إسلام ويب

وقفات مع السبع المثانيللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ عن فضائل سورة الفاتحة وعن كثرة أسمائها وعن فرضية حفظها على كل مسلم، ثم شرع في تفسيرها في خمس وقفات: تطرق خلالها لمعاني أسماء الله (الله، رب) ثم للعبادة والاستعانة، ثم عن الحمد والثناء.

    1.   

    فضائل فاتحة الكتاب

    الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    هذه السورة العظيمة إنما اخترنا البداءة بها؛ لا لأننا سوف نبدأ في التفسير من أول القرآن؛ فإن هذا الأمر قد يطول، وسبق أن ذكرت أن كثيراً من أهل العلم وأصحاب الدروس إذا بدءوا؛ بدءوا بأول القرآن، وقد ينقطعون عن آخره، ولهذا ستكون بدايتنا إن شاء الله تعالى من المفصل، وفي الأسبوع القادم بإذن الله عز وجل سنقرأ الوجه الأول من سورة (ق والقرآن المجيد).

    وإنما بدأت بهذه السورة لمسيس الحاجة إليها؛ فإن كل إنسان مسلم يقرأ هذه السورة في اليوم الواحد مرات بعدد ركعات الصلوات، ذلك لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري من حديث عبادة: {لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب} وقد ذكر الشراح في معنى الحديث أنه يقرأ بها في كل ركعةٍ من صلاته، وليست قراءته لسورة الفاتحة في ركعة بمجزئة عن قراءته لها في كل الركعات، بل لابد أن يقرأ سورة الفاتحة في كل ركعة، خاصة إن كان إماماً، أو منفرداً أو كان في صلاة سرية، أو كان مأموماً في صلاة سرية.

    فدل هذا على عظيم وقع هذه السورة وجليل قدرها، وأنه ينبغي على كل مسلم -فضلاً عن طالب العلم- أن يتأمل في معانيها.

    أسماء سورة الفاتحة

    ولهذه السورة أسماء كثيرة، وكثرة أسمائها أيضاً مما يدل على عظيم قدرها، فهي سورة الفاتحة وقد سماها النبي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب؛ وذلك لأنها أول ما يُقرأ من القرآن الكريم، فهي أول سورة في الكتاب المكتوب (القرآن الكريم) أي أنها ليست أول سورة نـزلت، ولكنها أول سورة مكتوبة، فهي أول سورة في الكتاب؛ ولهذا سميت فاتحة الكتاب، أي فاتحة الكتاب المكتوب.

    وهي أيضاً أم القرآن، وهكذا سماها النبي صلى الله عليه وسلم؛ وإنما سميت أم القرآن -والله أعلم- لأن معاني القرآن الكريم ترجع إلى هذه السورة، فهي شاملة للمعاني الكلية والمباني الأساسية التي يتكلم عنها القرآن.

    وهي أيضاً السبع المثاني، وذلك لأنها سبع آيات تقرأ مرة بعد مرة، وهي أيضاً -كما سبق- شاملة للمعاني الكلية في القرآن الكريم، ولهذا سميت بالمثاني.

    وهي القرآن العظيم، فقد سماها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: {وهي السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيته}.

    وهي سورة الحمد؛ لأنها بدأت بحمد الله عز وجل: الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

    بل سماها الله عز وجل الصلاة! كما في الحديث القدسي في البخاري قال الله عز وجل: {قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: حمدني عبدي} إلى آخر الحديث فسماها (الصلاة) وذلك لأمرين:

    لأن الفاتحة ذكر ودعاء، ففيها دعاء وتبتل إلى الله بأعظم مطلوب وهو الهداية: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فسميت السورة ببعض أجزائها وببعض معانيها وهو الدعاء، ومن المعلوم أن الدعاء في اللغة يسمى: صلاة، كما قال الله عز وجل: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي ادعُ لهم، قال الشاعر:

    تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً           يا ربِّ جِنِّبْ أبي الأوصاب والوجعا

    عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي      نوماً فإن لجنب المرء مضطجعا

    أي: لك من الدعاء مثل الذي دعوت به لي، فالصلاة هي الدعاء.

    وقد تكون السورة سميت بالصلاة لمعنى آخر، وهو أنها لا تصح الصلاة إلا بها -كما سبق- فهي ركن في الصلاة؛ فلذلك سميت صلاة.

    إلى غير ذلك من الأسماء التي تدل على عظيم هذه السورة، وجليل قدرها، ووجوب العناية بها.

    فرضية حفظها على كل مسلم

    ويكفي في شرفها أنه لا يكاد يوجد مسلم في الدنيا إلا ويحفظها، حتى إن الإنسان أول ما يدخل في الإسلام وينطق بالشهادتين، يُحفَّظ سورة الفاتحة قبل غيرها؛ حتى تصح بها صلاته، ولو أن الإنسان اقتصر عليها في الصلاة لصحت صلاته، فما زاد عنها فهو نفل مستحب وليس بواجب.

    1.   

    وقفات في تفسير الفاتحة

    وفي هذه السورة معانٍ ووقفات:

    الوقفة الأولى: مع الأسماء الحسنى

    قوله: "بسم الله الرحمن الرحيم" وقد اختلف أهل العلم: هل هذه الآية آية من الفاتحة، أم هي آية من القرآن، أم هي آية من كل سورة.. ولا أدخل في هذا الخلاف الفقهي؛ فربما سبق ذكر شيء منه في بعض الدروس، ولكن المقصود أن كل سورة في القرآن تبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم" وفي هذه السورة بالذات قال: الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:2-3] فأعاد هذين الوصفين العظيمين لله تعالى.

    أ/ الله:

    ففي السورة إذاً ذكر أسماء الله عز وجل: أولها:"الله"وهو الاسم الأعظم لله عز وجل الذي تلحق به الأسماء الأخرى، ولا يشاركه في هذا الاسم غيره فلم يتسمَّ به أحدٌ قط!

    والله هو الذي تأله إليه القلوب بالمحبة والشوق والحنين، حتى إنك تجد المسلم يدعو الله تعالى بقوله كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك} فمن جهة معاني هذا الاسم "الله" أن القلوب تأله إليه، أي تحن إليه وتشتاق إلى لقائه ورؤيته، وتأنس بذكره.

    وأيضاً "الله" بمعنى الذي تحار فيه العقول، فلا تحيط به علماً، ولا تدرك لـه من الكنه والحقيقة إلا ما بَيَّنَ سبحانه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تعلم كيفية ذاته سبحانه، ولا تحيط به العقول فتحار فيه، وإذا كانت العقول تحار في بعض مخلوقاته في السماوات والأرض والبر والبحر.. فكيف بذاته جل وعلا؟!

    فالعقل يرتد خاسئاً حسيراً عن إدراك ذات الله جل وعلا، ولهذا قال: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً [طه:110] حتى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة: {إنه ينطلق فيخر ساجداً تحت العرش، فيحمد الله تعالى بمحامد يعلمه إياها لا يعلمها الآن} فيفتح الله جل وعلا عليه من العلم به آنذاك ما لم يكن لديه من قبل.

    إذاً "الله" هو الذي تَحِنُّ إليه القلوب، "والله" هو الذي تحار فيه العقول...!

    فهذه هي بعض معاني الألوهية، وعلى كل حال فإن من المعنى أنه: "الإله المعبود المتفرد" ولهذا جاء هذا الاسم وهو "الله" في الشهادة، فإن المؤمن يقول: (أشهد أن لا إله إلا الله) ولم يقل مثلاً: (أشهد أن لا إله إلا الرحمن) أو (إلا الرحيم) مع أن الرحمن والرحيم من أسمائه جل وعلا، لكن أطلق هذا الاسم العلم الذي هو أصل لكل الأسماء الأخرى، فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله" اعترافاً بأنه لا معبود بحق في الكون إلا الله عز وجل، وأما المعبودات بالباطل فهي كثيرة: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ [الحج:62].

    ب/ الرحمن الرحيم:

    الاسم الثاني: المذكور هو "الرحمن" والاسم الثالث هو "الرحيم"، والرحمن الرحيم: مأخوذ من الرحمة، وقيل: الرحمن رحمة عامة بجميع الخلق، والرحيم رحمة خاصة بالمؤمنين، كما قال عز وجل: وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [الأحزاب:43] وقيل إن الفرق بينهما أن اسم الرحمن بالنظر إلى وجود الصفة، وأما الرحيم فبالنظر إلى متعلقها في الخلق، أي: حصول أثرها في الخلق برحمته تعالى لهم، وقد أشار إلى هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فهو رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما.

    وهاهنا ينبغي أن نتأمل سراً من أسرار تكرار هذا الاسم -الرحمن الرحيم- فإن الإنسان إذا أراد أن يقرأ قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يدخل قال: بسم الله الرحمن الرحيم، وإذا أراد أن يخرج قال: بسم الله، وإذا أراد أن يأكل قال: بسم الله، وإذا أراد أن يخطب أو يتكلم قال: بسم الله، حتى جاء في الحديث عند النسائي وغيره أن: {كل أمر ذي بال لا يبدأ ببسم الله -وفي رواية- "بالحمد لله" فهو أبتر أو أقطع أو أجذم} والمعنى ناقص البركة، وفي الحديث مقال على كل حال، لكن من المعلوم أن الاسم يقال هكذا: "بسم الله الرحمن الرحيم" فلم يقل أحد من الناس قط بسم الله المنتقم الجبار، أو بسم الله العزيز الحكيم، مع أن هذا حق، وإنما قيل "بسم الله الرحمن الرحيم".

    وفي هذا إشارة إلى قوله عز وجل في الحديث القدسي عند البخاري وغيره: {إن رحمتي سبقت غضبي} وفي الحديث الآخر أيضاً في الصحيح: {إن الله تعالى جعل مائة رحمة، فأنـزل منها رحمة واحدة في الدنيا، وبها يتراحم الناس، وبها ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه، وادخر تسعة وتسعين رحمة إلى يوم الحساب} ففي ذلك إشارة إلى عظيم رحمته جل وعلا وأنها تسبق غضبه، ولذلك ينبغي ألا يقنط الإنسان من رحمة الله مهما أسرف على نفسه من الذنوب والمعاصي: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].. قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ [الحجر:56].. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ [يوسف:87] ولهذا كان اليأس من رحمة الله والأمن من مكر الله من صفات الكافرين، وهكذا ينبغي للإنسان أن يتشبث أبداً بطلب رحمته جل وعلا، وأن يُعَلِّم الناس الثقة برحمته سبحانه.

    وكثيراً ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه الرجاء فيما عند الله عز وجل، وأن تكونَ ثقةُ الإنسان بالله وبرحمته أعظمَ من ثقته بعمله؛ فإن عمله قد لا يقبل؛ فقد يداخله الرياء والعجب أو عدم الإخلاص، أو لا يكون على وفق ما شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَيَردُّ على صاحبه، لكن يكون اعتماد العبد على رحمة الله جل وعلا، وهكذا ينبغي أن يدعو الناس والعصاة إلى الله عز وجل لتذكيرهم برحمته، مع أنه ينبغي أن يقرن هذا بتذكيرهم بعقوبته: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] لكن الناس دائماً وأبداً محتاجون إلى تذكيرهم برحمة الله جل وعلا.

    ونحن الآن نجد أن كثيراً من الناس -ربما من طلبة العلم أو من الدعاة- من يفيضون كثيراً في الحديث عن الوعيد والتشديد والتخويف والترهيب، وهذا أحد أوجه التربية التي جاء بهما القرآن والسنة، ولكن ينبغي العدل، وربنا جل وعلا يقول: { رحمتي سبقت غضبي } وعلّمنا أن نستفتح ونبدأ باسمه "الرحمن الرحيم" حتى إن الإنسان الذي يريد أن يتكلم مثلاً عن النار بماذا سيبدأ؟ سيقول في أول حديثه: "بسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم مثلاً عن نواقض الإسلام سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، والذي يريد أن يتكلم عن الحدود الشرعية سيبدأ "ببسم الله الرحمن الرحيم"، فينبغي أن يعطى هذا الحديث قدره عند الناس، ويذكروا دائماً بأن يتعلقوا بالله جل وعلا الرحمن الرحيم.

    ج/ الله والرحمن من أسماء الله الخاصة:

    فهذه هي الأسماء الثلاثة المذكورة في هذه السورة، لكن هنا فائدة وهي: أن اسم "الرحمن" كاسم "الله" لا يسمى به غير الله، ولم يتسَمَّ به أحدٌ؛ فالله والرحمن من الأسماء الخاصة به جل وعلا، لا يشاركه فيها غيره، ولهذا قال سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ [الإسراء:110] أما الأسماء الأخرى فقد يسمى أو يوصَفُ بها غير الله، كالرحيم والسميع والبصير كما قال سبحانه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128] يعني رسوله صلى الله عليه وسلم، وكما قال إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الإنسان:2] أما اسم " الله " "والرحمن" فلا يسمى بهما غيره سبحانه.

    الوقفة الثانية مع حمد الله والثناء عليه

    ثم استفتح السورة بالحمد حتى سميت باسم الحمد:

    "الحمد لله رب العالمين"

    والحمد: هو الثناء على المحمود بإفضاله وإنعامه، أما المدح: فهو الثناء عليه بصفات الجلال والجمال والكمال، إذاً فالحمد ثناء على الله تعالى بما أنعم عليك وما أعطاك، فإذا قيل: "إن فلان حمد فلاناً" فمعناه أنه شكره على إحسانٍ قدمه إليه، لكن إذا قيل: "مدحه" فلا يلزم أن يكون مدحه بشيء قدمه لـه؟ بل قد يكون مدحه -مثلاً- بفصاحته وبلاغته، أو مدحه بجماله، وقد يكون مدحه -وهو من المخلوقين- بجسمه وقوته، أو بغناه إلى غير ذلك، فهذا الفرق بين الحمد والمدح أن الحمد ثناء على المحمود بإحسانه وإنعامه وإفضاله إلى العبد الحامد، أما المدح فهو ثناء عليه بصفات الجمال والجلال والكمال مطلقاً، فالحمد فيه معنى الشكر ومعنى الاعتراف بالجميل وهذه هي الوقفة الثانية.

    فالوقفة الثانية أن السورة تبدأ بالاعتراف، والاعتراف لـه معنى عظيم؛ لأنه إقرار من العبد بتقصيره وفقره وحاجته، واعتراف لله جل وعلا بالكمال والفضل والإحسان، وهو من أعظم ألوان العبادة، ولهذا قد يعبد الإنسان رَبَّه عبادة المدل المعجب بعمله، فلا يُقبل منه عمل، بل يُرد عليه ويُجعل هباءً منثوراً؛ لأنه داخله إعجابٌ، والإعجاب لا يتفق مع الاعتراف والذل، فلا يدخل العبد على ربه من باب أوسع وأفضل من الذل لـه والانكسار، بل هذا هو معنى العبادة المذكورة في قوله "إياك نعبد"، تقول العرب: (هذا طريق معبد) أي: تطؤه الأقدام، فالعبادة من أعظم معانيها: الذل لـه سبحانه.

    ولهذا تجد النبي صلى الله عليه وسلم كان كثير الاعتراف لله تعالى والاعتراف على نفسه بالنقص والظلم، فكان يقول صلى الله عليه وسلم -كما علّم أبا بكر-: {اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت...} إلى آخر الدعاء، وكان يقول: {اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعتُ، أبوءُ لك بنعمتك عليّ وأبوءُ لك بذنبي...} حتى الدعاء (اللهم اغفر لي) فيه الاعتراف على النفس بالذنب والنقص، والاعتراف لله تعالى بأنه هو الغفور الرحيم.

    فابتداء السورة بـ(الحمد لله رب العالمين) فيه معنى الاعتراف بالنعمة كما بينت ذلك، ولا شك أن عكس الاعتراف هو الإنكار والجحود، والذنب الذي كفر به إبليس هو الجحود، فإبليس يعرف ربه ويدعو الله تعالى باسمه: (فبعزتك) يحلف بالله تعالى، ويسأل الله تعالى (رب فأنظرني) ويؤمن بيوم القيامة: قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الأعراف:14] ولكن ذنبه هو الجحود والاستكبار عن الطاعة والعبادة، وهكذا قال عز وجل عن فرعون وقومه: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً [النمل:14] فإذا قال العبد: (الحمد لله) تبرأ من هذا كله، وكأن أول ما تدل عليه هذه الكلمة أن العبد وهو واقف يقول: أعترف بأنني عبد محتاج فقير ذليل مقصر، وأنك الله المنعم المتفضل، فهذا فيه معنى الحمد، فأنا أحمده على فضل منه عليَّ في ديني ودنياي.

    الْحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] وهذه كلها أسماء لله، فهو الرب: رب العالمين.

    والرب معناه الخالق أولاً ثم المالك ثم المتصرف، فهو خالقهم ومالكهم والمتصرف فيهم.

    الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] أي: يوم يدان الناس بعملهم، ويُجازَون به خيراً أو شراً.

    فبعد ما اعترف لله بقوله: "الحمد لله" زاد الاعتراف قوةً وثباتاً بأن أثنى على الله سبحانه بصفاته تلك وأسمائه، فهو "رب العالمين" الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وهو مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] وفي قراءة سبعية: (ملك يوم الدين) بالقصر بلا مد، وكل ذلك جائز أن يُقرأ به في الصلاة: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] أو: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4].

    الوقفة الثالثة: مع الهداية

    عند قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    أولاً: الإنسان الآن واقف يصلي أو يقرأ القرآن، ومعنى ذلك أنه مسلم، ومع ذلك يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] والمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم حتى لا ننحرف عنه أو نـزيغ؛ لأن من الممكن أن يكون الإنسان اليوم مهتدياً وغداً من الضالين؛ ولهذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] أي ثبتنا عليه، وهذا معنى، وأيضاً من معانيها: قوِّ هدايتنا؛ فالهداية درجات، والمهتدون طبقات: منهم من يبلغ إلى درجة الصديقية، ومنهم من يكون دون ذلك وبحسب هدايتهم نكون منازلهم في الجنة، وبحسبها تكون سيرهم على الصراط، فإن لله تعالى صراطين: صراط في الدنيا، وصراط في الآخرة، وسيرك على الصراط الأخروي هو بقدر سيرك على الصراط الدنيوي، فالصراط الدنيوي هو طريق الله: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [الشورى:53].. وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً [الفتح:2] اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فهذا صراط الدنيا بطاعة الله فيما أمر واجتناب ما نهى عنه، وبقدر استقامة العبد عليه يكون سيره على الصراط الأخروي الذي هو الجسر المنصوب على متن جهنم وهو دحض مزلة، يمشي الناس فيه بقدر أعمالهم، فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالركاب، ومنهم من يمشي، ومنهم من يمشي تارة ويهوي أخرى.

    فهو يقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: قوِّ هدايتنا، وزَوِّدْ إيماننا، وعَلِّمْنا، ولهذا قال سبحانه: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه:114] فالعلم من الإيمان، ومن التزام الصراط المستقيم أن يزداد علماً، قال سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً [التوبة:124] فزيادة الإيمان هي زيادةُ ثباتٍ على الصراط المستقيم: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً [محمد:17] وهذا نص في الموضوع، وأيضاً: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً [الكهف:13] فإنه من الممكن أن يكون الإنسان مهتدياً ثم يزداد من الهداية ويزداد بصيرة وعلماً ومعرفةً وتمسكاً ويزداد دعوةً وصبراً، إلى غير ذلك، فهذا من معاني قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].

    ومن معانيها أيضاً -وهو معنى لطيف- أن العبد إذا قال هذا، فهو يعلم بذلك أن لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم في كل أمر أو مسألة يلم به من أمور الدنيا حكماً، إما إيجاب أو استحباب أو إباحة أو كراهة أو تحريم، والعبد قد يجهل هذه الأحكام أولاً فلا يعلمها، وقد يعلمها ولكنه لا يعمل بها، لغلبة النفس والهوى والشيطان، وهذا المعنى من أعظم المعاني الذي أريدُ أن تنتبهوا لها.

    ومن معاني طلب الهداية أيضاً في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أن فيها إشارة إلى أن العبد محتاج إلى الهداية في كل موقف، وكل حال تمر به، وفي كل مسألة تواجهه؛ لأن هذه المسألة التي واجهته، فيها هداية وفيها ضلال، فيها خطأ وصواب، فيها حق وباطل، ولله ورسوله صلى الله عليه وسلم فيها حكم؛ فأنت محتاج إلى أمرين:

    أولاً: معرفة الحكم، أي ماذا يريد الله ورسوله منك في هذه المسألة.

    ثانياً: العمل بهذا الحكم.

    فمن الهداية حين تقول: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أي: يا رب، عرفنا ما تحب وترضى في كل ما يواجهنا من أمور الحياة، وقَوِّنا على العمل بهذا الذي عرفناه.

    وسر الضلال يرجع إلى أحد أمرين:

    إما الجهل فمثلاً: إنسان وُلِدَ له ولدٌ فهذه حادثةٌ نـزلت به، فيحتاج فيها إلى أنه أول ما يولد الولد -مثلاً- إلى اسم، والاسم من الأشياء العادية، فإذا أراد أن يسمي ولده، فقد يكون الأب جاهلاً، فيسمي ولده باسم غير شرعي، مثل التعبيد لغير الله، فيسميه مثلاً: عبد المطلب، فهذا من الأسماء الموجودة عند المسلمين الآن، أو يسميه بأسماء الشياطين أو بأسماء الفراعنة! فرعون: وهذا اسم موجود حتى عند المسلمين أيضاً! وهذه مسألة قد يراها الإنسان عادية أو بسيطة لكنها مثال يدل على الجهل.

    إذاً سبب الخطأ هنا: الجهل، فمن الهداية أن يكون الإنسان عالماً لئلا يقع في الخطأ وهو جاهل، فأنت حين تقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] أي: تقول أولاً: (يا رب علمنا الحق الذي تريده في كل مسألة تنـزل بنا) حتى لو كانت مسألة يراها العبد صغيرة، مثل: مسألة تسمية المولود، فمن الهداية -هداية الصراط المستقيم- هداية العبد فيما يتعلق بتسمية الولد، لأن سبب الضلال -أولاً- الجهل.

    وقد يرتفع الجهل بالعلم فيكون الإنسان عالماً، ولكن ليس لديه الهمة والقوة القلبية التي تجعله يعمل بهذا العلم، فيرتكب الخطأ عمداً، مثال: أكل الربا، فالمال بطبيعة الحال محبوب: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8] ولذلك لا يكفي أن يعرف الإنسان أن ذلك حرام ليجتنبه، بل تجد أن الإنسان قد يعرف أنه حرام، ومع ذلك يقول: عسى الله أن يغفر لنا، وأنا معترف بأن هذا المال من طريق غير مشروع، بل قد يسرق المال، فالسارق لا يجهل أن السرقة حرام حتى لو لم يكن لديه علم؛ لأنه يعرف أن هذا أخذ مال الغير، فالفطرة تقول له: إن هذا لا يسوغ ولا يعقل أن تعتدي على الآخرين وتأخذ أشياءهم، ولكنه يفعل السرقة مع علمه بمنعها وبتحريمها، فيفعلها لضعف الإيمان في قلبه وضعف الوازع والرادع الديني.

    فيحتاج العبد من أجل الهداية إذاً لأمرين:

    الأول: العلم لئلا يقع في الضلال عن جهل.

    والثاني: العمل بالعلم عن طريق وجود إيمان قوي في قلبه يحدوه للعمل.

    فإذا قال: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] كأن المعنى: عرِّفنا الحق، أي: نعرف الحق أولاً ثم نعمل به ثانياً.

    فطرق الضلال إذاً: إما الجهل فيرتكب الخطأ جهلاً، وإما الهوى فيترك الحق ويفعل الخطأ مع علمه بذلك الخطأ.

    إذاً كوني أقول في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] إشارة إلى أنني أحتاج الهداية على الدوام، فإذا ولد لي ولد احتجت الهداية في تسميته، ثم احتجت الهداية في كل العادات المتعلقة بولادته، وإذا أراد الإنسان مثلاً أن يصلي احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يصلي، وإذا أراد أن يتاجر احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يتاجر، وإذا أراد أن يبني احتاج إلى الهداية ليعرف كيف يبني، وإذا أراد أن يزرع، أو يأكل، أو يشرب، أو ينام وهكذا كل لحظة يحتاج إلى هداية.

    الوقفة الرابعة: البراءة من المغضوب عليهم والضالين

    اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] وهذا تأكيد للمعنى السابق، ولذلك قلت لكم: انتبهوا إلى هذا المعنى لأهميته، ولذلك يعاد مرة بعد أخرى.

    فقوله: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) أي الذين حازوا على الهداية التامة ممن: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً [النساء:69] ثم قال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فالمغضوب عليهم هم اليهود، والأولى أننا ما نقول: هم اليهود، لكن نقول: كاليهود، لأن الغضب هل هو محصور في اليهود؟ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ [النساء:93] وفي الحديث في البخاري {من حلف على يمين صبر ليقتطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان} {إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها بات الذي في السماء ساخطاً عليها} وفي قصة الثلاثة من بني إسرائيل: الأبرص والأقرع والأعمى، قال: {إن الله قد رضي عنك وسخط على صاحبيك}.

    إذاً.. هل الغضب والسخط خاص بـاليهود؟ ليس خاصاً بهم، وإنما اليهودُ مجردُ مثالٍ للمغضوب عليهم، لكن القاعدة في المغضوب عليهم سواء كانوا اليهود أم غيرهم: لماذا غضب الله عليهم؟ لأنهم مهتدون أو ضالون؟ لأنهم ضالون لا شك، أي أنهم لم يهتدوا إلى الصراط المستقيم، وما سبب عدم هدايتهم؟ هل هو الجهل أم الهوى؟ الهوى، فـاليهود معهم علم ولم يعملوا به، ولهذا قال بعض السلف: من ضل من علماء هذه الأمة ففيه شبه بـاليهود، لأنهم يعلمون ولكنهم يرتكبون الخطأ عمداً وإصراراً، فيتعوذ الإنسان من حالهم وطريقهم، فمن الهداية أن يكون عند الإنسان العزيمة والقوة على فعل الحق وترك الباطل.

    وقدم -والله أعلم- المغضوب عليهم، فقال: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ لسبب وهو أن أمرَهم أصعبُ وأشقُّ على النفس، بمعنى أن الإنسان إذا كان ضلاله بسبب الجهل كيف يرفع الضلال حينئذٍ؟ بالعلم، والتعليم وليس صعباً، أي: كون الإنسان مثلاً يصلي ولا يقول: "سبحان ربي الأعلى" في سجوده، هذا هل تحقق لـه كمال الهداية أولم يتحقق؟ لم يتحقق، كيف نستطيع أن نهديه -بإذن الله تعالى- في هذه المسألة؟ يكون بالتعليم، نقول لـه: إذا سجدت فقل: "سبحان ربي الأعلى" كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول، فتجد أن هذا الإنسان يقول: "جزاك الله خيراً!"، أنا جاهل وأحتاج أن أتعلم، ويدعو لك ويقبل منك، ثم يبدأ يعمل بهذا العلم، فدفع الجهل ورفعه يكون بالعلم، وهو أمر ميسور.

    أما الإنسان إذا كان عالماً أصلاً ولكنه لا يعمل، فما هي الحيلة فيه؟ كل ما تريد أن تقوله له فهو موجود لديه، مثال: إنسان يدخن ولأنه يدخن صار معنياً بموضوع التدخين، يقرأ فيه ويتابع التقارير والأخبار، فتجد أنه يكون لديه ثقافةٌ ممتازةٌ عن التدخين وخَطَرِ التدخينِ ومحتويات هذه السيجارة، حتى إنه مستعد أن يلقي محاضرة قوية جداً عن التدخين، ولكنه ومع ذلك كله يدخن، فما هي الحيلة مع هذا الإنسان؟ هل ينفعه العلم ويرفع عنه ما هو فيه؟ لا. لأن القضية بالنسبة له ليست علماً، ولكنها فقدان الإرادة والعزيمة على الفعل، فأخطر ما يكون هو هذا.

    ولذلك جاء الوعيد الشديد في شأنه حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري عن أسامة بن زيد: {يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتاب بطنه، فيدور فيها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان! مالك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! قال: بلى! -هذا الإنسان عالم أم غير عالم؟ عالم لأنه يعلم المعروف والمنكر، بل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولكنه لا يعمل! ولهذا قال-: كنت أمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه} ولهذا كان بهذه المثابة من العذاب.

    وكان من أخطر ألوان انحراف اليهود أنهم يعرفون الحق ثم يعرضون عنه ويلبسونه بالباطل، ولهذا قدم المغضوب عليهم على الضالين: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] والضالون: هم النصارى، والأولى أن يقال: كالنصارى، فيكون هذا مثالاً فقط، وإلا فالضلال ليس محصوراً في النصارى، فالله تعالى وصف ووسم بالضلال في كتابه أصنافاً من الخلق، وليس الأمر محصوراً بهم، ولكنهم هم أولى من يصلحون مثالاً للضلال، وما سبب ضلال النصارى؟ سبب ضلال النصارى هو الجهل.. هذا في الأصل، ولا يمنع أن يكون طرأ عليه في هذا الزمان مع الجهل العناد والإصرار بعدما زال الجهل عن بعضهم.

    والمقصود أننا الآن أمام ثلاثة اتجاهات أو ثلاث طرق:

    الطريق الأول: الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وهذا الطريق والصراط يقوم على ركنين: أولهما: العلم، والثاني: العمل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ [التوبة:33] وهما: العلم النافع والعمل الصالح، فهذا هو الصراط المستقيم.

    الطريق الثاني: صراط المغضوب عليهم من اليهود وغيرهم، وصراط المغضوب عليهم اختل فيه ركن وهو العمل، فهم يعرفون الحق ولكنهم لا يعملون به.

    والطريق الثالث: هو صراط الضالين أو طريق الضالين، وقد اخْتَلَّ فيه ركن وهو العلم، فهم قد يعملون ولكن بغير علم، ولهذا قال بعض السلف أيضاً: من ضلَّ من عُبَّاد هذه الأمة ففيه شبه من النصارى، كبعض الطرق الصوفية التي تعبد الله على جهل وضلالة ففيهم شبه من النصارى؛ لأنهم يعبدون الله ولكن على جهل وضلال، فهذا المعنى العظيم واردٌ في قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] مع أن الإنسان مهتدٍ إلى الإسلام، ولكن مع ذلك يطلب مزيداً من الهداية، أي: مزيداً من العلم والعمل والتوفيق في كل حالة ومسألة تنـزل به، ثم أعاده في قوله: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] فهؤلاء اختل عندهم ركن العمل وهؤلاء اختل عندهم ركن العلم.

    الوقفة الخامسة مع العبادة والاستعانة

    الوقفة الأخيرة: وكان حقها أن تكون قبل الأخيرة في قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فإن هذه الآية فيها معنى من أعظم المعاني، ففي أولها الاعتراف لله تعالى بالعبودية وأن الإنسان لا يعبد إلا الله، وهذا أصل التوحيد، وما بعث الرسل إلا بهذا الأمر العظيم: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ [هود:2] والشرك في الألوهية من أخطر ألوان الشرك الذي بليت به الأمم كلها حتى تسرب إلى الأمة الإسلامية، فصار كثير منهم يعبدون غير الله.

    فالشرك في الألوهية هو أخطر ألوان الشرك على الإطلاق؛ لأن قضية الربوبية وهي الاعتراف بالله عز وجل هذا موضوع تقر به الفطر والنفوس، ولا يحتاج إلى تقرير كبير، وموضوع الأسماء والصفات أيضاً حصل فيه انحراف ولكنه لا يقاس بالانحراف الذي حصل في موضوع الشرك في توحيد الألوهية، ولهذا ينبغي أن نعتني كثيراً بدعوة الناس إلى توحيد الألوهية، لأنه أصل الدين وأساس التوحيد.

    فقولك: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] قُدّم الضمير فيه: إشارة إلى التخصيص، أي: لا نعبد إلا إياك، لا نعبد إلا الله، فهو حصرٌ وقصرٌ.

    وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: لا نطلب إلا عونك، فلا نستعين بغيرك، ولا نستغني عن فضلك، فمن الناس من يستعين بغير الله، وهؤلاء ما حققوا: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ومنهم من قد يستعين بالله وبغيره، ومنهم من قد لا يستعين بالله تعالى فلا يكون حقق هذا، فقولك: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فيه إثبات الاستعانة بالله ونفي الاستعانة عمن سواه.

    إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] ولهذا قال الله تعالى في الحديث القدسي: {هذا بيني وبين عبدي} فقول: "إياك نعبد" هذا حق الله تعالى على العبد كما في حديث معاذ: {حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً} فأنت تقر به وتعترف في قولك: "إياك نعبد" وأما قولك: "وإياك نستعين" فهو استعانة العبد بالله عز وجل؛ إذ لا قوام له حتى على التوحيد إلا بعون الله: وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43] فضلاً عن غيره من أمور الدنيا والآخرة.

    خاتمة:

    أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم ممن هدوا إلى الصراط المستقيم، ورزقوا العلم النافع والعمل الصالح، وجنبوا طريق المغضوب عليهم والضآلين.. آمين!

    كما أسلفت إن شاء الله في الأسبوع القادم في مثل هذا اليوم سوف نقرأ الوجه الأول من سورة (ق) وهكذا نظل في كل أسبوع -إن شاء الله- نقرأ وجهاً.

    ولا يغيب عن بالكم استحضار النية الصالحة في هذا المجال؛ فالعبد الآن يقرأ كلام الله ويسمع شرحه وتفسيره، فإذا استحضر النية رجا أن يكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم.....الخ } فيرجو العبد الرحمة ونـزول الملائكة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755795107