[ وقول الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الحديد:4]، وقوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، وقوله تعالى: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، وقوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، وقوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:249]، وقوله: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] ].
تقدم الكلام عن الاستواء، وأن الله جل وعلا مستوٍ على عرشه، ثم أتبعه الكلام في علو الله جل وعلا، ثم أتبع ذلك الكلام في المعية؛ ليبين أن هذا كله حق على ظاهره، ولكن يجب أن يُصان عن الظنون الكاذبة وعن خصائص المخلوقين، فإن صفات الله جل وعلا تليق به، ويجب أن يعلم قدر الله جل وعلا وأن يعظم حق عظمته، وليس بين هذه اختلاف أعني: بين العلو والمعية كما سيأتي إن شاء الله، وكذلك القرب، ولم يذكره، ولكن سيأتي فإنه يناسب أن يذكر مع العلو ومع المعية؛ لأنه يبدو لبعض من لم يعرف أوصاف الله جل وعلا على ما يليق به أن هناك تعارض بين هذه الأمور الثلاثة: بين العلو والقرب والمعية، والواقع أنها كلها حق، ويجب أن يعتقد فيها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
في هذه الآية جمع الله جل وعلا بين استوائه على عرشه وبين معيته لخلقه؛ ليبين أن الاستواء لا ينافي المعية، كما أن الاستواء لا ينافي قربه، كما قال جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي [البقرة:186].
القسم الأول: الله جل وعلا له أفعال تتعدى ويوصف بها تعالى، حسب تعلقها بمشيئته مثل الخلق والإماتة كقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ ، وفي ضمن هذا أن الخلق الذي هو فعله غير المخلوق، فالسماوات ليست هي خلقه الذي هو صفته، بل هي مفعوله الذي هو أثر الخلق، فيجب أن يفرق بين هذا وهذا؛ لأن أهل الباطل لا يفرقون، ولاسيما الأشاعرة، فإن عندهم أن الخلق هو المخلوق ولا فرق بين هذا وهذا، وهذا باطل؛ فإن الخلق الذي هو صفة الله التي بها يفعل غير المخلوق الذي هو منفصل عن الله وبائن عنه، ومشاهد ويرى وتجري عليه أقداره وأحكامه وأوامره.
وقوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ : سبق أن الظاهر من كلام الله جل وعلا وكلام رسوله: أن هذه الأيام الستة هي مثل أيامنا هذه، والذي يقول: إن تلك الأيام اليوم منها كألف سنة لا يستند إلى دليل، وليس هناك دليل إلا ما يؤخذ من خرافات علماء أهل الكتاب الذين يريدون أن يفسدوا عقائد المسلمين، وكم من البلاء دخل على المسلمين بسبب ما ينقل عن أهل الكتاب من الخرافات، والأمور التي لا يجوز أن يترك كتاب الله جل وعلا من أجلها، ولا يجوز أن تكون تفسيراً لكتاب الله، بل يجب أن يُبتعد عنها، وقد أخبرنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الذي يروى عن أهل الكتاب على ثلاثة أنحاء: منها: ما هو مخالف لما عندنا، فهذا يجب رده ولا نلتفت إليه.
ومنها: ما هو مصدِق لما عندنا، وهذا قد أغنانا الله عنه بما عندنا، فلا حاجة إليه.
ومنها: ما هو مسكوت عنه، وهذا الذي جاء الإذن بالتحديث عنه، ولكن لا يصدق ولا يكذب، والله أعلم به.
وعلى هذا تكون مقدار الستة الأيام في علم الله جل وعلا، ولو لم يكن هناك شمس وقمر وأرض فإن كل شيء معلوم لدى الله جل وعلا بمقداره، بحيث إنه يعلم الأشياء التي لم تكن على ما هي عليه، ولا يزيد وجودها في علمه شيء، فهو خلق السماوات والأرض وما بينها في هذه الأيام الستة، وأولها يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة.
وأما ما في صحيح مسلم : (أن الله خلق التربة يوم السبت ...). فهذا مما هو غلط قطعاً؛ لأنه مخالف لكتاب الله، والأحاديث الصحيحة، فالخلق كان في ستة أيام فقط وليس في سبعة؛ لأن مقتضى هذا أن الخلق كان في سبعة، وهذا مخالف لنص القرآن الذي ذكره الله جل وعلا في سبعة مواضع وعطف عليه الاستواء بلفظة (ثم).
فخلق السماوات والأرض والإحياء والإماتة.. وما أشبه ذلك، هذه الصفة من الصفات التي تسمى: أفعالاً متعدية.
والقسم الثاني: ما ذكره في قوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وهذا هو الفعل اللازم، فهو جل وعلا يوصف بالأفعال المتعدية وبالأفعال اللازمة، واللازمة مثل الاستواء ومثل النزول والمجيء والإتيان.. وما أشبه ذلك. والصفات المقصود بها هنا: الأفعال التي تتعلق بمشيئته يفعلها إذا شاء؛ فهو فعَّال لما يريد.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ، سبق معنى الاستواء، وأن هذا المعنى ظاهر جداً في لغة العرب، ولا يجوز أن يؤول عن ظاهره، ولما كثر الخوض في ذلك اضطر علماء السلف أن يفسروه بألفاظ مترادفة، فجاء تفسيره عنهم بأربعة ألفاظ مترادفة، قالوا: استوى: علا، وقالوا: صعد، وقالوا: ارتفع، وقالوا: استقر، وكلها ألفاظ ظاهرة يفهم معناها السامع الذي يعرف اللغة، ومجرد ما يسمع ذلك يفهمه.
والاستواء لا يجوز أن يكون بمعنى الاستيلاء، فإن الاستيلاء يتطلب المغالبة، ويتطلب أنه كان قبل ذلك مغلوب عليه تعالى الله وتقدس، كما يقال: استولى الملك الفلاني على البلد الفلاني بعدما كان خارجاً عن ولايته وعن حكمه، فلو كان معنى الاستواء على العرش: الاستيلاء لصح أن نقول: إنه استولى على الأرض، واستولى على السماء، واستولى على كل شيء، وعلى هذا نقول: استوى على الأرض، واستوى على السماء، واستوى على كل مخلوق، ولكن الاستواء جاء خاصاً بالعرش فقط، فلا يجوز أن يطلق على الله جل وعلا إلا ما أطلقه على نفسه، وأما التأويلات التي تئول إلى إبطال كلام الله جل وعلا وأوصافه فيجب أن ترد ولا يلتفت إليها.
وقوله: وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا [الحديد:4]، كذلك الذي يخرج من الأرض من جميع الأشياء لا يخفى عليه.
وقوله: وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا [الحديد:4]، ما ينزل منها، يعني: هذا تفصيل لعلم الله جل وعلا بعدما ذكر أنه يعلم مجملاً ذكر التفصيل، وهذا يذكر لبيان حقيقة الواقع ولوجوب اعتقاد ذلك، وأنه لا يخرج عن علم الله شيء، فهو عليم بالأشياء التفصيلية، وليس كما يقول الفلاسفة الذين يكفرون بهذه الأشياء، يقولون: عَلِمَ الله بالأشياء المجملة فقط، أما الأمور التفصيلية فهو لا يعلمها حتى توجد، تعالى الله وتقدس! وهذا كفر بالله جل وعلا، وفي هذه الآية رد على كل من يقول بهذا القول أو بشيء منه.
وقوله: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ [الحديد:4]، أي: الذي ينزل من السماء من الأشياء التي يعلمها الله، من غيث أو رحمة أو عذاب أو أمر أو ملائكة أو أرواح أو رياح أو غير ذلك.
والمقصود بالسماء: كل ما كان فوق، فكل ما كان فوق الإنسان فهو سماء، ونهاية السماء عرش الرحمان؛ فهو سقف المخلوقات كلها، وفوق عرش الرحمان الرحمان تعالى.
وأخبرنا صلوات الله وسلامه عليه: (أن الروح يعرج بها ثم تستفتح لها أبواب السماء فإما أن تفتح وإما أن تغلق وتطرح إلى الأرض طرحاً)، كما جاء ذلك في حديث البراء بن عازب الذي هو في صحيح البخاري وغيره.
والمقصود: أن السماء إذا جاءت مطلقة -بدون أن تقيد بما يدل على أنها السماء المبنية- فيقصد بها السماء المبنية وقد يقصد بها مجرد العلو.
وقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، هذا هو الشاهد الذي سيقت الآية من أجله، وهو أنه معنا تعالى أينما كنا، و(أين) يقال للمكان، كما يقال أين فلان؟ يعني: في أيّ مكان هو؟ فقوله: أَيْنَ مَا كُنْتُمْ أي: في أي مكان كنتم، فالله يعلمنا ويعلم حالنا ويعلم ما في قلوبنا.
والمقصود بهذا: بيان إحاطة علم الله جل وعلا بكل شيء، وأنه لا يخفى عليه شيء.
وقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ : زيادة بيان؛ لأنه بصير بكل عمل نعمله، والبصير مبالغة في العلم فهو يبصره بعد علمه المحيط به، ويعرف ويعلم حقيقته، وهل هو عمل صالح قد خلصت به النية أو أن النية قد انطوت على أمر آخر يفسد العمل؟ فهذه المعية لها مقتضى وهو المراقبة والخوف لقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، يعني: اعلموا أن الله لا يخفى عليه من أحوالكم شيء، فراقبوه وخافوه وأصلحوا أعمالكم، ولتكن قلوبكم متجهة إلى الله، ومخلصة العمل لله، هذا مقتضى ذلك.
وقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ [المجادلة:7]، أول الآية يقول جل وعلا: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [المجادلة:7]، وهذه الآية يقول الإمام أحمد وغيره: إنها تدل على أن المعية يقصد بها العلم؛ لأنه بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [المجادلة:7]، فيقول: بدأها بالعلم وختمها بالعلم، فدل على أن المقصود بالمعية هي العلم، وسيأتي الكلام على هذا.
فقوله: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ، النجوى هي: الكلام الذي يكون بين اثنين وأكثر في الخفية، لا يريدون أن يطلع عليه غيرهم، فيقول جل وعلا: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ ، وهنا بدأ بالثلاثة، ولماذا لم يبدأ بالاثنين؟ لأنه جاء بالأعداد التي يمكن فيها الشفع والوتر، فالوتر في الثلاثة الذي لا يمكن أن ينقسم إلا على نفسه، والذي فيه الشفع هو ما بعده: وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ ؛ لأن هذا فيه الشفع والوتر، والأول وتر فقط، فصار شاملاً لجميع الأعداد، واكتفى بهذا عما عداه من الأعداد الأخرى، ومن لغة العرب أن المضاف في مثل هذه الأعداد إذا كان من جنس المضاف إليه فإنهم يقولون: ثالث ثلاثة، ورابع أربعة، وخامس خمسة، وسادس ستة، هذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، أما إذا كان المضاف من غير جنس المضاف إليه، فإنهم يقولون: رابع ثلاثة، وخامس أربعة، وسادس خمسة، ولهذا جاء هذا على مقتضى لغة العرب: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ؛ لأنه تعالى وتقدس من غير جنسهم على ما تعارف عليه العرب، وما يعرفونه من لغتهم.
وقوله: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ، وهذا محيط شامل للأقل والأكثر: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ ، فبين جل وعلا أنه مع كل أحد من الناس بالنجوى وغير النجوى، الكثيرين والقليلين، وأنه لا يخفى عليه مناجاة مناج، ولا تشغله عن علم مناجاة الآخر، ولا الاستماع لقول واحد عن الاستماع إلى قول الآخرين، وهذا من خصائص الله جل وعلا، ولهذا أراد منا جل وعلا أن نعلم قدرته على سماع كلام عباده واطلاعه على أعمالهم، فكل الذين في السماء وفي الأرض إذا اتجهوا يدعونه فإن كل قولهم يقع في سمع الله، ولا يخفى عليه منهم شيء، ولا يشغله استماعه إلى آخرين عن استماعه إلى البقية، وإن كانوا في آنٍ واحد، وهذا خلاف صفة المخلوق الضعيف؛ فإنه لا يمكن أن يستمع إلى قوم إلا واشتغل باستماعه إياهم عن الآخرين، ولا يمكنه أن يستمع لهذا ولهذا، فصفات الله جل وعلا على خلاف صفات عباده، وسيأتي الكلام على هذا في صفة النزول التي ذكرها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (أن الله ينزل إلى السماء الدنيا إذا بقي ثلث الليل الآخر ..).
وأورد بعض الذين لم يعرفوا صفة الله جل وعلا على هذا إيرادات باطلة لا ترد على صفات الله، وإنما ترد على صفات المخلوقين، فقالوا: إذا كان ينزل ثلث الليل الآخر فإن أثلاث الليل في الأقطار تختلف، فثلث ليل هؤلاء هو أول الليل عند أولئك، وثلث الليل عند هؤلاء هو نهار عند الآخرين وهكذا، فلزم على هذا أن يكون نزوله دائماً، هكذا قالوا، وهذا قول الذين -في الواقع- لم يعرفوا الله تعالى وتقدس، ولم يقدروه حق قدره، بل إنما قاسوا صفات الله جل وعلا على أوصافهم هم، تعالى الله وتقدس عن ذلك، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله.
وقوله: وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ، هذا مثلما سبق أن (أين) يسأل بها عن المكان، ولهذا السبب قال الجهمية: إن الذين يعتقدون قول الرسول صلى الله عليه وسلم للجارية: (أين الله؟)، يسمونهم: أينية، والأينية نسبة إلى هذا اللفظ، وهذه التسمية عندهم من باب الاحتقار والاستهانة بهم وذمهم على ذلك، وكم ذموا أهل السنة بما قاله الله جل وعلا وقاله رسوله صلى الله عليه وسلم! والعيب لهم هم وليس لأهل السنة، فأهل السنة يفتخرون بذلك؛ لأنهم يقولون بما قاله الله وبما قاله رسوله، فإذا سموهم أينية أو سموهم مجسمة أو مشبهة أو ما أشبه ذلك فإنه لا يضرهم هذا ولا يضيرهم، ولا يهمهم التسميات إذا كانوا متمسكين بقول ربهم وقول رسولهم صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أن العداوة تحدث بسبب هذه المخالفات؛ لأن العداوة الحقيقة هي عداوة العقائد، فإذا كان الإنسان يخالفك في عقيدتك فهو يعاديك أشد العداوة، فهذه العداوة العقدية ليست كالعداوة لأجل مال أو لأجل اختلاف وجهة نظر أو ما أشبه ذلك، ولهذا تجد أن ما بين المسلمين واليهود من العداوة متأصلة، وما بين اليهود والنصارى من العداوة أشد؛ لأن هذه العداوة في العقيدة.
وقوله: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، شيء هنا نكرة، فلا يخرج عن علمه شيء من الأشياء، وهذا عموم مطلق لا يجوز أن يخصص بشيء، كقوله: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، أما التقديرات التي يقدرها أهل الوساوس والشكوك فلا قيمة لها، فإنهم يقدرون أشياء مستحيلة وأمور ممتنعة، الأمور الممتنعة ليست بشيء، ولا تسمى شيئاً؛ لأنها عدم، والعدم ينقسم إلى قسمين: عدم مطلق قد علم الله جل وعلا أنه لن يكون ولا يكون، فهذا لا يسمى شيئاً، وعدم مقيد، يعني: كان عدماً ثم وجد، فهذا يسمى شيئاً في علم الله وكتابته، ولكنه في الوجود لا يكون شيئاً حتى يوجد، وهذا كما قال الله جل وعلا: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً [الإنسان:1]، أي: شيئاً مذكوراً مشاهداً ومرئياً في الوجود، ولكنه شيء في علم الله وكتابته، فهذا هو المعدوم المقيد.
وأما المعدوم المطلق فليس بشيء مطلقاً، ومن هذا القبيل ما يقوله أهل الوسوسة: هل الله جل وعلا يقدر على أن يخلق مثل نفسه؟ هل الله تعالى يقدر على أن يعدم نفسه؟! ويقول الشكاك: أنا موجود في ملك الله، فهل الله يستطيع أن يخرجني من ملكه؟! هذه وساوس لا حقيقة لها، وهي مثل كون الإنسان حياً ميتاً في آنٍ واحد، وهذا لا حقيقة له، ومثل كونه قائماً جالساً في آنٍ واحد، وكونه متحركاً ساكناً في آنٍ واحد وفي لحظة واحدة، هذا عدم مطلق؛ فهو مستحيل، والمستحيل لا يدخل في مسمى الشيء.
وقوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ [التوبة:40]، والحزن: هو ضد السرور والفرح، ويكون من توقع الأمر المخوف أو على شيء قد فات كان يحبه فيحزن عليه.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، يعني: أن الله مع الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر دون الكفار.
وقال الله جل وعلا لهما: لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، يعني: مع موسى وهارون دون فرعون، وقيد ذلك بالسماع والرؤية، فلهذا قال العلماء: إن المعية معناها: العلم والرؤية.
أما الإحسان: فهو غاية ما يستطيع العبد في تحسين العمل، فهو درجة فوق التقوى.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، فأخبر أنه مع المتقين ومع المحسنين.
ثم إن المعية في لغة العرب: معناها المصاحبة، وهي تختلف باختلاف ما أضيفت إليه، فقول الإنسان مثلاً: معي علمي غير قوله: معي مالي، وقوله: معي زوجتي، غير قوله: معي صاحبي، كذلك في بقية الإضافات، وقد سمع من كلام العرب: سرنا والقمر معنا.
إذاً: المعية لا تقتضي الممازجة والمداخلة، فإذا قيل: إن الله مع عباده فلا يفهم من هذا أنه مداخلهم، وحال معهم تعالى الله وتقدس، وإنما تكون المعية حسب ما أضيفت إليه.
فمعية الله مع خلقه لا تخرج عن هذين النوعين: إما أن تكون عامة مطلقة، ومعناها: أن الله جل وعلا يسمع كلامهم، ويرى أعمالهم ويطلع عليها، ويبصرهم وهم لا يخرجون عن قبضته، وهو محيط بهم، وهذا هو معنى قول السلف: إن المعية تفسر هنا بالعلم، وقولهم هذا رد على الذين يقولون: إن المعية تقتضي الممازجة والمداخلة يعني: يردون بهذا على أهل الحلول وأهل الاتحاد الذين يقولون: إن الله حل في الأمكنة، تعالى الله وتقدس.
وهذا واضح في الآيات التي سبقت كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، هذه عامة لجميع الخلق، لا يخرج من هذا أحد: مؤمنهم وكافرهم مطيعهم وعاصيهم، ولهذا صار مقتضاها: اطلاع الله على أعمالهم، وعلى قلوبهم، وسماعه لكلامهم، وكونهم في قبضته، وهو محيط بهم، ولا يخرجون عن قبضته، فلهذا قالوا: على الإنسان أن يخاف ربه ويراقبه، وهذه الآية تدل على ذلك: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ ، يعني: اعلموا أني أسمع كلامكم، وأرى أعمالكم، وأنتم في قبضتي، فخافوني وأحسنوا الأعمال.
وكذلك في الآية الثانية آية المجادلة وهي قوله تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ، وهذه عامة للخلق كلهم.
أما قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40]، فهذه معية خاصة، ومعناها: أن الله مع نبيه وصاحب نبيه دون الكفار الذين أحاطوا بالغار، وكذلك قوله في خطابه لموسى وأخيه هارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، فهو مع موسى وهارون دون فرعون وقومه، وهذه المعية مقتضاها غير مقتضى المعية الأولى، مقتضى هذه المعية النصر والتأييد والحفظ، وهي معية بالعلم والاطلاع والإحاطة، يعني: مثل الأولى بالعلم والاطلاع؛ لأن علم الله عام شامل، واطلاعه عام، وسمعه عام شامل، وقبضته لا أحد يخرج عنها تعالى وتقدس، فهو محيط بالخلق، فدل ذلك على أن المعية ليست هي المخالطة، كما يقول أهل الحلول الذين يقولون: إن المعية تكون فيما أضيفت إليه، وهذا يمكن أن يعرف في المخلوق، فالعرب يقولون: سرنا مع القمر، ويقول الإنسان: معي زوجتي، ومعي مالي، ومعي صاحبي، ويقول الله جل وعلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29]، أي: معه في الصحبة، والإيمان وقتال العدو.. وغير ذلك، وليسوا مخالطين لذاته ولا مداخلين له.
فإذاً: تكون المعية المفهومة على حسب الموارد، ومعية الله جل وعلا لا تخالف علوه، فهو مع الخلق أينما كانوا وهو على عرشه.
أما قول السلف: إن المعية هي العلم، فهذا لأجل رد اعتقاد أهل الحلول الذين يقولون: إن الله في كل مكان، وإنه معنا في الأرض.
فعلى هذا يتبين أن معية الله جل وعلا خاصة به، وليست مثلما يقال: إن فلان مع فلان، بل هي معية خاصة به؛ وذلك أن علم الله عام، وسمعه عام، وإحاطته عامة وشاملة، ولكن يجب أن يعلم أن علوه واستواءه حقيقي على ظاهره، وأن معيته لخلقه حقيقة على ظاهرها، وأن أحدهما لا تناقض الأخرى؛ لأن الأخبار في هذه قطعية، وفي هذه قطعية كذلك، وليس واحد من الأخبار يعارض الآخر، بل يجب أن يصان عن الظنون الكاذبة، وعن خصائص المخلوقين، فإن الله جل وعلا لا يتصف بشيء مما يخص المخلوق؛ فصفاته خاصة به، فهو مع موسى عليه السلام وقريب منه، وعندما كلمه من طور سيناء كان على عرشه.
والقسم الثاني: هو مثل المعظم الذي يعظم نفسه أو يكون له خدم وعبيد يمتثلون أمره؛ فإنه يقول: فعلنا، ونحن نفعل، كما يقول الرئيس: نحن نأمر بكذا وكذا، وإن كان المنفذ غيره، والكاتب غيره، والمبلغ غيره، فإذا قال الله جل وعلا: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]، وقال: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ [الواقعة:85].. وما أشبه ذلك، فهذا يصح أن يكون أمر ملائكته بذلك فامتثلوا أمره، ونفذوا ما أمرهم به، فأضاف ذلك إلى نفسه، وهذا معلوم في لغة العرب ومعروف.
ولا يكون منافياً أيضاً لما سبق، بل يحمل على ظاهره، وليس ذلك تأويلاً؛ لأننا إذا تبين لنا أن مراد المتكلم هو الظاهر فهذا لا يسمى تأويلاً، وبهذا يعلم أن معية الله ليست منافية لعلوه واستوائه، كما أن قربه لا يخالف علوه واستواءه، فهو قريب من داعيه، وكذلك قريب من السائلين والتائبين والمنكسرة قلوبهم وهو على عرشه، ومثل ذلك مجيئه يوم القيامة كما قال سبحانه: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210]، وقال: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً [الفجر:22]، فإنه سبحانه وتعالى يوم القيامة يجيء إلى الأرض للفصل بين عباده، ولكن يجيء وهو على عرشه عالٍ على خلقه لا يمكن أن يكون شيء فوقه؛ لأنه أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، والأشياء كلها -كالسماوات والأرض- بالنسبة إليه صغيرة، ولهذا يقبضها تعالى بيده ويطويها، ثم يقول: أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ وكل الخلق الذين في السماء وفي الأرض، يكونون في قبضته بيمينه تعالى وتقدس، كما قال تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67] روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: السماوات والأرض كلها مطوية بيمينه وشماله فارغة وإنما يستعين بشماله من كانت يمينه مشغولة. هكذا قال حبر الأمة .
فالمقصود: أنه يجب أن يعلم عظمة الله، وأنه أعظم وأكبر من كل شيء، فكيف يسوغ للجاهل الظالم أن يقول: إن الله يحل في الأرض ويداخل خلقه؟ تعالى الله وتقدس.
الجواب: الواجب أن الإنسان يسأل عن اللازم الصناعي في النحو؛ لأن علماء النحو يقسمون الأفعال إلى قسمين: فعل لازم، وفعل متعدي، فالمتعدي: هو الذي يتعدى إلى مفعول، واللازم: هو الذي ليس له مفعول، وهذا هو المقصود هنا. فمثلاً: فعل استوى ليس له مفعول، ومثله: جاء وأتى، بخلاف خلق؛ فإن الخلق يتعدى إلى المخلوق، ولابد أن يظهر أثره؛ ولهذا نقول: السماوات والأرض مخلوقاته، وخلقه صفته، وكذلك الإحياء والإماتة والرزق وغير ذلك.
الجواب: الحروف تتناوب، وكثيراً ما يأتي حرف بدل الآخر، ويأتي بمعنى الآخر، وهذا شيء معروف، فمثلاً (في) و(على) كثيراً ما تتناوب، كما يقول جل وعلا حاكياً قول فرعون: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، ويقول سبحانه: سِيرُوا فِي الأَرْضِ [الأنعام:11]، وليس معنى ذلك أنه يصلبهم في داخل الجذوع، وليس معنى ذلك أنه المشي في داخل الأرض، ولكنه عليها، فـ(في) هنا بمعنى: (على).
الجواب: هذا من التكلف الذي لا ينبغي؛ لأن الواجب علينا أن نقول بما علمنا وما ذكره الله جل وعلا لنا، أما ما وراء ذلك فشيء قد لا تحتمله عقولنا ولا تصل إليه، مع العلم أن الله جل وعلا أول بلا بداية، وأنه ليس بحاجة إلى غيره، بل العرش فقير إليه، وكونه خلقه واستوى عليه ليس لأنه سبحانه محتاج إليه؛ بل خلقه لحكمة، وقد يظهر لنا شيء من ذلك وقد لا يظهر، فيجب على الإنسان أن يقف حيث أوقفه الله، ولا يتعدى ذلك إلى الأمور التي لم تأت الأخبار من الله إلينا يعلمنا إياها، فعلينا أن نقف عند حدنا.
وهذا السؤال قد أجاب عنه بعض العلماء، ولكنه جواب بمقتضى النظر فقط؛ لأنه ليس فيه نصوص، فقال: إنه كان مستوياً قبل ذلك؛ لأنه لما خلق العرش استوى عليه، ولم يكن ليخلقه ويتركه، والاستواء بعد خلق السماوات والأرض استواء خاص، هكذا قال والله أعلم.
الجواب: سبق أن تكلمنا على هذا وقلنا: العلو صفة ذاتية، بمعنى: أنه لا يمكن أن يكون شيء فوق الله تعالى وتقدس، وأنه سبحانه ملازم للعلو، وصفة الذات هي: التي تلازم ذات الرب جل وعلا أبداً لا يمكن أن تفارقه، والعلو لا يمكن أن يفارق الرب جل وعلا وتعالى وتقدس، ولهذا قال: إنه صفة ذات، فهو الأعلى دائماً وأبداً على خلقه، لكن الاستواء، هو استواء على مخلوق والذي هو العرش، وهذا لا نعرفه إلا بالنص فقط، فإذا جاء النص قلنا به وآمنا به واتبعناه، ولهذا فرقوا أيضاً من ناحية الثبوت بين هذا وهذا، ومن ناحية الدليل كذلك، فقالوا: الاستواء سمعي، وأما العلو فهو عقلي فطري سمعي.
الجواب: يقولون: آفة الأخبار رواتها؛ أنا ما قلت: إن المعية العلم، إنما قلنا: هذا من معاني المعية، وقلنا: إن العلم عام شامل، وأما المعية فلها مقتضيات: مقتضى الخوف والمراقبة، ومقتضى الحفظ والكلاءة والنصر، فيختلف هذا عن هذا؛ ولو كانت المعية معناها العلم لم يكن هناك فرق بين هذه وهذه، ولكانت كلها سواء، هذا شيء.
والشيء الآخر أنني قلت: إن المعية من معناها العلم والمراقبة والإحاطة، وإن الخلق في قبضته سبحانه كل هذا من معاني المعية وليس العلم فقط، إنما العلم شيء من ذلك، وقلت: إن السلف فسروا المعية بالعلم رداً على الذين يقولون: إن الله مع خلقه بذاته داخل فيهم، ففسروها بالعلم لأجل الرد على هذا القول؛ لأنه باطل، وقالوا: إنه معهم بعلمه، أما هو فهو مستوٍ على عرشه فوق خلقه.
الجواب: ليس تأويلاً؛ لأن السياق يدل على أنهم الملائكة، ونحن نقول: لا يجوز للإنسان أن يأخذ اللفظ في جميع موارده على وتيرة واحدة، بل يجب أن ينظر في السياق والقرائن ودلائل الخطاب، ويعرف ما هو مراد المتكلم، فإذا تبين له مراد المتكلم فذاك هو الظاهر، فمثلاً: قوله جل وعلا: هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ [البقرة:210]، نقول: هذا الإتيان هو إتيانه جل وعلا بنفسه حقيقة بدليل هذه الأمور المقترنة بهذا الخطاب: ذكر الملائكة، وأن هذا يوم القيامة حينما يجتمع الخلق، وذكر القضاء، وكون الأمور ترجع إليه: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ، وغير ذلك من القرائن التي حُفت بهذا.
أما إذا نظرنا إلى قوله جل وعلا: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنْ اللَّهِ فَأَتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2]، فنقول: الإتيان هذا إتيان عذابه وجنده الذين سلطهم عليهم، وجنده هم رسوله والمؤمنون، أما هو جل وعلا لم يأتهم، وهذا يفهم من القرائن والسياق والحال، وكذلك قوله جل وعلا: فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمْ السَّقْفُ [النحل:26]، نقول: هذا من إتيان عذابه وهذا هو الظاهر، وليس هذا تأويلاً؛ لأن الله لا يأتي إلى الحيطان تعالى الله وتقدس، وإنما هو عالٍ على جميع خلقه.
والمقصود: أن الإنسان يجب عليه أن يتفهم مراد المتكلم، فإذا تبين له مراده، فهذا هو الظاهر، وليس تأويلاً.
الجواب: لا، لا يطلق هذا على المعية ولا يذكر؛ لأن العلم ذاتي والإحاطة ذاتية والسمع كذلك، وهذه من معانيها، أما أن نقول: المعية ذاتية فهذا لا يجوز؛ لأن هذا قد يفهم منه أن الله مع خلقه بذاته، وهذا كفر بالله جل وعلا، وكون الله جل وعلا يكون مخالطاً لخلقه -تعالى الله وتقدس- منافٍ لعلوه، فلا يجوز إطلاق هذا القول.
الجواب: يطردها بالعلم، وأن يؤمن بأن الله جل وعلا هو الذي كلف الخلق بعبادته، وأنهم كلهم في قبضته، وليسوا ينقصون ملكه لو عصوه أو يزيدون ملكه لو أطاعوه، وأن الأمور كلها بيد الله، وأن الله لا يُسأل عما يفعل، وأن الإنسان يجب أن يقف عند حده ولا يتعدى طوره، فلا يذهب ينظر في الأمور التي يعترض بها على الله جل وعلا، فإنه قد يكون هذا سبب تعذيبه، فإن الله جل وعلا يخاطبنا على حسب عقولنا فقط، ومن وقف على خطاب الله كفاه ذلك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر