لقد ذكر الله تعالى قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام في عدة سور من كتابه العزيز، ومن هذه السور سورة الشعراء.
وسورة الشعراء من السور المكية، فهي تتميز بخصائص السور المكية، وتهتم بمحاجة الكافرين لتربية المسلمين، وتهتم بالإخبار عن صفات الله سبحانه وقدرته وقوته وعظمته، فيخبر الله سبحانه عن نفسه، ويخبر عن أنبيائه عليهم الصلاة والسلام كيف عاداهم الكفار، وأن أنبياءه دعوا إلى عبادة الله الواحد القهار، فنصرهم أن الله عز وجل بعدما كاد لهم الكفار، وأرادوا إيذاءهم، فجاء النصر من عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وقد كان الكفار يكيدون للنبي صلى الله عليه وسلم في مكة كيداً عظيماً، ويمكرون به صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30].
فالكفار مكروا بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يوثقوه ويكتفوه ويحبسوه عليه الصلاة والسلام، أو يقتلوه، أو يخرجوه ويطردوه من مكة، قال تعالى: وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [الأنفال:30]، ويخبر الله في هذه الآيات وفي مثل هذه السورة المكية كيف أن الكفار تحرشوا بأنبياء الله عليهم الصلاة والسلام وكادوا لهم كيداً عظيماً، وكيف نصر الله عز وجل أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، ونصر المؤمنين، وفي ذلك تثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين وتصبير لهم، أي: اصبروا فإن الله ناصركم كما نصر الأنبياء من قبلكم.
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ [الشعراء:69] أي: اتل عليهم الخبر والقصص التي قصها الله عز وجل عليك في كتابه، قال تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الشعراء:69] أي: اقرأ عليهم هذه الآيات التي فيها خبر النبي إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
فقد اتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولا يحتاج الله لخليل من البشر، فاختاره واصطفاه خليلاً، أي: أحب الأحبة وأقرب المقربين، فإبراهيم كان خليلاً لله سبحانه وتعالى، فـ (خليل) مأخوذ من الخلة، يقال: فلان خليل لفلان، كأنه تخللت محبته إلى قلبه، أي: دخلت المحبة في القلب واخترقته وتخللته.
فإبراهيم خليل الرحمن، وكذلك نبينا صلى الله عليه وسلم وصل إلى هذه الدرجة العظيمة فهو خليل الرحمن، كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت
والخليل أعظم من الحبيب، فهو أقرب الأحبة، وقد كان إبراهيم خليلاً للرحمن بصبره، ولذلك قال الله عز وجل عنه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّة [النحل:120] أي: وحده، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فقد اجتمعت في إبراهيم من الصفات ما لا تجتمع إلا في أمة كاملة، واستطاع وحده أن يقوم بهذه الصفات، فقد ابتلاه الله عز وجل فصبر على هذا البلاء، فابتلاه في القريب، وابتلاه في أبيه، وابتلاه في ابنه، وابتلاه في زوجه، وابتلاه في بلده أن يهاجر من بلده إلى بلد أخرى، وفي كل ذلك يصبر راضياً محتسباً على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
يقول الحافظ في الفتح: إبراهيم بالسريانية معناها: أبٌ راحم أو أب رحيم، إذاً: فإبراهيم هو الأب الرحيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، قال: والخليل: فعيل من فاعل، بمعنى: فاعل، وهو من الخلة بالضم، وهي الصداقة والمحبة التي تخللت القلب فصارت خلالاً، وهذا صحيح بالنسبة إلى ما في قلب إبراهيم من حب الله سبحانه وتعالى، أما إطلاقه على الله عز وجل فهو من باب المقابلة، إذاً: كأن إبراهيم الخليل تخلل حب الله عز وجل في قلبه، وامتلأ قلبه بحب الله؛ فأحبه الله سبحانه وتعالى.
وقالوا الخلة: أصلها الاستصفاء، أي: ينقيه ويختاره، وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله سبحانه وتعالى، يقول: قصر حاجته على ربه وانقطع لله سبحانه وتعالى، فهي من الخلة وهي بمعنى الحاجة أيضاً، أو بمعنى: انقطاع الحاجة إلى الله سبحانه، أو قصر الحاجة إلى الله، ولذلك مما روي: أنه لما أراد الكفار إلقاءه في النار وجاءه جبريل يسأله: ألك إلي حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، حاجتي إلى الله سبحانه وتعالى، فكان قضاء الله أسرع بإبراهيم، حيث قال الله للنار: يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ [الأنبياء:69]، فكانت برداً وسلاماً عليه، عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وكذلك قال الله فيه: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، يعني: وحده جمع خصالاً من خصال الخير لا تجتمع إلا في أمة، فكانت في إبراهيم وحده عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل:120]، والقانت: هو الخاشع والمذعن والمطيع والمتواضع لله رب العالمين، والعابد لله قوله تعالى: حَنِيفًا [النحل:120] أي: ترك كل الملل الباطلة وحنف عنها، أي: مال عنها إلى دين رب العالمين، فصارت الكلمة تطلق على الاستقامة، أي: المستقيم على دين رب العالمين، وأصل كلمة الحنف: الميل، يقال: فلان حنيف بقدمه أو برجله، فكلمة حنف بمعنى: اعوجّ، ولكن إبراهيم لكونه مال عن ملل الكفار واستقام على دين الله وصف بأنه حنيف عليه الصلاة والسلام.
ومن صفاته الحسنة في القرآن قول الله عز وجل: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114] أي: يحلم ولا يتهور ولا يتعجل عليه الصلاة والسلام، وأواه أي: كثير التأوه والخوف والبكاء من خشية الله، فكأن أصلها من (أوه) (يتأوه) أي: يبكي بصوت من خوف الله سبحانه وتعالى.
إن هذه الصفات الكثيرة التي يذكرها الله لإبراهيم دليل على عظمة شأن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
قال تعالى: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71] أي: كأنهم ظنوا أن إبراهيم يسألهم سؤال المستفهم الذي لا يعرف حقيقة الأمر فهم يوضحون له الصورة، بينما هو في الحقيقة يعرف أنها حجارة لا تنفع ولا تضر، وهو ينكر عليهم عبادتهم هذه الحجارة، ويقول: ما الذي يجعلكم تعبدون هذه الأشياء؟ هل تنفعكم هذه الأشياء؟ وكأنه يقررهم من أجل أن يعترفوا أن هذه الأصنام إنما هي حجارة وأنها أخشاب؛ إذاً: هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر بمقتضى ردهم، حيث إنه قال لقومه: مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:70]، قال تعالى: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا [الشعراء:71] أي: أوثاناً وأحجاراً كانوا يصنعونها من ذهب ومن فضة ومن حجارة ومن خشب، وقولهم: أصناماً أي: جمادات نعبدها من دون الله سبحانه، وقد صوروها على هيئة صور، قال تعالى: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71]، وكلمة نظل تأتي في العمل بالنهار، وأحياناً عمل الليل والنهار، فكأنهم كانوا يعبدونها جهاراً بالنهار، ولا يستحيون من عبادتهم لها، فعبادتهم لها ليس هو في الخفاء؛ لأنهم قالوا: نَظَلُّ لَهَا [الشعراء:71]، أي: في الظل في النهار نعبدها، وكأن المعنى: إذا كانوا بالنهار لا يستحيون، فهم بالليل والنهار يعبدون هذه الأوثان والأصنام.
وقوله تعالى: قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71] أي: ملازمين لعبادتها، والعكوف على الشيء هو اللزوم للشيء سواء كان هذا الأمر طاعة أو معصية، فهنا عكف على الشيء بمعنى: لازم هذا الشيء، واستمر عليه.
فقال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء:72]، أي: هذه باعترافكم أصنام وجمادات، فهل تسمعكم؟
فما أجمل تعبير القرآن وما أجمل تصويره! حيث إنك تجد أنه يكرر السورة في مواضع أخرى ليست بنفس المتن ونفس الفواصل، فإذا نظرنا في سورة الأنعام لوجدنا أن الله عز وجل يذكر قصة إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام مع عباد الكواكب حين جاء إلى الشام ووجدهم يعبدون الكواكب من دون الله سبحانه وتعالى.
فقد قال إبراهيم لهؤلاء: هذا ربي الذي تزعمون، وكأنهم ينتظرون الرد من إبراهيم حين قالوا له: نحن نعبد هذا الكوكب من دون الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ [الأنعام:76-78] أي: أنا بريء من هذا الشرك ومن هذه العبادات التي تعبدونها، قال تعالى على لسان إبراهيم: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام:79].
إن سورة الأنعام فواصلها طويلة؛ فجاءت القصة بنفس الفواصل الطويلة مثلها مثل باقي السور، وكذلك يذكر الله في سورة الأنبياء قصة إبراهيم مع أبيه ومع قومه، وهي تأتي على فواصل معينة، والقصة معها على هذه الفواصل، وهذا هو تفنن القرآن العظيم، حيث إنه يذكر قصة في سورة هي نفس القصة في السورة الأخرى، لكن ليست بنفس الصيغة ونفس العبارة، فالقصة قد تكون واحدة لكنه يصيغها بصيغة تناسب سياق السورة التي هي فيها؛ لذلك فأنت عندما تقرأ القصة في كل موضع فإنك لا تمل من ذكرها، ومثل ذلك تجده في قصة موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام وغيرها من قصص الأنبياء، حيث إنها ذكرت في عدة سور.
يقول الله عز وجل على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء:72]، والأصل: أن يقول: إذ تدعونهم، ولكن مراعاة لفواصل الآيات يقول: إذ تدعون، فأنت حين تسمع صوت الآية، وتسمع وزنها فكأن لها موسيقى، قال تعالى: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:72-74].
إذاً: فهذه الأصنام لا تسمع، وإبراهيم يقررهم بذلك، وهو يعلم أنها لا تسمع، إذاً: فالسؤال ليس سؤالاً للاستفهام، وإنما هو سؤال للإنكار على هؤلاء، أي: هل تعترفون أنها لا تسمع؟ كما قال تعالى: هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ [الشعراء:72]، فإذا ناديت الصنم فإنه لا يرد عليك.
وقوله تعالى: أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:73] أي: هل يقدر أن ينفعك بشيء هذا الصنم؟ وهل يقدر أن يضرك بشيء لو فعلت به شيئاً؟ الجواب: لا يقدر أن يفعل شيئاً قال تعالى: قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74] أي: أن عادة الكفار أن يقولوا: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ [الزخرف:22]، فبما أن آباءنا كانوا على شيء فنحن سنمشي على آثارهم، وسنهتدي بهديهم، ونقتدي بسنتهم، لذلك فالله سبحانه وتعالى هنا يعير الكفار بذلك، فأين عقول هؤلاء الذين يعلمون أن الأصنام لا تنفع ولا تضر حين يقولون: وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74].
قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ [الشعراء:75-76] أي: كلكم على نفس العبادة أنتم والآباء، فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] أي: أنّ هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله سبحانه أنتم وآباؤكم وكل معبوداتكم الباطلة أعداء لي إلا رب العالمين، فكلمة عدو هنا: بمعنى: أعداء، فكلمة (عدو) هنا اسم جنس بمعنى أعداء، والأصل أن يقول: إنهم أعداء لي إلا رب العالمين، فالكلمة تؤدي معنى الجماعة، فتأتي أحياناً للمفرد وللمثنى وللجمع، وللمذكر وللمؤنث، فتقول: عدو، وتقصد بها الواحد، وتقصد الاثنين، وتقصد الجمع، وتقصد الرجل، وتقصد المرأة، كما هو في اللغة العربية.
وأحياناً يفرقون بين عدو وعدوة، فيقال: الرجل عدو، والمرأة عدوة، وذلك إذا كانت معادية، فقد تقول: فلان عدو لي، أي: أنا أعاديه وهو قد لا ينتبه لهذا الشيء، مثل الأصنام في قوله: إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء:77]، فهي أصنام وجمادات لا تشعر بشيء، ولكن أنا أعاديها؛ لأنكم عبدتموها من دون الله، فتأتي كلمة عدوة بالتاء في آخرها بمعنى: أعاديها وتعاديني.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] الاستثناء هنا استثناء منقطع، فكأنه قال: أنتم تعبدون غير الله، فكل الذي تعبدونه من دون الله أعداء لي، والوحيد الذي أعبده هو الله سبحانه وتعالى، فقوله تعالى: إِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي [الشعراء:77] أي: هذه الأصنام أعداء لي، وقوله تعالى: إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77] أي: أعبده وأحبه وحده لا شريك له.
وقبل ذلك ذكر في قصة موسى في هذه السورة نفسها أنّ فرعون قال لموسى عليه الصلاة والسلام: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23] فقال تعال حاكياً عن موسى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24]، فقال تعالى حاكياً عن فرعون: قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:25]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ [الشعراء:26]، فقال الله تعالى حاكياً عن فرعون: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، فقال الله تعالى حاكياً عن موسى: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:28].
لذلك فإن عادة الكفار أن يسألوا: من ربك؟ ومن عادتهم أن يعبدوا أشياء أمامهم، وأن يعبدوا أبداناً وجمادات أمامهم، فإذا قيل لهم: من ربكم؟ قالوا: هذا الصنم أو هذا الحجر أو هذا الخشب أو هذا التمثال، وهي أشياء ماثلة أمامهم؛ لذلك قال فرعون لموسى عليه الصلاة والسلام: مَا رَبُّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:23]، أي: مصنوع من ماذا هذا الرب؟ أمن ذهب أو من فضة؟ فقال له موسى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:24] أي: ربي الذي خلق كل هذه الأشياء سبحانه وتعالى.
وكذلك في قصة إبراهيم لما قال إبراهيم لقومه: إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:77]، فذكر لهم الرب سبحانه وتعالى، وكلمة الرب بمعنى: الذي يفعل ما لا يقدر غيره على فعله، الرب: هو المربي والفعال والصانع والخالق سبحانه وتعالى، إذاً: ربي الخالق، قال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، أي: خلقني وبناء على ذلك فهو أعلم بي ولذلك فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، فهل هذه الأصنام خلقتكم حتى تهديكم؟ فتعبدونها لأن آباءكم عبدوها فاتبعتم هدي آبائكم في ذلك، فمن الذي هدى آباءكم إلى ذلك؟ لقد عبدوا أصناماً من دون الله لا تنفع ولا تضر، ولكني أنا عبدت الله الذي ينفعني والذي يضر سبحانه وتعالى.
وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]، تمشي على نفس الوزن الذي قبله الياء والنون، وإن كان الأصل أن يقول: (الذي خلقني فهو يهديني)، بزيادة ياء بعد النون، وهذه قراءة يعقوب ، ومثلها قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:78-80]، أما باقي القراء فيقرءونها بغير الياء سواء وقفاً أو وصلاً.
وقوله تعالى: الْعَالَمِينَ هي جمع عوالم، أي: كل العوالم العالم العلوي والسفلي وما بينه وكل خلق الله، والرب هو يربه ويدبر أمره، فالله صانعه وخالقه ورازقه ومعطيه سبحانه وتعالى وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَنِي [الشعراء:78] أي: أنا الذي اهتديت وليس أنتم، فأنا عبدت من خلقني، فهو الذي يستحق العبادة قوله تعالى: فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78] أي: يهديني لصراطه المستقيم، أو يهديني لعبادته ويعلمني.
قال تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79] أي: أن الذي يطعم هو الله، وأما أصنامكم فلا تطعمكم ولا تسقيكم، بل أنتم تأتونها بالطعام والشراب وتضعونها أمامكم، وتزعمون أنها تمنحكم البركة على هذا الطعام والشراب، وأما ربي فهو الذي خلقني وخلق لي الطعام وخلق لي الشراب، قال تعالى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79].
قال تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فانظروا إلى أدب إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالأصل أن يقال: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ [الشعراء:79]، وكذلك يقول: والذي هو يمرضني ويشفين، فالله عز وجل هو الذي يمرض خلقه إذا شاء، وهو الذي يشفيهم، ولكن هذا من أدب الأنبياء مع رب العالمين سبحانه وتعالى، حيث قال إبراهيم: وَإِذَا مَرِضْتُ [الشعراء:80] مع أن الذي يأتيك بالمرض هو الله سبحانه وتعالى، والجميع يقرون بذلك، ولكن الأدب في الخطاب أن يقول لله سبحانه وتعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80]، فالمرض من الله، وقوله تعالى: فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:80] يؤكد أن الشفاء من عند الله ليس من عند غيره، فلا انتظر الشفاء من طبيب، ولا أنتظر الشفاء من راق، وإنما أنتظر الشفاء منه سبحانه وحده لا شريك له.
وأما في أمر الغلام الذي قتل فقد قال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ [الكهف:74]، فقال: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ [الكهف:80] أي: كان والداه صالحين، قال: فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:80-81]، أي: أردنا نحن، مع أن المريد أصلاً لذلك والذي أمر بذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن أدب الخضر جعله ينسب إلى نفسه ذلك، فقال: فأردنا، وكأنه يقول: نحن وافَقْنَا ربنا سبحانه وتعالى في ذلك، فالله أخبرنا بالحكمة فكان هذا الصواب فأردنا ذلك؛ لأن الله يريد، فلم يقل أراد الله قتله، وإن كانت هذه هي الحقيقة، ولكنه نسب ما ظاهره قد يوهم العيب إلى نفسه، فقال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، وفي أمر الغلام قال: فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا [الكهف:81].
وقوله تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ [الكهف:82]، فهو عمل نافع، لأنه رأى أن الجدار سيقع فقام وعدله وهذا فيه منفعة، قال تعالى: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ [الكهف:82]، فلما كان خيراً محضاً في الظاهر والباطن نسبه إلى الله سبحانه وتعالى؛ تأدباً مع رب العالمين سبحانه.
إذاً: فالأنبياء لما يتكلمون عن رب العالمين فإنهم يكونون في غاية الأدب مع الله سبحانه وتعالى، وانظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (والشر ليس إليك)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن ربه سبحانه في القرآن، فيقول: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، فما كان من شيء إلا والله خالقه من خير وغيره، ولكن خلق الله للأشياء هو خير من الله سبحانه، فخلق المؤمن وخلق الكافر كله خير من الله عز وجل، فالله خلق المؤمن ليدخله الجنة، وخلق الكافر ليجاهده المؤمن؛ فيدخل المؤمن الجنة، فكأن الله لو لم يخلق هذا الكافر فإن المؤمن لن يصل إلى الدرجات العالية، فكان في الخلق خيراً للمؤمنين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، فكل ما خلقته فورائه خير سواء لنفسه أو لغيره.
وكذلك في سورة الكهف ذكر الله فتى موسى واسمه يوشع بن نون ، فعندما نسي الحوت قال: وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف:63]، فالذي يقدر للإنسان أن يتذكر والذي يحجب عنه ذلك هو الله سبحانه وتعالى، ولكن يوشع بن نون يقصد أنه نسي على وجه من الشر، فالشيطان تسبب في ذلك، ولم ينسب ذلك إلى الله عز وجل، وأما من حيث الخلق فالله خالق كل شيء سبحانه وتعالى.
نعود إلى الآية قال تعالى: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ [الشعراء:80-81]، أي: الذي هو قادر على الإماتة وقادر على الإحياء وحده لا شريك له، هل أصنامكم تفعل ذلك؟ فربي يفعل هذا كله.
وقوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، والكلام هنا عن يوم الجزاء ويوم الحساب، فهذا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام يطمع في رحمة ربه يوم الدين، فكيف لا يطمع غيره في ذلك؟! قال: الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء:82]، وما كانت خطيئة إبراهيم؟ لم يذكر لنا ذنبٌ أذنبه إبراهيم إلا أنه كذب ثلاث كذبات، وهو مضطر لذلك على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يذكر في الحديث أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات، والظاهر أن هذه الكذبات كانت من باب التعريض، أي: أنه يعرض فيقول كلاماً ليوهم غيره، وهذا أمرٌ واضح.
والكذبة الثانية: كما في قوله تعالى: إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، وذلك لما خرج قوم إبراهيم إلى عيد لهم أرادوا أخذ إبراهيم معهم، فقال إبراهيم: فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، فأظهر أنه مريض وأبطن أن يكيد كيداً في هذه الأصنام، فهو يريد أن يكسر هذه الأصنام، والإنسان قد يكون سقيماً في بدنه وقد يكون سقيماً في قلبه أو في باطنه، وهذا شيء معنوي، وكأنه مثقل بالهموم، فيقول: إني مريض من كثرة ما أرى من المنكرات، وكأن إبراهيم يقصد هذا المعنى، فيوهمهم أنه مريض مرضاً بدنياً فلا يخرج، وحقيقة هو يريد: أني مرضت معنوياً من عبادتكم لهذه الأصنام.
وأما الكذبة الثالثة: لما جاء الجبار وأخذ منه سارة سأله عنها: من هذه؟ فلو قال: زوجتي لقتله، فقال: أختي، فهذه الكذبة الثالثة التي كذبها إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وقال لـسارة : ما على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك، إذاً: فنحن إخوة في الله سبحانه وتعالى، فإبراهيم يقصد الإخوة الإيمانية لا النسب؛ لأنها زوجته.
قال تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء:82]، فسمى هذه الكذبات خطيئة ولم يسمها خطأً، وكأنها ذنوبٌ كبيرة وقع فيها فأرجو من الله أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] وسواء كانت هذه الكذبات شيئاً قد وجد أو أنها لم توجد فإنه قال ذلك على سبيل رجاء رحمة رب العالمين سبحانه: َالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، وكأن الإنسان المؤمن الذي يقول ذلك يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فالذي هو مستيقن أن هناك يوماً يسمى يوم الدين ويوم الجزاء ويوم الحساب، فيطمع من ربه أن يغفر له في هذا اليوم، فيعمل لذلك؛ يستحق المغفرة منه.
ولذلك جاء في الحديث في صحيح مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (قلت: يا رسول الله!
إذاً: فلا ينفعه ذلك الذي كان يفعله، وابن جدعان كان رجلاً كريماً جداً، ولذلك يذكرون عنه أنه كان يطعم الناس كما في الحديث، وكانت له جفنة عظيمة جداً يرقى إليها بسلم، أي: يصعدون إليها ليملئوها طعاماً.
يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم : قال العلماء: وكان ابن جدعان -واسمه عبد الله بن جدعان- كثير الإطعام، وكان قد اتخذ للضيفان جفنة يرقى إليها بسلم.
ولاحظ وجه المناسبة بين إبراهيم وبين ابن جدعان ، فإبراهيم عليه السلام كان أبا الضيفان، فكان يلقب ويكنى بذلك عليه الصلاة والسلام، فكان الضيوف يأتونه فيطعمهم، وقد أتى إليه ثلاثة من الملائكة في هيئة ثلاثة من البشر، فأطعمهم عجلاً حنيذاً، وكان ابن جدعان رجلاً كريماً يطعم الضيفان، ويحضر لهم الجفنة الضخمة التي لا يرقون إليها إلا بسلم من أجل أن ينالوها، إلا إن إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام قال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82]، وأما ابن جدعان فلم يقل ذلك؛ لذلك لم يستحق أن يغفر الله عز وجل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، فلو قال ذلك لنفعته هذه الكلمة، فلو أقر بربوبية الله سبحانه، وأنه وحده القادر على المغفرة، ولو أنه أقر بألوهية الله سبحانه وتعالى فعبده ودعاه -فإن الدعاء عبادة لله عز وجل- بدلاً من أن يتوجه إلى الأصنام، لنفعه ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين)، وأما إبراهيم فقد قالها ودعا ربه: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83].
فهو حين قال: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:82] توجه إلى ربه سبحانه وسأله من فضله، فقال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا [الشعراء:83]، والحكم: هو معرفة الله سبحانه، ومعرفة حدوده وأحكامه تعالى، وأيضاً معناه: هب لي فهماً وهب لي علماً من لدنك، فهذا هو السؤال النافع، فالإنسان يسأل ربه ما ينتفع به كما سأل إبراهيم ربه، وأيضاً قالوا: من معانيها النبوة والرسالة إلى الخلق، فاستجاب له ربه سبحانه وتعالى.
قوله تعالى: وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [الشعراء:83] أي: اجعلني عندك مع عبادك الصالحين، وألحقني بالنبيين من قبلي في درجتهم، وليس معناه: توفني الآن وإنما معناه: إذا توفيتني فاجعلني في درجة النبيين الذين من قبلي عليه وعليهم الصلاة والسلام.
ثم قال: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84] أي: اجعل لي ذكرى جميلة عند الآخرين، فاستجاب الله عز وجل له، فكل من جاء من الأنبياء بعده فهم من ولد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وكلهم يذكرون إبراهيم ويدعون له على نبينا وعليه الصلاة والسلام.
وقد تنازع عليه اليهود والنصارى، فاليهود يقولون: كان إبراهيم يهودياً، والنصارى يقولون: كان إبراهيم نصرانياً، والمسلمون يقولون: بل كان حنيفاً مسلماً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
فهذا الثناء الجميل كله لإبراهيم عليه السلام، وكل من جاء بعد إبراهيم يذكره بخير عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام فقوله تعالى: وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ [الشعراء:84] أي: اجعل كل من يأتي بعدي يذكرني بالثناء الحسن، لا يدعو أحد علي بشر، ولا أحد يتكلم عني بكلام لا يليق، فكان من جاء بعد إبراهيم يذكرونه بالثناء الحسن؛ استجابة لدعوته ربه سبحانه.
ثم قال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85] أي: مع المؤمنين الذين يرثون الجنة، فهو لم يقل: اجعلني وارث جنة النعيم، بل أنا وغيري نرث جنة النعيم، فتكون لنا بعد ذلك ولا نخرج منها أبداً.
ثم قال: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:86]، فسأل ربه أن يغفر لأبيه؛ لأنه كان من الضالين، وهذا كان قبل أن يعلم إبراهيم أن أباه عدو لله، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، قال تعالى: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود:75].
أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر