الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين.
قال الله عز وجل في سورة الزخرف: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ * إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ * وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:72-77].
يخبر الله عز وجل في هذه الآيات وما قبلها عن مصير المؤمنين يوم القيامة، ومصير الكافرين الجاحدين.
أما المؤمنون فيقول الله سبحانه: يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف:68]، ويوم القيامة يوم الجزاء، ويوم الحكم بالعدل، والحكم: هو الله سبحانه تبارك وتعالى، يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون، فينادي يوم القيامة على المؤمنين: يا عبادي! أي: عباد الله الصالحين، الذين آمنوا بآيات الله عز وجل وكانوا مسلمين، وصدقوا رسل الله عليهم الصلاة والسلام، واتبعوا دين الله، وكانوا مسلمين أنفسهم وموجهين وجوههم وقلوبهم لرب العالمين سبحانه.
فهم جمعوا بين التصديق القلبي، وبين الأفعال الظاهرة بالجوارح، والإيمان: هو تصديق بالقلب، وقول باللسان؛ وعمل بالجوارح والأركان، (آمنوا وكانوا مسلمين) صدقوا بالقلوب، وصدقوا بالألسنة، وصدقوا بالفعال، فجمعوا بين الأمرين، وهنا الإيمان: بمعنى التصديق. والإسلام: هو الاستسلام لله سبحانه، والإذعان والخضوع له، والطاعة والمتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويخلق الله عز وجل أطفالاً لأهل الجنة خدماً يطوفون عليهم، قال: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ [الزخرف:71]، وكذلك الملائكة تأتيهم بأنواع من الأطعمة والأشربة، (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال تعالى: كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:25]، تأتيهم الملائكة بثمار الجنة، فيقول أهل الجنة! هذا الذي أكلناه من قبل، فيقولون: لا، هذا شيء جديد، هذا شيء آخر، فهو مشتبهاً وغير متشابه يشبه بعضه بعضاً في الجمال والكمال والحسن، وقد يشبهه في اللون ولكن الطعوم مختلفة، فأهل الجنة يأتيهم الملك أو الملائكة أو الغلمان بهذا الطعام فيقولون: هذا أكلنا مثله من قبل، فيقولون لهم: الذي أكلتموه من قبل، شيء آخر فيأكلون ويجعل الله عز وجل لهم مقدرة على أن يأكلوا من كل ما يشتهون.
والإنسان في الدنيا إذا وضع له طعام مهما كان الطعام فاخراً فإنه يأكل منه ما يكفيه، وقد يملأ معدته بما يتخمه ولكن لا يقدر على أكثر من ذلك، فإذا أوتي بشيء أفضل منه لا يقدر على أن يأكل منه لأنه امتلأت معدته.
أما أهل الجنة فإن الله عز وجل يجعلهم يأكلون مما يشاءون، ومما تشتهيه أنفسهم ولا يتخمون أبداً، وإنما يخرج منهم هذا الذي دخل فيهم عرقاً على هيئة رائحة طيبة أفضل وأحسن من المسك.
قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71]، وذكرنا أن الصحاف: جمع صحف، والصحفة: الطبق الكبير الواسع الذي يكفي العدد من الناس، وقد يكفي عشرة فما فوقهم وما دونهم أيضاً، قال تعالى: يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ [الزخرف:71] والأكواب: الكيزان التي قدرت تقديراً، وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [الزخرف:71]، أهل الجنة يخلدون في الجنة، والإنسان حين يرى شيئاً جميلاً طيباً يحب أن يطيل المكث فيه خوفاً من أن يضيع منه، ولكن أهل الجنة يقال لهم: هذا الشيء لن يضيع منكم ولن تخرجوا منه، فتنعموا في الجنة بما شئتم من طعام وشراب ولهو وذكر لله سبحانه تبارك وتعالى.
قال تعالى: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعلمون) ورثهم الله عز وجل الجنة، وكانوا في الدنيا يعملون لها، فلما عملوا استحقوا الجزاء، فورثوا هذه الجنة فكأنهم هم الذين يرثون غيرهم ممن ضاعت منهم هذه الجنة بكفرهم وجحودهم لربهم سبحانه تبارك وتعالى.
وكل إنسان كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم له موضعان: موضع في الجنة، وموضع في النار، فإذا أنعم الله عز وجل عليه بالجنة، يقال له: انظر هذا موضعك من النار لو كنت عصيت الله، ادخل موضعك في الجنة، فيدخل الجنة ويفرح أشد الفرح حين يرى مكان العذاب وأنه أفلت منه! وأهل النار يقال لهم: هذا موضعكم في الجنة لو كنتم أطعتم الله سبحانه، ادخلوا النار، فيدخلون النار.
وأماكن أهل الجنة التي كانت في النار يأخذها الكفار الذين دخلوا النار والعياذ بالله، والعكس، أماكن هؤلاء لو كانوا أطاعوا ودخلوا الجنة حرموا منها بكفرهم، فيأخذها ويرثها المؤمنون، فيقال لهم: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، هذه قراءة الجمهور، وقرأها بالإدغام أبو عمرو وابن عامر وخلف وابن ذكوان أورثتّموها وكذلك حمزة والكسائي يقرءونها بإدغام الثاء في التاء أورثتّموها بما كنتم تعملون .
لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ [الزخرف:73] فلا تعد أصناف الفاكهة وأجناسها وأنواعها، وقوله: (منها تأكلون)، فهي لكثرتها لا تستطيعون أن تنفدوها، فهي لا تنتهي، فمن بعضها (تأكلون) تأكل ما تشتهي ولا تنفد هذه الفاكهة التي في الجنة.
فهذا حال أهل الجنة يأكلون وينعمون ويفرحون ويكرمون.
أما المجرمون الذين أجرموا وأساءوا إلى أنفسهم وإلى دينهم وإلى رسل الله عليهم الصلاة والسلام فيقول الله عنهم: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف:74]، وهي نار الآخرة والعياذ بالله، نار مستعرة، أسماؤها في القرآن أسماء شديدة تدل على قبح ما فيها، وعلى شدتها وسعيرها، وجنهم بمعنى: البعيدة الغور، والبعيدة القاع، فيقال: بئر جِهنّام، بمعنى: بئر عظيمة القعر، ونار جهنم التي يلقى فيها صخرة من فوقها فلا تصل إلى قاعها إلا بعد سبعين عاماً، هذه هي النار الفظيعة العظيمة قال تعالى: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف:74]، أي: لا يخرجون منها، فهؤلاء هم الكفار والعياذ بالله الذين أجرموا.
قال تعالى: عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6] ورئيس خزنة جهنم هو مالك، فيجأر أهل النار إلى مالك يقولون: (يا مالك ليقض علينا ربك) طالما أنه لا يوجد خروج من هذه النار فليجعلنا تراباً وليقض علينا ربك، أي: ليمتنا ربك، قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، فهذه آية قصيرة وفيها كلمات يسيرة، ولكن الفرق بين النداء وبين الجواب أعوام كثيرة جداً، ينادون مالكاً، قيل مدة أربعين سنة، ومالك ساكت عنهم، فينادونه وهم يجأرون ويصرخون ويستغيثون: (يا مالك ليقض علينا ربك) ليمتنا ربنا، لما رأوا البهائم صارت تراباً قال: الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40] فنادوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] فسكت عنهم مالك ما شاء الله عز وجل أن يسكت، وفي النهاية جاءهم الجواب: قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [الحج:47] فيسكت عنهم مالك أربعين سنة وهم يصرخون، وحين يلتفت إليهم يظنون أنه أتاهم بشيء فيقول: أنتم ماكثون.
وجاء عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: ذكر لي أن أهل النار استغاثوا بالخزنة، فقال الله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ [غافر:49].
واليوم كثير على أهل النار، فهو بألف سنة مما نعد، فقالوا: (ادعوا ربكم يخفف عنا يوماً من العذاب) سألوا أن يخفف الله عنهم يوماً واحداً، فأجابت الملائكة: أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى [غافر:50] اعترفوا، قَالُوا فَادْعُوا [غافر:50]، أي: قالت لهم الملائكة: ادعوا ما شئتم، فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ [غافر:50]، فدعاؤهم في تيه لا يُسمع ولا يستجاب لهؤلاء، فلما يئسوا من الخزنة نادوا مالكاً وهو رئيس الخزنة، وله مجلس في وسط النار فهو يرى أقصاها كما يرى أدناها، فقالوا: يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] سألوا الموت وطلبوه، قيل: فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة، قال محمد بن كعب : والسنة ستون وثلاثمائة يوم، والشهر ثلاثون يوماً، يعني: يريد أن يقول: واليوم بألف سنة مما تعدون، فإذا مكث هؤلاء ثمانين سنة ستكون كم من سنين هذه الدنيا؟ قال: واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم مالك -خازن النار- بشيء من الضيق مما يفعلونه، ومعنى أن يلحظ الإنسان الآخر: أي: أن يبصره بطرف عينه، فلا ينظر نظرة المقبل عليه المحب له، وهكذا يضع خزنة النار مع أهل النار، والعياذ بالله.
قال: إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، بعدما طال سكوته عنهم، فلم ييئسوا وسألوا الله عز وجل: رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا [المؤمنون:106] أي: نحن نعتذر إنما هو القضاء والقدر رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ [المؤمنون:107]، وسكت عنهم ربهم ثم أجابهم فقال: قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، و(اخسئوا) كلمة تقال للكلب حين يزجر، فقيل لأهل النار ذلك والعياذ بالله قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ [المؤمنون:108-110]، نسيتم في الدنيا عندما كان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، والأولياء والدعاة إلى الله يدعونكم إلى الله فكنتم تسخرون منهم، وتضحكون، وتستهزئون، وهم يدعون: رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:109]، قال الله: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ [المؤمنون:111].
فيقال لأهل النار: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112]، لما رأوا يوم القيامة ومدته وهوله، وأيام النار التي هم فيها اليوم يعد بألف سنة قالوا: قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:113]، أي: اسأل الذين يعدون ويعرفون العدد فنحن عشنا في الدنيا يوماً أو بعض يوم.
فالإنسان المؤمن يتفكر في أن عمره كله إذا قارنه بيوم القيامة، لا يأتي إلا بعض يوم، فلو عشت مائة سنة، وأيام القيامة اليوم بألف سنة، فتكون عشت عُشر يوم من أيام القيامة ألا تصبر في هذه السنين التي أنت فيها في الدنيا حتى تنعم النعيم الأبدي يوم القيامة، أم أنك تشقي نفسك وترديها بعمل المعاصي والكفر بالله حتى تقع في النار أبد الآبدين؟!
نسأل الله العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر