وها نحن الليلة مع سورة (ص) المكية، وآياتها ثمان وثمانون آية، فهيا بنا نصغي مستمعين لتلاوة هذه الآيات الأولى مجودة ومرتلة، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع.
بسم الله الرحمن الرحيم: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ * أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ * أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ * جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ [ص:1-11].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! سبق أن علمنا أن السور المكية هي التي نزلت بمكة قبل هجرة الحبيب إلى المدينة، وتلك السور وما أكثرها تعالج العقيدة، وتعمل على إيجاد عقيدة سليمة صحيحة، بحيث يصبح صاحبها حياً كامل الحياة، وحينئذ يؤمر وينهى فيستجيب.
وأعظم أركان العقيدة هو التوحيد والإيمان بالنبوة المحمدية والبعث الآخر، وجل آيات السور المكية تعمل على إيجاد هذه العقيدة التي تقرر:
أولاً: مبدأ لا إله إلا الله.
ثانياً: محمداً رسول الله.
ثالثاً: البعث الآخر، ولا بد منه للجزاء على الكسب في هذه الحياة الدنيا. وهذه الآيات تدور حول هذه الأمور.
قال تعالى: ص [ص:1]، وقرئ (صادِ) وهي قراءة الجمهور، و(ص) حرف من حروف الهجاء، وقد علمتم أننا نقول فيها: الله أعلم بمراده به، و(ص) كـ(ق) وكـ(ن)، وجميعها حروف مقطعة، الله أعلم بمراده منها.
وقوله: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص:1]، أقسم الله تبارك وتعالى بالقرآن؛ لشرف القرآن وكماله، فهو الروح للحياة، وهو ذكر كله، فمن قرأ آية فقد ذكر الله، ومن سمع القرآن فقد ذكر الله. وهو شرف لأهله أيضاً، وقد أقسم الله به على باطل المشركين في مكة، وأن ما يقولونه باطل وكذب، فليس محمد بساحر ولا مجنون ولا كذاب أبداً.
فقوله: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ [ص:2]، أي: قدرة وسلطان في نظرهم، وَشِقَاقٍ [ص:2]، أي: هم في عناد وحرب مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وهذا العناد والشقاق والعزة هو الذي حملهم على أن يكذبوا على الناس ويقولوا: إن محمداً ساحر أو مجنون أو شاعر.
وقوله: فَنَادَوْا [ص:3]، أي: بقولهم وبأعلى أصواتهم: يا ويلاه! يا هلاكاه! يا ثبوراه! وَلاتَ [ص:3] الحين حِينَ مَنَاصٍ [ص:3]، أي: في وقت لم يعد وقت استجابة. وقد أهلك الله قبل كفار قريش من الأمم ومن أهل القرى الكثير، فنادوا بأعلى أصواتهم كما هي حالة من وصل إلى الهلاك فجعل يقول: يا ويلاه! حين مناص، أي: في وقت لم يعد وقت نجاة أو خلاص، فالتاء مع اللام مزيدة لتقوية الكلام. ولن ينفعهم صياحهم إذ لابد وأن يتم ما أراد الله.
وقد سجل الله لنا قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]. فهم يقولون هذا ليموهوا على العامة، ويغطوا عليهم هذا النور؛ حتى لا يدخلوا في الإسلام.
وقوله تعالى: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص:6]، أي: وهم خيارهم وأشرافهم، فقد جعلوا يقولون للناس: اصبروا على آلهتكم ولا تفرطوا فيها، ولا تتهاونوا ولا تتنازلوا له أبداً.
وقوله: إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، أي: هو أمر مدبر لكم؛ لإهلاككم وإزعاجكم، وهي كلمة أبي جهل وزعماء مكة.
وقوله: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص:7]، أي: والله ما هو إلا كذب، وهكذا يقولون بأن لا إله إلا الله كذب.
والحقيقة: والله إنه لا يوجد إله حق إلا الله؛ فكل المخلوقات مخلوقات له ومربوبات له، فهي تموت وتحيا، وخالقها وربها ومالكها واحد هو الله، فلا إله إلا الله. فلهذا أكرر القول وأقول: قل: لا إله إلا الله، فوالله لا ينقضها شيء ، ولو اجتمع الفلاسفة كلهم ما نقضوها، ولا تنقض بقول من يقول: لا إله مطلقاً، بل هذه خرافة وضلال وعمى، وطبيعة ميتة عفنة، ولا تنقض بقول من يقول بتعدد الآلهة، ومن قال بهذا عليه أن يبين لنا الآلهة التي تعبد، هل تستطيع أن تخلق أو ترزق؟ أو تحيي أو تميت؟ أو تعطي أو تمنع؟ وهل أوجدت شيئاً أو أعدمته؟ بل إنها في الحقيقة شهوات تعبد مع الله فقط.
وقوله تعالى: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي [ص:8]، أي: هم يشكون في أن القرآن كلام الله، وذكر الله عز وجل، ولذلك قالوا هذا الكلام، فهم في شك منه، ولذلك لم يعرفوه، ولم يعرفوا ما فيه من الشرائع والأحكام والحقائق.
وقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص:8]، أي: لو ذاقوا العذاب ما قالوا هذا الكلام.
وقوله: وَمَا بَيْنَهُمَا ، أي: من الكائنات؟ وإذا كانوا يزعمون أنهم يملكونها : فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ [ص:10]!أي: فإذا كانوا يملكون ما في السماوات وما في الأرض فليرتقوا سبباً بعد سبب، وليعرجوا إلى السماء السابعة، ويمنعوا نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. وإذا كانوا كما يدعون ويزعمون عندهم خزائن رحمة ربك فلا يبعثوا نبياً ولا رسولاً ولا يوحوا إليه، وإذا كانت لهم قدرة على الطلوع إلى السماوات وملك من في السماء ومن في الأرض فليعرجوا إلى السماوات، وليمنعوا نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ [ص:2]، أي: فهم بسبب عزتهم وشقاقهم لم يؤمنوا بالقرآن، ولم يحبوا أن يسمعوه ويستفيدوا منه.
وقوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ [ص:3]. فلم ينفعهم نداؤهم ولا قولهم: يا ويلتنا! ولم يغن عنهم شيئاً.
وقوله تعالى: وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ [ص:4]، أي: عجب مشركو مكة أن يكون محمد رسولاً وهو من قبيلتهم.
وقوله تعالى: وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ [ص:4]. وقالوا عنه ذلك؛ ليبعدوا عنه الناس؛ حتى لا يؤمنوا به.
وقوله تعالى: أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ [ص:5]. وهذه هي كلمات أهل الباطل كأبي جهل وغيره من سادة قريش.
وقوله: وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ [ص:6]، أي: امشوا واصبروا، ولا تفرطوا في دينكم، وهؤلاء كانوا قد اجتمعوا في بيت أبي طالب، يفاوضون النبي صلى الله عليه وسلم، فلما غلبهم النبي صلى الله عليه وسلم بحجته، خرجوا مشاة يقول بعضهم لبعض: اثبتوا على دينكم ولا تفرطوا.
وقوله: وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ [ص:6]، أي: يراد بكم، فانتبهوا له، هكذا يقولون لبعضهم البعض.
وقوله تعالى: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ ، أي: ما سمعنا بأن الآلهة إله واحد أبداً في الملة الأخيرة وهي ملة النصارى، فليس بين عيسى وبين الرسول صلى الله عليه وسلم سوى خمسمائة سنة فقط، ودين النصارى فيه تأليه عيسى وأمه، وقد صنعوا ذلك انحرافاً عن دينهم الحق الذي جاء به عيسى عليه السلام.
وقوله تعالى: أَؤُ نزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا [ص:8]؟ أي: أؤ انزل القرآن على محمد، وهو ليس بأشرفنا ولا بأكبرنا سناً؟ وبهذا الكلام كانوا يقولونه للعوام نساء ورجالاً؛ حتى صرفوهم عن قول: لا إله إلا الله، وقد افتروا على النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا عنه: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر:25]. وو الله ما قالوا هذا إلا للكذب عليه، فإنهم يعرفون أنه ما كذب على أحد منهم، ولا يعرف الكذب.
وقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي ، أي: القرآن، بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ [ص:8]، أي: لو ذاقوا العذاب ما شكوا، ولو نزلت بهم صاعقة أو خسف الله بهم الأرض لآمنوا.
وقوله تعالى: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ [ص:9]. وهم والله ما يملكون شيئاً في السماوات ولا في الأرض إلا ما وهبهم الله. أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ [ص:10]؟ أي: أيملكون السماوات السبع؟ إذاً: فليتخذوا الأسباب ويطلعوا إلى السماوات ويمنعوا نزول الوحي حينئذ على محمد، فما داموا يكرهونه ولا يريدون أن ينزل عليه الوحي وعندهم القدرة على منعه فليفعلوا ويمنعوا نزول الوحي عليه. والحقيقة هي قوله تعالى: جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ [ص:11]، أي: جندهم جند مهزوم، وهم لا يستطيعون أن يرقوا إلى السماء، ولا يستطيعون أن يمنعوا الوحي، ولا غير ذلك، ولينتظر ساعة دمارهم وخرابهم كما في بدر وما بعدها .
[ من هداية هذه الآيات
أولاً: لله تعالى أن يقسم بما شاء بخلاف العبد لا يقسم إلا بربه تعالى ] ولم يسمح الله لمخلوق من مخلوقاته أن يحلف بغيره تعالى، ولله أن يقسم بالشيء العظيم كالقرآن، أو بما يلفت النظر إلى ما فيه من عجائب القدرة، كقسمه بقوله: وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]. وما إلى ذلك. فلا شيء أعظم من الله. وأما نحن فلا يجوز لنا الحلف بغير الله، وذلك من أجل أن تطمئن نفوسنا، وتسكن للخبر الذي يلقى إليها.
والله تعالى لا يحلف إلا لحكمة، منها: حتى يصدق الناس الخبر الذي ينزله؛ لأن الإنسان بفطرته وبطبيعته لا يصدق الخبر خاصة إذا كان عظيماً، إلا إذا حلف له مرات، وقد لا يكتفي بالمرة الواحدة، فمن أجل ذلك يقسم تعالى لنا؛ لتطمئن نفوسنا، وتزكو قلوبنا، وأما غير الله فلا يجوز الحلف به، سواء كان نبياً أو رسولاً، أو ملكاً أو ولياً، أو أي كائن من الكائنات. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف بالله ويقول:( إن الله ورسوله ينهيانكم أن تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليسكت ). ومن حلف بغير الله فقد رفع ذلك المحلوف وسواه بالله عز وجل في ربوبيته وأُلوهيته وتعظيمه، وهذا شرك، فالحلف بغير الله شرك، والعياذ بالله.
[ ثانياً: بيان ما كان عليه المشركون من كبرياء وعداء للنبي صلى الله عليه وسلم ] وقد كانوا يواجهون النبي صلى الله عليه وسلم بالسب والشتم، والتعيير والتقبيح، والعنترية والعزة؛ حتى هاجر من تلك البلاد، وخرج من مكة.
[ ثالثاً: بيان جهل المشركين في استنكارهم للا إله إلا الله محمد رسول الله ] مع أن الواقع والحقيقة هي أنه لا إله إلا الله؛ لأن الإله الذي نؤلهه ونعبده يجب أن يكون خالقنا، وخالق أرزاقنا، وخالق حياتنا، وخالق الكون لنا. فلا يوجد خالق غير الله. إذاً: فلا إله حقيقي إلا الله. وكلمة لا إله إلا الله معناها: لا معبود يستحق أن يُعبد إلا الله؛ لأن المخلوقات لا تخلق ولا ترزق، ولا تعط ولا تمنع، ولا تحيي ولا تميت، ولكن الذي يفعل ذلك الله، فهو الإله الحق، ومن عداه آلهة باطلة، فارفع صوتك وقل: لا إله إلا الله، ولن تحنث أبداً.
[ رابعاً: تحدي الرب تبارك وتعالى للمشركين إظهاراً لعجزهم، ودعوته لهم إلى النزول إلى الحق وقبوله ] فقد تحداهم بأن يخلقوا، وأن يعارضوا القرآن، فلم يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، فكان لابد أن يتوبوا إلى الله، ويسلموا قلوبهم له، ويقولوا: لا إله إلا الله، ولكنهم لم يفعلوا.
[ خامساً: إخبار القرآن بالغيب وصدقه في ذلك ] فقد أخبرهم أنه سينزل بهم العذاب في يوم ما، وقد نزل بهم بالفعل، وأهلكهم الله.
[ سادساً : ذم كلمة الأحزاب ومدلولها؛ إذ لا تأتي الأحزاب بخير ] وهذه لطيفة سياسية، وهي: ذم الأحزاب، فهي لا تأتي بخير أبداً، ولا يوجد حزب في بلاد العرب أو في بلاد العجم أتى بشيء فيه خير، بل لم يأتوا إلا بالفرقة والفتنة، والعياذ بالله عز وجل. فكلمة الأحزاب مذمومة قد ذمها القرآن كما سمعتم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر