اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عن عبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) رواه الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقال الهيثمي : إسناده حسن، ورواه الحاكم عن ابن عمرو رضي الله عنهما وقال: رواته ثقات، وأقره الذهبي ، وصححه الألباني ، ومن قبله قال الحافظ العراقي في أماليه: حديث حسن من طريقين، عن ابن عمرو وابن عمر رضي الله عنهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق) أي: يكاد أن يبلى.
قوله: (في جوف أحدكم) يعني: أيها المؤمنون.
قوله: (كما يخلق الثوب) شبه الإيمان بالثوب الذي لا يستمر على هيئته، فحينما تشتري ثوباً جديداً له ألوان معينة فبمرور الوقت يتعرض للشمس والغسل فيصبح ثوباً خلقاً قديماً، وتتغير ألوانه، فهكذا الإيمان أيضاً إذا دخل القلب لابد أن يجدد، وقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ندعو بهذا الدعاء حتى يجدد الله الإيمان في قلوبنا، وإلا فإن الإيمان يخلق ويطول الأمد على القلب، ويطرأ عليه القساوة والران، وربما اشتدت به الأمراض حتى يموت ذلك القلب.
قوله: (كما يخلق الثوب) وذلك أن العبد يتكلم بكلمة الإيمان وبذكر الله والتوحيد، ثم يدنس هذه الكلمة بسوء أفعاله، فإذا عاد واعتذر واستغفر فقد جدد ما أخلق وطهر ما دنس من قلبه.
قوله: (فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم) يعني: حتى لا يكون لقلوبكم وجهة غير الله تبارك وتعالى، ولا رغبة في سواه، ولهذا قال معاذ لبعض أصحابه: (اجلس بنا نؤمن ساعة) أي: نجدد إيماننا بذكر الله تبارك وتعالى وتعلم العلم.
هذا الحديث يبين الخطر الذي يهدد قلب أي مؤمن، ولا يكفي الإنسان مجرد أن يدخل في الإيمان أو ينعم الله عليه بالتوبة، ثم يظن أنه نجا، بل لابد مع التقوى من الاستقامة عليها، لابد من الثبات حتى الممات، وإلا فأكثر الناس يشرعون في هذا الطريق ثم لا يثبتون عليه، وتتخطفهم الشهوات والأهواء من الجانبين، وقل من يسلم، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بأخذ هذا السبب من أسباب تثبيت الإيمان في القلب، وهو الدعاء، وهو أعظم سبب؛ فإنه عليه الصلاة والسلام قال: (الدعاء هو العبادة)، وقال عز وجل قبل ذلك: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60].
فهذا الدعاء أحد أسباب مداواة القلوب وشفائها وعافيتها من القساوة وعودة الإيمان من جديد، وهو أن نقول: اللهم جدد الإيمان في قلوبنا!
ويقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسادكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
ويقول عليه الصلاة والسلام: (التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، التقوى هاهنا، وأشار إلى صدره صلى الله عليه وسلم).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه) فتبين من هذه الأحاديث أن أس الاستقامة وقطب رحاها استقامة القلب.
إذاً: على الإنسان ألا يتهاون بأي معصية وإن دقت في عينه؛ فإن هذا الذنب الصغير مع الأيام ومع تكراره يعود كبيراً.
لا تحقرن من الذنوب صغيراً إن الصغير غداً يعود كبيرا
إن الصغير وإن تقادم عهده عند الإله مسطر تسطيرا
قال صلى الله عليه وسلم: إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه وعاد إليه نوره، وإن عاد -يعني: عاد إلى المعصية- زيد فيها حتى تعلو قلبه.
قوله: (زيد فيها حتى تعلو قلبه) هو الران الذي ذكر الله تعالى: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14].
فيكون الهوى هو الحاكم، وبذلك يصبح قلبه أسود مرباداً، يعني: متغيراً.
قوله: (كالكوز مجخياً) أي: كالكوز المقلوب، وهل الكوز المقلوب يستوعب الحكمة؟ لا، فكذلك هذا القلب منكوس، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه.
إن هجرنا لهذا الدواء الموجود في الصيدلية لا ينفي كونه سبباً من أسباب الشفاء، وكون بعض الناس يعرضون عن تعاطي هذا الدواء الذي هو القرآن -وهو سبب من أسباب الشفاء- لا يقدح في كونه شفاءً لما في الصدور، يقول عز وجل: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]، وهذا المعرض عن القرآن لا يعود وبال عمله إلا على نفسه، فيكون ممن يشتكيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ربه يوم القيامة: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، فالسؤال الذي يجب أن يعرضه كل منا على نفسه: إذا كنت تسأل الله وتدعوه بقولك: اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، كيف يكون ربيع قلبك وأنت لا تتعاطى هذا الدواء ولا تداوي قلبك به؟!
قال إبراهيم الخواص : دواء القلب خمسة أشياء: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع عند السحر، ومجالسة الصالحين.
إذاً: من أعظم أسباب استقامة القلب وشفائه من القسوة أن يكثر الإنسان من الجلوس إلى التائبين لاسيما حديثي العهد بالتوبة، فهؤلاء يكونون أرق الناس أفئدة وقلوباً، فإن لم يتيسر له ذلك فليطالع في أحوال هؤلاء التائبين، وكيف تابوا، فإن لكل توبة قصة، ولكل هداية بداية، وقد تكون هذه البداية للهداية إما آية سمعها رجل فأفاق وصحا من سكرته، وإما حادثة تعرض لها كسرت قلبه بعد الكبر والإعراض فتاب وأناب إلى الله تبارك وتعالى.. وهكذا.
إذاً: ما دام هناك روح في الإنسان فمهما قسا قلبه فهناك أمل بأن يشفيه الله تبارك وتعالى، يقول بعض الصالحين: أسق غصنك ما دامت فيه رطوبة.
أي: إذا كان الغصن ما زال فيه رطوبة -حتى ولو كانت قليلة- فهو قابل لأن يحيا، أما إذا جف الغصن تماماً ويبس فهذا لا ينفع فيه شيء.
هذه الإفاقة هي الصحوة التي يفيق بها الإنسان، والتي إن لم تقم له هذه القيامة في الدنيا فرغماً عنه سيفيق وسيندم، لكن حيث لا ينفعه الندم حينما يأتيه ملك الموت.
فأول المراحل: أن يفيق الإنسان ويقوم من نومه ومن سباته، يقول الله تبارك وتعالى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا [سبأ:46] فهذه القيامة هي أن يفيق الإنسان من سكرته، ويعزل نفسه عن هذه المؤثرات التي تشغله عن الله، وعن الدار الآخرة، وعن الوطن الحقيقي، وعن المستقبل الدائم الذي لا انقطاع له في حياة أبدية لا نهاية لها.
يقول تبارك وتعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، عبر عنها بهذا القيام.
قوله: (إذ قاموا) أي: أفاقوا، (فقالوا ربنا رب السموات والأرض).
إذاً: كل هداية لها بداية، وأي إنسان منَّ الله عز وجل عليه بالهداية ففي الغالب أن يكون هناك موقف معين، خاصة إذا كان هذا الإنسان من قبل معرضاً عن الله، ولم يوفق أن يكون شاباً نشأ على طاعة الله وعلى عبادة الله، بل يكون قد خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، أو انغمس تماماً في المعاصي والمخالفات، فتكون هناك بداية لهدايته.
وهذه البداية تختلف حسب مدخل كل إنسان إلى التوبة، والاستقامة قد تكون بآية سمعها مئات المرات من قبل، لكن في موقف معين فهذه الآية جعلته بإذن الله يفيق من غفوته، وتكون سبباً لاستئناف الطريق إلى الله عز وجل.
يقول الله عز وجل: (ألم يأن) يعني: ألم يحن أو ألم يأت الأوان والحين، وهو من أنى الأمر يأنى إذا جاء إناه، أي: وقته بمعنى يقرب.
كما قال الشاعر:
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا وأن يحدث الشيب الملم لي العقلا
وكما أنشد ابن السكيت :
ألما يأن لي أن تجّلى عمايتي وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
معنى قوله تعالى: (ألم يأن) أي: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله أي: تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه.
قوله تعالى: (أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ) هذا فيه بيان أن دواء قسوة القلوب هو ذكر الله.
قوله: (وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) هو القرآن الكريم.
والخشوع أصله في اللغة: السكون والطمأنينة والانخفاض.
أما في الشرع: فهو خشية من الله تداخل القلوب، فتظهر آثارها على الجوارح بالانخفاض والسكون كما هو شأن الإنسان الخائف.
إذاً: لقد حان للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله، وجاء الحين والأوان لذلك؛ لكثرة ما تردد عليهم من زواجر القرآن ومواعظه.
وقال عبد الله بن المبارك رحمه الله: حدثنا صالح المري عن قتادة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن فقال: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16]).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] إلا أربع سنين) رواه مسلم ، والعتاب: هو مخاطبة الإدلال وطلب حسن المراجعة والتذكير بما كره من عمله.
يقول ابن مسعود : (لما نزلت هذه الآية بهذا العتاب من الله عز وجل، جعل بعضنا ينظر إلى بعض ويقول: ما أحدثنا؟!) أي: ما الشيء الذي أوجب نزول هذه الآية؟ وما التقصير الذي قصرناه؟
وقال الحسن : استبطأهم وهم أحب خلقه إليه تبارك وتعالى.
ويروى في بعض كتب التفاسير: أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة، فنزلت الآية: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يستبطئكم الخشوع، فقالوا عند ذلك: خشعنا).
وهذا أيضاً يذكرنا بقوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ [الأنفال:24] قوله: (لما يحييكم) أي: يحيي قلوبكم، ثم قال عز وجل: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الأنفال:24].
قوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ) أي: الأجل والإمهال والاستدراج.
قوله: (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) أي: بطول الأمد.
إذاً: الإنسان قد يعلم الآيات ويعلم الأحاديث ويعلم الحلال ويعلم الحرام، لكن قلبه لا ينفعل بهذه الآيات والأحاديث لطول الأمد الذي يحدث قسوة في القلوب.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم، واشتروا به ثمناً قليلاً، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة، والأقوال المؤتفكة، وقلدوا الرجال في دين الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله؛ فعند ذلك قست قلوبهم، فلا يقبلون الموعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد.
قوله: (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) أي: خارجون عن طاعة الله، فاسقون في الأعمال فقلوبهم فاسدة، وأعمالهم باطلة، كما قال عز وجل: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً [المائدة:13]، فكل نقض لميثاق الله وعهد الله يعاقب الإنسان من جرائه بقسوة القلب، ماذا أحدثت هذه القسوة؟ يحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13].
ويقول تبارك وتعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ [آل عمران:110]، ويقول عز وجل: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:27] أي: خارجون عن أمر الله تبارك وتعالى.
يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على قوله تعالى: فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:13] أي: فسدت قلوبهم فقست وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه، وتركوا الأعمال التي أمروا بها، وارتكبوا ما نهوا عنه، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في أي شيء من الأمور الأصلية أو الفرعية.
ثم قال عز وجل: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:17] فيه إشارة إلى أنه تبارك وتعالى يلين القلوب بعد قساوتها، ويهدي الحيارى بعد ضلالتها، ويفرج الكروب بعد شدتها، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الإضلال، والمضل لمن أراد بعد الكمال، الذي هو لما يشاء فعال، وهو الحكم العدل في جميع الفعال، اللطيف الخبير الكبير المتعال.
قال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]: الذين ابتدعوا الرهبانية من أصحاب الصوامع قست قلوبهم فخرجوا وفسقوا عن أمر الله عز وجل.
وقيل: الفاسقون: هم من لا يعلم ما يتدين به من الفقه، ويخالف من يعلم، وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى.
وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة رضي الله عنهم بمكة مجدبين، فلما هاجروا إلى المدينة أصابوا الريف والنعمة، ففتروا عما كانوا فيه، فقست قلوبهم فوعظهم الله؛ فأفاقوا.
وقال ابن المبارك : أخبرنا مالك بن أنس قال: (بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، ولكن انظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى، ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
وروى بسنده عن الحسن بن زاهر قال: سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، قال: كنت يوماً مع إخواني في بستان لنا؛ وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعاً بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له: راشين السحر -لعله نوع من الموسيقى- وأراد سنان يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد -أي: العود لا يجيب إلى هذا العزف-، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان -والعهدة على الراوي إن صح السند في ذلك- يقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ [الحديد:16] قلت: بلى والله! وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أول زهدي وتشميري.
فإن صحت هذه القصة فهذه تكون إعانة من الله تبارك وتعالى لـابن المبارك على هذه الهداية والتوبة.
يقول القرطبي : وبلغنا أن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود ويغني به:
ألم يأن لي منك أن ترحما وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبي لو أنه أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فمشهور عنه أكثر مما اشتهر عن ابن المبارك أن هذه الآية كانت سبباً في توبته، وذلك أن الفضيل كان يعشق جارية فواعدته ليلاً، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئاً يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد:16] فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن، فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة، وبعضهم يقول لبعض: نسير الليلة، فقال آخرون: لا إن فضيلاً يقطع الطريق فانتظروا حتى الصباح، فسمعهم الفضيل رحمه الله، فقال: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، اللهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام، فجاور في الحرمين، ولذلك سمي بعابد الحرمين رحمه الله تعالى.
قلت: هنيئاً لك يا أخي! وحمداً لله على سلامتك، لقد أراد الله بك خيراً، والله يتولاك ويرعاك، ويثبت على الحق خطاك.
ركب المسافرون السيارة، وخرجنا من المدينة وقطعت مسافة لا بأس بها، وإذا بي أفاجأ بسيارة تمر من جواري تسير بسرعة جنونية، أحسست بداخلي بأن أمراً ما سوف يحدث، وبالفعل فما هي إلا لحظات حتى رأيت السيارة المذكورة وهي تتقلب أمامي، ومع تقلبها كنت أرى أشلاء تتطاير في الهواء، هالني المنظر فلقد مرت بي حوادث كثيرة، ولكن الذي رأيت كان فوق تصوري، ووجمت للحظات أفقت بعدها على صوت بعض المسافرين وهم يرددون: لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
انظروا الموت لا يفرق بين شاب وعجوز، ولا رجل ولا امرأة، ولا طفل ولا كبير، ولا سائق ماهر ولا غيره، وإنما يأتيك بغتة دون إنذار مسبق، فإذا تذكر الإنسان كثيراً من أصدقائه وأحبابه فإنه يرد على خاطره الكثيرين ممن سبقوه، فهل إذا صرت إلى مثل الذي صاروا إليه ستضمن أنك ستنجو من عذاب الله؟!
يقول: قلت في نفسي: كيف لو كنت مكان هذا الشاب؟ كيف أقابل ربي بلا صلاة ولا عبادة ولا خوف من الله؟ أحسست برعدة شديدة في جسمي ثم لم أستطع قيادة السيارة إلا بعد ثلاث ساعات، بعدها أخذت الركاب وعدت، وفي الطريق أديت صلاة المغرب والعشاء، وكانتا أول صلاة أصليهما في حياتي.
دخلت إلى منزلي وقابلتني زوجتي، فرأت تغيراً واضحاً وجلياً في هيئتي، فظنت بأني مريض فصرخت في وجهي: ألم أقل لك اترك هذه الحبوب؟! إنك لن تدعها حتى يخطف الله عمرك فتذهب إلى النار، كانت هذه الكلمات بمثابة صفعات وجهتها لي زوجتي، فقلت لها: أعاهد الله أنني لن أستعمل هذا الخبيث، وبشرتها بأني صليت المغرب والعشاء، وأني تبت إلى الله وبكيت بكاء مراً وشديداً.
أيقنت زوجتي أني صادق فيما أقول، فما كان منها إلا أن انخرطت تبكي معي فرحة بتوبتي ورجوعي إلى الحق، في تلك الليلة لم أتناول عشائي، نمت وأنا خائف من الموت وما يليه، فرأيت فيما يرى النائم أني أملك قصوراً وشركات وسيارات وملايين الجنيهات، وفجأة وجدت نفسي بين القبور أنتقل من حفرة إلى حفرة أبحث عن ذلك الشاب المقطع فلم أجده، فأحسست بضربة شديدة على رأسي أفقت بعدها لأجد نفسي على فراشي، تنفست الصعداء وكان الوقت قد جاوز منتصف الليل، فقمت وتوضأت وصليت حتى بزغ الفجر فخرجت من البيت إلى المسجد، ومنذ ذلك اليوم وأنا -ولله الحمد- ملازم لبيوت الله لا أفارقها، وأصبحت حريصاً على حضور الندوات والدروس التي تقام في المساجد، وأحمد الله أن هداني إلى طريق السعادة الحقيقية والحياة الحقة.
تسلل واحد منهم بخفية وسرعة إلى ذلك المقهى، ووضع كمية من الحبوب المخدرة في براد الشاي، وجلسوا في الموقع المقابل يراقبون تصرفاته، لقد وقع في الفخ، وتمر بقدر الله دورية للشرطة وترى حالته غير طبيعية فتلقي القبض عليه، إنها المخدرات، وكم كان اندهاش قائد الدورية، فهو يعرفه تماماً، فكيف تحول بهذه السرعة إلى تلك الملعونة الحبوب المخدرة؟ أدخل السجن ولكن لا فائدة، لقد أدمن ولم يستطع الإفلات من حبائلها، إنه في كل مرة يخرج من السجن يعود إلى ذلك المقهى ويقابل تلك المجموعة، استمر على تلك الحال عدة سنوات، وكانت المفاجأة...
لقد فكر والداه وأقاربه كثيراً وحاله ومصيره وسمعتهم بين الناس، وكان القرار أن أصلح شيء له هو الزواج من إحدى البلاد المجاورة؛ حتى ينسيه ذلك المقهى وتلك الجماعة الشريرة، وأبلغوه بذلك القرار فكان نبأ ساراً، فأعلن توبته، وعاهد والديه، وبدأ في الترتيب لعش الزوجية، واشترى بعض الأثاث، ودخل مرحلة الأحلام والأماني: زوجة وبيت وأسرة وأبناء، ما أجمل ذلك، وتحدد موعد السفر ليرافق والده للبحث عن زوجة، إنه يوم السبت، لكن الله لم يمهله، نام ليلة الخميس، وكان كل تفكيره في الحلم الجديد في الموعد الآتي حتى ينقضي هذا اليوم واليوم الذي بعده، إيه أيتها الليلة! إنك طويلة، وكان الجواب: إنها ليلتك الأخيرة! فما أصبح الصباح، حتى اعتلى الصياح وكانت النهاية أن يمسي في قبره تلك الليلة.
وخلال ستة أشهر من زواجي، كانت زوجتي تكيد لأمي حتى كرهت والدتي، وفي يوم من الأيام دخلت البيت وإذا بزوجتي تبكي، فسألتها عن السبب؟ فقالت لي: إما أنا وإما أمك في هذا البيت، لا أستطيع أن أصبر عليها أكثر من ذلك، جن جنوني وطردت أمي من البيت في لحظة غضب، فخرجت وهي تبكي وتقول: أسعدك الله يا ولدي!
وبعد ذلك بساعات خرجت أبحث عنها ولكن بلا فائدة، فرجعت إلى البيت واستطاعت زوجتي بمكرها وجهلي أن تنسيني تلك الأم الغالية الفاضلة، وانقطعت أخبار أمي عني فترة من الزمن، وأصبت خلالها بمرض خبيث، دخلت على إثره المستشفى، وعلمت أمي بالخبر فجاءت تزورني، وكانت زوجتي عندي، وقبل أن تدخل علي طردتها زوجتي وقالت لها: ابنك ليس هنا، ماذا تريدين منا؟ اذهبي عنا؟ رجعت أمي من حيث أتت، وخرجت من المستشفى بعد وقت طويل، وانتكست فيه حالتي النفسية، وفقدت الوظيفة والبيت، وتراكمت علي الديون، وكل ذلك بسبب زوجتي، فقد كانت ترهقني بطلباتها الكثيرة.
وفي آخر المطاف ردت زوجتي الجميل وقالت: ما دمت قد فقدت وظيفتك ومالك، ولم يعد لك مكان في المجتمع؛ فإني أعلنها لك صريحة: أنا لا أريدك، طلقني! كان هذا الخبر بمثابة صاعقة وقعت على رأسي، فطلقتها بالفعل، فاستيقظت من السبات الذي كنت فيه، خرجت أهيم على وجهي أبحث عن أمي، وفي النهاية وجدتها، ولكن أين وجدتها؟ كانت تقبع في أحد الأرصفة تأكل من صدقات المحسنين، وجدتها وقد أثر عليها البكاء فبدت شاحبة، وما إن رأيتها حتى ألقيت بنفسي عند رجليها وبكيت بكاء مراً، وما كان منها إلا أن شاركتني البكاء، بقينا على هذه الحالة حوالى ساعة كاملة، بعدها أخذتها إلى البيت، وآليت على نفسي أن أكون طائعاً لها، وقبل ذلك أكون متبعاً لأوامر الله ومجتنباً لنواهيه، وهأنا الآن أعيش أحلى أيامي وأجملها مع حبيبة العمر أمي حفظها الله، وأسأل الله أن يديم علينا الستر والعافية.
وهذه العجوز لا تملك إلا شيئاً واحداً فقط إنه الدعاء، فهو سهام الليل التي لا تخطئ، فبينما هو يسهر طوال الليل أمام تلك المناظر المزرية كانت هي تقوم في جوف الليل تدعو له بالهداية والصلاح، ولا عجب فإنها عاطفة الأمومة التي لا تساويها عاطفة أياً كانت.
وفي ليلة من الليالي حيث السكون والهدوء، وبينما هي رافعة كفيها تدعو الله، وقد سالت على خديها دموع الحزن والألم، إذا بصوت غريب يقطع ذلك الصمت الرهيب، فخرجت الأم مسرعة باتجاه الصوت وهي تصرخ: ولدي حبيبي! فلما دخلت عليه فإذا بيده المسحاة -آلة مثل الفأس- وهو يحطم ذلك الجهاز اللعين، الذي طالما عكف عليه وانشغل به عن طاعة الله وطاعة أمه، وترك من أجله الصلوات المكتوبة، ثم انطلق إلى أمه يقبل رأسها ويضمها إلى صدره، وفي تلك اللحظة وقفت الأم مندهشة مما رأت والدموع على خديها، ولكنها في هذه المرة ليست دموع الحزن والألم، وإنما هي دموع الفرح والسرور، لقد استجاب الله دعاءها فكانت الهداية، وصدق الله عز وجل إذ يقول: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186].
ففي يوم من الأيام خرج مع أخيه الأكبر في السيارة في طريق طويل، وأخوه هذا كان مفتوناً بسماع الغناء، فهو لا يرتاح إلا إذا سمعه، قام الأخ الأكبر بفتح المسجل على أغنية من الأغاني التي كان يحبها، فأخذ يهز رأسه طرباً، ويردد كلماتها مسروراً، لكن لم يتحمل ذلك الطفل الصغير هذه الحال، وتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) فعزم على الإنكار وهو لا يملك هنا إلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه، فأنكر بلسانه وقال مخاطباً أخاه: لو سمحت! أغلق المسجل؛ فإن الغناء حرام، وأنا لا أريد أن أسمعه، فضحك أخوه الأكبر ورفض أن يجيبه إلى طلبه.
ومضت فترة وأعاد ذلك الطفل الطلب، وفي هذه المرة قوبل بالاستهزاء والسخرية، فقد اتهمه أخوه بالتزمت والتشدد.. إلى آخره، وحذره من الوسوسة، وهدده بأن ينزله في الطريق ويتركه وحده!
وهنا سكت الطفل على مضض، ولم يعد أمامه إلا أن ينكر بقلبه، ولكن كيف ينكر بقلبه؟ إنه لا يستطيع أن يفارق ذلك المكان، فجاء التعبير عن ذلك بعبرة ثم دمعة نزلت على خده الصغير الطاهر؛ فكانت أبلغ موعظة لذلك الأخ المعاند من كل كلام يقال.
فقد التفت الأخ الأكبر إلى أخيه الصغير فرأى الدمعة تسيل على خده، فاستيقظ من غفلته، وبكى متأثراً بما رأى، ثم أخرج الشريط من مسجل السيارة ورمى به بعيداً معلناً بذلك توبته من استماع تلك الترهات الباطلة.
يقول هذا الشيخ الكبير: كنت نائماً في المسجد بعد صلاة الظهر، فرأيت فيما يرى النائم رجلاًً أعرفه من أقاربي قد مات، ولم أكن أعلم أن في بيته التلفاز، جاءني فضربني بقدمه ضربة كدت أصرع من ضربته، وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي.
قال الشيخ: وكنت أرى هذا التلفاز في بيته -يعني: في المنام- وكأنه كلب أسود والعياذ بالله، قال: فاستيقظت من نومي مذعوراً، واستعذت بالله من الشيطان الرجيم، وعدت إلى نومي، فجاءني في المنام مرة ثانية وضربني ضربة أقوى من الأولى وقال لي: قم واذهب إلى أهلي وقل لهم: يخرجون التلفاز من بيتي لا يعذبونني به، قال: فاستيقظت مرة ثانية وهممت أن أقوم، ولكني تثاقلت وعدت إلى نومي، فجاءني في المرة الثالثة وضربني في هذه المرة ضربة أعظم من الضربتين الأوليين وقال لي: يا فلان! اذهب إلى أهلي، وقل لهم: يخلصونني مما أنا فيه خلصك الله، قال: فاستيقظت من نومي، وعلمت أن الأمر حقيقة.
فلما صليت التراويح من ذلك اليوم ذهبت إلى بيت صاحبي وهو قريب لي، فلما دخلت فإذا بأهله وأولاده قد اجتمعوا عليه ينظرون إليه وكأن على رءوسهم الطير، فجلست، فلما رأوني قالوا مستغربين: ما الذي جاء بك -يا فلان- في هذا الوقت، فليس هذا من عادتك؟! فقلت لهم: جئت لأسألكم سؤالاً فأجيبوني عليه: لو جاءكم مخبر وأخبركم أن أباكم يعذب في قبره هل ترضون بذلك؟ قالوا: لا، وندفع كل ما نملك مقابل نجاة أبينا من العذاب! قال: فأخبرتهم بما رأيته في المنام من حال أبيهم؛ فانفجروا جميعاً بالبكاء، وقام كبيرهم إلى ذلك الجهاز (التلفاز) وكسره تكسيراً أمام الجميع معلناً التوبة.
لكن القصة لم تنته بعد، قال الشيخ: فرأيته بعد ذلك في النوم فقال لي: خلصك الله كما خلصتني! يعني من العذاب.
إذاً: فكل أب أو ولي يدع هذا الجهاز الخبيث في بيته ويموت فويل له إن لم يدمره تدميراً قبل أن ينتقل إلى جوار الله تبارك وتعالى.
فاقتربت منه وسألته: أنت فلان؟ قال: نعم. قلت: الحمد لله على هدايتك، أخبرني كيف هداك الله؟! قال: هدايتي كانت على يد شيخ وعظنا في مرقص -يعني ساحة رقص- قلت مستغرباً: في مرقص؟! قال: نعم في مرقص، قلت: كيف ذلك؟ قال: كان في حارتنا مسجد صغير يؤم الناس فيه شيخ كبير السن، وذات يوم التفت الشيخ إلى المصلين وقال لهم: أين الناس؟ ما بال أكثر الناس وخاصة الشباب لا يقربون المسجد ولا يعرفونه؟! فأجابه المصلون: إنهم في المراقص والملاهي. قال الشيخ: وما هي المراقص والملاهي؟ رد عليه أحد المصلين: المرقص: صالة كبيرة فيها خشبة متسعة تصعد عليها الفتيات شبه عاريات يرقصن، والناس حولهن ينظرون إليهن، فقال الشيخ: والذين ينظرون إليهن من المسلمين؟! قالوا: نعم. قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، هيا بنا إلى تلك المراقص ننصح الناس. قالوا له: يا شيخ! أتعظ الناس وتنصحهم في المراقص؟! قال: نعم.
حاولوا أن يثنوه عن عزمه، وأخبروه أنهم سيواجهونه بالسخرية والاستهزاء، وسيناله الأذى، فقال: وهل نحن خير من محمد صلى الله عليه وسلم؟! وأمسك الشيخ بيد أحد المصلين ليدله على المرقص، وعندما وصلا إليه سألهما صاحب المرقص: ماذا تريدان؟ قال الشيخ: نريد أن ننصح من في المرقص.
تعجب صاحب المرقص! وأخذ يمعن النظر فيهما، ورفض السماح لهما بالدخول، فأخذا يساومانه ليأذن لهما حتى دفعا له مبلغاً من المال يعادل دخله اليومي؛ فحينئذ وافق صاحب المرقص، وطلب منهما أن يحضرا في الغد عند بدء العرض اليومي.
قال الشاب: فلما كان الغد كنت موجوداً في المرقص، فبدأ الرقص من إحدى الفتيات، ولما انتهت أسدل الستار ثم فتح، فإذا بشيخ وقور يجلس على كرسي، فبدأ بالبسملة وحمد الله والثناء عليه، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بدأ في وعظ الناس الذين أخذتهم الدهشة، وتملكهم العجب، وظنوا أن ما يرونه هو فقرة فكاهية!
فلما عرفوا أنهم أمام شيخ يعظهم، أخذوا يسخرون منه، ويرفعون أصواتهم بالضحك والاستهزاء وهو لا يبالي بهم، واستمر في نصحه ووعظه، حتى قام أحد الحضور وأمرهم بالسكوت والإنصات حتى يسمعوا ما يقوله الشيخ.
قال: فبدأ السكون والهدوء يخيم على أنحاء المرقص حتى أصبحنا لا نسمع إلا صوت الشيخ، فقال كلاماً ما سمعناه من قبل، تلا علينا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث نبوية، وقصصاً لتوبة بعض الصالحين.
وكان مما قاله: أيها الناس! إنكم عشتم طويلاً وعصيتم الله كثيراً، فأين ذهبت لذة المعصية؟ لقد ذهبت اللذة وبقيت الصحائف سوداء، ستسألون عنها يوم القيامة، وسيأتي يوم يهلك فيه كل شيء إلا الله سبحانه وتعالى.
أيها الناس! هل نظرتم إلى أعمالكم إلى أين ستؤدي بكم؟ إنكم لا تتحملون نار الدنيا وهي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم فكيف بنار جهنم؟! بادروا بالتوبة قبل فوات الأوان.
قال: فبكى الناس جميعاً وخرج الشيخ من المرقص وخرج الجميع وراءه، وكانت توبتهم على يده، حتى صاحب المرقص تاب وندم على ما كان منه.
هذا ما تيسر ذكره من بيان بعض المواقف التي كانت بداية لهداية كثير من الناس، فعلينا أن نجدد العهد مع الله تبارك وتعالى، وأن نتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب، فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
وعلينا أن نذكر أنفسنا بهذه الآية العظيمة التي كانت سبباً في بداية الهداية لكثير من عباد الله الصالحين، هذه الآية التي خاطبت خير أمة أخرجت للناس: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [الحديد:16-17].
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر