وأكثر بتدبير وتقدير من الله، لماذا؟
لأن الورثة إذا دفنوك نسوك، وأخذوا يتقاسمون المال، فالأم تقول: سدسي، أو ثلثي، والأب يقول: سدس، أو أنا عاصب، والأولاد والبنين يقولون: الذكر مثل حظ الأنثيين، أو أخٌ لأم يقول: سدسي، أو جدة تريد سدساً، أو زوجةٌ تريد ربعاً، أو ثمناً، كلٌ يريد نصيبه، وكلٌ قد ودعك ونسيك.
أما عملك فثق أنه لن يُقسم، صلاتك لن تُقسم، صيامك لن يُقسم، عبادتك لن تُقسم، جهادك لن يُقسم، إنما عملك هو الذي يكون لك كله، وأما المال والأهل فما بين متفرق وما بين مقسوم.
أموالنا لذوي الميراث نجمعـها ودورنا لخراب الدهر نبنيها |
أيها الأحبة! فلنعتبر ولنجتهد، ولنقدم لأنفسنا، عجباً لبعض الناس، يقول: إني أوصيت، أو سوف أكتب وصيتي إذا أنا مت، فسوف يكون من ورائي كذا وكذا، وهو الآن قادر على المال والريال والصحة والبذل، وقد أخر ذلك وسوفه، يا مسكين إذا لم تنفع نفسك وأنت حي، أفتلوم من بعدك بعد أن يدفنوك إذا قصروا بك، لماذا لم ينفعوك؟ ما دمت قادراً فأحسن إلى نفسك.
وذُكر أن أحد الصالحين كان له أبٌ، وكان أبوه ثرياً، فكان هذا الأب يقول لولده، وقد ذهب في ضيعة، أو مزرعة يمشيان في الليل، فقال الأب لولده: يا بني ائتني بالسراج ليضيء لنا الطريق، فقام الولد وجاء بالسراج، فقدم والده أمامه، وجعل السراج خلفه، فقال الأب: يا بني أينفعنا السراج إذا كان خلفنا، إنما ينفعنا السراج إذا أضأته وسرت به بين أيدينا لنبصر به الطريق، فقال الابن: يا أبت فذاك عملك ينفعك إذا قدمته، وإذا أخرته فربما نفعك وربما لم ينفعك.
والغالب في أحوال كثير ممن لا يؤتمنون أنهم لن ينفعوا موتاهم حتى ولو كتبوا أوثق الوصايا، انفع نفسك ما دمت حياً، ولا بأس بالعناية مع هذا بالوصية: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ [البقرة:180].
الوصية تبرعٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت، والوصية للوالدين، ومن كان وارثاً نُسخت في حقه بآيات المواريث، وآيات أنصباء الورثة والعصبات، ولكن الحاصل أن العبد لا يتكل، فيقول: أوصي، أو أكتب في مالي كذا وكذا، ويتكل على المال، بل اعمل ما دمت قادراً، ما الذي يضيرك إذا كنت تفكر أن تبني مسجداً، أو أن يبنى من مالك مسجداً؟
ما الذي يضيرك أن تبني المسجد وأنت حي، وأن تقف عليه وأنت حي، وأن ترى الناس يصلون فيه، وأن تُصلي أنت فيه، وأن تعتكف؟ ولا تقول: إذا مت فاكفلوا من مالي داعية، أو دعاة، بل ما الذي يضيرك أن يُكفل الدعاة من مالك وأنت صحيح شحيح ترجو الفقر وتخشى الغنى، وترى الدعاة يقبضون رواتبهم من مالك، وهم يسعون مفرغين للدعوة إلى الله يبشرونك في كل يوم أو أسبوع أن قد أسلم بفضل الله ثم بمالك خلقٌ كثيرٌ، ترى بركات وآثار عملك وأنت حيٌ ينفعك بإذن الله.
خلِ ادكار الأربع والمنـزل المرتبعِ |
والضاعن المودعِ وعدِّ عنه ودعِ |
واندب زماناً سلفا سودت فيه الصحفا |
ولم تزل معتكفا على القبيحِ الشنعِ |
إلام تسهو وتني ومعظم العمر فني |
فيما يضرُّ المقتني ولست بالمرتدعِ |
أما ترى الشيب وخط وخط في الرأس خطط |
ومن يلح وخط الشمط بفوده فقد نعي |
آه له بيت البلى ومنـزل القفر الخلا |
ومنـزل السفر الألى والضاعن المودع |
يعني: القبر
بيتٌ يرى من أودعـه أو ضمه واستودعه |
لا يستوي إن حلـه داهية أو أبله |
أو معسر أو من لـه ملك كملك تبع |
هذه هي النهاية! فمادمت تعلمها فما الذي يجعلك تتأخر عن التوبة؟ وما الذي يجعلك تسوفها؟ أنت تعلم كم في بيتك من شريط لا يسرك أن يدفن معك أو تلقى الله به، وأنت تعلم كم في بيتك من مجلة لا يسرك أن تدفن معك أو تلقى الله بها، وتعلم أن في مالك قليلاً أو كثيراً من الريالات تعلم من أين جاءت، ولا يسرك أن تحج بها، أو تتصدق بها، أو تنفقها على أولادك، وربما قال الشيطان: اجعلها في وقود، أو في جدار، أو حائط، تخلص منها ما دمت قادراً قبل أن تُقسم من بعدك لهم حلال وتكون عليك حراماً.
هذه الدنيا حلالها حساب وحرامها عذاب، لن ينفعك -والله- إلا عملك حتى وإن طاف بك الطائفون، وأثنى المثنون، ومدح المادحون: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:34-36] ما الذي حل بهم؟ ما الذي أصابهم؟ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37] أمك لا تلتفت إليك، وأبوك مشغولٌ عنك، وزوجتك بحالها مشغولة، وأبناؤك ينظرون موازينهم، وأحبابك كلٌ يتطاير بصره إلى أين تطير صحيفته، وهل يلقاها بيمينه أو بشماله، والله لن ينفعنا إلا أعمالنا ولو مدحنا الليل والنهار، وسينفعنا العمل وإن شتم الشاتمون، أو سبنا السابون، أو خذلنا الخاذلون، أو ثبط المثبطون، أو أرجف المرجون، أو سخر الساخرون، أو استهزئ المستهزئون.
العمل ينفع بإذن الله، قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه ويبنه ترجمان، فينظر أيمن منه) أنت أيها المسكين! ستقف بين يدي الله جبار السماوات والأرض الذي تكون الأرض الكرة الأرضية بقاراتها، بأشجارها ببحارها، بجبالها، بمخلوقاتها، بطيورها، بوحوشها، ببهائمها، الكرة وما عليها في قبضة الجبار جل وعلا: وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67].
أنت أنت أيها المسكين! تقف بين يدي ربك، سيكلمك الله ليس بينك وبينه ترجمان، فتنظر أيمن منك فلا ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا ما قدمت، فتنظر بين يديك فلا ترى إلا النار تلقاء وجهك، يقول صلى الله عليه وسلم: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة).
وقد قلّ ذكر النار في مجالسنا، وقلّ ذكر النار في نوادينا، وقلّ ذكر النار في لقاءاتنا، ما أكثر ما مدحنا بعضاً، وتزينا لبعض، وأثنينا على بعض، وبحثنا وتناقشنا وقررنا وحللنا ورجحنا ورأينا وما أقل ما ذكرنا النار، هذه النار التي خشيها الصالحون الذين بلغوا أعمالاً صالحة، علي بن أبي طالب يراوح بين قدميه من طول القيام، ويقول: [لقد أدركت صحب محمدٍ صلى الله عليه وسلم والواحد منهم في جباههم مثل ركاب المعز من طول السجود] يراوحون بين أقدامهم من طول القيام في الليل والنهار، فإذا ذكرت النار، ماجوا وخافوا واضطربوا كأنما النار إنما خلقت لهم، أما نحن فقد جمعناً حشفاً وسوء كيلة، سوء عمل، وطول رجاء وأمل، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
هناك أمنية سيتمناها الرجل والمرأة، ويتمناها الذكر والأنثى، والصغير والكبير: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100] ما من عبدٍ إلا ويكون مغبوناً يوم القيامة، إن كان صالحاً رأى الغبن، لماذا لم يكن تزود أكثر مما فعل؟ وإن كان فاسداً ضالاً، أو كافراً مشركاً، رأى الغبن أن فرط ولم يجب داعي الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الأمنية ربما تمناها كافرٌ، وهو ما تمناه أهل النار حينما يُلقون فيها، قال تعالى: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر:37] الله أكبر: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ [فاطر:37].. آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ [يونس:91] الآن لما رأيت النار، الآن لما وقفت على الصراط، الآن لما رأيت زبانية جهنم، الآن لما ودعت الدنيا، أين كنت يوم كنت قادراً، يوم كنت قوياً، يوم كنت عداءً سباقاً، يوم كنت مصارعاً جلداً، يوم كنت بصيراً حديداً، يوم كنت فصيحاً منطيقاً، يوم كنت لجوجاً حجوجاً، يوم كنت فارساً شجاعاً، أين كنت عن عبادة الله ؟ أين كنت عن طاعة الله؟ ما الذي أشغلك: سهرٌ بليل، معصية، مصيبة، داء وبيل؟ ربما ابتلاك الله بالعافية فلم تعرف:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعمِ |
إن الله جل وعلا يذكر شأن الضالين الذين فرطوا: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:99-100].
سيبقى بعد تمنيه، وبعد رجائه، وبعد أمله أن يرد؛ إنه لن يجاب (كلا) مرجوع مزجور، سيبقى في البرزخ: وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ [المؤمنون:100-101] إذا انتهت مدة البرزخ: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] أين الغبطة؟ وأين التجارة؟ وأين النعيم؟ وأين ما ينفع؟ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:102-104] ثم يأتي التقريع، ويأتي التوبيخ: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ [المؤمنون:105] ألم يأتكم أنبياء؟ ألم يأتكم رسل؟ ألم يبلغكم القرآن كاملاً غير محرف، محفوظاً من الزيادة والنقصان؟ ألم تسمعوا المواعظ؟ ألم تسمعوا النداء؟ ألم تقرع قلوبكم سياط المواعظ؟ ألم تعتبروا بقصص من حل بهم الموت وهم على المعصية؟ ما الذي بدلكم؟ وما الذي أبعدكم؟ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [المؤمنون:105] هناك من كذب، وهناك من فرط، وهناك من شكك، وهناك من قال: ربما، ولعل، وليت:
ولست بمرجعٍ ما فات مني بليت ولا لعل، ولا لو اني |
ما تنفع أبداً: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:105-106] شقاء في الإصرار؛ في التكذيب، في عناد الرُسل، في عناد الدعاة إلى الله، في عناد من نصحنا وأمرنا بالصلاة، في عناد من حذرنا من اللهو والغفلة، في عناد من دعانا إلى طريق الله: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ [المؤمنون:106].
لكن يقولون: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107] فيرد الجبار عليهم بعد أعوام طويلة: قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108] هم يصطرخون ويصيحون وينادون: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77] يرد عليهم الجواب بعد زمن طويل اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108].
وهذا شأن كل ضال سيندم عند الموت، وسيندم في القبر، وسيندم عند البعث، وسيندم في الحشر، وسيندم عند تطاير الصحف، وسيندم حينما يعبر على الصراط، وسيندم حينما يرى مصارع أهل النار، وسيندم حينما يرى منازل أهل الجنة، أسأل الله أن يجعلنا من المغبوطين، ولا يجعلنا من المغبونين.
قال صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أخرجه الحاكم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) إنها غنيمة، والغنيمة يُحتاج إلى البداية فيها.
والغنيمة أمر يفوت إن فرطت فيه، وأمر إنما يُقال لشيء سرعان ما ينفذ ولا يبقى، أما الأمور الوافرة، فلا تقول لرجل: اغتنم من البحر شيئاً من الماء، فماء البحر كثير لا يُعد إدراك شيء من مائه غنيمة، ولكن تقول: اغتنم أمراً من الأمور التي إن فرطت فيها ولَّت عنك أو ولِّيت عنها.
فالواجب علينا أن نبادر بالأعمال، أن نسارع إلى الخيرات قبل أن يُحال بيننا وبينها، وإذا حِيل بين العبد وبين العمل الصالح فحينئذٍ لا تسأل عن حسرته، والله إن أناساً تمنوا الرجوع؛ يريدون أن يتوبوا وهم أحياء، فحيل بينهم من شدة ما طُبع على قلوبهم.
تركوا الجمعة والجمع والجماعات، واقترفوا المعاصي والسيئات، وداوموا الخطايا والفواحش الموبقات، واستهزءوا بالدعاة، وسخروا من آيات الله: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ [سـبأ:54] ولأجل ذلك لما دعانا ربنا إلى الاستجابة، لما يدعونا به سبحانه ويدعونا به نبيه صلى الله عليه وسلم، قال بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] كأن من معاني الآية: أن من لم يستجب، قد يحال بينه وبين قلبه، كأن من معاني الآية: أن من دعي فأعرض، من نودي فنأى، من دني إليه فأبعد، كأن من معاني الآية: أن من أصر على ذلك، وطبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: (لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمع والجماعات، أو ليطبعن الله على قلوبهم).
فإذا طبع على القلب، حيل بينه وبين التوبة، وحيل بينه وبين الرجوع، يحدثني أحد الإخوة عن ضابط من ضباط السجون، قال: إن بعض الذين حُكم عليهم بالقتل إذا كان فجر الجمعة أو صبيحة الجمعة، جيء بكاتب عدل ليكتب وصية من سينفذ فيه الحكم، إما حرابةً، أو قتلاً، أو رجماً بالحجارة، أو ضربةً بسيف، أو رمياً برصاص، أو نحو ذلك، قال: فبعضهم إذا قيل له: إن هذا كاتب عدل يكتب وصيتك، ستموت هذا اليوم، أو سينفذ حكم الله فيك هذا اليوم، قال: بعضهم يبكي وينوح ويصيح أعطوني سجادة أصلي، أعطوني قرآناً أقرأ، يلتفت إلى السجناء: ادعوا لي، اسألوا من تعرفون فيه الصلاح أن يدعو لي عند الله، أن يسأل الله لي بالتوبة والمغفرة.
قال: فيرجع ويندم ويبكي حتى تدنو الساعة، بقي أربع ساعات، ثلاث ساعات، ساعتان، يركب في السيارة، الساعة الأخيرة ثم ينفذ فيه الحكم وينتهي، قال: وبعضهم يأتي كاتب العدل، فيقول له: هل من وصية؟ فيقول: لا، فيقول: اغتنم ما بقي، نحن في السابعة صباحاً، وفي الواحدة، أو الثانية عشرة والنصف، سيكون أمر الله وحكم الله وشرع الله رحمة وتطهيراً، فيقول: دعنا من كلامك يا شيخ، قال: بعضهم والله يُعطى السجادة فلا يأخذها، ويُعرض عليه الماء ليتوضأ فلا يُقبل على الوضوء ليصلي، ويدعى إلى ركعتين قبل أن يُقتل فلا يسجدها ولا يركعها، وبعضهم يقول: أعطوني (تتن) وآخر يقول: أعطوني كذا، والآخر يقول: (أعطوني دخان) حيل بينهم وبين ما يشتهون وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24] قد طبع على قلبه ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فأسأل الله بحوله وقوته ومنِّه وكرمه أن يجعلنا من المستجيبين له ولرسوله، وألا يجعلنا ممن طُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، أولم ينادنا ربنا يا إخواني! يا أيها المستمعون والمستمعات! يا أيها المسلمون والمسلمات! أولم يدعونا ربنا أن ننيب، وأن نستجيب، قال ربنا جل وعلا: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:53-54] أنيبوا، ارجعوا، أسلموا، استسلموا، انقادوا، اخضعوا، دعوا المكابرة، دعوا العناد، دعوا التسويف، دعوا التأجيل، الفرصة متاحة، والباب مفتوح، فأقبلوا فإن الله رب يفرح بتوبة عبده أشد من أحدنا إذا أضاع دابته في فلاةٍ وعليها طعامه وشرابه ثم وجدها، ربٌ غنيٌ عنا يفرح بتوبتنا فينادينا ويقول: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:54-58].
أولم تكن آيات الله تتلى عليك؟ أولم يُعمرك الله؟ أولم يجعلك الله متدبراً؟ أما رأيت مصارع الضالين؟ أما علمت أن أناساً ماتوا والمخدرات في أوردتهم وشرايينهم وأبدانهم؟ أما علمت أن أناساً ماتوا وهم في أحضان البغايا والزواني؟ أما علمت أن أقواماً ماتوا وهم في سكرة الخمر والشراب المحرم؟ أما علمت أن أقواماً ماتوا وقد محق الله أبدانهم بالربا؟ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276] لا يغرنك في مرابٍ سيارته، ولا بيته، ولا رصيده، ولا أمواله، يأبى الله إلا أن يمحق الربا.
صاحب الربا ممحوق في ماله، عنده المليار، ولا يأكل هذا الطعام الذي فيه سكر وحلوى، لأمراض السكر في بدنه، ولا يأكل مادة لذيذة لضغط في بدنه، ولا يأكل دسمةً لكوليسترول في بدنه، ولا يأكل هذا لمرض في كبده، ولا يمشي لأن مفاصله مريضة، ولا يفعل لأنه عاجز، ولا، ولا... لأنه.. لأنه ... ما نفعته ملياراته، ما نفعته أمواله.
يقول لي شاب سبق أن عمل مديراً لإدارة إقليمية في بنك من البنوك، قال: والله يا أخي إني لست طالب علم، ولا شيخاً، ولا أعرف أمراً من الأمور الشرعية، لكني من واقع عملي فهمت وأدركت ورأيت عياناً بياناً بكل الأدلة الحسية الناطقة المشهودة قول الله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا [البقرة:276] قال: عندي في هذا الجهاز الذي تراه أسماء كبار أصحاب الودائع المستثمرين بالربا بالدولار، وبمختلف العملات، وإنهم عاجزون أن يتلذذوا بأموالهم، ليس من شرط محق الله للربا أن يحرق كل ريال أو كل دولار جُمع، ولكن يمحق الربا فبقدر ما يجمع من الأموال يهلك.
شابٌ من أيام قليلة كان يعمل في بنك ربوي فتركه، وكان من الحوار بيني وبينه أن قال: نعم، كان راتبي كثيراً، لكن ينتهي هذا الراتب، وأستدين قبل نهاية الشهر، حوادث مرورية، مخالفات مرورية، سخانة تنفجر، لمبة تحترق، إناء ينكسر، جدار ينشق، مصيبة تحل، ولد يمرض، تحليل وصرفيات للمستشفى، يقول: يذهب الراتب، يمحق ولا يبقى شيء، فعلمت أنني مهما ازداد راتبي، ووعدوني بترقيات وزيادات أنها لا تنفعني، وقد يبتلي الله ويُفتن بعض العباد بشيء من الجمع في مرحلة من المراحل، ثم يطوف عليه طائف من ربك وهم نائمون.
مضى أمسك الباقي شهيداً معدلا وأصبحت في يومٍ عليك جديدُ |
فإن كنت بالأمس اقترفت إساءةً فثنِ بإحسانٍ وأنت حميدُ |
فيومك إن عاينته عاد نفعه إليك وماضي الأمس ليس يعود |
ولا ترج فعل الخير يوماً إلى غدٍ لعل غداً يأتي وأنت فقيد |
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل) وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك] رواه البخاري.
فهذا أصلٌ جليلٌ عظيمٌ في قِصر الأمل في الدنيا، وينبغي للعبد أن يُعد، وأن يجهز، وأن يجمل داره في الآخرة حتى يتهيأ للانتقال والرحيل إليها بإذن الله جل وعلا.
أيها الأحبة! إن من زين داراً، واشتغل بها، وجملها، وطيبها، اشتاق إلى أن يرتحل إليها، وإن من خرب داراً، كره أن ينتقل إليها، ولو أن واحداً منكم أُعطي أرضاً، فحفر بها بئراً، وغرس بها نخلاً، وشق فيها أنهاراً، وجعل عليها سوراً وجداراً، وجعل فيها أزهاراً وأشجاراً، وجعل فيها حدائق وجنات، وطيبها بكل ما تُزين به الحدائق والبساتين.. أتظنونه يُهملها؟ سترونه في كل يوم يزورها، ويعتني بها، ويسوؤه أن ينقطع الماء عنها، ويسوؤه أن يخرب شيء من ثمارها وأشجارها، ولا يتركها نهبةً لمن أراد أن يدخلها، أو يعبث فيها.
ولو أن آخر أعطي أرضاً فتركها، ولم يغرس بها نخلاً، ولم يحفر بها بئراً، ولم يجعل فيها شجرة، ولم يجعل لها سوراً، ثم قيل له: إن بني فلان أناخوا رواحلهم وأباعرهم فيها، فإنه لا يتأثر، لو قيل له: إن تلك الأرض أصبحت تُرمى فيها القمامات والزبالات ما يتأثر، لأنه ما تعب فيها.
فكذلك الآخرة إذا اعتنينا بمواقعنا فيها، نغرس فيها أعمالاً صالحةً، نحفر فيها آبار العمل الصالح والأوقاف النافعة، نبني عليها أسواراً منيعة، نحصنها بالتوبة وبالذكر وبالاستغفار، فإنها تهمنا، وإذا جاءت ملائكة الموت تنقلنا إلى هذه الدور التي طيبناها وغرسناها وزيناها، رضينا وفرحنا أن ننتقل إليها، أما عبدٌ ضيع آخرته، فلا شك أنه يكره أن ينتقل إليها، ولذلك قيل للحسن البصري : لماذا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال: [لأنكم عمرتم الدنيا، وخربتم الآخرة، فتكرهون أن تنتقلوا من العمار إلى الخراب].
كان صلى الله عليه وسلم يقول: (ما لي وللدنيا، إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكبٍ قَالَ -من القيلولة- في ظل شجرة، ثم راح وتركها) نام وقت المقيل في ظل شجرة ثم راح وتركها.
وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: [إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكلٍ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل] وقال يحيى بن معاذ الرازي: [الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لم يُفق إلا في عسكر الموتى نادماً مع الخاسرين].
تخرب ما يبقى وتعمر ثانياً فلا ذاك موفورٌ، ولا ذاك عامرُ |
وهل لك إن وافاك حتفك بغتةً ولم تدخر خيراً لدى الله عاذرُ |
أترضى بأن تفنى الحياة وتنقضي ودينك منقوصٌ ومالك وافرُ |
ماذا ينفعك أن تموت ووراءك مليار دينار، وليس أمامك إلا آلاف السيئات وآحاد الحسنات؟ والله ما يسرك لو خلفت أموال الدنيا وقد أقبلت بسيئات لا قبل لك بها، نسأل الله أن يتغمدنا برحمته.
قال المروذي: قلت لـأبي عبد الله - يعني: أحمد-: أي شيء الزهد في الدنيا؟ قال: قِصر الأمل، من إذا أصبح قال: لا أمسي.
وقال بكر المزني: إذا أردت أن تنفعك صلاتك، فقل: لعلي لا أصلي غيرها.
أي: قد تكون هي الصلاة الأخيرة، وقد يفاجئني الموت بعدها، وفي الترمذي عن أبي هريرة مرفوعاً: [ما من ميتٍ يموت إلا ندم قالوا: وما ندامته؟ قال: إن كان محسناً ندم ألا يكون زاد، وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب] أي: طلب العتبى وتاب ورجع إلى الله.
فإذا كان الأمر على هذا، فيتعين علينا جميعاً ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباً، صغاراً وكباراً أن نعود إلى الله، أن نرجع إلى الله، كفانا غفلة، بلغنا من العمر ثلاثين في غفلة، بلغنا أربعين في غفلة، بلغنا خمسين في غفلة، فمتى الرجوع؟ ومتى التوبة؟ ومتى العودة والإنابة؟
قال سعيد بن جبير: [كل يومٍ يعيشه المؤمن غنيمة].
وقال بكر المزني : ما من يومٍ أخرجه الله إلى الدنيا إلا يقول ذلك اليوم: يا بن آدم.. اغتنمني لعله لا يوم لك بعدي، ولا ليلة إلا تنادي: يا بن آدم.. اغتنمني لعله لا ليلة لك بعدي، قال البخاري رحمه الله:
اغتنم في الفراغ فضل ركـوعٍ فعسى أن يكون موتك بغته |
كم صحيحٍ رأيت من غير سقمٍ ذهبت نفسه الصحيحة فلته |
ويقول القائل:
تزود من الدنيا فإنك لا تدري إذا جنَّ ليلٌ هل تعيش إلى الفجرِ |
فكم من صحيحٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر |
نقول: ومن قال إن التوبة تعني ذلك؟ التوبة أن تُودع ما نهى الله عنه، أن تهجر ما نهى الله عنه، أن تتخلص مما نهى الله عنه، وأن تُقبل على طاعة الله، اتق المحرمات تكن أعبد الناس، إن الشيطان يُريد أن يُوقع بيننا عداوة وبغضاء، ويريد أن يضلنا، ويريد أن يصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل نحن منتهون؟
هل ننتهي من هذه الغفلة ونُقبل على طاعة الله؟ وعلينا أن نستعيذ بالله من همزه ونفخه ونفثه ووسوسته: الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً [البقرة:268].
الشيطان يزين للعبد حتى إذا اجتمع الشيطان وأعوانه في النار يوم القيامة، وقف الشيطان خطيباً فصيحاً، فقال كما ذكر الله جل وعلا: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ [إبراهيم:22] انتهت القضية، فُرغ من المسألة، أهل النار في النار، أهل الجنة في الجنة، قام الشيطان فقال: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22].
الشيطان يوبخ ويقرع: كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ [الحشر:16] كم أغوى من شاب، نعم إن الشياطين ما نصبت حبالاً كحبال المشانق تخطف بها رقاب العباد، وإن الشياطين ليس معها أقفالاً وأغلالاً وقيوداً تضعها في الأيدي والأرجل، ولكن الشياطين سربت نغمةً إلى أذن، وزينت صورة في عين، ورسمت فكرة في خيال، وخيلت شهوة محرمة في نفس، وقادت خطوة خطوة إلى أن وقع العبد في المعصية، لأجل ذا قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168].
نعم إن الشيطان ما قال لرجل ذات يوم: اطرح هذه المرأة، وافعل بها الزنا من أول وهلة، وما قال: اشرب كأساً من الخمر أول وهلة، وما قال: خُذ أموال الربا أول وهلة، وما قال: افعل كذا أول وهلة، وإنما قاد خطوة خطوة، إنما هي كانت خيالاً، كانت خطرات، كانت سكرات، ثم هي خطوات، ثم أفعالٌ حتى وقع العبد في المعصية.
ورب عبدٍ يتوب بعد معصيته، ويُفسح في أجله، ويُمهل في عمره، فيعود ويستعتب، ورب عبدٍ يموت قبل أن يتوب، ورب عبدٍ يموت وهو يفعل فاحشته، أو يشرب كأسه، أو يعاقر محرماً من المحرمات، إن الشيطان قعد لنا في كل باب، وقعد لنا في كل طريق، إذا أذن للفجر زين لنا الفرش والوسائد، وإذا دعينا إلى الإنفاق في سبيل الله قبض أيدينا على جيوبنا، وإذا دعينا إلى محاضرة وندوة خوفنا ووسوس لنا، وزين لنا مجالس لهو وغفلة، وإذا دعينا إلى صلة رحم ذكرنا محرشاً بعداوات قديمة، وإذا دعينا إلى إصلاح ذات بينٍ جعلنا ننحاز إلى فريق دون فريق.
هكذا شأن الشيطان يقعد لكل عبد في طريقه، قال صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال -أي الشيطان-: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبنائك، فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: تهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطِوَلْ -الطول: الحبل الطويل يشد أحد طرفيه في وتدٍ والطرف الآخر في يد الفرس، لتدور الفرس وترعى، ولا تذهب تلقاء وجهها- فعصاه ابن آدم فهاجر، ثم قعد الشيطان للمسلم في طريق الجهاد. فقال: تجاهد، فهو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، وتنكح المرأة بعدك، ويقسم المال، فعصاه، فجاهد، فمن فعل ذلك -يعني: من عصى الشيطان في كل وساوسه وطرائقه- كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، ومن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته كان حقاً على الله أن يدخله الجنة) رواه أحمد والنسائي وابن حبان بإسناد صحيح.
دع التكاسل في الخيرات تطلبها فليس يسعد بالخيرات كسلانُ |
لا ظل للمرء يغني عن تقىً ونهى وإن أظلته أوراقٌ وأفنانُ |
ما الذي يصدنا عن الجنة؟
يا سلعة الرحمن لست رخيصةً بل أنت غاليةٌ على الكسلانِ |
يا سلعة الرحمن سوقكِ كاسدٌ فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ |
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحدٌ لا اثنانِ |
يا سلعة الرحمن كيف تصبر الـ خطاب عنك وهم ذوو إيمانِ |
ما الذي صدنا؟ ما الذي قعد بنا عن طلب الجنة؟ وما الذي قعد بنا عن السلامة من النار، إن طرق الخير كثيرة، وأبواب البر عديدة وفيرة، فلنا في كل تهليل وتكبير عمل صالح يقود إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: (يصبح على كل سُلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) رواه الإمام مسلم.
عليك صدقة في عافيتك ببدنك ومفاصلك، ويجزئ من ذلك أن تصلي ركعتين، وفي هذا الحديث دلالة على أنك قادر على أن تملأ خزائنك بالأعمال الصالحة، إن الذكر عبادة لسانية، لو أردت أن تحرك يدك بعدد حركات لسانك لانقطعت يدك، ولو أردت أن تحرك رجلك بعدد حركات لسانك لشلت رجلك، ولو أردت أن تحرك حاسة لسانك بخفقات القلب لعجزت، لكن الذكر فيه تسبيح وتهليل واستغفار وإنابة، وذكر لله، وتلاوة، وفيه حسنات كثيرة: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
اختار الله كلمات فجعلهما ثقيلتين في الميزان، خفيفتين على اللسان، حبيبتين إلى الرحمن" سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" اختار الله كلمات كما قال صلى الله عليه وسلم جعلها خيراً من الدنيا وما فيها" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
إنك قادرٌ أن تبلغ الجنة بأيسر الأعمال، أن تقوم بغض طرفك، أن تُحرك لسانك بذكر الله، أن تكف يدك عن الحرام، أن تعقل قدمك عن المشي إلى معصية الله، أن تسير إلى ما أمر الله بالسير إليه، فإن أبواب الجنة سهلةٌ وميسرة جداً، وفي الحديث الآخر: (كل سُلامى من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تعدل بين اثنين صدقة، تعين الرجل في دابته فتحمله عليها وترفع له عليها متاعه صدقة، الكلمة الطيبة صدقة، بكل خطوة تمشيها إلى المسجد صدقة، تميط الأذى عن الطريق صدقة) متفق عليه.
وفي حديث آخر: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) أين نحن من هذه الصدقات؟
من الناس من إذا رأى اثنين قام كالشيطان منحازاً إلى أحدهما، لا يريد أن يُصلح بينهما، وبعض الناس لا يعرف إلا طريق التشجيع للأندية والمباريات الرياضية، لا يعرف أن يقف في الوسط لكي يعدل ويُصلح ويُوفق ويقرب بين فريقين وطرفين وطائفتين، لا يعرف إلا أن يتحيز لهؤلاء ضد هؤلاء، وهؤلاء ضد هؤلاء أياً كانوا صغاراً أو كباراً أو أفراداً، أو غير ذلك.
ومن الناس من يحرم نفسه الصدقة، فتجده يجد محتاجاً إلى المساعدة فلا يساعده، يجد رجلاً عاملاً فقيراً مسكيناً كالاً أو ابن سبيل قد انقطع به الطريق فلا يحمله، يحرم نفسه الصدقة، وبيده أن يميط أذى عن الطريق، فربما ترفع أن يلوث تلك اليد المعطرة بمختلف العطور بذلك الأذى الذي رآه، وربما كان ذلك الأذى مرجحاً لحسناته على سيئاته، فيكون بإذن الله سبباً في دخوله الجنة.
في مجلس من المجالس زرت رجلاً أرجوه وألتمس عنده أن يفك أسر مكفوله الذي بلغ من العمر مبلغاً، وله أسرة فقيرة، وله طفلة عمرها ثلاث سنوات أصيبت بفشل كلوي، وله أم عجوز كبيرة، فقلت للرجل: يا فلان، يا عبد الله! إني أدعوك إلى الله وبالله، ولأجل وجه الله أن تترك كفالة هذا المسكين، وتنقلها إلى آخر، وإن ثبت لك في ذمته شيء من الحقوق المالية شرعاً، فأنا ضمينٌ كفيلٌ بها، اتركه.
فقال: لا، ما أتركه، فقام واحد من الحضور، قال: هي فوضى، أن يأتي هؤلاء الأجانب، ونتسامح معهم ونتساهل معهم، المستشفيات مليئة بالمرضى، وأنت لا تأخذك العاطفة، فقلت: يا مسكين! أولم يكن خيرٌ لك أن تقول كلمة طيبة، أو تصمت: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيراً أو ليصمت).
من الناس فضلاً عن أنه عاجز عن أن يفعل خيراً- والعياذ بالله- قعد به الشيطان ونفسٌ أمارةٌ بالسوء، وهوى مطاع، وشحٌ متبع، قعد به عن فعل الخير، فما زاده إلا أن أنطقه بالباطل، فإذا لم تستطع قول الحق، فلا تنطق بالباطل يا عبد الله، الإمساك عن الشر كما في نهاية الحديث، قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: (يمسك على الشر، فإنها صدقة) متفق عليه.
إن أبواب الجنة ميسرة وسهلة، لكن الشيطان ضيق على من أغواهم وأضلهم، تجد الذين وقعوا في الخمر والمخدرات، جميع أنواع عصيرات الفواكه، وعصيرات المشروبات، والأطعمة والطيبات ضاقت في أعينهم، ولم يبق إلا الخمر وهو الذي لذَّ أمام أعينهم وعلى ألسنتهم، أنواع المأكولات ما طابت لهم، وما طاب إلا الحرام، جميع أبواب الرزق من بيع وشراء وأجرة وسَلَم ورهن ومغارسة ومزارعة، وأمور كثيرة ضاقت عليهم، وما طاب لهم إلا الحرام، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
تجد بعضهم ضاقت المجالس أمام عينيه، ما فكر أن يقعد في مسجد، أو يجلس مع زوجته، أو يلاعب أطفاله، أو يصل رحمه، أو يجلس مع والديه، أو يمشي في طاعة الله ومرضاته، ضاقت كل المجالس وما رأى إلا مجلساً فيه معصيةٌ من معاصي الله سبحانه وتعالى.
وفي الختام أيها الأحبة: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].
اللهم لا تجعلنا من الفاسقين، اللهم لا تجعلنا ممن طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، اللهم اجعلنا من المسارعين في الخيرات، الراغبين في الطاعات.
اللهم استرنا بسترك الذي لا يُكشف، اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، وارفعنا بطاعتك، ولا تخزنا بمعصيتك، اللهم ثبتنا على طاعتك إلى أن نلقاك، اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أبقيتنا.
اللهم أصلح شأننا، اللهم اجمع شملنا، اللهم أصلح حكامنا، اللهم اهد ولاة أمرنا، اللهم سدد دعاتنا، اللهم وفق علماءنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شملنا، اللهم اجمع شمل علمائنا وحكامنا ودعاتنا وعامتنا وصغيرنا وكبيرنا على طاعتك.
اللهم لا تفرح علينا عدواً، اللهم لا تُشمت بنا حاسداً، اللهم إنا نعوذ بك من الحور بعد الكور، ومن الزيغ بعد الاستقامة، ومن الضلالة بعد الهدى، لا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاً طبقاً مجللاً نافعاً غير ضار يا رب العالمين.
وفي الختام أرجو ممن رتبوا هذه المحاضرة أن يجعلوا على الأبواب من يجمع تبرعات لإخواننا في البوسنة والهرسك، فإنهم بفضل الله في أخبار تنبئ بانتصارات، وبشائر تنبئ بقرب النصر والفرج من عند الله سبحانه وتعالى، فأعطوهم وأعينوهم: وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [المزمل:20].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر