أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا مع نداءات الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، هذه النداءات الرحمانية والتي بلغت تسعين نداءً، وقد ذكرنا أمس أنها حوت كل متطلبات الحياة، حياة الفرد والجماعة، بل حياة الآدميين والجنيين، وعجبنا من أنفسنا أن ينادينا ربنا ونحن عبيده، وأن ينادينا سيدنا ونحن مملوكون له، وأن ينادينا حبيبنا ونحن أحباؤه، ولا نصغي ولا نسمع، ولا نعي ولا نفهم ماذا أراد منا، فهذا أمر يثير في النفس العجب، وسل المؤمنين والمؤمنات هل عرفوا نداءات الرحمن لهم؟ واذكروا لنا نداءً واحداً قلنا فيه: سمعاً وطاعة ربنا، فمرنا نطيع، وعلة هذا هي تلك العلة العامة، ألا وهي الجهل، فضعف إيماننا وعملنا، فنحتاج إلى طاقة دافعة وإلى نور هادئ، والطريق إلى تحصيل ذلك هو أن نجتمع مثل اجتماعنا هذا في بيوت ربنا من المغرب إلى العشاء كل ليلة في كل قرية ومدينة في ديارنا الإسلامية وطول الحياة، نتعلم الكتاب والسنة، والنساء وراء الستار، ومكبر الصوت بينهن، والأطفال بين الرجال وأمهاتهم، فهذا هو سبيل النجاة، وهو طريق العلم، وهو الذي يبعد عنا ظلمة الجهل التي أسرتنا وكبلتنا وقيدتنا، وتركتنا ضائعين كالمجانين، وليس من حق أحد أن يقول: كيف نعطل حياتنا ونقبل على طلب العلم طول أعمارنا؟ لأننا رأينا اليهود والنصارى والمشركين والبلاشفة والكافرين يشتغلون إلى غروب الشمس، فإذا غربت الشمس غسلوا أيديهم ولبسوا أحسن ثيابهم وذهبوا إلى الملاهي والمقاهي والمقاصف والمراقص؛ حتى يقضوا ساعاتهم فيها، وهم كالبهائم، ولم يقولوا: لن نترك الدنيا، ونحن الربانيون الذين نريد أن ننزل الملكوت الأعلى يصعب علينا أن نغلق هذه الدكاكين الخربة، وهذه الأعمال الباطلة ما بين المغرب والعشاء؛ لنتعلم ونذهب الجهل عن قلوبنا وأنفسنا؛ حتى نعرف حقيقة المعرفة ديننا، فنكمل ونسعد ونتهيأ للملكوت الأعلى.
وها نحن الآن مع النداءات الرحمانية، وأول نداء من نداءات الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه كان أمس، وهو قوله تعالى: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ [البقرة:104]. هذا الحديث الإلهي والنداء الرباني علمنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نتأدب مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد قال له المؤمنون: راعنا عن حسن قصد وعدم علم، ولما كانت الكلمة تحمل معنى السخرية والهزء والاستهزاء في لغة اليهود العبرية حرم الله تعالى على المؤمنين قولها، فقال: لا تَقُولُوا [البقرة:104]. وبعد هذا النهي من قالها خرج من ملة الإسلام، ونحن - والحمد لله- لسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نتعلم الكتاب والحكمة بين يديه؛ إذ حرمنا هذا، وما كنا أهلاً له، وقد فاز به أولئك الصالحون، ولكن معنا خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يبلغون رسالته، ويعلمون الكتاب والحكمة، فلنتأدب معهم، فلا يجوز أبداً لي أن أقول لمرب: راعني؛ لأن الله قال: لا تَقُولُوا رَاعِنَا [البقرة:104]. بل قل: انظرني من فضلك حتى أفهم، وأمهلني حتى أعي ما قلت، وأما راعنا أو راعني فلا.
ومضى رسول الله ومواكب الكمال معه، ونحن نتأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذ ذكرناه فلنذكره بإجلال وإكبار واحترام، وإياك أن تذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يحدثك أحد برسول الله وترفع صوتك وتضحك، أو تلتفت يميناً وشمالاً، بل تأدب كأنك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولنتأدب مع مربينا .. مع معلمينا .. مع موجهينا .. مع مرشدينا .. مع آمرينا وناهينا، هذه آدابنا السامية الرفيعة التي أكسبناها الله بمثل هذا التوجيه الإلهي.
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا [البقرة:104]، أي: أطيعوا واسمعوا ما يقال لكم .. ما يوجه إليكم .. ما تدعون إليه .. ما تؤمرون به، فلا تغفل .. لا تعرض .. لا تدبر، بل إذا نوديت بنداء الحق فأقبل واسمع وأصغ وافهم واعمل؛ لأنك تتهيأ لأن تصبح مع مواكب النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
وذكرت لكم أننا لو نصلي بهذا النداء الذي تعلمناه النوافل طوال اليوم، فإن هذا النداء يرسخ في نفوسنا، ويصبح من الضرورات عندنا ومن المحفوظات، وهذا النداء يكفي أن تصلي به الظهر، بل الصبح، ومن باب أولى النوافل، والذي أشير إليه أننا ما زلنا غافلين، لم نعط هذا النداء ولا الذي بعده قيمتهما، وسواء نحفظهما أو لا نحفظهما غير مهم، وهذا والله ما يليق بنا، ونحن أولياء الله.
وإن شاء الله قد أصبح وأمسى محفوظاً لدى المؤمنين، ومن كان كليل الذهن حسيراً فشأنه وأمره إلى الله، فتراه يسمع حكاية ويعيدها بالحرف الواحد، أو يسمع أغنية فيحفظها ويتغنى بها، وإذا سمع نداء ربه إليه لم يحفظه ولم يبال به، وهذا لا يسوغ.
أما الصبر فهو: أن تحبس نفسك وهي كارهة، ولا تتململ أو تتضجر أو تصرخ، واضغط عليها وواصل عملك حتى تنتهي منه وتفوز به، فالصبر حبس النفس وهي كارهة على فعل ما أمر الله به، وعلى ما يجب أن تقوم به من الأعمال الصالحة، وحبسها عما يشينها، وعما يخبثها، وإبعادها كل البعد عما حرم الله عليها ونهاها عنه من قول أو اعتقاد أو عمل أو سماع أو نطق، ويدخل في هذا كل عمل، فاحبسها وواصل مسيرتك فإنك ناجح بإذن الله، فمثلاً وأنت تخيط ثوبك إذا لم تصبر على خياطته وتحبس نفسك عليه فسوف تمل وتتركه ولا تكمله، وإذا كنت تبني جداراً فإذا لم تصبر وتوالي البناء فسوف تتركه ولن تكمله ولن تنتفع به، وإذا كنت ماشياً في طريقك فقد تضجر وتمل نفسك، فتعود وترجع إلى الوراء، ولن تكمل عملك، وإذا كانت مسحاتك في يدك تفلح الأرض بها فإذا لم تصبر وتثبت فلن تستطيع أن تتم عمليتك في بستانك.
وأما الصلاة: اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153]. فالمراد من الصلاة معاشر المؤمنين والمؤمنات! هذه العبادة التي شرفنا الله بها، وهي خمس صلوات في اليوم والليلة، وهي: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فهذه الصلاة أكبر عون على تزكية النفس وتطهيرها، وأكبر عون على النهوض بالتكاليف والواجبات، وأكبر عون على التخلي عن المنهيات والمحرمات، وحسبنا أن يجعلها الله تعالى بين أيدينا معينة على أن نواصل مسيرتنا إلى باب رضاه، وإن كان تعالى قال: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. فإقامة الصلاة كبيرة إلا على الخاشعين، ومعنى هذا: إذا لم تخشع في صلاتك وصبرت على أدائها بدون خشوع أيضاً فإنها لا تنتج الطاقة المطلوبة من النور الذي به تهتدي إلى فلاحك ونجاحك؛ إذ قال تعالى: وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]. فلنخشع في صلاتنا.
ومن مقتضيات الخشوع بل من موجباته ومسهلاته: أن تذكر أنك واقف أو جالس بين يدي الله تعالى، وهو والله لكذلك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( المصلي يناجي ربه ). فالمصلي يتكلم بالسر مع سيده ومولاه، فإذا ذكرت هذا فيمكنك أن تخشع.
ثانياً: اذكر لقاءك لربك غداً أو بعده وأنت راحل لا محالة لتقف بين يدي الله، واذكر أن من الأدب أن من جلس مع أحد يتكلم معه ويساره الكلام ويناجيه لا يذهب بعقله ويشرد بقلبه، ولا يلتفت برأسه أو بعينيه، فإقامة الصلاة أكبر عامل من عوامل تزكية النفس وتطهيرها.
وقد بكينا وقلنا: لو أقام المؤمنون الصلاة في بيوتهم .. في مساجدهم .. في مدنهم وقراهم لم يبق من نسبة الظلم والشر والخبث والفساد أكثر من خمسة في المائة، وكل ذلك ينتهي، وقلنا وما زلنا نقول: على الحكومات الإسلامية أن تفرض الصلاة على مواطنيها فرضاً إلزامياً على المدنيين والعسكريين، وهذا يخفف عنها عبء السرقات والجرائم والتلصص والعهر والفجور والباطل، وهذه عقدة أرهقت الحكومات الإسلامية.
وأنا أسألكم ولو كنتم عواماً مثلي: لو يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيتك ويجد عاهرة تغني بصوتها الفاتن وتلوح بيديها وترقص، أو يدخل ويجد كافراً ملحداً شيوعياً كافراً صليبياً في بيتك يتكلم ويتبجح بصوته وصورته وامرأتك تنظر إليه، وبناتك العوانس ينظرن إلى ذلك الفحل، فماذا يقول رسول الله؟ فهل هذا بيت مسلم مؤمن؟ والله ما قال ذلك ذو علم ولا عقل ولا بصيرة.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( من نابه شيء في صلاته ) كأن يقرع أحد الباب عليه ( فإذا كان رجلاً فليقل: سبحان الله)، حتى يفهم من على الباب أنه مشغول بالله، (وإذا كانت امرأة تصفح)، أي: تصفق، ولا تسبح الله لأن صوتها عورة، ولأن ذلك حرام عليها، حرمه مولاها وسيدها، وحرمه عليها لأنه لا يقبلها وهي خبيثة منتنة عفنة إلا إذا طابت وطهرت، وصوتها يغرقها في الشهوات والمعاصي ورب الكعبة، وما كان زنا إلا بعد الصوت والكلام، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ [الأحزاب:59]. وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]. فافهم هذا، ولا تسمح لبناتك أو لأولادك الشبان أن يشاهدوا عاهرة تغني وترقص بين أيديهم؛ فإنهم تذوب قلوبهم، وتتمزق غرائزهم، ويقعون صرعى في محنة الشهوات التي لن يفلح صاحبها إلا إذا طاب وطهر. وكوننا ما بلغنا هذا ولا سمعنا به مع أن القرآن لم يرفع وهو محفوظ في الصدور ومكتوب في السطور لأننا هجرنا بيوت الله، ولم نستطع أو نقدر أن نجلس أبداً بين المغرب والعشاء، والذين يجلسون لنا أيضاً نأكل لحومهم ونكسر عظامهم ونصرف الناس عنهم، ونتهمهم بأن هذا وهابي، وهذا مريض، وهذا كذا، فشتتنا جماعتنا، هذه عللنا وأسقامنا وأوجاعنا في الشرق والغرب يا أبناء الإسلام! واعلموا أن كل ما يصيبنا في أي بلد، فهو والله بذنوبنا، ولن ينجو أي مكان من مصائب وويلات تنزل سواء طال الزمان أو قصر؛ لأن الله عليم حكيم، وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].
ونحن نعرض عن الله وذكره وطاعته، ونريد أن نسلم من العاهات والأسقام والأوجاع والفتن والتكالب على الدنيا وفقد الحياء والأدب وفقد الكمال الروحي، حتى أصبحنا كالبهائم إلا من رحم الله.
الآية (153) من سورة البقرة:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153] ] آية سهلة، أحلى من الحلوى وألذ من العسل في القلوب المؤمنة وعلى الألسنة الطاهرة التي لم تلغ في أوساخ الغيبة والنميمة والكبر والباطل، فليبشر الصابرون بأن الله أخبر أنه معهم، والحمد لله، وإذا كان الله معنا فلن يخذلنا، ولن يقدر أحد أن يهزمنا أو يعلونا أو يتسلط علينا، لا إنسي ولا جني؛ لأن الله معنا، ولكننا لم نحقق الصبر، مع أن الله يقول لنا: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. لا مع الجزعين الفاشلين المنهزمين الهاربين في ميادين الحياة.
ونحن الآن هيجنا شبيبتنا وفتياننا وفتياتنا بما نعرض عليهم ونسمعهم، حتى أصبح ينزو بعضهم على بعض، لا إله إلا الله، فقد انتحرنا بأيدينا، ومزقنا مجدنا وكمالنا، ورضينا بالهبوط فهبطنا، وإلى الآن لا نشعر بذلك، وكلامي هذا لو يسمعه يهودي عاقل أو فرنسي يفكر، ولكن الكثيرين من المسلمين لما يسمعون الكلام هذا يضحكون ويسخرون منه، ويقولون: هذا عميل .. هذا ذنب .. هذا كذا، هذا حال الأمة، فكيف نرقى وقد حطمنا كل سلم لنا، ورضينا باللصوق بالأرض؟ فلنصبر على شهواتنا، ونبعد أنفسنا عن التهالك، والزنا بنساء الآخرين، وإفساد الآخرين، وكل هذا واقع، وقد امتلأت الدنيا بهذا الخبث.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. فنستعين بهما على أي شيء، فنستعين بهما على ما ننهض به من التكاليف، وعلى ما نقوم به من الواجبات، وهي هامة وعظيمة، فإذا لم يعنا الله عليها لما أقمناها ولا قمنا بها، فوضع الجبار لنا هاتين القاعدتين، وبهما نرتفع، فاصبر على الجوع ولا تمد يدك، واصبر على الغريزة ولا تفتح عينيك، واصبر على البرد ولا تسرق ثوب أخيك، واصبر في جميع أمورك، والله معك وسوف تنجح، واصبر على صيامك وعلى قيامك وعلى ذكرك لربك وعلى مناجاتك لمولاك، وعلى التكاليف، وعلى المشاق، وعلى الأحمال، وعلى السفر، وعلى المرض، وعلى كل ما تحتاج فيه إلى عون من الله عز وجل، والله معك، ولن تخيب أبداً، ولهذا حذف هذا الذي نستعين عليه، ولم يحدد ما هو؛ لأنه ليس شيئاً واحداً، فـ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:153] على كل المشاق والأتعاب والتحملات والحياة بكاملها، حتى على صلاتك من افتتاحها حتى السلام منها وأنت مع الله، وإلا فإنك تلعب وتقضي حاجاتك وأنت بين يدي الله، فتخرج من صلاتك وليس لك منها جراماً واحداً، أي: ليس فيها ولا أقل ما يقال من النور، وإنما دخلت في ظلمة وخرجت في أخرى، والدليل أنك تخرج من الباب وأنت تشتم الناس وتسب أو تسرق وتنهب.
فاحفظوا هذا النداء الكريم، فمن حفظه فهو خير له من أن يضع في جيبه خمسين ألف ريال، فالخمسين ألف ريال قد تضيع، بل قد تقودك إلى المعاصي والجرائم، وهذا النور يبقى معك إلى يوم القيامة.
[ واذكر أيها القارئ والمستمع! أن نداء الله تعالى لك بإيمانك شرف لك وأي شرف؟ ] ولو ينادي أحدنا رئيس الجمهورية أو صاحب الجلالة الملك أو السلطان فإنه يطير من الفرح، ولست واهماً، فلو قال لك: تعال عندنا للضيافة فإن المدينة لا تتسع لك من شدة الفرح، ونحن ينادينا ربنا ولا نلقي لندائه بالاً، ولا نشعر أننا أشراف ولا كرام، وأنه لا يوجد على الأرض من هو خير منا.
فيا أيها المؤمنون! ويا أيتها المؤمنات! إن الواحد من أهل الأرض من المؤمنين يزن ما على الأرض كلها من الكافرين، فمن أجل مؤمن واحد يقضي الله بأن يقتل إقليم كامل من الكافرين من أجل هذا المؤمن، ولكننا ما عرفنا قيمتنا [ وإلا فمن أنت حتى يناديك رب العالمين! ] فنحن لم نعرف قيمتنا، وسأبين لكم ذلك، أقوى رجل فيكم لا يساوي بعوضة، و( إن لله ملكاً عنقه ملوي تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ). وجبريل رسول رب العالمين لرسله وأنبيائه لما تجلى في صورته الحقيقية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جياد بعدما نزل من غار حراء سد الأفق بكامله؛ إذ له ستمائة جناح، وهؤلاء الملائكة إذا تكلم الجبار يغمى عليهم، واقرءوا ذلك من سورة سبأ: حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [سبأ:23]. بعدما يفيقوا، وأنت يا بعوضة! من نحن حتى ينادينا رب الأرض والسماء [ واذكر أن شرفك كان بالإيمان به تعالى وبلقائه وملائكته وكتبه ورسله، وقضائه وقدره ] فهذا سبب الرفعة.
من هذا نعلم أن النواهي أو المنهيات تروك ليس فيها مشقة، ولا عذر لك يوم القيامة أنت تقول: أنا ما استطعت، فأنت تستطيع أن تترك الكذب [ إلا أن النفس الأمارة بالسوء واللوامة معاً تضغطان على العبد حتى ترغماه على فعل المنهي إلا أن يجد العبد من الله عوناً ] وقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. وهذا عون [ فإنه يسلم من التلوث بأوضار فعل المنهي عنه، ويحتفظ بطهارة روحه التي هي مفتاح دار سعادته.
وهاهو ذا الرب تعالى يرشدنا إلى طريق الحصول على عونه لعباده المؤمنين، فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]. فعلى كل مؤمن ومؤمنة أن يستعين بالصبر، وهو حبس النفس على طلب العلم؛ حتى يعلم ما يحب ربه وما يكره، وكيف يؤدي المحبوب على الوجه الذي يرضي الله تعالى، وحبسها ] أي: النفس [ على فعل الطاعات حتى تؤديها على الوجه الذي يثمر زكاة النفس وطهارتها، وحبسها بعيدة عن المحرمات والمنهيات، وحبسها ] أيضاً [ على مجاري الأقدار فلا تسخط ولا تجزع، ولكن ترضى وتصبر، بهذا الصبر يستعين المؤمن، والله معه ناصره ومؤيده، وكما يستعين المؤمن بالصبر يستعين بالصلاة، كما أمره الله تعالى، والاستعانة بالصلاة تكون بأدائها في أوقاتها، مستوفاة الأركان والشروط، وبأهم أركانها وهو الخشوع فيها، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ) ] وقد ذكرت لكم حديث ابن عمر على دابته أو راحلته ما بين مكة والمدينة، والطريق والمسافة بينهما عشرة أيام، فقد جاءه ركب وقال: يا عبد الله ! أعظم الله أجرك! توفيت امرأتك، فنزل من على دابته وكبر الله أكبر وصلى وهو يبكي، فقيل له: ماذا يا عبد الله ؟! قال: سمعت رسول الله أو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ).
فيا أيها الذين يغضبون فيطلقون نساءهم سبعين مرة في العام - ولعلهم غير موجودين- أقول لهم: عندما تؤذيك امرأتك وتشتعل نار الغضب فيك ادخل في الصلاة، ولا تسب ولا تشتم ولا تغضب، حتى تفرغ من الصلاة ولا تتكلم كلمة، حتى ولو كانت المرأة شريرة، فإذا أغضبتك فادخل في الصلاة، فلا تخرج من الصلاة إلا وأنت هادئ، وأما أن تسبها ثم تقول: أنت طالق بالثلاث، فهذا لا ينبغي، ونحن نفعل هذا لأننا ما ربينا في حجور الصالحين، ولا يمكن أبداً لشخص يعيش في بيت يسمع الأغاني والأباطيل أن يرشد ويكمل، فهذا لا يمكن، ومعنى هذا: هيا بنا نحول بيوتنا إلى بيوت النبوة، لا تسمع فيها إلا كلمة الله [ إذ الصلاة تولد نوراً للقلب ولا تولده عبادة غيرها، وصاحب نور القلب لا يقع في غضب الله تعالى بترك واجب ولا بفعل مكروه، وهذا هو العون المطلوب بالصبر والصلاة، والله مع الصابرين بتأييدهم ونصرتهم بعد وقايتهم، وحمايتهم من كل مكروه. فاللهم اجعلنا منهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.
وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ].
وصلّ اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر