وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد؛ كما باركت على إبراهيم وعلى إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
أيها الكرام! تعلمون أن الله عز وجل خصص اتباع نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وقال تبارك وتعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].
والاتباع دليل على الحب، لقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31].
وأعظم مناقض للاتباع هو الابتداع.
ولذلك قاومه الرسول عليه الصلاة والسلام في حياته قولاً وعملاً.
فأما قولاً: فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب في أصحابه كخطبة الحاجة، ويحذرهم من محدثات الأمور، ولما جاء نفرٌ إلى أبياته صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، وبعدما تقالوها، ووجدوا أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يصنع كبير شيءٍ، قال أحدهم: (أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم ولا أنام، وقال الثالث: وأنا لا أتزوج النساء؛ فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأنكر ذلك وقال: من رغب عن سنتي فليس مني).
فالبدعة سببها الجهل، وكلما اقتربت من السلف الأول ابتعدت عن البدعة، وأنت تنظر إلى جميع المبتدعة ترى علمَهم بالسلف قليل، ولكن لهم سمتٌ عام وهو الجد في العبادة، ولذلك ينتفع بهم كثير من الذين لا يعلمون السنة، وأقرب مثلٍ أبدأ به حديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، وهو حديث الإسلام والإيمان والإحسان.
وفي هذا الحديث: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري: خرجت أنا ويحيى بن يعمر حاجين أو معتمرين فقلنا: لو لقينا أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثنا بما أحدثه معبد الجهني في القدر! فوُفِّق لنا عبد الله بن عمر داخلاً المسجد، فاكتنفناه، فقلت: أبا عبد الرحمن! لقد ظهر قِبَلنا أناسٌ يقرءون القرآن ويتقفرون العلم.. وذكر من شأنهم- يعني أفاض في صفاتهم وفي مزاياهم- ولكنهم يقولون: إن الأمر أُنُف وأن لا قدر.
وعند ابن مندة في كتاب الإيمان: قال حميد بن عبد الرحمن الحميري : فقابلني عبد الله بن عمر وكان يعرفني، فسلم عليّ وسألني عن أهلي، فقلت له: أبا عبد الرحمن إنه ظهر قِبَلنا ناسٌ يتقفرون العلم ويقرءون القرآن ويقولون: أن لا قدر، قال: فأرخى يده من يدي، وقال: (إذا لقيت هؤلاء فقل لهم: عبد الله بن عمر بريء منكم وأنتم بُرَآء منه، والذي يحلف به عبد الله بن عمر : لئن جاء أحدكم بأحُدٍ ذهباً، فلا يُقْبَل منه حتى يؤمن بالقدر).
فأنت تنظر أيها الأخ الكريم! يقرءون القرآن ويتقفرون العلم، ومع ذلك لم ينتفعوا بهذا العلم في درء البدعة والتمسك بالسنة.
لم يغتر عبد الله بن عمر بما ذُكِرَ من أوصاف؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حذر منهم، كما في حديث الصحيحين: لما جاء ذو الخويصرة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (اعدل يا محمد فإنك لم تعدل، قال: ويحك، ومن أحق أهل الأرض أن يعدل إذا لم أعدل أنا، خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) ، هكذا الرواية في الصحيحين وهي الأشهر، (خبتَ وخسرتَ)، و(خبتُ وخسرتُ) ظاهرة المعنى، لكن خبتَ وخسرتَ قد يستشكل على بعضهم هذا الفتح، ويقول: إذا جاز على النبي صلى الله عليه وسلم ألا يعدل، فأي خيبة وخسران تعود على الرجل.
قال العلماء: (خبتَ وخسرتَ إن لم أعدل) معناها: أنك خبتَ وخسرتَ إذ ظننتَ أن نبيك لا يعدل. وسوء الظن بالنبي كُفر، فخيبته وخسرانه لسوء ظنه في نبيه.
فأراد خالد بن الوليد أن يقتله، فقال عليه الصلاة والسلام: (دعوه، إنه يخرج من ضئضئ هذا أقوامٌ، يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، لئن أدركتُهم لأقتلنهم قتل عاد).
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام للعُبَّاد، يقوله: لـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، ويقوله لـعبد الله بن عمرو بن العاص وابن عمر ، وابن مسعود وأبي عبيدة، هؤلاء السادة، تصوَّر عندما يحقر أبو بكر الصديق صلاته وقيامه في مقابل صلاة هؤلاء! إذاً: لك أن تتخيل كيف تكون صلاتهم؟! وكيف يكون صيامهم؟!
وأعطيك مثلاً لبعض أكابر الصحابة وهو عبد الله بن عمرو بن العاص -كما في الصحيحين ومسند الإمام أحمد - قال: (زوجني أبي امرأةً ذات حسب من قريش، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص من المجدين في العبادة، فـعمرو بن العاص يعلم حال ابنه، فخشي أن يكون قام الليل في ليلة عرسه وترك امرأته، وفعلاً كما توقع، قال: فذهب يسأل امرأتي -أي زوجة ابنه-: ما حال عبد الله معك؟
قالت: عبد الله نِعْم العبد لربه، غير أنه لم يعرف لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً، قال عبد الله : فجاءني أبي فعزمني، وأنبني بلسانه، وقال: زوجتك امرأةً ذات حسب من قريشٍ فأعظلتها؟ قال عبد الله : وذلك لما كان لي من الشَّرَهِ في العبادة) عنده شَرَهٌ كبير للصلاة وللصيام.
وفي صحيح ابن حبان قال عبد الله بن عمرو : (جمعت القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت أقوم به كل ليلة، فشكى قال: يا رسول الله! أقرؤه كل ليلة. قال: كيف تصوم؟ قال: أصوم الدهر. فجعل ينزل به إلى التيسير. فقال له: صمْ يوماً وأفطرْ يوماً. قال: أقدر. قال له: اقرأ القرآن في أربعين. قال: أقدر. قال له: اقرأ القرآن في شهر. قال: أقدر. فلا زال النبي صلى الله عليه وسلم يتدرج به
فهذا من الشَّرَه في العبادة! فتصور عندما يقال لـعبد الله بن عمرو بن العاص الذي يقرأ القرآن كل ليلة: إنك لا تقرأ! وهل هذه قراءة؟
لا تجتهد فهناك رجل من الخوارج هو أجد منك في العبادة والصوم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول هذا الكلام لهؤلاء الصحابة العُبَّاد: (يأتي أقوامٌ يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وصيامه إلى صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم). فعندما تتأمل فهم الخوارج للقرآن تضرب بكفيك عجباً!
قال: قال الله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38] فالنسور أمة، والصراصير أمة، والنمل أمة، والنحل أمة، ثم قال تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24].
انظر إلى الكلام: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ [فاطر:24] يعني: ما من أمةٍ إلا أرسلنا فيها نذيراً.
فهذا يدل على أنه ما من أمة من الأمم التي خلقها الله عز وجل إلا أرسل فيها رسولاً.
والعلماء يقولون: إن نزع الكلام من السياق جريمة في حق المعنى.
سبحان الله! ضع كل جملة في سياقها يظهر لك المعنى، أما بالنسبة لكيد الشيطان، فإن الله عز وجل قال: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [النساء:76]، فكيد الشيطان هنا في مقابل كيد الله فهو ضعيف فعلاً؛ لأنه في مقابل كيد الله عز وجل؛ لكن النساء في قصة يوسف عليه السلام ذكر كيدهن في مقابل كيد الرجال، ونَعَمْ، فإن الرجال لا يستطيعون أن يجاروا النساء أبداً في هذا الكيد.
فما الذي أوصل كيد المرأة أن يكون أعظم من كيد الشيطان؟!
هناك أناسٌ لا ينظرون إلى المعنى ولا إلى السياق ولا السباق ولا اللحاق، والكلام لا بد له من سياق وسباق ولحاق.
وهكذا عندما يبتعد الإنسان عن منهل السلف الصالح يقع في البدعة.
ولذلك كانت أدلة أهل البدع مخالفة أدلة أهل السنة، فأنت تنظر إلى حال أهل البدع يجدون ويجتهدون في العبادة، ولذلك تجد أن أتباع المبتدع كثيرون، بسبب أنهم ينظرون إلى هيئته، يسمع القرآن يبكي.. وإذا صلى يطيل الصلاة.. وتجده زاهداً! انظر إلى حال عمرو بن عبيد رأس المعتزلة القدرية، كان المأمون يعجب من زهده ورغبته عن الدنيا، فكان إذا رآه قال:
كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد
فكل واحد منكم يمشي رويداً، يريد أن يصطاد، فهو يمشي على مهله، وينظر يمنة ويسرة لعله يجد فريسة، فهو يقول:
كلكم يمشي رويد.. كلكم طالب صيد.. غير عمرو بن عبيد
وكان شديد الزهد، ومع ذلك لم ينفعه هذا الزهد.
فأنت تنظر إلى الخوارج الذين يصلُّون حتى يحقر الصحابةُ صلاتَهم إلى صلاتِهم، وصيامَهم إلى صيامِهم، ويقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، ومع ذلك فإن أسرع الناس خروجاً من الدين هؤلاء.
إذاً: ما نفعهم قراءةُ القرآن في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصلاة في الثبات على الهدى، ولا كثرةُ الصيام في الثبات على الهدى.
فالمبتدع التزامه هش جداً، وبالتالي كانت محنة طلب السنة والثبات عليها من أعظم المحن، وحتى لا يُظَنُّ أنني مبالغ في هذه الكلمة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة).
إذاً: أنت أيها المسلم أمامك ثلاثةٌ وسبعون باباً، وهذه الأبواب اختلط بعضها ببعض، أنت قد تجد أحياناً باب الهدى لا منادي له، لغربة علماء السنة، وتجد على أبواب كثيرة من يدعو وينادي إليها، وعندما يأتي شخص جاهل خالي الذهن لا يدري أين باب الهدى في هذه الأبواب الثلاثة والسبعين، ولو سألت أي رجل: على أي باب؛ لقال لك: هذا هو باب الهدى ادخل، وأنت لا تدري، ادخل.
فتصور محنتك أيها المسلم في أي بابٍ تدخل.
وتجد أنه على كل باب شيطان يدعو إليه، فكلهم يحسنون البدعة، ويلبسونها لباس السنة، وكما قلت: الدعاة إلى البدعة زهاد وعُبَّاد. فيغتر الإنسان بمنظرهم وكم أهلكت هذه الصورة من رجالٍ، حتى بعض الأذكياء ممن كنتُ أعرفهم وقع في شر طريقتهم وقع في الطريقة البرهانية، حتى إنه قال لي يوماً: إن الشيخ البرهاني في السودان يعلم ماذا أصنع الآن! وهو مقتنع تماماً بما يقول.
أهل البدعة يباينوننا في منهج الاستدلال، بل يقدمون العقل على النقل، ويجعلونه قاضياً، بحيث أنه إذا لم يفهم النص يرده، وشخص واحد من هؤلاء أصدر كتاباً يزعم فيه أن أربعين حديثاً من أحاديث البخاري ومسلم كلها تباين العقل، ويذكر على ذلك أمثلة، وأنا أقولها حتى أبين لكم الفرق في الاستدلال بين أهل السنة وأهل البدعة.
فيقول: إن عباد الله الصالحين لا يكرهون الموت، فكيف بنبي من أولي العزم؟!
يقول: إن هذه مجرد دعوى.
يدل على ضد هذا حديثان:
هو يقول: إن عباد الله الصالحين يحبون الموت.
نحن نقول: لا. يدل على هذا الحديث الإلهي حديث: (مَن عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)، في هذا الحديث (وما ترددت في شيءٍ أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته).
فهذا دليل على أن عباد الله المؤمنين يكرهون الموت.
والحديث الآخر حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحب لقاء الله أحب لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، فقالت
كما أن الخوف الجِبِلي لا عيب فيه، وقد تكرر ذكر الخوف على لسان موسى كثيراً:
فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14].
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى [طه:67].
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ [القصص:21].
فهذا الخوف الجبلي لا حرج فيه، ولا يعاتب به نبي ولا ولي ولا مؤمن.
فمن أين أوتي هذا الإنسان؟!
أوتي من جهله ببقية النصوص الأخرى، وكما قال القائل: (ليتك كمن لا يعلم لقل الخلاف) لكن كلامه يحسب عند المتأخرين قولاً.
كم من أناسٍ لم يكن لهم في العلم أصلاً، ولكن كتبوا وبيَّنوا وتكلموا، فصار قولهم معدوداً في الخلاف لدى المتأخرين الذين جاءوا بعدهم بأزمانٍ متطاولة.
فيقول: إن هذا الحديث يباين العقل السوي، الذي لا يختلف حكمه من رجلٍ إلى رجلٍ على وجه الأرض.
وهذا كذب! لأنه لو كان العقل السوي ضابطاً ما اختلف الخلق؛ لكن تباينت أفهام الخلق لتباين عقولهم، فليس هناك حكم للعقل السوي حتى نقيس عقل المؤمن وعقل الكافر معاً؛ لكن هذا الرجل مشربه على خلاف مشرب أهل السنة وعلى خلاف تلقيهم للعلم.
لماذا مكذوب؟
يقول: لأن الإسلام دين اقتناع، ونحن ندل على ذلك بعقولنا جميعاً بأن الدين لم ينتصر بالسيف إنما انتصر بالحجة، فكيف نقول للناس: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)؟! افرض أنهم لا يريدون أن يقولوها، لمَ تقاتلهم وقد قال الله عز وجل: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون:6] وقال الله عز وجل: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وقال الله تعالى: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]؟ فلِمَ نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، ولا ندعهم وحريتهم؟!
ولذلك يقول: هذا الحديث معارض للقرآن الكريم -والقرآن هو حجة المسلمين- فلذلك نرد الحديث.
لا والله، نحن نقول: إن آيات القرآن يرد عليها نفس الاعتراض، إذا كان الاعتراض بهذه الصورة فلا يسلم منها حتى آيات القرآن الكريم، مع أن معنى الحديث تؤيده آيات من القرآن الكريم.
(أمرت أن أقاتل الناس): الناس رجلان:
- مؤمنٌ.
- وكافر.
فالمؤمن غير داخل تحت الحديث.
يبقى الكافر وهو قسمان:
- قسمٌ مداهن على استعداد أن يدفع الجزية، فلا يقاومنا، فهذا لا إشكال فيه.
- قسم لا يريد أن يدفع الجزية، ولا يريد أن أنشر ديني.
فهذا هو الذي عناه الحديث، ومما يدل على ذلك قوله عز وجل: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، قاتلوهم حتى يعطوا الجزية، إذا أعطوا الجزية فلا نقاتلهم، وإذا لم يعطوا الجزية نقاتلهم.
إذاً: الصنف الذي عناه الحديث: الذين لا يعطون الجزية ومع ذلك يقفون حجر عثرة في طريق المسلمين.
فالحديث موافق للآية؛ لكنه نظر بجهله إلى لفظ (الناس) فقال ما قال. ولفظ (الناس) هنا لفظٌ عام يفيد الخصوص، كقول الله تبارك وتعالى: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27].
والناس هنا: هم خصوص المسلمين، ومما يدل على ذلك ما رواه النسائي وأبو داود قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل المشركين حتى يقولوا: لا إله إلا الله).
انظر! لا تعارض أبداً بين حديث صحيح وبين آيةٍ في كتاب الله عز وجل، إذ لا يتعارض البيان مع المبيَّن، الرسول عليه الصلاة والسلام كلامُه بمنزلة البيان للقرآن، فكيف يتعارض معه؟!
ما معنى الحياد عندهم؟
معناه: هو ترك الانتماء إلى السلف، وينبغي أن يكونوا في نظري أناساً عاديين لا فضيلة ولا ميزة لهم، لأنك لو اعتقدت أن لهم فضيلة فستنحاز إليهم، وهذا الانحياز سيفقدك المنهجية، فلذلك هم ينادون دائماً بالحياد العلمي، والحياد العلمي هو الذي جعل رجل مصر الدكتور طه حسين يقول: إن القرآن الكريم ينبغي أن نعامله ككتاب أدبي، ليس لأنه من عند الله! ولذلك أوردوا بعض الاعتراضات اللغوية عليه بجهلهم.
فلو أن الإنسان اعتقد أن هذا القرآن كلام الله عز وجل سينحاز له إذا فقد المنهجية، ولذلك استحق أن يطرد من جملة العلماء، بل طُرد من الجامعة شر طردة، وذهب ليأخذ الدكتوراه في اللغة العربية من باريس، ومن عجبٍ أيها الإخوة الكرام أن هذا الرجل لما رجع من باريس وأرادوا أن يكرموه، واستقبله السلطان فؤاد الأول فعملوا مهرجان في مسجد من مساجد القاهرة، وجاء السلطان فؤاد ، وجاء له رجلاً بخطيب بارع آنذاك، فهذا الخطيب أراد أن يمجد الملك ، ويمجد صاحب طه حسين في نفس الوقت، فقال كلمةً كفَّره بها وكيل الجامع الأزهر آنذاك الشيخ محمد شاكر رحمه الله، قال: جاءه الأعمى فما عَبَسَ ولا تولى. فهذا تعريض لجانب المصطفى صلى الله عليه وسلم، تعريض أن الملك فؤاد الأول أفضل من الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الرسول عبس وتولى عندما جاءه الأعمى؛ لكن هذا قال: ما عبس ولا تولى، بل بعثه إلى باريس، فأخذ الدكتوراه وأتى، فالشيخ محمد شاكر لما سمع هذه الكلمة ما تحملها، فبعد الجمعة قال: (أيها الناس! أعيدوا الصلاة فإن الخطيب كَفَر).
دعنا من حكم الشيخ محمد شاكر لا نناقشه، لكن هو قال: إن الخطيب كفر. وذهب إلى قصر عابدين، وأرسل رسالة إلى الملك فؤاد الأول : أن يعيد الصلاة؛ لأن الخطيب كفر.
يقول الشيخ أحمد شاكر رحمه الله -وهو ابن الشيخ محمد شاكر هذا البطل المغوار الذي جهر بهذا الحكم-: وقامت بين الوالد -بين أبيه- وبين هذا الرجل مرافعات، والعلمانيون أغروا الخطيب أن يقدم بلاغاً، ويرفع قضية على الشيخ محمد شاكر ، والشيخ محمد شاكر قال: أنا أطلب نخبةً من المستشرقين -لا أقول: من علماء الأزهر حتى لا يقال: انحازوا إليه- الذين لا يدينون بدين الإسلام، ولا يوالون الرسول عليه الصلاة والسلام، لأسألهم سؤالاً واحداً: أهذا الذي قاله الخطيب تعريض بالرسول عليه الصلاة والسلام أم لا؟
قال: فلما عَلِم ذاك الخطيب أن القضية ستمتد وسيخسر فيها؛ أسقط حقه فيها.
يقول الشيخ أحمد شاكر : وكنت أعرف ذلك الخطيب، فدخلت مسجداً من المساجد فرأيت هذا الخطيب الشهير فرَّاشاً يتلقى نعال المصلين، قال: فانزويت عنه، فسبحان الله! من كان عدواً لله ورسوله فإنه لا يُعَزُّ أبداً.
إن الأصل أن نقف على الألفاظ، (فاضربوا) تشمل الرجال والنساء، ولا نقول بغير ذلك إلا بدليل.
قلت: الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إذا حملتم الميت فأسرعوا) ما رأيك؟ النساء يحملن الجنازة؟ (فأسرعوا) مثل (اضربوا)، كله شيء واحد، فيدخل الرجال والنساء معاً.
قال: لا.
قلت له: لم؟
قال: لأننا ما رأينا نساءً يحملن النعش.
قلت: هذا عين جوابي، هذا هو السنة العملية التي قضت بأن النساء لا يحملن نعش الميت، كذلك السنة العملية هي التي قضت أيضاً أنه لا يضرب إلا الرجل.
فأهل البدع يخالفوننا في منهج الاستدلال، ويخالفوننا في الأدلة ذاتها.
فلذلك أهل البدع لا يستقرون في مكان حتى يكون أول من يحاربهم أهل السنة.
أيها الإخوة الكرام! معرفة السنة واتباع النبي عليه الصلاة والسلام هي أول شوكة في ظهر المبتدعة، ونحن حياتنا كلها بدع، البدع في الأصول والعقائد، والبدع في الفروع، وتجد البدع في العبادات، ففي كثير من مساجد المسلمين في التراويح يقرءون بعد كل ركعتين: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ثلاث مرات، وهناك مساجد أخرى، يقول لك: بعد الركعتين أبو بكر ، بعد الأربع الركعات: عمر ، بعد الست ركعات عثمان ، بعد الثمان ركعات: علي ، المهم أنها جاءت بالضبط، هكذا فوزعوا الأربعة الخلفاء على الثمان ركعات.
فعندما تقول: يا جماعة! ما هذا الذي تفعلونه؟
يقال لك: نحن نقرأ القرآن وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] ثلث القرآن.
فإذا قلت: هذا بدعة.
يقال لك: قراءة القرآن بدعة؟!
أنا لا أقول لك: إن قراءة القرآن بدعة، إنما قراءة القرآن في هذا المكان هو البدعة.
ولله در عبد الله بن عمر عندما عطس رجلٌ فقال: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، فقال له عبد الله بن عمر : وأنا أقول: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -أنا أيضاً أصلي مثلك- لكن ما هكذا عَلَّمنا رسول الله، إنما علمنا أن نقول: الحمد لله، أو الحمد لله على كل حال. فانظر إلى فطنة عبد الله بن عمر ! حتى لا يقول الرجل: ابن عمر هذا ينكر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم! قال: أنا أقول مثلك: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، ولكن ما هكذا علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأنكر عليه.
فأنت تنظر إلى هذا تستغرب.
ومرةً كنت ألقي درساً في كتاب رياض الصالحين، وكان يحضر معنا ابن أكبر رجل في البلد، وكان أبوه يعده للخلافة في نشر البدع، المهم فجلس معنا نحو ثلاثة أشهر، ومع سماعه للأحاديث والأصول وللكلام النبوي يبدو أن مزاجه اعتدل، فذهب يجادل أباه في بعض المسائل، وكنا قبل رمضان بقليل، فهو يحضر معنا للتراويح وإذا هو يقول لأبيه في المسجد: لا داعي لـقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] لأن هذا بدعة، فيقول: يا بني! من أين جئت بهذا الكلام؟
قال: هناك أدلة تدل على هذا.
وجاء الرجل إلى المسجد وبعد المحاضرة، قام وقال: أنتم تكرهون النبي صلى الله عليه وسلم، وأنتم تكرهون القرآن!
- يا والد! ما لك؟!
- فقال: كيف تقول: إن قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] بدعة؟
- أنا قلت: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] بدعة؟ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] توحيد.
- فلماذا قلتَ لي أنها بدعة.
- قلتُ له: أنا قلت: قراءة قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] بين التراويح بدعة.
- قال لي: يعني: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] التي هي ثلث القرآن نعتبرها من البدع؟
- قلت له: لا. أنا أسألك سؤالاً، ثم أسألك سؤالاً -وأي رجل مبتدع أسأله هذين السؤالين-: هل النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الوحي؟
- قال: لا.
- السؤال الثاني: هل النبي صلى الله عليه وسلم قصر في البلاغ؟
- قال: لا.
- السؤال الثالث: هل ما تفعله فَعَلَه النبي صلى الله عليه وسلم؟
فهذا يجيب عليه بجوابين:
إما أن يقول: لا. وهذا كافٍ في الرد عليه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك شيئاً إطلاقاً من الخير إلا دلنا عليه: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32] إذاً: كل الذي يفعله ما لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام كأنما قال: أنا أفعل شراً.
وإما أن يقول: نعم. فتسأله الدليل، ولا دليل.
- قلت: هل النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: قل هو الله أحد [الإخلاص:1] بين التراويح؟
- قال: لا.
اختصر عليَّ المسافة، فلو قال: نعم. لما عرفت أن أعمل معه شيئاً أبداً، وقد يكون قد ضيع عليَّ الأسئلة التي أنا عملتها، ولكنه قال: لا.
- قلت له: طيب! إذاً: أنت تفعل شيئاً ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
فالرجل وكأنه لم يأخذ باله من الإجابة، فلما قلتُ هذا الكلام سكت طويلاً ثم قال: يعني: أنا منذ ستين سنة وأنا مغفل؟!
قلت: سبحان الله! وماذا يضر أن يظل المرء أكثر من ستين سنة مغفلاً غافلاً عن الحق ثم يهديه الله عز وجل؟!
إن ابن الجوزي -وهو العالم في علم الحديث- ذكر حديثاً موضوعاً ثم قال: ظللتُ أعمل بهذا الحديث ثلاثين سنة، لإحسان ظني بالرواة، فلما نضج في علم الحديث، وبدأ يسلك مسالك النقد اكتشف أنه ظل ثلاثين سنة يعمل بحديث موضوع.
- وجه يطل على الشرع.
- ووجه آخر يطل على البدعة.
مثل: الخط الذي يكون في المساجد، حيث يُعْمَلُ لصقٌ أو يُعْمَلُ خطٌّ من أجل الصفوف. فهذا بدعة.
- لماذا خططتم الخط على الأرض؟
- قيل: لنسوي الصف.
- تسوية الصفوف هذه مسئولية من؟
- مسئولية الإمام.
- إذاً: ما خُطَّ الخط على الأرض إلا بعد ما ترك الأئمة مهمتهم.
- السؤال الأول: هل وضع الخط أو شده كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أم غير مقدور؟
- كان مقدوراً.
- هل كان له داعٍ؟
- نعم. كان له داعٍِ، وهو تسوية الصف.
- السؤال الثالث: هل فعله؟
- ما فعله.
وهذا قاعدة ذهبية في معرفة الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة.
فشد الخيط على الأرض جاء بسبب إهمال الأئمة.
ففي صحيح البخاري من حديث عمرو بن ميمون قال في يوم مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فكان بيني وبينه ابن عباس : فسوى الصفوف حتى إذا لم يجد خللاً تقدم فكبر).
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يسوي الصف، ويرسل من يسوي الصفوف، فإذا وجد الصفوف متساوية أقام فصلى.
لكن نحن الآن كأئمة، يقول أحدنا للمصلين: استووا.. استووا.. وهو واقف ووجهه إلى القبلة، لأن هذا من مهمات الإمام؛ ولكن هذا تقصير، فبسبب تقصير الأئمة والمسلمين ظهرت هذه البدعة.
ومدة ظهور هذه البدعة حوالي عشر سنوات فقط، وقبل ثلاث عشرة سنة ما كان أحد يرى هذا الخط على الأرض، يعني: أن هذه البدعة جديدة جداً، وكما قلنا سببها: إهمال الأئمة، حتى الصف الأول الذي من المفروض أن يكون أفضل صف في المسجد ترى الفضلاء يتخلفون عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: (لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم الله عز وجل)، حتى إنك ترى أصحاب الصف الأول هم من لا يحسن نظام الصلاة، مع أن الصف الأول هو الخط الأساسي للإمام، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: (لِيَلِيَنِي منكم أولو الأحلام والنهى)، لماذا؟
حتى إذا حدث للإمام شيء في الصلاة، فيكون الذي وراءه فاهماً لنظام الصلاة، فإذا أحدث الإمام مثلاً، أو تذكر أنه غير متوضئ فأول ما يشد شخصاً من الصف الأول يكون هذا المشدود عالماً لماذا شده، لا أن يعمل كما قال ابن الجوزي في كتابه: أخبار الحمقى والمغفلين، من الأئمة قال: أحدث إمامٌ فشد واحداً من ورائه، فكان صاحبنا المشدود لا ينطق ولا يتكلم ولا يعمل أي شيء، فلما يئسوا منه أخذوه وأدخلوا غيره، فقيل له بعد الصلاة: لم وقفت ولم تتكلم؟ قال: أنا ظننت أن الإمام يقول: احفظ مكاني حتى أجيء.
كأنه طابور جمعية!
وهذا يذكرني أيام الجمعيات الاستهلاكية والاقتصادية: وقف شخص أمام محل ليربط -أعزكم الله- رباط جزمته، وبينما هو واقف وجده شخصٌ يربط، فظنه واقفاً أمام جمعية فوقف وراءه، وما إن انتهى الأول من رباط جزمته ونظر وراءه حتى رأى عشرة أو خمسة عشر شخصاً يقفون طابوراً، فقال: يبدو أن هذا المكان يُوَزَّعُ منه شيء، فما دمت الأول في الصف لماذا أبرح مكاني؟!
وظل واقفاً، وظل مَن خلفه واقفون هم أيضاً، وقالوا: قد يكون هناك توزيع شيء.
فهذا الذي يقول: احفظ مكاني حتى أجيء موجود في الصف الأول.
وحصلت عندنا حكاية عجيبة جداً أن من الأشياء الغير لائقة أن الناس يعزمون على الإمامة، إذا غاب الإمام الأصل يقولون: لتتقدمنَّ يا فلان ... لا والله أنت مَن يتقدم، .... لا. والله لن يتقدم إلا أنت ...
أليس هذا ما يفعلون؟!
فقد عَمِلَها ناسٌ مع شيخ القبيلة، وهو لا يعرف أي شيء، ولا يعرف أنه سيُقدَّم للإمامة، وهو لم يكن محضِّراً؛ ولكنه كان يعرف أن الأئمة يقولون كلمتين أو ثلاث في البداية: استووا يرحمكم الله.. سدوا الفُرَج.. ولكن الرجل نسي هذا الكلام نهائياً، فوقف ينظر إلى أول الصف وآخره، وأخذ يفرك في يده، وقال لهم: جاهزون يا رجال؟!
هذه حصلت، وليست فكاهة.
فتصوَّر عندما يكون هذا الرجل هو وفدٌ إلى الله عز وجل؛ فنحن لا بد أن نختار دائماً الخيار: (اجعلوا أئمتكم خياركم) لأنهم وفدُنا إلى الله عز وجل.
أيها الإخوة الكرام! الرأس -إذا لم يكن حكيماً- يشِين أو يزِين.
ولما ولي عمر بن عبد العزيز إمارة المؤمنين وجاء مجموعةٌ من الناس العرب يهنئوه، أدخلوا شاباً صغيراً صاحب البضع والثلاثين سنة يهنئه، فقال: يا غلام! أما وجدوا من هو أسن منك؟
قال: يا أمير المؤمنين لو كانت المسألة بالسن، لكان غيرك أولى بالخلافة.
يا أمير المؤمنين:
تعلم فليس المرء يولد عالماً وليس أخو علم كمن هو جاهلُ
وإن كبير القوم لا علم عنده صغيرٌ إذا التفت عليه المحافل
فقال: أفلح قومٌ ولوك أمرهم يا غلام.
فالمقصود: أن هذا الإهمال الذي حدث من المسلمين هو الذي أوجد هذه البدع.
العلماء يقولون: كل حكمٍ كان له مقتضىً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فلا يجوز لنا أن نفعله، مثل: شد الخط:
كان مقدوراً له أن يفعل؟
نعم.
كان هناك مقتضى للفعل؟
نعم. وهو تسوية الصف.
هل فعل؟
لا.
إذاً: لا يجوز أن نفعل، إذ لو كان خيراً لفعله.
وهذا أيضاً مثل الاحتفال بالمولد النبوي، والرسول عليه الصلاة والسلام مات عن ثلاث وستين سنة فقد أمضى حياته المباركة مع كل الصحابة، ومع ذلك فلم يحصل مرةً واحدة أن جمع أصحابه في يوم مولده، وخطب فيهم خطبة، أبداً.
هل جمعهم في يوم مولده كان مقدوراً له أم لا؟
- كان مقدوراً.
- هل هناك مقتضىً للجمع؟
نعم. وهو العظة.
هل جمعهم؟
الجواب: لا.
إذاً: هذه بدعة.
فأنت تعرف أن هذا قيد في الفرق بين البدعة والمصلحة المرسلة.
ما هي المصلحة المرسلة؟
هي: شيءٌ فيه مصلحة، وليس هناك نهي خاصٌ عنه، ولم يكن له مقتضى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
نحن عندما نقف عند إشارة المرور، أو شرطي المرور:
هل كان مقدوراً للنبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله؟
لا.
هل كان هناك مقتضىً للفعل؟
لا.
هل تحقق لنا مصلحة؟
نعم.
هل هناك نهي عنها؟
لا.
إذاً: هذه مصلحة مرسلة.
فهذا هو الفرق بين المصلحة المرسلة والبدعة الإضافية.
وسميت إضافية لأنها تضاف إلى الشرع بدليل عام، مثل أذان المؤذن الذي يقول: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله!
أنت لماذا تذكر السيادة؟
قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) فطالما أنه سيد ولد آدم ولا فخر، فأنا لا زلت أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله، فأكون بهذا قد مجدت الرسول عليه الصلاة والسلام وعظمته.
ولذلك سميت بدعة إضافية، بمعنى: أنها تضاف للشرع بدليل عام، بخلاف البدعة الحقيقية التي لا أصل لها مثل صلاة الرغائب في رجب، ومثل صلاة حفظ القرآن الكريم، فهذه كلها من البدع الحقيقية التي لا أصل لها في الشرع.
أيها الإخوة الكرام: الكلام عن البدعة وعن أهلها كلامٌ يطول؛ ولكن أردت أن ألمح تلميحاً سريعاً إلى المحنة التي يعيش فيها المسلمون الآن، ومحنةُ طلب الهدى في هذا الزمان أعظم من محنة عدم وجود رغيف الخبز، وكما صورتُ لكم أن المحنة تتمثل في ثلاثة وسبعين باباً، والأمرُّ خو ذهنه فعلاً من معرفة الباب الوحيد الذي يؤدي إلى الحق، الأمر الذي به تختلط عليه كل هذه الأبواب فلا يدريها، فيلج من باب لا سيما وعلى كل باب شيطان يدعو إليه.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يعافينا وإياكم من البدع، ومن أهلها، وأن يجعلنا من أعلام السنة وشبانها والحمد لله رب العالمين.
الجواب: نقول أيها الإخوة الكرام: هناك فرقٌ بين أن تترجم للمبتدع، أو أن تحذر منه.
إذا كنا في باب الترجمة فإننا نذكر ما له وما عليه، ونترجم ترجمة محضة.
لكن إذا أنا سُئِلتُ عن رجلٍ في بدعته فأنا لا أذكر محاسنه، فمثلاً: إذا اقترض رجلٌ منك مالاً فأكله، ليس فيه إلا هذا العيب؛ لكنه مُصَلِّ ورجلٌ صوَّام وقوَّام، ورجل حسنُ الأخلاق، ويساعد الملهوف، ورجل كريم؛ لكن الإشكال عنده أنه إذا اقترض منك مالاً فانْسَهُ.
فإذا جاءني رجلٌ يقول لي: والله إن فلان الفلاني يريد قرضاً!
فهل أقول له: هو ورعٌ زاهدٌ عابدٌ، وأذكر له هذه المسائل؟!
هذا الكلام ليس له أي معنى ولا أي قيمة، إنما قال لي: هذا الرجل يريد أن يقترض مني مالاً أفأعطيه؟ فأقول له: إياك أن تعطيه!
فهناك فرقٌ بين الترجمة: أن نترجم لفلانٍ من الناس فنذكر محاسنه ومساوئه كما هو عليه أهل السنة وأهل الحديث.
وعندما تقرأ للإمام أبي عبد الله الذهبي في كتاب: سير أعلام النبلاء مثلاً، تجد أن الذهبي في الترجمة يعطي الرجل حقه من الفضائل التي فيه، وإذا كانت هناك بدعة تبرأ وحذَّر منها.
والله أعلم.
الجواب: لا. التكلم في أهل البدع واجب؛ لكنه يحتاج إلى ذكاء، فهناك بعض الناس لا يراعون مصلحة الكلام في أهل البدع، وأئمةِ السنة مثل الإمام أحمد والإمام مالك وهؤلاء الثلة، كانوا يوجبون الكلام في أهل البدع، ويحذرون من أهل البدع.
ولكن المسألة أن واقع الإمام أحمد يختلف عن واقعنا.
فـشعبة بن الحجاج رحمه الله قال لـيزيد الرقاشي : لو حدثتَ بهذه الأحاديث لأستعدِيَن السلطان عليك. سأذهب إلى السلطان وأقول له: إن ثَمَّ رجلاً يروي حديثاً موضوعاً، فيسجنك.
فكان بدلاً من الإمام أحمد ألف أحمد ، وبدلاً من مالك ألف مالك.
فالبيئة تختلف، فهناك في بعض الأماكن بيئةٌ المبتدعةُ لهم فيها ظهور، ولهم صولة كبيرة، ولو وقف هذا الرجل السني في مقابل هؤلاء وجابههم قطعوا لسانه، وضيعوا حلقته، وأخذوا منه مسجده، فهل هذه حكمة أن يقف في مقابلهم، فيأخذون منه المسجد ويمنعونه من الكلام، ويحظرون عليه؟!
هذا ليس من الحكمة، بل الصواب: أن يستمر هذا الرجل ويحاول بلطف وذكاء أن يطيل عمر دعوته، لا سيما إذا كان فرداً واحداً، وكان له تأثير وكان مباركاً.
وأنا أريد أن أقول شيئاً: الداعية الممارِس يختلف عن قارئ الكتب.
قارئ الكتب هذا إنسان في وادٍ آخر؛ لكن الداعية الممارس رجلٌ لَمَس الواقع وعرف كيف ينزل الإسلام على الواقع.
والمسألة كلها مربوطة بالمصلحة والمفسدة، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه صارت له دولة في المدينة، وكان قادراً على الفعل قال لـعائشة رضي الله عنها: (لولا أن قومك حديثو عهد بالكفر؛ لهدمت البيت وبنيته على قواعد إبراهيم) لكنه لما خشي أن يقول الناس: إن هدم البيت يخالف تعظيمه، ويقع هذا في روع آحاد الناس تَركه على ما هو عليه، حتى جاء ابن الزبير فاستشار الناس في هدم الكعبة، فأشار عليه ابن عباس ألا يهدمها، قال: دع الناس ودع أحجاراً أسلموا عليها، فقال ابن الزبير : إنهم قَصُرَت بهم النفقة، وأنا أجد النفقة، وإنهم كانوا يخافون أن يفتتن الناس وقد حدث الأمان، فإني مستخير ربي ثلاثاً، واستخار الله عز وجل ثلاثاً وقرر هدم الكعبة.
فبدأ يهدم الكعبة، فقلع ثلاثة أحجار أو أربعة من فوق الكعبة، وإذا بالناس كلهم قد فزعوا وقالوا: ستنزل صاعقة الآن من السماء عليه، وجعلوا ينظرون والرجل يقلع الحجر ويرميه، فوجدوا أنه لم ينزل دمار ولم تنزل صاعقة، فقويت قلوب الناس على ذلك، وتتابعوا جميعاً على هدم الكعبة حتى وصلوا إلى قواعد إبراهيم فإذا هي أحجارٌ مثل سنام البعير.
فمسألة مراعاة المصلحة والمفسدة في التحذير من البدعة مهم، ليس هذا -أيها الإخوة- تهوين من شأن البدعة، بل يجب إنكار البدع؛ ولكن هذا الوجوب يختلف من مكانٍ إلى مكان، ويختلف من رجلٍ إلى رجلٍ ونحو ذلك؛ لكن الكلام في أهل البدع واجب، بل سئل الإمام أحمد رحمه الله عز وجل عن رجلٍ يصلي ورجلٍ ينكر على أهل البدع أيهما أفضل؟ قال: الذي يصلي إنما يصلي لنفسه، والذي يجاهد أهل البدع، فإنما ينفع المسلمين.
الجواب: أظن أن هذا جائز؛ لأن هذا تذكير، فالذي يقول مثلاً: إن هذا بدعة يلزمه أن يقول: إن المجلس الذي نجلسه الآن بدعة، ويلزمه أن يقول: إن كتابة الأسئلة في أوراق بدعة، ويلزمه أن يقول: إن اجتماع الطلبة على الشيخ الحويني لتدريس الحديث مرة، وتدريس الفقه مرة، هذا كله بدعة.
والأصل أن هذا كله من باب طلب العلم.
والله أعلم.
الجواب: المعروف أن التشهد له أكثر من صيغة، وكل هذه الصيغ التي يقرؤها المسلمون هي صيغٌ صحيحة، لكن ذكر العلماء: أن أصح صيغة هي التي في حديث ابن مسعود .
الجواب: تعني: طعم السواك؟
السائل: بعضُ الناس يضيف عليه نكهةَ الليمون!
الشيخ: إذا أضاف مثلاً على السواك ليموناً أو نحو ذلك فلا بأس؛ لكن لا يخالط لعابَه، لا سيما وأنه قد ينزل من السواك بعض فتات أشياء لها طعم.
والله أعلم.
الجواب: طالما أنهم لا يجبرونه على هذه البدعة التي يفعلونها فلا بأس من معاشرتهم.
وأما بالنسبة للأكلات التي يأكلونها في المواسم فهذه جائزة، حتى إنها موجودة في بيوت كثير من المسلمين، يعني مثلاً: ليلة النصف من شعبان يُذبح لها، ومثلاً في يوم السابع والعشرين من رجب يُذبح له، وهكذا في بقية المواسم، فهم لا يتعبدون الله عز وجل بهذا الأكل، إنما هو نوعٌ من التوسعة، ولا يدخل في نطاق البدع.
السائل: وإذا ذبحوا للحسن أو للحسين ؟
الشيخ: لا. إذا ذبحوا للحسن أو للحسين فهذا معروفٌ حكمُه، هذا أصلاً أنا لم أنبه عليه؛ لكن إذا ذبحوا لمجرد أن موسماً معيناً حلَّ أو نحو ذلك، فهذا جائز أن يأكل المرء منه.
السائل: ولكنهم يذبحون للحسن والحسين في هذه المواسم!
الشيخ: إذا كانوا يذبحون في هذه المواسم للحسن والحسين فهذا في حكم الميتة.
السائل: المولد النبوي يذبحون فيه!
الشيخ: نعم. يذبحون، فكل مولدٍ للنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يذبحون فيه ابتهاجاً ونحو ذلك.
هناك فرق -أيها الإخوة- ما بين شخص يذبح لأجل فلان، فهذا ميتة، لا يحل أكله، وبين رجل يبتهج بالمناسبة، فمن ضمن الابتهاج أنه يوسع على نفسه في الأكل والشرب، فهذا لا بأس به.
والله أعلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر