يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
فإن صفة الربوبية من صفات الله جل في علاه، والتي لها أثرها في تعبد العبد وإيمانه.
وهي صفة من صفات الله الذاتية التي ثبتت بالكتاب، والسنة، وإجماع أهل السنة.
وقال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وقال الله تعالى: رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ [الرحمن:17]، وقال الله تعالى: رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ [مريم:65] .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأما الركوع فعظموا فيه الرب) . فأثبت لله صفة الربوبية، وهذه الصفة ذاتية لا تنفك عن الله جل في علاه أزلاً ولا أبداً.
ومن لوازم ربوبية الله جل في علاه: إفراده بالعبادة، فكثيراً من الناس يعتقدون أن الله هو ربهم، فيؤمنون بالربوبية ولا يعرفون معناها، كمشركي العرب الذين أثبتوا لله الربوبية، ولكنهم نازعوه في الإلهية، وهم مع ذلك أفضل بكثير من الذين يزعمون التوحيد في هذه العصور، إذ أنهم علموا كيفية توحيد الإلهية، وأيضاً أيقنوا بربوبية الله جل في علاه، وبعض الناس اليوم يدعون التوحيد ويزعمون أنهم آمنوا بالربوبية، وهم مشركون في ربوبية الله جل في علاه.
ومعنى الرب: هو الخالق الرازق المدبر السيد الآمر الناهي، وهو الذي انفرد بخلق كل شيء سواء كان دقيقاً أم جليلاً، قال الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، وقال جل في علاه: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] .
وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله خلق كل صانع وصنعته).
والنوع الثاني من الخلق: هو تحويل من صورة إلى صورة: كتحويل الخشب إلى باب أو نافذة، أو تحويل الحديد إلى سيارات مثلاً، فهذا تحويل من صورة إلى صورة ويسمى: خلقاً، وهذا الذي يحل به الإشكال الوارد في قول الله تعالى: فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون:14]، فكأن الله جل وعلا يقول: مع الله خالق، وهذا ليس على الإطلاق، بل هو: تحويل صورة إلى أخرى وهذا يسمى: خلقاً، ولذلك وصف الله به بعض عباده، وهذه الصفة تتعلق بالإنسان ونقصه وفقره، أما الخلق الذي يتصف به الله فإنه يليق بجماله وكماله وبهائه وعظمته وقوته سبحانه وتعالى، فهو الذي انفرد بالإيجاد من عدم.
قال الله تعالى: ولله مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [آل عمران:180]، وقال جل في علاه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21]، فهو المالك الرازق، والرزق كله بيده، وهو الخالق المدبر، وتدبير الكون كله بيد الله جل في علاه، فهو الذي دبر أمر هذا الكون، وكتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الخلق بخمسين ألف سنة، سبحانه جل في علاه، فالتدبير كله لله جل في علاه، ولذلك قال الله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [السجدة:5]، وقال جل في علاه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] .
قال ابن مسعود: يدبر الكون، يرفع أقواماً ويخفض آخرين، وينصر أقواماً ويهزم آخرين، ويعطي هذا، ويمنع هذا، ويحيي هذا، ويميت هذا.
قال الله تعالى: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ [الرعد:33]، وهذا من تمام تدبيره سبحانه وتعالى للكون، فالله غالب على كل شيء، مدبر لكل شيء، وسعادة الإنسان بيد الله، فعندما يعتقد الاعتقاد الجازم بأن الله هو الذي يدبر أمر حياته ومماته وأمر دنياه وآخرته، ويتعبد لله بهذا الاعتقاد يسعد في الدنيا والآخرة.
إن الله هو الخالق الرازق المدبر السيد الآمر المطاع سبحانه وتعالى، ولذلك لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أنت سيدنا! قال: (إنما السيد الله جل في علاه)، والسيد: المتفرد بالأمر وبالتشريع سبحانه جل في علاه.
فمشركوا العرب قديماً اعتقدوا ربوبية الله، وأتوا بلازم الربوبية، وهو توحيد الإلهية، والدليل على ذلك قول الله تعالى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22].
فبعد أن أحيط بهم، وعلموا أن لا منجا ولا ملجأ من الله إلا الله دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [يونس:22]، وأتوا بتوحيد الإلهية، وهذا هو الفرق بين هؤلاء، وبين مشركي العصر.
فهو يعتقد أن الله جل في علاه إن كانت خزائن السماوات والأرض في يده، وإن كان لا يمنع عبداً من خيره فإنه لن يتذلل إلا له سبحانه، مستحضراً قول الله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ [الحجر:21]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث القدسي: (لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي من شيء)، فلما اعتقد هذا الاعتقاد الصحيح، وعلم أن رزقه بيد الله لم ينشغل بالرزق أبداً، وإنما انشغل بالله، كما قال ابن القيم رحمه الله: إن الله خلق الكون كله من سماء، وأرض، وأنهار، وجبال، وأشجار، وثمر، وطعام، وأسماك، وكل ذلك خلقه لك، وخلقك أنت لمهمة عظيمة جسيمة، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فانشغل بما خلقت أنت له، ولا تنشغل بما خلق لك، فإن علمت أن رزقك بيد الله جل في علاه فلن تتوكل إلا على الله، والذي يعينك على ذلك هو استحضارك توكل السلف، كـأبي بكر رضي الله عنه وأرضاه عندما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة للإنفاق فجاء أبو بكر بكل ما عنده، وهذا قمة التوكل على الله، وقمة الاعتقاد في ربوبية الله جل وعلا، فعندما امتلأ قلبه بالإيمان، وعلم يقيناً أن الرزق بيد الله أعطى كل ماله لله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله)؛ لأنه يعلم أن الله جل وعلا سيخلف عليه خلفاً حسناً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الله بعث ملكاً يقول كل ليلة، أو كل صباح ومساء: اللهم أعط كل منفق خلفاً، وأعط كل ممسك تلفاً)، فاعتقد هذا الاعتقاد وعلم أن الرزق بيد الله جل في علاه، وتوكل توكلاً تاماً، وأيقن أن الله هو الرب المدبر الرازق الخالق سبحانه، فأنفق ماله كله في سبيل الله.
وهذا خالد بن الوليد توكل على الله، واعتقد الاعتقاد الجازم بالله، وبأن الله جل في علاه هو القوي المتين، وهو الرب الخالق المدبر، فبعث إلى ملك الفرس يقول له: لآتينك بجنود يحبون الموت كما تحبون أنتم الحياة، وفي رواية: آتيك بجنود يحبون الموت كما تحبون أنتم الخمر، فنصره الله على عدوه بالرعب؛ وذلك لشدة توكله على ربه عز وجل، بل أروع من ذلك: أنه عندما دخل على ملك الفرس ودعاه إلى الإسلام فأبى، قال: إن شربت هذا السم ولم يحدث لي شيء، أتؤمن بالله ورسوله؟ قال: اللهم نعم، فتوكل خالد على ربه، وفوض أمره إلى تدبير خالقه، واستحضر ربوبية الله، وأنه هو الذي يمتلك هذا الكون، وهو الخالق الرازق المدبر، فأخذ السم وقال: باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم وشربه فلم يحدث له شيء، فآمن الرجل؛ لتوكل هذا الصحابي الجليل على الله عز وجل.
وهكذا فقد ضرب الصحابة والتابعون أروع الأمثلة في التوكل على الله في الرزق، فهذا الحسن البصري بعد أن رزقه الله رزقاً واسعاً كان يأتي الأسواق فيبيع من التمر ما يسد به حاجة يومه، فيقولون له: فتح الله عليك فاستزد فيقول: لا والله، علمت أن رزقي بيد ربي ولن يذهب لغيري.
فعلى الإنسان أن يتقي الله، وأن يعتقد الاعتقاد الصحيح في ربه، وليعلم أن رزق الله جل في علاه لا ينفد أبداً، وأنه بيد الله، ليس بيد البشر، فلا يمل قلبه للبشر ولا يعتقد فيهم اعتقاداً يجعله يشرك بالله جل في علاه، قال الله تعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقُ مِثْلَمَا أَنَّكُم تَنْطِقُوْنَ [الذاريات:22-23]، ولذلك فإن الأعرابي قال: ومن ذا أغضب الجبار ليقسم على هذا؟ فإن الرزق في السماء وليس في الأرض، والدلالة على أنه في السماء: أنه لا أحد يملكه إلا رب السماء سبحانه جل في علاه.
وعلى الإنسان كذلك أن يعلم أن أمره كله بيد الله، وأن يرفض بقدر الله وبتدبير الله له، فهو الذي يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون.
وقد كان عمر بن عبد العزيز يصبح فرحاً بتدبير الله له، فالله يعلم ما يصلح أمر هذا الإنسان وما يفسده، كما ورد في الحديث القدسي عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من عبادي من لا يصلح له إلا الفقر، ولو أغنيته لفسد حاله، وإن من عبادي من لا يصلح له إلا الغنى، وإن أفقرته لفسد حاله)، وهو حديث ضعيف، لكن يستأنس به.
فليعلم العبد أن الله يدبر له أمره، ولن يتركه سدى، وأنه سيحوطه بتدبيره وكرمه وعطائه جل في علاه.
هذا الذي فهمه الصحابة، وفهمه الرسول صلى الله عليه وسلم، فعندما رأت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ما ينزل بأبيها من البلاء، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سوء على أبيك، ثم قال: والله لن يترك هذا الدين بيت مدر ولا وبر إلا دخله بعز عزيز أو بذل ذليل) فعلم وأيقن بتدبير ربه جل في علاه.
ويقول الله عز وجل عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، وذلك لما قيل لهم: إن المشركين قد أعدوا العدة لاستئصالكم، فاعتقدوا أن صلاح شأنهم بيد الله ، فهو المدبر سبحانه وتعالى، ولما حاصروهم في المدينة قام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق ويحمل الحجر والصخر معهم ويقول:
(اللهم لا عيش إلا عيش الآخره اللهم انصر الأنصار والمهاجرة)
واعترضت صخرة كبيرة على الصحابة واستنصروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ المعول فضربها، وهو يعتقد ويعلم أن الله جل وعلا هو الذي يدبر له الأمر أولاً وآخراً، فلما ضربها قال: (الله أكبر! أعطيت الكنزين: الأحمر والأبيض، أو قال: الأحمر والأصفر)، وهي كنوز كسرى وقيصر، كما رأى أن سراقة ارتدى سواري كسرى، فالصحابة عندما رأوا ما رأوا من حصار القوم لهم قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22]، وقد كانوا قليلين يخافون على أنفسهم، حتى إن أحدهم يخشى على نفسه من الذهاب لقضاء الحاجة، ولكن لما اعتقدوا في الله الاعتقاد الصحيح، وعلموا أن الله لا بد أن ينصر دينه، نصرهم الله ورفعهم، وجعل لهم القيادة والريادة؛ لأنه الخالق الرازق المدبر سبحانه وتعالى.
إن الله سبحانه أحسن تدبير يوسف عليه السلام وهو طفل صغير عندما كان في غيابة الجب، حتى أعطاه خزائن مصر، وجعله ملكاً عليهم، بعد أن عانى ما عانى في غيابة الجب، فالله دبر أمره وقال: وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:21].
هذا الاعتقاد غاب عند كثير من الناس، فما علموا أن القوة والقدرة والعدة بيد الله، وأن الخلق والرزق والتدبير كله بيده جل في علاه، بل إن من الملتزمين من يضعف اعتقاده بالله وبتدبيره لشئون الكون، فيميل قلبه لمديره أو رئيسه في العمل، ولا يميل قلبه لله جل في علاه، يميل قلبه للسبب ولا يميل للمسبب.
أما الكتاب: فيقول الله تعالى: هُوَ اْلَّذِيْ لاَ إِلَهَ إِلاَ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ َ [الحشر:23]، أي: تقدست أسماؤه وصفاته، فله الكمال المطلق المبرأ عن كل نقص وعيب، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في سجوده: (سبوح قدوس، رب الملائكة والروح)، سبوح: أي: منزه عن كل عيب ونقص.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان ينزه ربه عن كل نقص وعيب، وما حدث له من حدث يرى فيه نقيصة إلا قال: (سبحان الله)، حتى إنه صلى الله عليه وسلم سبح عندما استحى أن يتلفظ بشيء يستحيا منه، فقد جاء في الحديث: أن امرأة دخلت عليه وهي تشكو له الدم تراه في ثوبها، قال لها: (خذي فرصة ممسكة وتطهري بها، ثم صلي، قالت: كيف أتطهر بها يا رسول الله؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تطهري، قالت: كيف أتطهر؟ فقال: سبحان الله تطهري بها)، ففي هذه الحالة يُنزه ربه عن كل نقص؛ لأن هذه نقيصة، وهو مستحب أن يقول لها: تتبعي أثر الدم على الفرج.
فبعد أن قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، تطهري! قالت
فكان النبي صلى الله عليه وسلم دائماً يقول: (سبحان الله)، عندما يرى أمراً فيه نقيصه، وقد علم أصحابه إن كانوا في سفر واعتلوا مرتفعاً أو جبلاً شاهقاً أن يقولوا: الله أكبر! أي: لا أحد أكبر من الله جل في علاه، والعظمة كلها لله، فإذا نزلوا قالوا: سبحان الله، تنزيهاً لله جل في علاه عن كل نقص. وقد نزه الله نفسه في مواضع عدة منها: قول الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، وهذا فيه رد على السفلة الفجرة الكفرة الذين يتجرءون على ربهم جل في علاه، فيتهمونه بالنقائص والمعايب، وهم الذين قالوا: إن الله بعد ما خلق السماوات والأرض تعب، -عليهم لعائن الله- فقال الله تعالى: وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ [ق:38]، وهناك أيضاً من ينسبون إلى لله الولد، فقال الله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ [الإخلاص:1-3].
قال سبحانه: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255]، وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الدجال أعور وإن ربكم ليس بأعور)، فهذه نقائص في حق الله سبحانه لا بد من تنزيه الله عنها، والعبد الذي يعتقد الاعتقاد الصحيح ينزه الله ويرفض كل نقيصة تنسب إليه سبحانه.
ومن النقائص التي يجب أن ينزه الله عنها ما يقوله كثير من الناس: لماذا أهل الإسلام الآن في الحضيض، وأهل الكفر لهم السلطة والدولة عليهم؟ وهذا اتهام لله جل وعلا بالنقائص؛ لأن الله سبحانه تعبدنا بالإيمان بصفة من صفاته وهي الحكمة، فإذا قال الإنسان: لم يفعل الله كذا؟ فكأنه قدح في حكمته سبحانه، والله تعالى جعل الأيام دولاً، لحكم كثيرة منها: ليميز الخبيث من الطيب،وليصطفي من عباده شهداء، وليرجع العباد إليه ويلجئوا إليه عند الشدائد، قال الله تعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ [الأنعام:42]، كما أن من هذه الحكم: الاعتقاد الجازم بأن الكون كله بيد الله، وأن الله قادر على أن يرفع أقواماً ويخفض آخرين، ومنها: أن القوة المؤمنة، والقوة الكافرة إذا التقتا، وقاتلت هذه بالإيمان، وهذه بكفر، فالغلبة تكون لمن؟ لكن لو قاتلت القوى الكافرة والقوى المؤمنة على الحمية فإن الله يجعل الغلبة لمن؟
للأقوى، وقد كان ذلك. فهذه حكم جليلة مما يحدث بين أهل الإسلام وأهل الكفر يعلم الله عز وجل بها من يشاء من عباده.
فمن قال: لم يفعل الله كذا؟ فقد قدح في حكمة الله، ولم ينزهه حق التنزيه، وينبغي أن يعلم ويبين له أن هذا خطأ، وأن التعبد لله بهذه الصفة هو أن يعلم العبد أن الله منزه عن كل عيب، ويبغض كل عيب، كما يحب من كل عبد أن ينزه نفسه عن كل عيب، فعلى العبد أن يطهر قلبه من الحسد والأحقاد والضغائن وما يبغضه الله جل في علاه، ويطهر جوارحه من مساوئ الأخلاق، فإن الإنسان المنزه لا يرضى أن تخدش مروءته، ولذلك يقول الشافعي أو أحد السلف: والله لو علمت أن الماء يقدح في مروءتي ما شربته، ويقول الربيع: ما شربت الماء أمام الشافعي حياء منه؛ لأنه يخاف أن تخدش مروءته، وهذه قصة وإن كان في سندها كلام إلا أنها تبين كيف كان المحدثون يخشون على أنفسهم وعلى مروءاتهم، ويعلمون أن النقائص لا بد من البعد عنها، فـالبخاري -جبل الحفظ، والمحدث البارع في هذه الأمة التي امتن الله عليها به، والذي كتابه أصح كتاب بعد كتاب الله جل في علاه- ركب سفينة وكان معه ألف درهم، أو ألف ألف درهم على رواية أخرى، وكان ينفقها من أجل طلب العلم، فجاء رجل فنظر في الناس فوجد أن أحسنهم سمتاً وخلقاً وأفضلهم عبادة هو البخاري ، فدخل عليه فقال: رأيت فيك الخير، وما رأيتك إلا وذكرت الله، فأريد أن أخاللك في هذه السفرة، لنتعاون على طاعة الله، فجلس معه وقال له: معي من المال كذا وكذا أتاجر فيه، فهل معك من مال؟ -وكان البخاري لا يكذب في حديث الناس فضلاً أن يكذب في حديث النبي صلى الله عليه وسلم- فقال: معي ألف درهم، أو ألف ألف درهم- كما في رواية- فبات الرجل والشيطان يلعب بقلبه، ويوسوس له كيف يأخذ المال من البخاري؛ ولذلك يقول الله تعالى وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ [الأنعام:121] .
فعندما طرق الطارق وبزغ الفجر قام صارخاً يبكي ويتباكى، ويقول: إن أمواله قد سرقت، فالتف حوله الناس في السفينة، فقال لهم: سرق مني ألف ألف درهم، قالوا: سرقت منك كيف ذلك؟ قال: بت الليل ومعي ألف ألف درهم، فما أصبحت إلا وقد سرقت، فقال حكيم منهم: إن سرقت ونحن في البحر، فلا بد من البحث عن المال عند أهل السفينة جميعاً، حتى نرى من الذي سرق منك مالك، فقاموا جميعاً يبحثون عن الألف ألف درهم، حتى ما بقي إلا البخاري ، فدخلوا عليه وفتشوا مكانه فلم يجدوا شيئاً البتة، فلما لم يروا ذلك قالوا: إنك رجل مجنون! فذهب الرجل يبكي على ما فعل، وقال للبخاري : بالله عليك أين وضعت المال؟ -وهو يعلم يقيناً أن البخاري لا يكذب- فقال: المال في البحر قال: ألقيت ألف ألف درهم في البحر؟ قال: أتحسب أن مروءتي تساوي ألف ألف درهم، وحافظ البخاري على مروءته، فهو الذي يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يقال فيه مرة: اتهم بالسرقة فيضعف حديثه، ففاز البخاري رحمه الله بفعله.
والحديث عن هؤلاء كثير فقد كانوا ينزهون أنفسهم دائماً عن النقائص والمعايب، حتى إن البخاري نفسه لما رأى قول الله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة [الهمزة:1]، وكان جالساً في مجلس العلم، وشيخه في مجلس التحديث يملي عليهم الحديث، فأشار شيخه بيده، فتبسم البخاري لإشارة شيخه، فخشي أن تكون هذه من الغيبة أو يحل عليه العقاب الوارد في هذه الآية فذهب يتحلل من شيخه. وهذا من شدة ورعه رحمه الله، وبعده عن النقائص والمعايب.
ودخل ابن عمر على نافع وهو يصلي حاسراً عن رأسه، فاشتد غضبه عليه، فلما انتهى من الصلاة قال: يا نافع! أتخرج في الأسواق في هذا -أي وأنت حاسر عن رأسك- قال: لا، قال: فالله أحق أن تستحي منه. هكذا كانوا ينزهون الله ويعطمونه رضي الله عنهم.
نسأل الله أن يجعلنا ممن يتعبدونه بالتسبيح والتنزيه عن كل عيب ونقص.
وهذه الصفة من الصفات الثبوتية الذاتية التي ثبتت بالكتاب، والسنة، وبإجماع أهل السنة.
أما بالكتاب: فقد قال الله تعالى: هُوَ اْللهُ اْلَّذِيْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوْ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ [الحشر:23] .
وأما السنة: ففي الصحيح عن ابن مسعود: أن الصحابة كانوا يقولون: (السلام على الله، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو السلام)، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انتهى من الصلاة يقول: (اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام). ففي هذا تصريح بأن الله هو السلام، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على إثبات هذا الاسم له سبحانه.
والذي يتعبد يرى أن السلام لا يكون إلا من الله جل وعلا؛ لأنه هو السلام، وأن الله جل وعلا وضع بين الناس السلام في ابتداء المخاطبة وعند اللقاء، ولذلك ورد في السنن بسند صحيح أن الله جل وعلا لما نفخ الروح في آدم وصلت إلى أنفه فعطس، فقال: الحمد لله، فقال له الله جل وعلا: يرحمك الله يا آدم! وأمر أن يذهب إلى الملائكة فيسلم عليهم، فذهب وقال: السلام عليكم، فقالوا: عليكم السلام ورحمة الله، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك من بعدك.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن تحية أهل الإسلام هي: السلام عليكم ورحمة الله، وردها: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وكأن المسلم يقول: أسأل الله أن يسلمك من كل شر وسوء، وأن يجعل لك ومعك السلام في الدنيا والآخرة.
والمتعبد لله بهذه الصفة يعتقد اعتقاداً جازماً أن الله جل في علاه سيسلم قلبه من النقائص، ويسلمه في الآخرة من كل سوء وشر، ثم يفوز بدخول الجنة، قال الله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [يونس:10] .
فنسأل الله جل في علاه أن يدخلنا الجنة دار السلام، وأن يجعلنا من أهل السلام، وأن يجعلنا من دعاة السلام الحق، وممن يتقدم بين يدي طاعته بالسلام.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر