إسلام ويب

وسيلة دفع الهم [1]للشيخ : أبو إسحاق الحويني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أعظم وسيلة لدفع الهم الذي يبتلينا به الله عز وجل ويكفر به من خطايانا هي دعاء الله عز وجل واللجوء إليه سبحانه، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيفية الوقوف بين يدي الله والتضرع إليه طمعاً في تفريج الهموم وكشف الكربات، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أدعية إذا دعا بها العبد ربه مستشعراً فقره إليه، وحاجته إلى إحسانه وفضله، فإن الله يبدله بضيقه سعة، وبهمه فرجاً.

    1.   

    شرح حديث كشف الهم

    إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] .. يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1] .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد..

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    أخرج الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسم مربعاً على الأرض، ومد خطاً من داخل هذا المربع إلى خارجه، وخط خطوطاً قصاراً حول هذا الخط الطويل داخل هذا المربع، ثم قال: (هذا الإنسان وهذا أجله محيط به، وهذا أمله -وأشار إلى الخط الطويل الذي خرج من هذا المربع- ثم أشار إلى الخطوط القصيرة، وقال: وهذه الأعراض إذا نجا من عرض نهشه الآخر) فهذا يبين لنا أن المرء من يوم ولادته إلى زمن موته وهو عرضة للمصائب والآلام، قال تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4].

    إذا كانت الحياة كذلك فلابد من دواء، وقد تعددت الأدوية القرآنية والنبوية، ومن أحسنها ما رواه ابن حبان وأحمد في مسنده من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ما يصيب المسلم من هم ولا حزن، فيقول: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدلٌ فيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، إلا كان حقاً على الله عز وجل أن يبدل همه فرجاً، وحزنه فرحاً، قالوا: يا رسول الله! أفلا نتعلمهن؟ قال: حق لمن سمعهن أن يتعلمهن).

    (حقٌ) أي: واجب وفريضة، ومن سوف نبين المعاني التي اشتمل عليها هذا الحديث العظيم؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (حقٌ) أي: صار واجباً وفريضة لمن يسمع هذا الحديث أن يعلم معناه.

    إن الإيمان بالشيء فرع عن تصوره، فإذا لم يفهم المرء المعاني نقص إيمانه جداً، وكلما علم معاني القرآن والسنة ازداد إيماناً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب كما رواه البخاري في صحيحه: (أخصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء دون الناس؟ قال: لا. إلا فهماً يؤتاه الرجل في كتاب الله)، فالفهم منحة من الله عز وجل، قال تعالى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78-79]، وقال تعالى: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:79]حتى لا يتصور المستمع أن هذا نقص في داود عليه السلام، فقال: (ففهمناها سليمان) وكل على خير، كما قال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) أي: في الإيمان الذي عند هذا الضعيف، فكان هذا الخير عنده.

    فالفهم في كلام الله ورسوله مُورثٌ لزيادة الإيمان، وما منا من إنسان إلا أصيب أو ينتظر مصيبة؛ لأن الله عز وجل قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [البلد:4]، أي: في معاناة ومشقة، فالذي يتصور أنه من يوم أن يولد إلى أن يموت لا يبتلى فقد ظن باطلاً وعجزاً، ومن دخل الحرب وهو يظن أنه لا يصاب فقد ظن عجزاً.

    معنى قوله: (اللهم إني عبدك..)

    سن لنا النبي صلى الله عليه وسلم دعاءً ندعو به يشتمل على التوحيد وعلى العبودية: (اللهم أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) أي: أنا عريق في العبودية، عريق النسب، ضارب الجدود في العبودية، فأنا عبد وأبي عبد وأمي أمة.

    وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يكثر من ذكر هذا البيت في جلوسه وقيامه، ومشيه وسفره وترحاله، قائلاً:

    أنا المكدي وابن المكدي كذلك كان أبي وجدي

    أي: كلنا خدم، وطيلة عمرنا ونحن مماليك خادمون للملك، (أنا المكدي) أي: أعمل بالأجرة، مكدود، و(كذلك كان أبي وجدي) أيضاً، كلنا خدام للملك، ومماليك: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21].

    فاشتمل هذا على الإقرار بعبوديته لله عز وجل، وأكثر ما ينغص على الناس في شأن الإيمان: خروجهم من العبودية، وخذ مثلاً: رجل تقدم لوظيفة، فقال: أنا لا آتي إلا مرة في الأسبوع، أو قال: لا آتي إلا شهراً في العام، وآخذ العمل وأعمله عندي في البيت، من الذي يقبل منه هذا إذا ذهب إلى مصلحة حكومية أو إلى أي وظيفة؟! فهؤلاء الذين يناديهم المؤذن فلا يأتون المسجد إلا يوم الجمعة، أليس هذا كالذي يقول: أنا لا آتي العمل إلا مرة في الأسبوع، وهذا الرجل سيفصل قطعاً؛ لأن العمل له ضوابط ولوائح، وسيفصل قطعاً إذا استمر على هذه السياسة، كالذي يقول: أنا لا آتي المسجد إلا يوم الجمعة أو لا أصلي إلا في رمضان كما هو شأن كثير من الناس، وأنا أنظر إلى صلاة القيام شعرت بغصة في حلقي، أين الناس؟ أين ذهبوا؟ لماذا هذا الجحود؟ لماذا تعاملون الله هكذا أيها المحقرون؟ فإذا كنا معاشر البشر لا نرضى هذا لأنفسنا وفي أعمالنا، فكيف نرضاه لله تبارك وتعالى، وهو الغني عن طاعة الطائع ولا يضره عصيان العاصي؟

    فالعبودية أمرها عظيم للدين كله، ما أرسل الله الرسل ولا أنزل الكتب إلا لتحقيق أمر العبودية، فمن تمام العبودية ألا يكون لك أمر مع سيدك: { اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك } هناك استعطاف، إذاً: مبدأ الأمر كله ذل وخضوع، وهذه هي الصفة الملازمة للعبودية.

    معنى قوله: (ناصيتي بيدك)

    الناصية: هي الشعر الذي في مقدم الرأس: يؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41] فالناصية: التي يؤخذ المرء بها، مثل الجمل الأنق، إذا وضعت الحلقة فمه الجمل فإن أصغر ولد يسحب هذا الجمل الطويل العريض، فهذا شأن الناصية عندما تؤخذ، فيكون الإنسان بعدها مسلوب الإرادة، لا يستطيع المشي، والناصية إشارة إلى التفكير.

    والأقدام هي الموجه، فإذا أخذ بالقدم لا يستطيع المرء السير، كما قال تبارك وتعالى: كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ [القيامة:26-30]، ومعنى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29] أي: رجل متعسر الخطو إلى الله، كالرجل الذي يمشي فالتفت ساقه وهو يمشي، فيسقط على الأرض مباشرة، هذا هو معنى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ [القيامة:29]، لا أنه إذا مات التفت ساقاه، لا.

    نحن نرى الموتى الساق بجوار الساق، فلا تلتف ساق على ساق لا في خروج الروح ولا بعد الموت، وإنما المعنى: أن هذا رجل متعسر الخطو إلى الله، ويدل على هذا تتمة الآيات: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [القيامة:31-32] فبأي وجه يلقى ربه تبارك وتعالى، فهذا متعسر الخطو، فالأخذ بالأقدام عجز عن المسير فقوله: . (ناصيتي بيدك) أي: أنا لا أتوجه إلى وجهة إلا بإذنك، وينبغي على العبد أن يتوجه إلى الله من تلقاء نفسه لا يجر جراً، إن الذي يجر إلى الله جراً لا خير فيه، بل السماء خير منه؛ لأن الله عز وجل قال للسماوات وللأرض: اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، وقال تعالى: مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [هود:56].

    فمعنى (ناصيتي بيدك) أي: أني لا أملك من أمر نفسي شيئاً، وهذا هو المناسب لمفتتح الدعاء: (أني عبدك وابن عبدك وابن أمتك) فما يتصور أن يكون له اختيار مع الله: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ [القصص:68] وهناك حديث موضوع يذكره الخطباء والناس بخصوص هذا الشأن وهو: (عبدي! أنت تريد وأنا أريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا كذب، لا أقوله وأنسبه إلى رب العالمين، وإنما فحوى النصوص تؤيده، وهذا معنى ناصيتي بيدك، (عبدي أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن سلمتني فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلمني فيما أريد أتعبتك فيما تريد، ولا يكون إلا ما أريد) وهذا الكلام حق في معناه؛ لأن النصوص كلها تؤيده، لكن لا أنسبه إلى رب العالمين كقول، والقرآن والسنة مليئان بهذا، بأن الله عز وجل إذا أراد أن يذل عبداً رزقه بشيء، وجعل تلفه فيه، وأهلكه به.

    إن كثيراً من الناس الذين لم يرزقهم الله عز وجل الولد يتقلبون على جمرات الغضب، ويبيتون يرعون النجوم: اللهم ارزقنا ولداً، فإذا لم يرزقهم الله الولد، يتكدر خاطرهم لذلك، مع أنه قد يرزق بالولد ويشقى به إلى أن يموت، ويشقى به، أي: يحبه غاية الحب، وبعض الناس يحبون أولادهم إلى درجة أنهم يمنعونهم من الخروج إلى الشارع، فيعذبونهم بذلك، وهذا الولد في آخر المطاف لابد أن يسعى في الناس ويتعامل معهم، فإذا مات أبوه ولم يأخذ منه الخبرة في كيفية معاملة الناس شقي فيهم، وعاش حياته كلها شقياً، فبعض الآباء أحب ابنه غاية الحب حتى أنه سلب عقله فلا يستطيع أن يعمل عملاً حتى يتصل في كل وقت ويقول: هل خرج الولد؟ لعل سيارة تصدمه، أو يضربه الأولاد، وحياته كلها كذا، ولما كان وحده كان خالي البال، وكان أفضل من ذلك.

    فلذلك شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما نكره أن نقول: (قدر الله وما شاء فعل) أي: ما شاء فعل وهذا قدره، فكل شيء يكون في هذه الدنيا إنما يكون على وفق ما أراد الله، فإياك أن تضع اختيارك في مقابل اختياره فتشقى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36] إذا اختار لك فلا تختر لنفسك، فإنك لا تدري ما تحت شراك نعلك.

    كثير من الناس الذين يخرجون ويموتون أو يصابون بمصائب لم يخطر ببالهم قط أن يصابوا، والخير أقرب إلى شراك النعل والشر كذلك كما قال عليه الصلاة والسلام، فإذا سلم العبد بأن ناصيته بيد الله تبارك وتعالى سهل عليه ما يأتي بعد ذلك من حكم الله عليه وقضائه.

    معنى قوله: (ماض فيَّ حكمك)

    وقوله صلى الله عليه وسلم: (ماضٍ فيَّ حكمك) لا يستطيع أحد أن يرد قضاء الله عز وجل وحكمه الذي نفذ: قَوْلُهُ الْحَقُّ [الأنعام:73] .. فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، لكن بعض الناس يقول عن نفسه: (الحق والحق أقول) وهذا خطأ، فلا يجوز لبشر أن يقول عن نفسه هذه العبارة؛ لأنه ما من إنسان إلا وكلامه يشتمل على بعض الباطل، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ [ص:84] أي: لا أقول إلا الحق، وهذا لا يقوم به إلا رب العالمين ورسله، أما الذي لم يعصم فإن كلامه يشتمل على بعض الباطل وإن كان رجلاً فاضلاً.

    والذي يجري في المحاكم الآن من المعارضة والاستئناف يدل على أن القاضي الأول لما حكم ما تحرى العدل، فيضع أقصى عقوبة حتى وإن كان الجرم لا يستحق ذلك، لأن هناك استئنافاً للحكم، وبعدما يحكم عليه بالإعدام يكون براءة، كيف هذا؟ لأن عندنا مسألة النقض والإبرام، والأصل أن يجتهد القاضي في الحكم وفي النظر إلى أصول الشريعة، وبالنظر إلى دوافع الخصم، ويدرس القضية دراسة جيدة ثم يحكم، هذا هو الواجب، لكن هذا بداية يقول: أطالب بالإعدام!! لماذا؟ لأنه يعرف أن هناك مسألة أخرى، والمحامي يقول لهم: هذا حكم ابتدائي، أي: باطل! فالقاضي ألقى الكلام على عواهله؛ لأنه يعلم أن هذا الحكم سينقض، أو سيخفف، إذاً: لم يكن محقاً عندما تكلم بهذا الكلام، أما رب العالمين فحكمه ماضٍ؛ لأنه لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] .. لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] لا استئناف ولا نقض ولا إبرام، كل هذا لا يوجد عند الله تبارك وتعالى.

    ولذلك إذا ظلمت في الدنيا أخر الحكم للملك تبارك وتعالى؛ مع أنها مرة، لكن سوف تنصف غداً، ومع ذلك أقول لك: لن يمضي خصمك في الدنيا بسلام، فالظالم لا يظلم رجلاً واحداً.

    والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعله لا يظلم

    وهذا كلام المتنبي ، يقول: (الظلم من شيم النفوس) إلا إذا أوّلنا الكلام بأن هذا أصل الإنسان؛ أي: أن المرء خلق ظلوماً، وهذا حق، فقد قال الله تبارك وتعالى: إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] فأصل الإنسان أنه ظلوم لنفسه، لا يظلم لأنه رجل في نفسه، وإنما هناك علة منعته من الظلم، والعلل عند الناس كثيرة، فأهل الإيمان العلة العظمى عندهم: مخافة رب العالمين، وكفى بها علة شريفة يشاد بها، والإنسان لا يظلم؛ لأنه يخاف الله، وآخر لا يظلم؛ لأنه لا يقوى على إيصال الظلم والانتقام فهو عاجز، فيسكت، أو أن له مصلحة، فهذا الظالم لا يظلم نفراً دون نفر وإنما ظلمه فاشٍ، فإذا تركت الدعاء عليه أصابه سهم آخر لمظلوم آخر؛ فلا بد أن يصاب.

    معنى قوله: (عدل في قضاؤك)

    حكم الله ماضٍ، وهذا يطمئن القلب: (ماضٍ فيَّ حكمك -أي: أنا لا أملك من أمر نفسي شيئاً فعله- عدل فيَّ قضاؤك) ففرق بين الحكم والقضاء، وهناك نفر من الناس يبغضون الله إلى الناس، فيقولون: إن الله عز وجل يظلم ومحض العدل عنده سبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [هود:107]، فالمؤمن قد يقلب عمله إلى سيء ويدخله النار، والفاسق من الممكن أن يدخله الجنة، وهذا صحيح في جملته، لكن لابد أن يكون هناك كسب من العبد أدى إلى النهاية، وإلا فنحن نقطع أن رب العالمين لا يسوي بين مَن عمل الصالحات وبين مَن عمل السيئات، من عمل صالحاً وأتى بالإيمان فنحن نجزم أنه من أهل الجنة، ومن تاب وأتى بالتوبة على أركانها وشرائطها وواجباتها فنحن نجزم بأن توبته مقبولة.

    وقد جعل الله إبليس بدلاً من أن كان طاوس الملائكة -على قول من يقول بذلك وليس بصحيح- جعله مخلداً في النار، فيقولون: هكذا قضى الله عز وجل، سبحان الله! إذا كنت لا تأمن مكر ربك بمعنى: تعمل الصالحات فيقلبها عليك، فمتى يطمئن قلبك إلى الله؟ متى يتشجع المرء على عمل الصالحات إن كان الله عز وجل يقلب عمله الصالح (100%) إلى السيئ؟ هذا محال !! أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [القلم:35-36] .. أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] هذا لا ينبغي ولا يليق، وإنما يرتكب العبد شيئاً لا يعلمه الناس فيكافئه الله بما في قلبه، هذا هو الفارق بين الأمرين، لا أن من عمل الصالحات وآمن بالله عز وجل أن الله يقلب ذلك عليه، لا يكون ذلك أبداً!!

    إن الذين يحتجون بهذا القول من أهل البدع إنما يحتجون بدليل صحيح لكن ليس فيه دلالة، أو بما لا يصح وإن كان فيه دلالة، إن الله تبارك وتعالى من أسمائه: العدل، فلا يسوي بين من أطاعه وعمل الصالحات من قلبه وبين من أظهر للناس العمل بالصالحات وليس في قلبه مقتضى لهذا العمل، هذا هو الفرق، وإلا كيف تحب ربك؟ وأضرب لك مثلاً -ولله المثل الأعلى- تخيل أن لك امرأة خائنة لا تأمن غوائلها، ومن الممكن أن تضع لك سماً في الأكل، هل ستأكل؟ أو من الممكن أن تذبحك وأنت نائم، أتنام؟ تخيل أن هذه المرأة خائنة، أو العكس هناك امرأة زوجها هكذا، فهل من الممكن أن تأمن وتطمئن.

    فإذا كان الأمر كما يقولون فمن لهؤلاء العصاة الذين عصوا الله عز وجل وأرادوا أن يتوبوا ويرجعوا من قلوبهم فعلاً؟ من لهم إذا كانوا يصورون الله عز وجل كذلك؟ إن ربنا عز وجل أولى بالوفاء، ولذلك تهوي الأفئدة إليه؛ لأنه يغفر الزلة ويمسح الحوبة، وقد يخرج الرجل من جبّ المعاصي فيضعه في قمة الولاية؛ لأنه عبده، فالله تبارك وتعالى أولى بذلك، وهؤلاء هم الذين يحتجون بالقدر على المعاصي، وهم الذين أساءوا الظن بالله عز وجل : وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [فصلت:23] ليس الله كذلك، لكن من ظن أن الله كذلك عامله على مقتضى ظنه فأهلكه.

    نسأل الله عز وجل أن يعافينا من سوء الظن به، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

    الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

    إذا اعتقد المرء أن قضاء الله عدل ازداد إيمانه؛ لأن الذين يسخطون على الله عز وجل يظنون أن الله ظلمهم، فإذا أصابته مصيبة قال: لماذا يا رب من دون كل هؤلاء اخترتني؟ أليس كثير من الناس يعترض على ربه بهذا؟ يسيء الظن بالله ويسخط عليه، ومن سخط فعليه السخط، فإذا اعتقدت أن الله عدل في قضائه وأصابتك مصيبة فقل: هذا بذنب! وأنا أستحق ذلك، بل الله لطف بي؛ لأنه لم يعجل لي وترك لي فرصة أن أتوب وأرجع.

    وهناك من الناس من لا يرجع، فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ [يونس:88]، لا يرجعون من تلقاء أنفسهم، فكلما أصابتك مصيبة قل: أنا أستحق ذلك، وقل: بل لطف بي ربي، ولو عجل لي ما تبت، كم من حسرات في بطون المقابر، كثير من الذين ماتوا كان الواحد منهم يتمنى أن يتوب، لكن أهلكته السين وسوف، وسأتوب وسأتوب..

    فاعتقاد أن الله عز وجل عدل هو مقتضى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40]، رجل يبتلى بالوسوسة في أهله، وهذه ظاهرة بدأت أرى لها غباراً، يسيء الظن في زوجته مثلاً، ليس لأنه غيور، لكن لأنه خائن، إنه ابتلي على نحو ما فعل بالآخرين، لو قلب في صفحاته لوجد أنه خان أيضاً، ولم يكن نبيلاً، ولم يكن ذا عفة، ولم يكن محترماً، فابتلاه الله عز وجل بهذا، وهذه ليست غيرة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله عز وجل يبغض الغيرة في غير ريبة) فإذا لم تر من امرأتك ما يدعو إلى ذلك، فلا توسوس وتقول: أنا غيور، هناك فرق، لكن العاقل الذي لا يكذب ولا يخدع نفسه لو فتش لوجد أن حياته تشتمل على خيانات، فنزع إطار الله عز وجل السكينة من قلبه خشية أن يخون أهله، والعكس أيضاً، والجزاء من جنس العمل.

    وهذا عدل من الله عز وجل: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142] فالخداع منهم أقبح شيء، ومنه أحسن شيء؛ لأنه منه مجازاة فكان أحسن شيء، ومنهم لؤم؛ لأنهم يخدعون الذي لا يخدع فكان أقبح شيء، مثل المكر تماماً: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [الأنفال:30]، فمكره أحسن شيء، ومكرهم أقبح شيء؛ لأنه يمكر بالقوي الكبير، المتعالي العلي القدير، الخبير اللطيف، وإنما الله عز وجل رد عليهم مقتضى فعلهم؛ لذلك كان فعله أحسن شيء تبارك وتعالى.

    وعندما تصيب الإنسان مصيبة يعلم أن الله لا يظلم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40] أفمثل هذا الرب العظيم يظلم؟ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [النساء:40] .. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا [يونس:44] والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: لا يظلم أي شيء، فـ(شيئاً) نكرة ومنفية، فاعتقاد أن الله حكم عدل يعينك على التوبة، وأن ترجع فتذم نفسك لا أن تلقي باللوم على ربك: (عدل فيَّ قضاؤك).

    معنى قوله: (أسألك بكل اسم هو لك)

    وقوله: (أسألك بكل اسم هو لك) نزه الله عز وجل قبل أن يسأل، فاعترف بالعبودية والذل وخلع حوله وقوته، وأثبت العجز الكامل لنفسه، وأن الله حكيم لا يفعل الشيء إلا لحكمة، وأثبت أن ما نزل به من المصيبة فبما كسبت يده، بعد كل هذه الديباجة بدأ يسأل: (أسألك بكل اسم هو لك) وأيضاً قبل أن يسأل بدأ بالثناء على الله: (بكل اسم هو لك)، والأسماء والصفات أعظم الأبواب لزيادة الإيمان.

    وروى أبو ذر الهروي في فوائده أن خالد بن صفوان دخل على هشام بن عبد الملك، فكان خالد بن صفوان خطيباً بليغاً، فقال خطبة طويلة بين يدي هشام يذكره فيها بما أنعم الله عز وجل عليه، وبامتداد ملكه، وبما له من الشوكة والسلطان والاستقرار، وقال: فإن شئت يا أمير المؤمنين ذكرت لك مثلاً من الملوك قبلك، فقال له: قل. قال: كان ملك قبلك وكان شاباً فتياً، وله مملكة رائعة كلها خضرة وزهور، وبينما هو جالس في هذا النعيم إذ قال لحاشيته: هل تعلمون أحداً فيما أنا فيه؟ قالوا: لا. وأثنوا عليه وأطنبوا، فقال شيخ كبير أدبه الحق، وقام لله بالحجة، فقال: أنا أقول لك! قال: قل. قال: هذا الذي أنت فيه شيء أصيل أم ورثته عن غيرك، وهو سيكون إلى غيرك؟ قال: بل ورثته عن غيري ويكون إلى غيري، قال: إذاً فما يفيد ما أنت فيه؟ قال: ويحك! وما المهرب؟ قال: أن تعمل بأمر الله على ما أمرك وأعطاك وأسعدك، أو تخلع هذا التاج وتسيح في الأرض فتعبد الله؟ قال: أمهلني حتى السحر، فإذا كان السحر فاقرع بابي فإني متدبر في هذا الأمر، فلما كان السحر قرع الباب فإذا به يجد الملك قد خلع التاج ولبس أطماراً باليه، وقال: أرضى أن أسيح في الأرض فأعبد ربي، ولو رضيت بالملك لاتخذتك وزيراً، وقد رضيت بالسياحة فاخترتك رفيقاً، فدخل هذا الرجل ورفيقه في جبل فعبدا الله حتى ماتا، فلما سمع هشام ذلك بكى حتى اخضلت لحيته، وأمر بما كان من الطنافس و..... فأخرجت، فناله بعض حاشيته -أي حاشية هشام - وقالوا: كدرت عليه، ونغصت عليه، فقال: إني عاهدت الله عهداً ألا أدخل على ملك، إلا قمت بما أوجب الله عليَّ من النصح.

    لقد ترجم خالد بن صفوان مظاهر الجلال لرب العالمين: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا [مريم:40] مع أن الآيات كان يمكن أن تكون: (إنا نرث الأرض) والمعنى مستقيم، لكن جاء ضمير العظمة المنفصل (نحن)، ويضاف إلى ضمير العظمة المجاور له (إنا)، و(نرث) أيضاً ضمير عظمة، فالإنسان إذا راقب جملة معاني أسماء الله عز وجل ازداد بها إيماناً، وإذا راقب نعوت الجلال انكسرت رقبته، وإذا راقب نعوت الجمال تعلق به، وإذا راقب الأمر والنهي امتثل وخف عليه التكليف، وإذا راقب صفات التوكل وأن الله عز وجل يدفع عن عبده ويقيه قوي قلبه على التوكل، وإذا راقب مقتضى السمع والبصر أورثه ذلك الحياء من الله، من أن يقيم على معاصيه، أو أن يسمع منه ما يكره.

    هذه هي معاني أسماء الله عز وجل، ولذلك تأمل آخر الآيات: (إنه هو: الحكيم، العليم، القدير، الخبير، العزيز) وراقب هذه الصفات وتدبرها مع الآية تجدها في غاية الروعة، وأن غيرها لا يغني عنها: وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ [الشعراء:9] لا تكون (العزيز الحكيم)، فالرحمة هنا تقوم أكثر من مقام الحكمة، وتدبرها.

    قوله: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك) وهذا يدل على أن بعض الأسماء خاصة، لا يعرفها إلا بعض الناس، أو آحاد الناس، كاسم الله الأعظم، وإنما يعلمه الله بعض عباده: (أو استأثرت به في علم الغيب عندك) أي: لا يعلمه أحد قط، وفي هذا دلالة على أن أسماء الله لا تحصر في تسع وتسعين بل هي أكثر من ذلك، وهو الذي عليه جماهير العلماء، وقالوا في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً) لا يفيد الحصر، ولا يحصر أسماء الله في التسعة والتسعين.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين، اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، رب آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.

    اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    766283268