وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102] ، .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن الله جل وعلا يبين أن فلاح المؤمنين بإيمانهم بالغيب، وهذا الذي يدل على صدق الإيمان في القلب، فبدأ المصنف بالغيبيات، وأول ما بدأ به سياق ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحوض.
والحوض لغة: الجمع، ويطلق على المكان الذي يتجمع فيه الماء.
وشرعاً: هو الحوض الذي شرف به الله جل وعلا النبي صلى الله عليه وسلم في عرصات يوم القيامة، ولم يخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحوض كما سنبين، بل يشترك إخوانه من الأنبياء والمرسلين في هذه الفضيلة الكبيرة ألا وهي الحوض.
قلنا: إنه ثابت بالكتاب والسنة، وأيضاً أجمع السلف الصالح على ثبوت الحوض للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه فضيلة تشرف بها النبي صلى الله عليه وسلم، إظهاراً لمكانته ومنزلته عند الله يوم القيامة، وأجمع السلف على ذلك، وهذا الإجماع ما انخرق، لكن خالف أهل السنة والجماعة الخوارج والمعتزلة فأنكروا الحوض، وهؤلاء -جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل- إن شاء الله سيحرمون ويصدون عن هذا الحوض، وهم أشد ما يحتاجون إلى هذا الحوض في عرصات يوم القيامة.
وقد جاءت أحاديث كثيرة متواترة تبين الحوض، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض -أي: أنا الذي أتقدمكم على الحوض- ولأذودن عن حوضي) أي: يزيح الناس من الأمم الأخرى عن الحوض، وهذه مزية لهذه الأمة، والنبي صلى الله عليه وسلم يفرق بين أمته وبين الأمم التي سبقت وآمنت بالرسل غير النبي صلى الله عليه وسلم.
ويستنبط من الرواية الأخرى: (كنجوم السماء): أنها تتلألئ، فيتمتع الشارب متعة معنوية ومتعة حسية، أما المتعة الحسية عندما يشرب من هذا الحوض، شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، فماؤه عذب زلال، أحلى من العسل.
والمتعة المعنوية متعة الروح عند النظر إلى هذه الأواني وهي تتلألئ، كما تتلألئ النجوم في السماء فهي زينة للسماء، وأيضاً هذه الأواني زينة يتمتع الناظر إليها، فيتمتع الشارب حسياً بالشرب شربة هنيئة لا يظمأ بعدها أبداً، ويتمتع معنوياً بالنظر في هذه الأواني اللامعة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف هذا الحوض العظيم: (له ميزابان) يعني: كل ميزاب يصب على الحوض، ميزاب من ذهب وميزاب من ورق، والورق: الفضة، وهذا الحديث يستدل به الفقهاء على أن الذهب والفضة إذا حرم على المؤمن والمسلم استعمال أوانيها في الدنيا، فهي له في الآخرة، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هي لهم في الدنيا) ، يعني للكفار: (ولكم في الآخرة) ، فالميزاب الأول من ذهب والميزاب الثاني من فضة، يصبان في هذا الحوض من نهر الكوثر.
وهذا الماء أبيض من اللبن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ماؤه أبيض من اللبن) ، وفي رواية أخرى قال: (ماؤه أبيض من الورق) يعني: أبيض من الفضة، وهذا فيه زيادة في المعنى، فليس أبيض فقط، بل فيه بريق ولمعان، كأنه يخطف الأبصار، ليس الخطف الذي ورد في الآية، ولكنه يجعل الأبصار تتلألئ إذا نظرت إلى هذا الماء العذب، الذي هو أبيض من الورق، وأبيض من اللبن، أما طعمه فأحلى من العسل، كأنك تشرب العسل، وينزل في صدرك بحلاوته، فهذا الماء أحلى من العسل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ورائحته أطيب من المسك، فلونه أبيض من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، ورائحته أطيب من رائحة المسك، وأفضل ما فيه: أن المرء إذا شرب منه لا يحتاج إلا شربة واحدة بيد النبي صلى الله عليه وسلم الشريفة فلا يظمأ بعد هذه الشربة أبداً، نسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن يشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
فهؤلاء من شدة ما يعانون، ومن قرب الشمس منهم، يحتاجون أشد ما يحتاجون إلى الشرب من هذا الماء، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأمته: هلموا هلموا، حتى يسقيهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الحوض الشريف.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إني لأذود عن حوضي لأمتي، كما يذود أحدكم البعير الغريبة) يعني: كل إبل غريبة ليست من إبله يذودها عن حوضه، حتى تأتي إبله وتشرب من هذا الحوض، (فقالوا: يارسول الله! أوتعرف أمتك) أي: أمتك التي جاءت بعدك أوتعرفها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم، ترد أمتي على الحوض غراً محجلين)، وهذه ميزة خاصة لهذه الأمة الخيرية، ولا أمة تشترك معها في هذه الخاصية، قال: (ترد هذه الأمة على الحوض غراً محجلين من أثر الوضوء)، ولذلك كان أبو هريرة عندما يتوضأ يقول: أيها الناس: أطيلوا غرتكم، والغرة هي: البياض في الوجه، ولا تطال على الراجح، فالصحيح أن التحجيل هو: البياض الذي في الرجل، أرأيت الخيل السود البهم، خيول فيها بياض في الرأس وبياض في الرجل، تعرف من بين الخيول السود البهم، كذلك هذه الأمة يردون على الحوض غراً محجلين.
نقول: نعم والله، فإن الجزاء من جنس العمل، فإن الذين أنكروا هذا الحوض، وأنكروا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنكروا ما هو ثابت بالتواتر، جزاؤهم من جنس عملهم، فإن الله جل وعلا يصدهم عن الحوض ويحرمون منه، فلا يشربون من هذا الحوض، وهم أشد الناس حاجة إلى شربة ماء واحدة، يروون بها هذا الظمأ، كما ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليختلجن رجال من دوني، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: يا محمد، لا تدري ماذا أحدثوا بعدك) .
وفي رواية أخرى: عندما يقال له: (لا تدري ما أحدثوا بعدك، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي).
إذاً: أهل البدع وأهل الأهواء محرومون من الشرب من يد النبي صلى الله عليه وسلم، محرومون من أن يشربوا شربة هنيئة لا يظمئون بعدها أبداً من يد النبي صلى الله عليه وسلم، ومن حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه إشارة من حديث النبي صلى الله عليه وسلم تبين عظم وخطر البدعة وأنها أشد من الكبائر، فأعظم الكبائر هي البدعة؛ لأن البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، أرأيتم! كل الناس سيشربون من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إلا المبتدع، حتى العاصي وفاعل الكبيرة سيشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم إن شاء الله، إلا المبتدع لعظم جرمه؛ لأن البدعة بريد للكفر، والبدعة هي أحب إلى الشيطان من المعصية، فالمعصية وإن كانت كبيرة يتوب منها الإنسان، أما البدعة لا توبة له، لا أقول: لا توبة له شرعاً، أقول: لا توبة له كوناً، فهو أصلاً في الشرع فتح الله له باب التوبة، وأمره بالتوبة، فقد قسم الله الناس إلى ظالم وتائب، فهو مأمور بالتوبة محثوث عليها، فلا بد من أن يتوب إلى الله، لكن كوناً يمنع منها، وقد ورد في ذلك كثير من الآثار أنه لا توبة لصاحب بدعة؛ لأنها تترسخ في قلبه ويدافع عنها وينافح عنها، ويأتي بالأكاذيب والأباطيل والموضوعات حتى ينافح ويدافع عن هذه البدعة، نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ونعوذ بالله من البدعة ومن أهل البدع.
فهي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية وتشاكلها، كصلاة الألفية مثلاً، أو صلاة الرغائب، أو صوم يوم في زمان لم يشرعه الله جل وعلا ولم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يضاهي الشرعية، يعني: يشاكل ويشابه ما أصل شرعاً، وورد به الكتاب ووردت به السنة.
والمقصود بها: أن يتقرب إلى الله جل وعلا، كما قال الله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد:27]، فيقصدون بذلك التقرب إلى الله جل وعلا.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وقد دخل على أناس يسبحون بالحصى يقول الرجل: كبروا مائة.. سبحوا مائة.. هللوا مائة.. فدخل ابن مسعود وهم يذكرون الله جل وعلا على هيئة حلق، ولا يقولون شيئاً فيه تخاريف، ولا فيه شرك، بل أقوال فيها تسبيح وتحميد وتهليل وتكبير، فقال ابن مسعود مندهشاً مما يفعلون: أما أنكم على ملة أهدى من ملة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنكم مفتتحو باب ضلالة. لأنكم أتيتم بعبادة لم يأت بها النبي صلى الله عليه وسلم، وأتيتم بعبادة لم يأت بها الصحابة الكرام، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه فقال: أوصني. قال: أوصيك بتقوى الله، والسمع والطاعة، واتبع ولا تبتدع.
ولذلك قال ابن المسيب : من أحيا بدعة فقد أمات سنة، فالذي يحيي البدع، هو الذي يميت السنن، فالدين كله يهدم بالبدع.
وقال بعضهم: إني أرجو أن أدخل المسجد فأجده يشتعل ناراً خير لي من أن أجد فيه بدعة، فانظروا إلى حرص السلف على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الثوري : البدعة أحب إلى الشيطان من المعصية، فإن المعصية يتوب المرء منها، وإن البدعة لا يتوب المرء منها، والآثار في ذلك كثيرة.
ومن البدع الكفرية بدعة غلاة الرافضة من العلويين والنصيريين الذين يعتقدون في علي أنه إله، أو الذين يعتقدون أن الرسالة كانت ستنزل على علي فأخطأ جبريل، فأنزلها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بدعة الدروز الذين يعتقدون أنهم لا يكلفون إلا بعد الأربعين، وهم يبيحون مع ذلك الزنا واللواط، بل يستبيحون وطء المحارم، فهذه من البدع المكفرة، ومن البدع الكفرية ما ورد عن غلاة الصوفية الذين يعتقدون في النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا، فقائلهم يقول:
فإن من جودك الدنيا وضرتها
ومن علومك علم اللوح والقلم
وعقب ابن رجب في هذا البيت قال: ما ترك هذا الرجل لله شيئاً، كل شيء أصبح للنبي صلى الله عليه وسلم، فقوله: الدنيا وضرتها، أي الدنيا والآخرة.
وقوله: ومن علومك علم اللوح والقلم، اعتقد فيه ما لا يعتقد إلا في الله جل وعلا.
وكذلك اعتقادهم في مسألة الأقطاب والأبدال، هذه أيضاً بدع مكفرة يخرج صاحبها من الملة.
أما القسم الثاني من البدعة: فهي البدع المفسقة، وهذه البدعة تكون في الفروع وليس في الأصول، يعني: تكون في العبادات، وإذا قلت: في العبادات تخرج العادات.
والبدعة في العبادات هي البدعة المفسقة، وقد قسمها العلماء إلى بدعة أصلية، وهي: تأصيل عبادة ليس لها موضوع في الشرع، وبدعة زمانية، وبدعة مكانية، وبدعة في الهيئة وفي الصورة، وليس هذا مجال التفصيل فيها.
أيضاً من البدع التي كان أبو بكر وعمر ينهيان عنها أن عمر كان يسير بالدرة، فإذا وجد أحدهم صائماً في رجب يضربه ويقول: تفعل ما يفعل أهل الجاهلية؟
وقال ابن عمر : هذا شهر عظمه أهل الجاهلية فهو كغيره من الشهور، صم فيه ولا تصم فيه، زد عليه من الخير ولا تزد، يعني: لا تفعل الخير خاصة لهذا الشهر.
أيضاً من البدع في هذا الشهر ما يعرفه كثير من المصريين وهو عمرة رجب، وخميس رجب، ولكن خميس رجب أشهر، وهو أن الإنسان يذهب إلى المقابر في خميس رجب، يجمعون النساء ويأتون بالحلوى وبالطعام ويذهبون إلى المقابر، زيارة في خميس رجب، وهذه من البدع المميتة أيضاً، وكأن المقابر لا تزار إلا في رجب فقط، وكأن الموتى لا يدعى لهم إلا في رجب!
أيضاً من البدعة تخصيص رجب بعمرة؛ لأنهم يعتقدون أن هذه العمرة عمرة ميمونة مباركة في شهر رجب، هذه أيضاً من البدع.
اختلف العلماء لاختلاف الأحاديث، وورد حديث في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العتيرة حق) ، وورد في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة)، والفرع: هو أول مولود للناقة، كان أهل الجاهلية أيضاً يعظمونه، فيذبحون الفرع قربة لآلهتهم الباطلة، ولا يأخذون منه شيئاً، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك وبين أن هذه من أفعال الجاهلية، فلا تشاكلوا ولا تشابهوا أهل الجاهلية.
وأما العتيرة، فقال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق)، فلذلك قال النووي : يستحب للمرء أن يذبح في رجب، أي: يذبح ذبيحة، فيفرق لحم هذه الذبيحة على الفقراء والمساكين، وهذه قربة لله جل وعلا بإراقة الدماء في رجب، والمعتمد في المذهب أنها ليست مستحبة، ولكنها مكروهة جمعاً بين الحديثين، الحديث الأول الذي رواه البخاري : (لا فرع ولا عتيرة)، والحديث الثاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (العتيرة حق). ونقول: الجمع هذا جمع حسن، وجمع النووي أيضاً جمع حسن على أساس أنه قال: (لا فرع ولا عتيرة) أي: في أيام الجاهلية، كما كانوا يتقربون بها إلى الآلهة الباطلة، أما إذا تقربوا بها لله جل وعلا فذبحوا في رجب وأراقوا الدماء ووزعوها من أجل الفقراء والمساكين، فهذا لله جل وعلا، ويستحب ويستحسن له أن يذبح في رجب، فالراجح فيها: أنها لا تنزل عن درجة الإباحة.
قال زياد القاضي عند ابن أبي مليكة : إن أجر ليلة النصف من شعبان -يعني: قيام ليلة النصف من شعبان- كأجر قيام ليلة القدر أنها خير من ألف شهر، فقال ابن أبي مليكة : لو معي عصا أو درة عمر لأوجعته ضرباً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤكد ذلك والصحابة لم يفعلوا ذلك، فهذه بدعة مميتة؛ لأن ليلة النصف من شعبان لا تقام بصلاة ولا بعبادة ولا باستغفار من أول الليل إلى آخر الليل، ولا يصام نهار النصف من شعبان، وهذه البدع كثير من الناس يعملها، وكثير من الناس ممن نعرفهم يصوم يوم النصف من شعبان، ويقيم هذه الليلة، وله بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان، فيغفر لكل أحد إلا المشرك أو المشاحن)، فهذا فيه إشكال أنه قد ورد بالأسانيد وإن كان فيها ضعف، لكن يعضد بعضها بعضاً في فضل هذه الليلة، فلها فضل، فإن كان لها فضل فلا بد علينا أن نجتهد في هذه الليلة التي لها الفضل، وكفى بفضلها أن الله جل وعلا ينزل نزولاً خاصاً، غير نزول كل ليلة في ثلث الليل الآخر، ينزل نزولاً خاصاً فيغفر لكل الناس الذين هم على الإيمان والإسلام، يغفر للمؤمنين والمسلمين، جميعاً إلا الكافر أو المشاحن الذي في صدره شيء من أخيه، أي: الذي هجر أخاه فوق ثلاث، وهذه الفضيلة تستلزم الاجتهاد في العبادة حتى يشملنا الله بعفوه وبمغفرته.
وهذا الإشكال ضعيف، لكن هذا الإشكال لا بد أن نرده بعلم؛ لأنهم أتوا بدليل يدل على فضل هذه الليلة، وهذا اليوم، فكيف نمنعهم من عبادة في يوم فيه فضل وليلة فيها فضل؟
هذا الحديث أسانيده ضعيفة، لكن يعضد بشواهده، وهو حسن لغيره، ويحتج به شيخ الإسلام ابن تيمية ، وفيه: إن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا ليلة النصف من شعبان يغفر لكل واحد، إلا المشاحن والكافر، لكن هذا حديث يشكل علينا نحن؛ لأنه قد ثبت فضل اليوم وثبتت فضل الليلة، فلا بد أن نجتهد حتى يشملنا الله جل وعلا بكرمه وعفوه وعطائه في هذا اليوم الذي فيه الفضل العميم.
أما رأيتم فضل السحر، وأن الله ينزل في السحر، فينبغي لك أن تقوم وتستغفر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قال الله تعالى: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟)، وفي رواية وفي رواية عند الطبراني قال: (هل من مستشف فأشفيه؟) .
والرد على ذلك: أن فضل الليلة أو فضل اليوم لا يستلزم إنشاء عبادة، وهناك نظائر من الشرع في ذلك؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، وقد ثبت فضل ليلة الجمعة، وثبت فضل يوم الجمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير أيامكم يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه مات وفيه تقوم الساعة)، وخير الأيام: هو يوم عيد المسلمين، وخير أيام السنة على مدار الأسبوع كله هو يوم الجمعة، بل ليلة الجمعة هي من أفضل الليالي، ومع ذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إفراد يوم الجمعة بصيام، بل ونهى عن إفراد ليلة الجمعة بقيام، فهذا ثبت فضله وثبت النهي عن الاجتهاد في العبادة فيه، فلا يستلزم أصولياً لثبوت الفضل ثبوت العبادة، إذ إن الأصل في العبادات التوقيف، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فهذه الشبهة ترد على أصحابها فنقول: ثبت الفضل ونحن مع الفضل ندور، لكن لا ننشئ عبادة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، ولو كان خيراً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان خيراً لفعله أبو بكر ، ولفعله عمر .
فهذه بدعة مميتة أيضاً من بدع شعبان، نربأ بأنفسنا أن نفعلها حتى لا نذادَ عن الحوض، وأي امرئ قد وقع في بدعة ضلالة، وقد بين له أهل السنة وأقام الحجة عليه من يعلم بهذه السنة ولم يتبع، فهذا مصدود مردود عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم.
وصلِّ اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر