لقد تكلمنا في فاتحة هذه السورة، ثم انتقلنا إلى ما قرره الله جل وعلا فيها من أمور العقيدة العظام، وإخباره جل وعلا عن ذاته العلية بأن لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، وأنه جل وعلا يعلم الجهر والسر وأخفى، وأنه سبحانه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
ثم ذكر الله جل وعلا فيها نتفاً من خبر كليمه وصفيه موسى بن عمران صلوات الله وسلامه عليه، صدر الله ذلك بقوله: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى [طه:9]، ومضى بنا القول إلى أن الله جل وعلا ربى نبيه وكليمه وصفيه أعظم تربية، فطمأنه وآمنه من الخوف، ثم أعطاه مقام التكليف، أي: مقام الرسالة بعد مقام النبوة، وانتهى بنا الأمر إلى أن الله جل وعلا نهى عبده وصفيه موسى من اتباع من كتب الله عليهم أنهم يصدون عن ذكره، وأن في اتباعهم سبب الهلاك وأودية الرداء.
وانتهينا إلى قول الله جل وعلا: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:17-18]، فنقول والله المستعان وعليه التكلان: ما زال الأمر مستأنفاً في مقام التكليم، والمقام جبل الطور، والمكلِّم هو الرب جل وعلا، والمخاطب هو موسى.
وقد أنكرت المعتزلة وبعض الناس هذا الأمر، وقالوا: إن الله جل وعلا لم يكلم موسى تكليماً، وأولوا وحرفوا في الآيات الناصة على ذلك، ومنها قول الله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فأجابوا عن هذا بأن حقها أن تقرأ: (وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا)، فجعلوا لفظ الجلالة مفعولاً به مقدماً، وموسى فاعلاً مؤخراً عن مفعوله.
والرد عن هؤلاء أن يقال: إن هذا وإن كان يجوز في اللغة أن يقدم المفعول على الفاعل إلا أن المعنى يذهب تماماً هنا؛ لأنه إذا كان الأمر أن موسى يناجي ربه فهذا ليس من خصائص موسى وحده، فكل المؤمنين والصالحين يناجون ربهم ويدعونه ويخاطبونه، ويستغفرونه، ويسألونه، فأي فخر أو فضل لموسى ينص الله عليه حتى يقول الله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]؟ ثم أين هم عن قول الله له: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، إلى غير ذلك من الأدلة التي يرد عليهم بها.
قال الله تعالى لهذا النبي الكليم: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، (ما): استفهامية من غير نزاع، والاستفهام الأصل فيه أن يعرف المستفهم خبر المستفهم عنه، لكن هذا غير وارد هنا؛ لأن الله جل وعلا يعلم ما الذي بيمين موسى؛ بل يعلم كل شيء، ولا يغيب عنه مثقال ذرة جل جلاله، ولكن المقصود: تربية موسى على طريقة الأسئلة، وهنا تعهد رباني وعناية إلاهية بعبد تغلب عليه السمرة فيه لثغة في لسانه لا يظهر كلامه جيداً، يجد عناء وهو يتكلم، في ليلة شاتية أهله غير بعيدين عنه.
هذه الأجواء بالنسبة لشخص موسى، لكن مواطن الضعف هذه كلها ذهبت عندما وجدت عناية إلاهية ربانية بهذا العبد، كل مواطن الضعف أضحت قوة؛ لأن المتعهد به والقائم بأمره هو رب العزة جل جلاله، قال الله له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ، فأجاب كما قال الله: قَالَ هِيَ عَصَايَ [طه:18]، وهذا يكفي في الإجابة، لكنه أراد أن يستمر الخطاب تلذذاً منه بمناجاة الملك العلام، فقال عليه السلام: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا [طه:18]، ولم يكن السؤال: ماذا تعمل بالعصا؟ وإنما السؤال: ما الذي في يمينك؟ وكان يكفي أن يقول: هي عصاي، لكنه -كما قلنا- فرحاً بمناجاة ربه زاد: قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي .
ومعلوم أن موسى لا يضر غنمه بعصاه، فقوله: (أهش) بمعنى: أهش على الشجر فيتساقط ورقه على الغنم فتأكلها، وما زال مردفاً، أحياناً يغلب عليه الأدب لا يريد أن يستمر، وأحياناً تغلب عليه المناجاة فاتخذ طريقاً بينهما فقال: هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي ، وكأنه شعر بأنه أطال في اللفظ فقال: وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى ، صلوات الله وسلامه عليه.
وقد أراد الله بهذا أن يبين أن هناك آية ستنجم عن هذه العصا، ولم يرد الله أن تكون الآية في شيء غير العصا فلعل موسى يقع في ذهنه أنه شيطان أو ما أشبه ذلك، لكن موسى من أعلم الناس بعصاه، وهو يعرفها، وهي ملازمة له سنين عديدة، ويعرف من أين اقتطعها، وهو يتوكأ عليها -كما يقول- ويهش بها على غنمه فهي لا تكاد تفارقه.
ولهذا أراد الله أن تكون الآية في نفس الشيء الذي يعرفه موسى جيداً، فخاطبه رب العزة: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى [طه:19]، (ألقها): فعل أمر جزم بحذف حرف العلة وهو الياء، وقد استجاب الكليم لأمر ربه فألقى العصا، قال الله: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه: 20] (فإذا) فجائية، وسيبين نحوياً غرابة هذه (إذا) في موطنه بعد أن نترك قصة موسى، فَإِذَا هِيَ ، أي: العصا، حَيَّةٌ تَسْعَى ، فجأة إذا بهذه العصا التي يعرفها جيداً تنقلب إلى حية.
وجاء في بعض الآيات أنها ثعبان، وجاء في بعض الآيات أنها جان، والجمع بينها أنها حية في ضخامتها، ثعبان في تلونها جان في خفتها، فهي تتنقل وتسبح في الأرض وتجوب فيها، وبجبلته التي فطره الله عليها كأي بشر ولى هارباً، قال الله جل وعلا: قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا ، أي: عصاه، فَإِذَا هِيَ ، أي العصا، حَيَّةٌ ، ليست ثابتة واقفة جامدة ميتة تَسْعَى ، تتحرك، قال تعالى: قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، بمعنى: أنه نجم عنه خوف، وقد ذكر في سور أخرى أنه ولى هارباً، فطمأنه ربه وقال: أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ [القصص:31]، ثم أمره الله أن يأخذها .. يأخذها وهي حية لم تعد عصا، فأخذها امتثالاً لأمر الله، وطمأنه الله فقال: سَنُعِيدُهَا ، أي: الحية، سِيرَتَهَا الأُولَى ، أي: سوف تعود إلى عصا، وسيكون هذه العصا شأن عظيم مع موسى في دعوته لفرعون كما سيأتي.
قال الله: سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى ، وكلمة (سيرة) تطلق على حال الإنسان إن كانت حسنة أو قبيحة، يقال: فلان سيرته حسنة، وفلان سيرته قبيحة، فلما أخذ موسى الحية عادت إلى عصا بإذن الله تعالى.
ثم قال الله تعالى لموسى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى [طه:22]، الجناح: الأصل أنه للطائر، واستعير هنا لبني آدم، وهو ما تحت العضد كما أن جناح الطائر في هذا الموطن، وفي آية أخرى قال الله له: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ [النمل:12]، والجيب هو فتحة الثوب التي تقع في الصدر.
والمعنى: أن موسى أدخل يده من جيبه حتى دخلت تحت عضده، وحينئذ شعر بالاطمئنان من الخوف، وهذا الأمر يفعله الناس جبلة، يضع أحدهم يده على قلبه إذا خاف، ويقولون في التعبير: يدي على قلبي، كناية عن الخوف، قال تعالى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ ما الذي يحدث؟ تَخْرُجْ ، جاءت مجزومة بالسكون؛ لأنها واقعة في جواب الأمر الذي هو (واضمم)، فأخرجها، يقول الله له: تَخْرُجْ ، أي: يدك بَيْضَاءَ من غير تنوين؛ لأنها ممنوعة من الصرف، وقد جاءت مفتوحة؛ لأنها حال، أي: كيف تخرج؟ تخرج بيضاء، وموسى -كما قلت- كان يميل لونه إلى السمرة، وقد جاء في الحديث: (كأنه رجل من أزد شنوءة) وهم يميلون إلى السمرة.
فأخذت يده تبرق نوراً، وجاء هنا احتراز عظيم: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، فليس هذا من مرض أو ما شابهه، وإنما مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، لماذا يا رب؟ قال الله له: (آية أخرى)، ولم يقل: أخيرة، بل قال: أخرى، أي: غير الأولى، فالأولى عصا انقلبت حية، والثانية يده تدخل فتخرج بيضاء، (أخرى) أي: أن هناك شيئاً سيأتي، تقول: رجل آخر، فلا يمنع أن يأتي بعده أحد آخر، لكن إذا قلت: أخير أي: أنك انتهيت، فمثلاً عندما تكتب أسئلة لطلابك تقول: السؤال الأول، السؤال الثاني، السؤال الثالث، فإذا أردت أن تنهي فلا تقل: الرابع، بل قل: السؤال الأخير، حتى يفقه من يقرأ أسئلتك أن أسئلتك انتهت، وكذلك قل: الفائدة الأخيرة، الحديث الأخير، وأي شيء تريد أن تختمه صفه بأنه أخير، أي: لا شيء بعده.
فالله جل وعلا قال هنا: آيَةً أُخْرَى ، ولم ينهها؛ لأن ثمة آيات ستأتي لهذا النبي الكليم سيخاطب بها من بعث إليه في الأصل وهو فرعون.
قال الله تعالى: لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23]، وقول الله جل وعلا: (من آياتنا) إفهام وإشعار لكليم الله أن آيات أخر كبرى عظاماً سيأتي، وقد أتت، وهي في مجملها تسع: هاتان الآيتان وهما العصا واليد، ثم أتبعها الله جل وعلا بقوله: وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ [الأعراف:130]، فهاتان اثنتان، فصرن أربعاً، قال الله: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ [الأعراف:133]، أي: يتبع بعضها بعضاً وليست في آن واحد، فهذه تسع آيات.
لأي شيء كل هذا الإعداد لموسى، قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24]، (إنه طغى) جملة تبين حال فرعون وليست صفة؛ لأن قواعد النحو تقول: الجمل بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات، وفرعون معرفة، فالجملة التي بعده حال تبين وضع فرعون.
لكن قول الله جل وعلا: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ ، هذا تكليف بالرسالة، وليس موسى أول الرسل إلى فرعون، والدليل أن الله قال حكاية عن مؤمن آل فرعون: وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا [غافر:34].
فيوسف أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وموسى أرسل إلى فرعون الذي عاصره، وكلاهما من أنبياء بني إسرائيل؛ إذ إن موسى من ذرية يعقوب، ويوسف وأبوه يعقوب كلهم بنو إسرائيل، وقد دخلوا مصر محدودي العدد وخرجوا وهم أكثر من ستمائة ألف كما سيأتي في موضعه.
المقصود: أن الله جل وعلا قال لموسى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فموسى قبل التكليف، وسأل الله الإعانة، وقدم أربعة رجاءات إلى ربه.
قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25]، كلمة (رب) مكتوبة من غير ياء، وحتى تستريح من عناء أشياء كفاك الله هم البحث عنها اعلم أنه لا يوجد في القرآن (رب) بصيغة دعاء مناداة موصولة بياء، بل كلها مكونة من حرفين الراء والباء المشددة.
فأول ما سأل الله جل وعلا أن يشرح له صدره لهذا التكليف.. قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، وأن ييسر له الأمر، ولا ييسر العسر إلا الله، ثم قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي ) * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:27-28].
قوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي ، سيأتي الحديث عنها في درس قادم، لكن نتوقف عند قول الله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ، فنقول: إن موسى عليه الصلاة والسلام معلوم أنه نشأ في قصر فرعون، فلما نشأ كان فرعون على وجل منه؛ لأنه قد سبقته رؤيا أن غلاماً من بني إسرائيل سيكون على يديه هلاك ملكه فكان يتحرز، فلما نشأ موسى رضيعاً نشأ فصيحاً، فخاف منه فأراد أن يقتله، فأرادت زوجته آسية أن تمنعه من ذلك، فبعد أخذ وعطاء بينهما اتفقا على أن يختبر موسى، فقدم له جمر ولؤلؤ، وقيل: جمر وتمر، أو تمر في إناء من ياقوت، وجمر من نار ليختار أحدهما، فذهبت يده إلى التمر أو إلى الياقوت، المهم أنها لم تذهب إلى الجمر، فقيل: إن جبريل جاء ووضع يده على الجمر حتى يكون ذلك سبباً في بقائه، والله جل وعلا يجعل للأشياء أسباباً وإذا أراد الله شيئاً هيأ له أسبابه، فوضع الجمرة في فيه فلذعته، فلما لذعته أصابته هذه الحبسة التي في لسانه والبطء في كلامه، وهذه الحبسة قد عيره بها فرعون كما في آية الزخرف في قول الله عنه: أم أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، أي: لا يكاد يظهر كلامه ولا يفصح ولا يفقه ماذا يقول، ولذلك هنا لأن مقام الدعوة يحتاج إلى شيء من البيان مع العلم بأمور كثيرة قال موسى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ، نقول: إن الله تعالى ذكر على لسان موسى أنه طلب حل عقدة واحدة، قال العلماء في هذا: إن موسى كان يطلب الأمور على قصد ولم يرد أن يظهر أنه فصيح ويشار إليه بالبنان ويذكره بنو جنسه، وإنما أراد ما يكتفي به في أن يبلغ دعوة ربه.
وقد فهم منها العلماء أنه الإنسان أن يقتصد في أمور الدنيا إذا كان مصدراً للإمامة في الدين بالقدر الذي يقيم به حاله، ولا يتجاوز الحد، ثم إن الله جل وعلا ختم هذه السؤالات بقوله: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وسيأتي بيانه في موضعه.
نعود للقضية كلها في بيان نستطرد في الحديث عن هذه الآيات التي سلفت فنقول في أولها: إن التربية الإلهية لا يعدلها تربية، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)، وإذا أراد الله جل وعلا شيئاً هيأ أسبابه، ومن أعظم ما يجعلك تقف على الحق وتثبت عليه علمك اليقيني به.
لكن ينبغي عليك أن تعلم أنك بشر ضعيف، تحتاج إلى ما يقويك، والله جل وعلا قادر على أن يثبت موسى بين يدي فرعون من غير تجربة، لكن موسى لما وقف ذلك الموقف، وانقلبت العصا حية وهو يرى، واليد أدخلت وخرجت بيضاء وهو يرى؛ انتهى من مقام التجربة فآمن هو بقضيته، فلما آمن هو بقضيته واقتنع بقدرته كان يسيراً عليه أن يقف واثقاً من نفسه، متمكناً من قوله، مظهراً لدليله أمام فرعون، ولهذا قال الله عنه في الشعراء: قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ [الشعراء:30]، ذلك الخوف الذي كان موجوداً انتهى، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء:31]، قال الله: فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الشعراء:32-33].
فلما ألقى موسى العصا أمام فرعون لم يفر هارباً، رغم أنها انقلبت حية مثل المرة الأولى؛ وذلك لأنه كان يعلم أنها ستنقلب حية، وهناك لغز تقوله العامة -وهو مقبول في مثل هذه المواطن- عند قضية موسى بعد أن انقلبت العصا إلى حية مع السحرة، يقولون: خشبة انقلبت لحمة أكلت لحمة عادت خشبة، وهي وإن كانت باللهجة العامية لكنها صحيحة، فالخشبة: هي عصا موسى، انقلبت لحمة أي: صارت حية، والحية من لحم، أكلت لحمة أي: أكلت العصي التي ألقاها السحرة، عادة خشبة أي: عادت عصا كما كانت، وهذا ربط بألغاز عامة بالقرآن، وهو مقبول؛ لأن المقصود: ربط الناس بآيات الله البينات، وما هذه الأمور إلا وسائل، وأي وسيلة لم ينص الشرع على تحريمها وقربت من الله أو دلت على آياته وعرفت بالقرآن فهي محمودة ما لم ينص الشرع على تحريمها ذاتاً.
نعود فنقول: لأجل هذا ربى الله رسله، فالله يقول في حق خليله إبراهيم: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأنعام:75]، لماذا؟ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75]، فكان إبراهيم عارفاً بملكوت السماوات كما علمه الله حتى يثبت أمام الشدائد التي ستأتي.
ونبينا صلى الله عليه وسلم غسل قلبه، وملئ إيماناً وحكمة، وجاوز السبع الطباق، وعرج به، ورأى من آيات الله الكبرى، حتى بعد ذلك إذا حدث عن الجنة والنار يحدث عن شيء هو مؤمن به كل الإيمان ويعرفه حق المعرفة.
فمن دعا إلى الله ولم يتسلح بالعلم القلبي والإدراكي لن يكون قادراً على الثبات كغيره، ولو سمع شبهة تشكك في الجنة أو في النار، أو تخبر بعدم قيام البعث، أو أي كلمة يلقيها من يلقيها على عواهنها، فتقع منه موقعاً يجعله يحجم عن الدعوة.
فحتى الذين من الله عليهم بالهداية من خلال موقف إيماني كالذي يرى مصرعاً لأحد، أو يمر على جنازة، أو يرى قبراً فهذا أمر محمود، وهو يكون سبباً في الهداية، لكنه لا يكفي فلا بد أن يسقى ذلك بعلم بالله جل وعلا حتى يحصل الثبات على الدين؛ لأن أثر ذلك الموقف العارض لا يلبث أن ينجلي إن لم يسق برحيق العلم والمعرفة والتفكر في مخلوقات الله، وإذا أراد الله بعبد خيراً ومضياً في الطريق قلَّبه جل وعلا في أمور الدنيا والأحوال، والنوازل والابتلاءات وغيرها، يراها حتى يشتد عوده، ويثبت جنانه، ويصبح على بينة من ربه وهو يدعو إلى الله تبارك وتعالى.
وهذه العطية هي التي منحها الله ووهبها لأوليائه ورسله، وخاصة منهم أولي العزم، ومنهم كليم الله موسى بن عمران.
من الفوائد: أن الإنسان ضعيف لولا إعانة الله جل وعلا له، وقد ورد في الحديث القدسي: (أن الله جل وعلا قال لموسى: يا موسى! سلني ملح عجينتك، سلني علف دابتك، سلني شسع نعلك).
فلا تدخلن مقاماً، ولا تجلسن على كرسي، ولا تتصدرن في موضع وأنت تظن أنك وصلت إليه بحولك أو قوتك.
فإذا كان كليم الله يقول: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي [طه:25-26]، ويسأل الله الإعانة تلو الإعانة، والأمر تلو الأمر؛ فأنت أولى بذلك، لكن المهم ألا تسأله غير الله جل وعلا، وأن تلجأ إلى الله جل وعلا في حاجتك، يقول العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام: والله لن يصلوا إلى شيء بغير الله فكيف يوصل إلى الله بغير الله؟ وهذا من نفائس الكلم، ولا يوفق لقوله أي أحد، لكن العز بن عبد السلام كان -فيما نحسبه- عارفاً بربه، عالماً بالشرع، متدبراً للأمر، مستعيناً برب العزة والجلال فوفق إلى أن تخرج منه هذه الكلمة.
وهذه ما دلت عليه جملة سؤالات الأنبياء وخاصة منهم ما نحن فيه من سؤال كليم الله موسى بن عمران لربه جل وعلا.
مما دلت عليه الآية: أن الخوف جبلي في الإنسان، وأن الإنسان لا يعير بالخوف، وقد قال الله جل وعلا عن موسى في آية أخرى: قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ [الشعراء:12]، قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص:33]، ومع هذا طمأنه الله.
فثمة أمور جبلية تنشأ في بني آدم لا تضر، لكن العبرة فيما استقر عليه القلب، والسكينة أمر محمود، والأمنة من الله شيء عظيم وهبة منه، والله تعالى له جند ينصر جل وعلا حتى بالنعاس بالنوم، والنعاس نصر المؤمنين في بدر، قال تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ [الأنفال:11].
فالله جل وعلا له جند يعلمهم ولا نعلمهم، لكن المقصود أن من أراد الله الاحتفاء به وإكرامه فيسخر الله له من الجند ما يعلمه وما لا يعلمه -أي: ذلك المؤيد المنصور-.
دلت الآيات كذلك على أن أسلوب الأخذ والعطاء في إقناع الغير أمر محمود، خاصة في التربية، فمن دونك من الطلاب أو الأبناء، أو من تريد إقناعه والوصول به إلى الغايات الذي تريد إيصالها إليه عن طريق الحوار، والأخذ والعطاء، والتساؤلات والبدء بالأشياء المتفق عليها إلى الأشياء المختلف عليها، هذا أمر محمود في الطريقة.
ثم إن إشعار من أمامك بمحبتك وإجلالك له، والانطلاق من أشياء تتفقون عليها؛ من أعظم أسباب قبول ذلك الطرف أو الغير أو المحب الذي تريد أن توصله إلى بر الأمان، فمن أعظم أسباب الوصول إلى قلبه إتباع مثل هذه الطرائق.
من المعلوم أن موسى عليه الصلاة والسلام عندما ألقى العصا كان يعلم أنها عصا، ولم يدر في خلده أنها ستنقلب إلى حية، فيقول النحويون: إن هذه هي (إذا) الفجائية وما بعدها حقه عند جماهيريهم أن يرفع، ولهذا قال الله: فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ [الأعراف:108]، بيضاء: خبر، وقال هنا: فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى [طه:20]، بالضم.
فالقرآن يدل على المذهب النحوي القائل: إن الأصل فيما يأتي بعد إذا الفجائية أن يكون مرفوعاً، وهذه المسألة تسمى المسألة الزنبورية، وذلك أن سيبويه إمام النحاة خرج من البصرة يؤمل مجداً في بغداد، فدخل على يحيى بن خالد البرمكي
وزير هارون الرشيد ، وكانت بغداد آنذاك حاضرة الإسلام، والخلافة فيها موطن الناس، فجاء يؤمل مجداً عظيماً، وكان إمام أهل البصرة بلا منازع، والكسائي إمام أهل الكوفة، فالتقيا - الكسائي وسيبويه - في مجلس يحيى بن خالد البرمكي وعنده ابنه جعفر ، فقال الكسائي لـسيبويه : تسألني أم أسألك، قال: سلني.فذكر الكسائي هذه المسألة وهي ما يقع بعد إذا وأنه يجوز فيها الوجهان: الرفع والنصب، فمنع سيبويه أن تكون العرب تقولها بالنصب، وأنه ليس لها إلا وجهاً واحداً هو الرفع، والقرآن يؤيده، لكن الكسائي أصر على رأيه، فقال يحيى بن خالد : اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ فقال له الكسائي : هذه وجوه الأعراب في الباب اسألهم، فقيل: إن المسألة أصلاً كانت سياسية قبل أن تكون علمية للتنازع ما بين الكوفة والبصرة، والتنازع ما بين الكسائي كشخص مقرب من الوالي وبين سيبويه الذي لم يظهر له بعد قربة عند السلطان.
فوجوه الأعراب مالت إلى قول الكسائي عمداً تريد أن تنصره على خصمه سيبويه ، فأشاروا إلى أن الصواب مع الكسائي ، فبهت سيبويه ، وزاده حنقاً أن الكسائي أخذ يظهر عطفه عليه ويقول لـيحيى : إنه جاء يأمل منك عطايا فاجبر كسره وارحمه، فجعله ضعيفاً بعد أن كان يعلم أن سيبويه أعظم منه في النحو، فلما قال له ذلك خرج سيبويه من عنده كسيراً من سوء ما لحق به، واستحيا أن يعود إلى البصرة وقد خرج منها إماماً ولحق بفارس ثم مات مغتماً في ريعان شبابه ولم يكن قد جاوز الرابعة والثلاثين من عمره.
ومعلوم أن الحق كان مع سيبويه ، لكن السياسة لعبت دورها، والقرآن كله يشهد أن الحق مع سيبويه ، وللعلماء في تخريج قول الكسائي خمسة أوجه، وكلها باطلة، وقد بينها أهل النحو، ولا حاجة للتفصيل فيها.
ثم قيض الله للكسائي تلميذاً من تلاميذ سيبويه يقال له: أبو محمد اليزيدي ، هذا اليزيدي دخل على الكسائي في مناظرة في مسألة أخرى، وذلك أنه جاء ببيتين من الشعر قالهما في نفس المجلس أمام الكسائي ، وقال له: هل تجيز هذا فسأتلو عليك البيتين؟
ومعلوم أن العرب ترفع اسم وتنصب خبرها، وهذا شيء متفق عليه، فليست هذه من مسائل العلم الكبار، بل يعرفها كل واحد، فقال اليزيدي للكسائي : ماذا تقول في قول العرب:
ما رأينا خرباً ينقر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهر
ومن المعلوم أن ( لا يكون) تكررت مرتين، وهي التي أرادها مزلقاً يقع فيه الكسائي فوقع فيه، فـالكسائي فهمها بأن اليزيدي يقول: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، وهذا هو أصلها النصب، واليزيدي نطقها: لا يكون المهر مهر، اليزيدي : قصد لا يكون العير -أي: الحمار- لا يكون العير مهراً لا يكون. وهنا انتهى الكلام، ثم قال: المهر مهر، وهما مبتدأ وخبر وكلاهما مرفوع، لكن الكسائي قرأها: لا يكون العير مهراً لا يكون المهر مهراً، فوجدها منصوبة، فرد البيتين وقال: لا يكون المهر مهر، هذا خطأ؛ بل أحقها أن تنصب ولا تجوز إلا لضرورة الشعر، وعبر عنها باصطلاح يسمى: الإسراف عند البعض والإقواء عند البعض، عند العروضيين، ففرح اليزيدي فرحاً أن المزلق وقع فيه الكسائي ، فصار يعيد عليه ويقول له: انظر، والكسائي مصر، مع أن البيت واضح لا يغيب عن رجل مثل الكسائي ، لكن إذا أراد الله شيئاً وقع، فكررها مرتين وثلاثاً وهنا وقع الكسائي في الخطأ، فلما أصر الكسائي على رأيه، وعلم اليزيدي أنه أوقع الكسائي فيما يريد؛ خلع عمامته وقلنسوته وضرب بها الأرض فرحاً، وضرب بيده على صدره وقال: أنا أبو محمد !! يعني: انتصرت، فقال له يحيى بن خالد : والله لخطأ الكسائي مع حسن أدبه أحب إلينا من صوابك مع سوء أدبك، أتتكنى بحضرة أمير المؤمنين وتنزع قلنسوتك من رأسك؟! يعني: أن هذا سوء أدب، لا يفعل أمام أمير المؤمنين، فانقلب الأمر عليه وإن كان منتصراً في الأصل، هذا ما دونه المؤرخون.
وأقول -عفا الله عني-: نصر الله الكسائي بالقرآن، فالذي يظهر لي أن الدور العظيم الذي لعبه الكسائي في حفظ القرآن هو الذي نصره في هذين الموضعين، فنصره الله في المرة الأولى على سيبويه مع أن الحق مع سيبويه من جميع أوجهه، وهذه المرة عندما وقع اليزيدي في سوء الأدب فبقي هو على حشمته ووقاره فكان سبباً في نصرته.
الذي أريد أن يفهم من هذا الاستطراد أمور من أهمها: لا تبدأ أحداً بالأسئلة، دع خصمك هو الذي يبدأ، فإذا غلبت في الرد على خصمك فوق يقولون: حول الجواب إلى سؤال، فينشغل خصمك بالإجابة وتسلم أنت، هذا إذا كنت تريد موارد أهل الدنيا، أما إذا كنت تريد موارد الآخرة فلا تدخلن مجلساً إلا وأنت تريد أن تصل فيه إلى الحق، وقد كان الشافعي رحمة الله تعالى عليه -لكن أين مثل الشافعي ؟!- كان يقول: ما جادلت أحداً إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على لسانه، وحب الشافعي للحق هو الذي أوصله إلى هذه المنزلة العالية من حب المسلمين أو يكاد إجماع المسلمين على حبه.
هذا في الأخذ والعطاء، لكن قد يحصل بين الأنداد عموماً التنازع، ولذلك لا يحبذ أن يجتمع أكثر من طالب علم في مجلس صدارة في مكان واحد حتى لا يقع بينهما تنازع.
فـمالك رحمه الله على جلالة قدره كان في المدينة مجاوراً لـمحمد بن إسحاق صاحب السيرة، وكل منهما جليل القدر في فنه، عظيم الأثر في علم الأمة، وإن كان مالك نحا إلى علم الحديث وهو أشرف من هذا الوجه.
فيقولون: إن مالكاً كان يقول عن محمد بن إسحاق : إنه دجال من الدجاجلة، وذلك لأجل الروايات التي يقولها في التاريخ، ومحمد بن إسحاق كان يقول: ائتون بالموطأ فأنا بيطاره -يعني: طبيبه- أبين لكم أخطاء مالك في الموطأ، ومعلوم أنه لا يقبل قول مالك في محمد بن إسحاق ، ولا يقبل قول محمد بن إسحاق في مالك ، لكن يوجد من أهل العلم من من الله عليه ببغية الحق أينما كان، حتى في تعامله مع أنداده وقرنائه يتقي الله جل وعلا فيهم، ولا يمنعنه كونهم أنداداً له ومعاصرين له أن يترفع عليهم، أو أن يقول فيهم بغير وجه حق، لكن هذه منزلة العالية ليس الكل يؤتاها.
من فوائد هذه القصة أن الله جل وعلا قال لنبيه: خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:21]، فقول الله جل وعلا: وَلا تَخَفْ ، هذا نوع من الاطمئنان أعطاه الله جل وعلا لموسى قبل أن يأخذ العصا، وهذا يعلمك درساً أن الذين تريد أن تربيهم على الحق لا تقطع أملهم في المكافآت، أو لا تظهر تخليك عنهم تماماً وتقول: أنا أريد أن أربيهم، أنا أريد أن يصل إلى الحق بنفسه، بل يحسن أن يكون هناك شيء يسير من الإعانة، كما أعان الله كليمه موسى بقوله: خُذْهَا وَلا تَخَفْ ، ولو قال له: خذها من غير أن يقول له: ولا تخف، لأخذها موسى؛ لأن موسى أتقى لله من أن يرد قوله، لكن الله قال له: وَلا تَخَفْ ففيه نوع من الاطمئنان، ونوع من الإعانة، ومن التيسير في التكليف، ولهذا جاء في دعاء الصالحين: رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ [البقرة:286].
ثم إن موسى عليه الصلاة والسلام -كما سيأتي- طلب أن تكون الوزارة لأخيه هارون؛ لأنه -كما ذكرنا-كانت في موسى حبسة، وهارون كان فصيحاً، فكان الناس في حاجة إلى صرامة موسى وحسن سياسته مع قدرة هارون على التعبير وإيضاح الرأي.
وقد ختم الله جل وعلا هذا المقطع بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، وهذه الكلمة الإلهية لهذا العبد الصالح من أعظم ما يفرح به، أن يجيب الله جل وعلا دعاءك وإجابة الدعاء من أعظم العطايا؟
ولهذا قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم مقروناً بحرف التحقيق: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، ثم أخبره أن هذه ليست أول منة عليه.
والمراد من هذا أن نقول: إن الدعاء من أعظم ما ينتصر به الإنسان، لكن من المهم أن يكون هذا الدعاء مقروناً بحسن نية، ووالله لن يوجد أحد لديه حسن نية في بغية شيء إلا وأعطاه الله جل وعلا إياه إذا كان يريد بذلك الشيء الذي يبتغيه النصح لله ورسوله، وليس له فيه أو لغيره حظ ولا نصيب.
قبل أيام كان عندي أخ فرنسي الأصل والمولد والمنشأ، له سبع سنوات عندنا في المدينة وهو دائماً يحضر الدروس، هذا الأخ الكريم يقول: نشأ في بيت أبواه ملحدان، حتى النصرانية التي هي ذائعة في فرنسا لا يؤمنان بها، ويبغضان الله، ولا يؤمنان أصلاً بوجوده.
يقول: لما وصلت إلى الثانية عشرة من العمر كنت أسألهما عن الدين فينهراني، فلما أكثر عليهما طلبا منه أن يبحث بنفسه، يقول: فدخلت كنيسة فأعجبني ما فيها، فتنصرت فأصبحت نصرانياً، وكنت أجيد الرياضة، فاشتركت في ناد رياضي اقترنت مشاركتي بهذا النادي مع مسلمين من أصول عربية، قال: كانوا يلعبون الحركات الرياضية على الموسيقى، فإذا انتهوا صلوا.
يقول: فكنت أتعجب من صنيعهم وأنا أبحث عن الحق، ثم تعلمت عنهم الدين فكان ذلك سبباً في إسلامي.
هذا كله ليس بعجيب، فهو يتكرر عليكم مئات المرات، لكن الغرابة أن له جدة تعمل في التنجم، فأتاها وهو صبي قبل أن يسلم في أيام المراهقة فقالت له من خلال تنجيمها: أنت ستجد الحق الذي تبحث عنه.
يقول: فلما هداني الله إلى الإسلام أتيتها وقلت: ألا تذكرين يوم كذا وكذا؟ قالت: نعم، قال: أبشرك لقد عرفت الحق وأن هناك رباً وديناً اسمه: الإسلام، وأخبرها الخبر، فزاد بغضها له، وأخذت تسبه وتلعنه، وتسب الدين الذي انتسب إليه، ثم تركها وجاء يسألني في قضية كيف يبرها باعتبارها جدة له إذا وصل إلى بلاده؟
موضع الشاهد من هذا كله أن الله يقول: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، ومن جملة مشيئة الله في الهداية إلى النور سواء النور العام الذي هو نور الإسلام، أو نور الوصول إلى بعض المعارف والحقائق والغايات أن يكون مرتبطاً بحسن المقصد، ويكون الإنسان همه وبغيته أن يصل بهذا الأمر الذي يبتغيه إلى رضوان الله.
وقد يمكن أن من يبتغي بالأمر الذي ينشده غير الله أن يصل إلى الذي يريده، لكن مثل هذا لا يعد إماماً في الدين؛ لأن الله جل وعلا منع الإمامة في الدين للظالمين، ولا ريب أنه ظالم لنفسه، من أراد بالدنيا غير وجه الله، ومن أراد بالعمل الصالح وبعمل غير وجه الله، والله قد قال لعبده وخليله إبراهيم: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، فقال متلهفاً من أجل ذريته: قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [البقرة:124]، فحكم الحكم العدل فقال لإبراهيم: لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [البقرة:124]، أي: هذه العطية والعهد والميثاق التي أعطيتك إياها لا ينالها ولا يصيبها ولا يفرح بها ظالم، فلا يسمى إماماً في الدين من ابتغى بعلمه أو بأي أمر آخر أحداً غير الله تعالى.
لكن الإمام في الدين الحق هو من ابتغى بعلمه الله جل وعلا وحده، ولم يستشرف ولم يشرئب عنقه لغير عطايا الرب تبارك وتعالى، فما أتاه من الدنيا يتحرز منه، وقد تنقل له رؤى ومنامات تحكى عنه، ويمدح، ويقول الناس فيه ما يقولون، وأن الله كتب له القبول وأمثال ذلك، فليأخذها على حذر خوفاً من أن تكون استدراجاً؛ فإن العبد لا يدري بماذا يختم له.
هذا التكليم الذي حدث في سورة طه لموسى جعل بعض العلماء كتسمية اجتهادية لسورة طه يسمونها: سورة الكليم، لكن هذا وقع عند بعض المفسرين، أما الاسم التوقيفي لها فهو: سورة طه.
موسى عليه الصلاة والسلام أكثر الله من ذكر قصته في عدة مواطن، والسبب في ذلك: أنه عالج بني إسرائيل أعظم المعالجة، وهذه المعالجة انقلبت نصحاً في حديث الإسراء والمعراج؛ فإنه قال لنبينا صلى الله عليه وسلم: إنني قد بلوت الناس قبلك، وإن أمتك لن يطيقوا ذلك، وهذا النبي صلى الله عليه وسلم الكريم واجه أمرين: أمراً في عتو من أرسل إليه وهو فرعون، وأمراً في أن من حوله من بني إسرائيل لم يكونوا يعينونه على دعوته إلى ربه، فما أن نجاه الله من فرعون حتى وجد العناء والعنت من قومه، قالوا: إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24].
ومع ذلك صبر على طغيان فرعون، وصبر على عنت قومه وشقائهم وعتوهم معه، حتى ختم الله له جل وعلا ومات في أرض التيه، وبقي عبداً صالحاً حتى وهو في قبره، يقول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أعرج بي وإذا بموسى قائم يصلي في قبره)، وهذه حياة برزخية الله أعلم بها، لكنها تبين لنا أي مقام كريم لهذا النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعلى نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر