إسلام ويب

بين الصورة والحقيقةللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تنقسم الأعمال إلى حقائق وصور، فالحقائق هي: معرفة فوائد هذه الأعمال وتطبيقها بإيمان وانتظار لوعد الله فيها، والصور هي: اتخاذها عادة يقوم بها الإنسان بشكل روتيني يخلو من قوة وهمة تدفعه للمعالي، وفرق بين مجتمع الصحابة مجتمع الحقائق، ومجتمعنا مجتمع الصور، فالمطلوب هو الحرص -أولاً- على تحويل العلم إلى عمل، ثم تحويل العمل إلى حقائق بدل كونه صوراً -كما هو حاصل كثيراً والله المستعان.

    1.   

    فائدة المخيمات

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد:

    أيها الإخوة: أحييكم في بداية هذا المخيم المبارك، وأسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يجعل هذه الأيام والليالي التي نقضيها خيراً لنا في ديننا ودنيانا، وأن يجعلها وسيلة للود والمحبة وتحقيق الأخوة فيما بيننا، وأن يجعلها فرصة للتدرب على الأخلاق الإسلامية التي وصف الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بها، فقال: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً [الفتح:29].

    أيها الإخوة: لقد عشنا سنة مضت في مخيم كهذا المخيم، ولا زالت ذكرى تلك الأيام التي قضيناها فيه ماثلة في أذهاننا، وما دفع الإنسان إلى المشاركة في هذا المخيم إلا ما رآه في تلك الأيام من التجاوب، والمحبة، والود، والأخوة التي جعلت الإنسان ينسى جميع الأشياء التي خلفها وراءه، ويعيش لحظات من الأخوة الإسلامية، والصفاء، (لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، ثم لم يجدوا إلا أن يجالدونا عليه بالسيوف لجالدونا عليه).

    فالحمد لله الذي جعلنا من أهل هذه الخصال، ومن أهل هذه الصفات، فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يزيدنا منها وأن يعيننا على أنفسنا.

    1.   

    الفرق بين الصورة والحقيقة

    أيها الإخوة: موضوع هذه المحاضرة -كما سمعتم- هو بعنوان: (بين الصورة والحقيقة) ولا أحب أن أتحدث طويلاً؛ لأن الحديث قد يكون فيه نوع من الملل، ولذلك فيمكن أن أتحدث بعض الوقت، لأترك فرصة لبعض الأسئلة التي قد تدور في الأذهان، وجوهر الموضوع الذي أريد أن أشير إليه إشارة عابرة، هو أننا نعاني -نحن المسلمين- في هذه الأيام بل ومنذ فترة طويلة، نعاني من وجود الصورة وغياب الحقيقة.

    فصور الأعمال، والأقوال، والعقائد، موجودة عندنا، لكن حقائقها غائبة عنا، والعبرة دائماً هي بالحقيقة وليس بالصورة، فـتمثال الأسد ليس أسداً، فلا يُخاف، ولا يُرهب، إنما الذي يُرهب هو الأسد الحقيقي، والصورة التي من خشب لا تحكي الحقيقة المشاهدة، والأمور التي جاءنا بها النبي صلى الله عليه وسلم سواء من أمور الإيمان، أم من أمور العبادات، أم من الأقوال، أم من الأفعال، لم يكن المقصود منها مجرد صورتها الظاهرة، وإن كانت الصورة الظاهرة مطلوبة، لكن كان المقصود الحقيقي هو الحقيقة نفسها، ولأضرب على ذلك بعض الأمثلة:

    لقد طلب الله سبحانه وتعالى منا في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه سلم أن نؤمن به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، ونؤمن باليوم الآخر، وما فيه من جنة ونار، ونؤمن بالقدر، وبالموت، هذه الأشياء طلب منا الله سبحانه وتعالى الإيمان بها، وقطعاً -والحمد لله- أن كل مسلم لا يشك في هذه القضايا من حيث الشك العقلي، فهو مقتنع بها، وما صار مسلماً إلا بذلك، لكن انظر وقارن: هذه الأشياء -التي نحن بحمد الله جميعاً مؤمنون بها- فستجدها هي نفسها الأشياء التي كانت الأجيال الأولى من المؤمنين أيضاً مؤمنة بها، فانظر كيف فعلت هذه الأشياء في واقعهم، ثم انظر كيف فعلت في واقعنا، تدرك أننا نحن نعيش الصورة، وهم كانوا يعيشون الحقيقة.

    1.   

    الحقيقة عند الصحابة

    كان الرجل من الصحابة -مثلاً- يأتي من الجاهلية، جاهلاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، غير مؤمن بشيء من أمور الدين، ولا بأخلاق، ولا بخصائص جميلة، فيقف أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فيخبره الرسول عليه الصلاة والسلام بأمور الإسلام والإيمان، وما يجب عليه، وخلال جلسات قليلة، أو ساعات قليلة، نجد هذا الإنسان قد انقلب خلقاً آخر، وتغير تغيراً جذرياً، تغير في سلوكه، وفي أخلاقه، وفي شخصيته، وفي نظراته، وفي تصرفاته، حتى كأنه هو ليس الشخص السابق، ولذلك صار يظهر منهم البطولات التي يقف الإنسان أمامها مبهوراً وهو يقرؤها على صفحات الكتب -مثلاً-، يستغرب كيف وصل بشر من البشر إلى هذا الحد، وأحياناً خلال فترة قصيرة جداً.

    قصة حرام بن ملحان

    انظروا على سبيل المثال للقصة التي حكاها لنا الإمام البخاري في صحيحه، وكثيراً ما أقف عندها مستغرباً ومتعجباً.

    {بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مجموعة من أصحابه إلى أناس يدعونهم إلى الله سبحانه وتعالى، وكان من هؤلاء الصحابة: حرام بن ملحان، وهو خال أنس بن مالك، فذهبوا إلى هؤلاء القوم، فلما اقتربوا منهم، قال لهم حرام بن ملحان: دعوني أنا أذهب رسولاً إلى هؤلاء القوم طليعة لكم، فذهب إليهم، ووقف أمام زعيمهم، وهو: عامر بن الطفيل يدعوه إلى الله، ويبلغه رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبين له، ويقرأ عليه القرآن، وبينما كان هذا الرجل -وهو حرام بن ملحان- مستغرقاً في شرح الإسلام لهذا الكافر العنيد، جاء رجل من خلفه؛ فأشار إليه هذا الكافر أن اقتل حرام بن ملحان.

    وكان من عادة العرب حتى في كفرهم وجاهليتهم، أنهم لا يقتلون الرسل، وهذا عرف سائد عندهم، لكن لما صارت المعركة بين الإسلام والكفر، نسي العرب كل عاداتهم، وتقاليدهم في سبيل حرب الإسلام؛ فأشار عامر بن الطفيل -هذا الكافر العنيد- إلى رجل خلف حرام بن ملحان يأمره بأن يطعنه، واسم الرجل الطاعن: جبار بن سلمى، فجاء جبار هذا وأخذ الخنجر وسدده إلى بطن حرام بن ملحان وهو يتكلم، وفوجئ بهذا، فظهر الدم وبقوة، وانفجر من بطنه } هذا موقف -إلى الآن- طبيعي.

    لكن الأمر الذي تقف عنده مستغرباً، وخاصة حين تعلم أن القصة صحيحة -كما قلت لكم- وفي صحيح البخاري، أن حرام بن ملحان لما فار الدم من جوفه استقبل الدم بيديه هكذا، حتى امتلأت يداه من الدم، ثم نثره على رأسه ووجهه، وقال: [[فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة]] سبحان الله! الدنيا والحياة هي كل شيء، هي رأس مال الناس، هذا الرجل الآن وهو يغادر الدنيا، يقول: (فزت ورب الكعبة) لماذا فاز؟

    لأن الدنيا عنده ليست كل شيء، فهو مؤمن، يدرك أن الدنيا ليست إلا مرحلة إلى الآخرة، ويدرك أن الميتة التي ماتها في سبيل الله هي مهر دخوله الجنة -بإذن الله- ولذلك قال: (فزت ورب الكعبة) إلى الآن والقصة -كما قلت- لكم في البخاري.

    تذكر بعض المصادر الأخرى، أن الرجل الذي طعن حرام بن ملحان وهو جبار بن سلمى، وقف مستغرباً، كيف أن هذا الرجل الآن يلفظ أنفاسه، ويغادر الدنيا، ويترك زوجته، وأولاده، بل ويترك الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنيا، في الحياة، يغادرها إلى الآخرة، ومع ذلك يقول: فزت ورب الكعبة، لماذا؟!

    بماذا فاز؟!

    هذا الإنسان إذاً لابد أن عنده إيمان حقيقي بشيء آخر وراء هذه الدنيا، جعله يفرح بالموت في سبيل الله، وما زال هذا الشعور يلح على جبار بن سلمى القاتل حتى أسلم، وحسن إسلامه.

    هذه الصورة -أيها الإخوة- لماذا حصلت؟

    حصلت لأن حرام بن ملحان شأنه في ذلك شأن الصحابة كلهم، وشأن الأجيال التالية لهم: من التابعين، والمؤمنين، والعلماء، والصالحين، كانوا يعيشون الإيمان حقيقة في قلوبهم، أما نحن فهذه الصورة لا تتكرر إلا قليلاً؛ لأن الإيمان عندنا صورة وليس حقيقة، فنحن مؤمنون بأن هناك جنة وناراً، ومؤمنون بأن الإنسان لابد أن يموت، ولابد أن يكون مصيره أحد الأمرين ولا محالة، لكن الفرق: أن إيماننا صوري، وأن إيمان حرام بن ملحان حقيقي.

    1.   

    الصورة عندنا

    لينظر كل واحد منكم، ويتأمل في نفسه!!

    الإيمان بالجنة

    لو أنك تذكرت -مثلاً- الجنة، ضع في ذهنك أو تصور الجنة، وقد وصف الله لك الجنة، والله سبحانه وتعالى لا يخلف الميعاد، وهو العليم الخبير: وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14] فحينما يذكر لك الله وصف الجنة، لابد أن هذا الوصف دقيق جداً، وأيضاً هو وصف كما قال الله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً [البقرة:25].

    فلا يمكن لأحد أن يتصور الجنة تصوراً حقيقياً كما هي، إنما يُقرِّبُها، وإن الجنة فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، إنما لا يمكن للإنسان أن يتصور ما في الجنة أبداً، مهما يبلغ به من الخيال لا يمكن أن يتصور هذه الجنة، ثم تصور أن هذه اللذات التي في الجنة، وأعظمها رضوان الله، ولذة النظر إلى وجهه الكريم، هذه اللذات لا يحول بينك وبينها إلا أن تموت، أنت الآن قد تكون سعيداً في حياتك بعض السعادة، لكن هذه السعادة الكلية الموعودة للمؤمنين، لا يحول بينك وبينها إن كنت مؤمناً إلا أن تموت فقط.

    فلو سيطر هذا الشعور سيطرة حقيقية على الإنسان لكان يقلب نفسه ظهراً على عقب، ولأصبحت الحياة عند الإنسان مرحلة عادية، وتكررت البطولات التي كنا نسمعها في التاريخ عن آبائنا وأجدادنا.

    الإيمان بالموت

    تصور معي نموذجاً آخر للفرق بين الصورة والحقيقة: قضية الموت:

    الموت يؤمن به حتى الكفار، وقد حكى الله عنهم في القرآن أنهم يقولون: أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً [المؤمنون:82] فالكافر نفسه يعرف أنه سيموت، وأنه سيكون تراباً -فضلاً على الموت- ومع ذلك جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: {لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع... وذكر منها ويؤمن بالموت}.

    فهل يوجد أحد لا يؤمن بالموت؟

    فمن حيث العقل لا يوجد أحد إلا ويؤمن بأنه سيغادر هذه الدنيا، بما معناه أنه سوف يموت، إذاً ما هو المطلوب منا؟

    ماذا يريد منا الرسول عليه الصلاة والسلام حين يطلب منا أن نؤمن بالموت؟

    ما دام أنَّا عارفون أن الموت واقع، بل والكفار أيضاً عارفون أن الموت واقع، فلماذا اشترط الرسول صلى الله عليه وسلم حتى نكون مؤمنين أن نؤمن بالموت مثلما نؤمن بالبعث بعد الموت.

    أقول: ما هو الشيء الذي يطلبه منا الرسول عليه الصلاة والسلام؟

    يطللب منا ذلك لأمرين:

    الأول: أن نؤمن بما يحصل بعد الموت، -على سبيل المثال- بعذاب القبر، بنعيم القبر أيضاً، بفتنة الملكين في القبر هذا شيء.

    والأمر الأساسي المطلوب منا -أيضاً- أن تَحوَّل القناعة بالموت عندنا من صورة إلى حقيقة، هي الآن موجودة عندنا هي عند غيرنا من الناس، لكن وجودها صورة فقط، من حيث العقل أنا عارف أني سأغادر الدنيا، لكن يوجد فرق بين إنسان عارف أنه سوف يفارق الدنيا، فيقول: هات، دعني أعب من اللذات عباً، ودعني أستمتع بالملذات؛ فإن العمر قصير، مثلما يقول عمر الخيام في رباعياته وغيره من الفساق، الذي يقول: (هات اسقني من الخمر، واعطني من اللذات، لأتمتع لأن العمر قصير).

    فرق بين إنسان يؤمن بالموت بالطريقة هذه، وبين إنسان يؤمن بالموت من منطلق أن الموت هو بداية وليس نهاية، أن الموت بداية للمراحل الحقيقية من الآباد والآمال التي لا تنتهي.

    ومن هنا يكون الموت دافعاً له ليعمل، ويجاهد في سبيل الله، يجاهد نفسه، ويجاهد من حوله، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، يتعلم، إلى آخره.

    فالفرق بين الصورتين في ذلك، صورة الموت كحقيقة واقعة موجودة في أذهان الجميع، لكن تحَوُّل هذه الصورة إلى شعور في القلب، ويقظة في الضمير هي المطلوبة.

    1.   

    حقيقة الصبر عن الشهوات

    ولذلك ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم -ضمن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلى ظله-: {رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله}. هذا الرجل يعيش حقيقة الخوف من الله، ولذلك كف عن المعصية.

    وفي قصة الثلاثة الذين انطبق عليهم الغار، حتى إن كل واحد منهم دعا الله بعمله الصالح، فأحدهم قال -ما معناه: {إنه كانت له ابنة عم يحبها كأشد ما يكون الحب، فاحتاجت في يوم من الأيام فطلبت منه مالاً، فأبى إلا أن تخلي بينه وبين نفسها؛ ولأنها كانت محتاجة فاضطرت إلى ذلك، فلما أعطاها المائة دينار أو أكثر من ذلك، وجاء إليها، قالت له: يا فلان؛ اتق الله! ولا تفض الخاتم إلا بحقه} فتذكر، فابتعد عنها وترك عندها الدراهم، ما الذي دفعه؟!

    الآن الدافع قوي إلى الفاحشة، رجل شاب أمامه امرأة شابة جميلة يحبها وقد خلت بينه وبين نفسها، كما في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: امرأة ذات منصب وجمال، وهي التي دعته إلى نفسها -أيضاً- ومع ذلك كله وُجِد عند هذا الرجل مانع أقوى من هذا الدافع، وجد عنده قوة إيمان تحول بينه وبين مقارفة هذه المعصية.

    انظروا إلى سورة يوسف عليه الصلاة والسلام: رجل في قصر الملك -قصر العزيز- في بلد لا يعرفه أحد فيه، وهو في منتهى الجمال، وفي حيوية الشباب، تأتيه امرأة العزيز وهي لابد أن تكون جميلة، وهي سيدته التي تأمره فلا يستطيع أن يعصي لها أمراً، وهو لا يخاف من فضيحة دنيوية؛ لأنه لا أحد يعرفه، ومستبعد أن يفتضح الأمر، ومع ذلك كله تراوده عن نفسها وتبذل له الأساليب والحيل وتهدده بالسجن، ومع ذلك يقول: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33] هل كان يوسف -مثلاً- ليس عنده حيوية الشباب؟ أبداً، يوسف كغيره من الناس، ويثور في نفسه ما يثور في نفس غيره، وقد ركب الله في نفس كل إنسان أن يكون عنده ميل إلى المرأة، لكن قوة الإيمان جعلته يستعلي على كل هذه المغريات ويثبت بتوفيق من الله إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24].

    إذاً، الإيمان الذي يمكن أن يدفع إلى الأعمال الصالحة، وإلى الرجولة، وإلى البطولة، والإيمان الذي يمكن أن يحجز الإنسان عن المعاصي والموبقات، ليس هو الإيمان الصوري الذي نحفظه بألسنتنا، (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره) ليس ترديد هذا الكلام هو الذي يجعل الإنسان يمتلك الدافع القوي إلى الطاعات، والمانع القوي عن المعاصي والموبقات؛ إنما الإيمان الذي يدفع الإنسان إلى عمل الخير، ويحجز الإنسان عن العمل السيئ، هو أن تتحول هذه الكلمات إلى حقائق في القلب، ويصبح الإنسان يرى ويتصور الآخرة كأنها رأي العين، ويعلم أن الله يراقبه حيثما كان، وهذه التي وصفها الرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال في تعريف الإحسان {أن تعبد الله كأنك تراه}.

    1.   

    استشعار المراقبة

    تصور -يا أخي- لو أنك -فعلاً- تشعر أن الله يراقبك، تصور للحظة فقط هذا المشهد، أنت ذاهب وآيب، تصور أن الذي أبدعك، وأوجدك في هذه الدنيا، منّ عليك، وأعطاك النَفَسَ الذي تتنفسه، والماء الذي تشربه، والطعام الذي تأكله، الذي أنعم عليك بكل شيء؛ تصور أنه يراقبك، وقد قال لك: افعل كذا واترك كذا، بأي نفسية سوف تعصيه، وبأي نفسية سوف تخالف أمره، الحقيقة أن مع الإيمان القوي يبعد جداً أن يقع الإنسان في معصية، أو أن يخالف عن طاعة؛ لأنه يشعر -فعلاً- بالرقابة الإلهية، ولذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن} هل معنى ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً من هذه المعاصي يكون قد كفر وخرج من الإسلام وهو يعلم أنها حرام هل يكفر؟

    لا يكفر كفراً أكبر، لا، إنما المقصود أن حقيقة الإيمان خرجت من قلبه -حقيقة الإيمان بمعنى كمال الإيمان- الإيمان القوي الرادع عن فعل المعصية، خرج من قلبه في تلك اللحظة، ومعنى ذلك أنه لو تصور -فعلاً- وهو يزني أن الله يراه، هل يمكن أن يقع هذا العمل؟ أبداً؛ لكن في لحظة المعصية غاب الإيمان الحقيقي من القلب، وبقيت الصورة، ولذلك -أيضاً- ورد عن ابن عباس أنه قال: [[إن العبد إذا زنى ارتفع الإيمان من قلبه حتى يكون فوق رأسه كالظلة، فإذا تاب رجع إليه]] إذاً الإيمان الحقيقي هو الذي يخرج أو يغيب أثناء فعل المعصية، فإذا تاب الإنسان من فعل هذه المعصية، وأقلع منها، عاد إليه الإيمان.

    1.   

    الحرص على تحويل العلم إلى عمل

    ولذلك أقول: إننا -أيها الإخوة- ليست حاجتنا الآن فقط إلى أن نعلم -وإن كان العلم مطلوب بلا شك- لكن حاجتنا -أيضاً- إلى أن نحقق ما نعلم، بمعنى أنك أنت الآن تصلي الصلوات الخمس، وربما تحدث نفسك كثيراً بأني أريد أن أدرب نفسي على أن أقوم أصلي من الليل -مثلاً- هذا طيب، وصلاة الليل مطلوبة بلا شك، لكني أقول: وأنت تفكر في أنك ستقوم الليل، أو سوف تزيد من النوافل التي ستصليها، فكر في أمر آخر: الفرائض التي تصليها هل تؤديها بصورة حقيقية أم أنها شكل صوري فقط؟

    الذي أعتقد أنه لو أديت الفرائض بشكل حقيقي، سوف تسهل عليك النوافل، وسوف يسهل عليك القيام، بل سوف تصبح العبادات عندك لذة بعدما تجاهد نفسك على ذلك؛ لكن لأنك تؤدي الفرائض بشكل صوري أكثر مما تؤديها بشكل حقيقي؛ ضعف تأثيرها، انظر معي في صفات المصلين في القرآن الكريم، قال تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج:22-34] هذه صفات المصلين، فأعظم صفة وصفهم الله بها أنهم المصلون (إلا المصلين) ثم ذكر باقي الصفات، كلنا نصلي -والحمد لله- لكن نفتقد كثيراً من الصفات، لأن الصلاة عندنا تحولت من حقيقة إلى صورة.

    1.   

    تحويل الأعمال من صور إلى حقائق

    فالأمر الذي أدعو نفسي إليه وأدعوكم ثانياً إليه، أن نحرص على أن نحول أعمالنا من صور إلى حقائق، لا مانع من زيادة العمل، ومضاعفة العبادة، والذكر؛ لأن هذا مما يساعد على تحويل الصورة إلى حقيقة، لكن يجب أن نركز في جهاد قلوبنا، لنستطيع أن نحول إيماننا -أقصد بالإيمان معناه الكامل الذي يشمل الإيمان القلبي، ويشمل نطق اللسان، ويشمل عمل الجوارح- نحول هذه الأشياء كلها من كونها صوراً إلى كونها حقائق، هذا ما أحببت أن أقول في هذه العجالة السريعة، وأستغفر الله لي ولكم.

    1.   

    الأسئلة

    في تفسير (وهَمَّ بها)

    السؤال: ما هو المقصود بقوله تعالى عن يوسف عليه السلام: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ [يوسف:24]. أرجو التوضيح؟

    الجواب: العلماء والمفسرون، درج كثير منهم على أن يفسروا (الهم) هنا بمعنى غير متبادر، فيقولون -مثلاً- كما سمعتم ربما في القصيدة المشهورة:

    وهمت به لكماً وهم بضربها

    يقول: هي همت به تريده، وهو هم بها يضربها، ويقصدون من وراء ذلك أنهم ينـزهون يوسف عليه السلام من ذلك باعتباره نبياً مرسلاً أن يهم.

    ولكن الذي يبدو -والله أعلم- أن الآية على ظاهرها، وأن يوسف عليه السلام حصل منه ما أخبر الله بقوله: (وهمَّ بها) على ما يتبادر من ظاهر المعنى، وما معنى الهم؟ الهم: هو حديث النفس، أو هو نوع من حديث النفس، وهذا أمر ليس هناك ما يدل على أنه لا يمكن أن يقع من يوسف عليه السلام أو من غيره، فهذا الذي يظهر من معنى قوله: (وهمَّ بها) ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى أصحاب الجنة قال: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40].

    فهذا الإنسان الذي خاف مقام ربه هل حصل في نفسه هوى أو لم يحصل؟

    حصل لكن هل استجاب لهذا الهوى؟

    لا، وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40] والهوى: تحرك في نفسه، لكن الفرق هنا بينه وبين الإنسان الذي أتبع نفسه هواها، أن ذلك الإنسان كلما هوي شيئاً فعله، أما المؤمن فإنه ينهى النفس عن الهوى، فيدور الهوى في نفسه فيعصيه، وهذه ميزة المؤمنين، وهذا ما يبدو لي أنه قرره عدد من العلماء المحققين، أيضاً بقية الآية يدل على هذا المعنى وهو قوله: وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24] فالظاهر ما قررت، (همَّ بها) يعني: جاس في نفسه حديث بهذه المناسبة حينما أقبلت عليه، ولكن لا يعني ذلك أنه عزم على فعل المعصية؛ لأن هذا لا يفهم من كلمة (وهمَّ بها) نعم فالهم -كما قلت-: هو نوع من حديث النفس دون العزم، -فمثلاً- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {ولقد هممت أن آمر بالصلاة} يعني هم ولم يفعل، حدثته نفسه بهذا الأمر لكن لم يفعل.

    مجاهدة النفس

    السؤال: فضيلة الشيخ! ما هو الذي يعين على سلوك هذا السبيل الذي يؤدي إلى الحقيقة؟

    الجواب: هذا موضوع طويل، المعين على سلوك هذا السبيل، يمكن أن أقول: لو تحدثنا عن هذا السبيل لكان مجال تطبيقه هو حياة المسلم كلها؛ لأن المؤمن لا يزال في جهاد من يوم أن يبلغ سن التكليف إلى آخر لحظة من عمره، وهو في جهاد، هذا الجهاد المطلوب هو الذي به تتحول الصورة إلى حقيقة، وربما أكثركم سمع أشياء كثيرة جداً بهذا المجال: الصلاة مثلاً، قراءة القرآن، صحبة الطيبين، طلب العلم، كثرة الذكر، الكف عن المعاصي، إلى غير ذلك من الأعمال التي تقوي الإيمان.

    ولكن هناك أمر آخر هو الذي ربما أشرت إليه إشارة عابرة، وهو: مجاهدة القلب، التذكر، تذكر هذه المعاني بحيث أحرص على تربية نفسي على هذه الأمور، فأحياناً تمر بك لحظات مثلما ذكرت، تتصور بها الجنة، ونعيم الجنة، وأنه لا يحول بينك وبين الاستمتاع بهذه الأشياء إلا الموت فقط، فلما تسيطر هذه الفكرة عليك تجد أنها -فعلاً- حركت قلبك.

    العذاب -أيضاً- عندما تمر بك لحظات تتفكر بعذاب جهنم وكيف حجم العذاب، وطاقة الإنسان، أو عذاب القبر -مثلاً- وأنه لا يحول بين هذا الإنسان وبين هذا العذاب إلا أن يموت.

    هذه الأشياء التي تجعل المعاني تتحول إلى حقائق في القلب في الحقيقة، ولذلك أقول لا تيأس حاول ثم حاول ثم حاول ثم حاول، وإذا حصلت على أدنى النتيجة فافرح بها؛ لأن الشيطان يأتي الإنسان وهو يحاول الترقي والصعود فيقول له: أنت بذلت جهدك، وحاولت وحاولت -مثلاً- حاولت أن تخشع في الصلاة ولم تنجح، حتى يقنع الإنسان، فيقول له: اجعل نفسك مثل غيرك، صلِّ كصلاة غيرك ولا تحرص على العناية بالنية.

    بل ربما يكون للشيطان مدخل أخطر من هذا، أنا اقو ل لكم هذا وأنا أتوقع أن يكون عدد منا يأتيه الشيطان من هذا المدخل، يقول لك: الشيطان عندما تبدأ تفكر في هذه الأمور وتعد نفسك للخوف من الله، وتذكر الجنة والنار، يبدأ الشيطان -أحياناً- يلقي إليك بعض الوساوس، وبعض الأوهام، وبعض الشبهات في قلبك، فيقول لك الشيطان بالطريقة هذه، يقول لك: الطريق مخيف، اجعل إيمانك مثل إيمان العوام، لا تفكر أو تحاول أن تحول الإيمان إلى إيمان حقيقي؛ لأن هذا خطأ يمكن أن يؤدي بك إلى أن تتخلى عن الإيمان بالكلية، أحياناً يأتي الشيطان من هذا المدخل، ولا أدري هل هو واضح أم لا؟

    أيضاً وللمزيد من الإيضاح: عندما يرى الشيطان أنك توجهت إلى تحويل إيمانك إلى حقيقة وحاولت ملئ قلبك بالمعاني الإيمانية -مثلاً- تبدأ تتذكر عظمة الله ومخافة الله فعندما يأتي الشيطان فيلقي في قلبك شبهة من الشبهات الكثيرة، التي مازال الشيطان يلقيها في قلوب الناس، فإذا رأيت أنت أن الشيطان جاءك من هذا الطريق وألقى هذه الشبهة، ضعف عزمك، جاءك الشيطان وقال لك: ربما يكون هذا الطريق الذي بدأت به الآن، طريق تحقيق الإيمان، يجعلك تفكر في أمور كثيرة، وتوسوس في أمور كثيرة، حتى يزول إيمانك، وتترك تحقيق الإيمان، ويرجع الإيمان كإيمان العوام، يصلون، ويصومون، ويقرءون وهكذا.

    فيخيفك الشيطان بالوساوس عن مواصلة الطريق، وهذا ليس بغريب؛ لأن هذه مهمة الشيطان، لكن المؤمن لا يقبل هذه الوسوسة، ويدرك أن الله عز وجل وعدنا وعداً قاطعاً في القرآن الكريم بأن نتيجة الجهاد ليست هذه، بل نتيجة الجهاد -قطعاً- هي الهداية، وهذا أمر قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69] وهذا وعد، والله لا يخلف الميعاد، المهم أن تجاهد -أولاً- وأن تجاهد في الله، فيكون جهادك لله وفي الله، وإذا حققت لنفسك هذين الأمرين فاقطع قطعاً بأنه سوف يتحقق لك الأمر الثالث، وهو: (لنهدينهم سبلنا) وإذا حدث لك نقص في الهداية، فاعلم أنه بسبب نقصٍ في المجاهدة عندك، أو بسبب نقصٍ في النية -أيضاً- لأن الإنسان قد يجاهد نفسه في أعمال الخير، ولكن لا يكون جهاده لله تماماً، يمكن أن يكون جهاده لأجل الشهرة، قد يطلب الإنسان العلم طلباً جاداً، ولو فتش في قرارة قلبه لوجد أنه يريد في المستقبل أن يكون عالماً يشار إليه بالبنان، يقال له العالم فلان بن فلان، فهذا وإن جاهد إلا أن الجهاد ليس متحققاً بالشرط الثاني وهو: فينا (جاهدوا فينا) -أي: في الله- فحقِّق الأمرين: الأمر الأول أن تجاهد -فعلاً- وتبذل الجهد، الأمر الثاني: أن يكون جهادك في الله لا من أجل فلان ولا من أجل أمر آخر.

    تخفيف العيوب

    السؤال: فضيلة الشيخ! أنا شاب أحب أن ألفت انتباه إخواني وزملائي إليَّ، فأجمل نفسي وأتشوق بالكلام، وأظهر قراءتي لهم، ولا أمتثل لأمر إخواني؛ لأني أحس أني لو أطعتهم في كل شيء لأصبحت لا قيمة لي، علماً أني أحب أن أكون عالماً ومثقفاً وعابداً، وقد أعمل بعض الأعمال التي تقرب من هذه الأشياء؟

    الجواب: نعم، الأخ يشير إلى نَواحٍ معينة قلما يخلو منها إنسان، فكلنا فينا عيوب، ونسأل الله أن لا يفضحنا، ولو علم الناس أو علم كل إنسان ما في الآخر من العيوب لربما ما وجدت الإخوة الحقيقية، لكن من رحمة الله أنه يستر على عباده في الدنيا، وإن شاء الله إذا ستر الله على عبده في الدنيا، فهذا مدعاة إلى أن يستر الله عليه في الآخرة، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر أنه قال: {إن الله يدني عبده المؤمن يوم القيامة منه، فيقول له: أتذكر ذنب كذا، أتذكر ذنب كذا، أتذكر ذنب كذا، فيقول: نعم يا رب، لا ينكر منها ذنباً واحداً، فيقول الله عز وجل أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} فنحمد الله الذي سترنا، ونسأله أن يجملنا بستره إلى يوم أن نلقاه، بل وأن يسترنا -أيضاً- في يوم القيامة، يوم تبلى السرائر.

    وأقول للأخ: ما دام أن الأمر هكذا، كل إنسان عنده عيوب، فالمفروض أن الإنسان يسوس نفسه سياسة حكيمة، ومن السياسة الحكيمة للنفس، أن الوصول للكمال لا يتم دفعة واحدة، وإنما يتم عن طريق محاولة تقليل العيوب، ومحاولة تكثير الإيجابيات والحسنات، فإذا رأيت في نفسك خصلة طيبة فنمِّ هذه الخصلة.

    مثلاً: تحب العلم، هذه خصلة طيبة نمِّ هذه الخصلة واعَتْنِ بها. تحب القراءة، تحب العبادة، هذا عمل عظيم، نمِّ هذه الخصلة، والخصال التي تنـتقدها على نفسك حاول أن تقلل منها، وحاسب نفسك، وما رأيت شيئاً أجمل وأعظم للإنسان من محاسبته لنفسه، حتى بعد أن ينتهي الموقف، نفترض أنك في موقف من المواقف تصرفت تصرفاً معيناً وانتهى الموقف، لابد أن تراجع الحساب، وتتذكر هل كان موقفي جيداً أم ضعيفاً؟

    وماذا كان يجب أن أفعل؟

    لكي تستفيد أنت من أخطائك.

    إذا كان الإنسان مطلوباً منه أن يستفيد من أخطاء الآخرين، فما المانع أن يستفيد من أخطائه هو؟

    فكل موقف يمر بك حاول أن تتذكره بعد فواته، وانظر ما هو الأجدر بك؟

    هل كان الأجدر أن تفعل كما فعلت؟

    أم أن تفعل فعلاً آخر أجمل منه وأحسن؟

    وبذلك تستطيع أن تقلل من عيوبك وأخطائك وتكثر من حسناتك وفضائلك، حتى يطغى الخير على الشر، والرجل الطيب ليس ملكاً من الملائكة، لا،إنما هو رجل تغلب حسناته على سيئاته، تغلب خصال الخير فيه على خصال الشر، لا أكثر.

    ميزان معرفة العمل

    السؤال: الحمد لله وبعد، قد يصعب على المرء معرفة حقيقة أعماله، أو بعضها: أهي من قبيل الصورة أم من قبيل الحقيقة، فهل هناك ميزان ثابت يمكن أن نحاكم إليه أعمالنا؟

    الجواب: نعم، هناك ميزتان، ولعلي أشرت إليها وهما أن الأعمال الحقيقية تترك أثراً، والأعمال الصورية لا تترك أثراً، اللهم إلا قليلاً جداً، فأنت إذا صليت وانتهيت من الصلاة، اسأل نفسك، أنت قمت بعبادة ووقفت بين يدي الله، لكن بعد ما أنهيت الصلاة هل تحس بأن قلبك تغير وازداد أم لا؟

    إذا لاحظت أن فلاناً الذي دخل بالصلاة هو فلان الذي خرج من الصلاة، ربما كان قبل الصلاة يفكر بأمر منكر، حتى في أثناء الصلاة يفكر فيه، وبعد الصلاة لا زالت النفس تدعوه إلى هذا المنكر، إذاً الصلاة هنا صورة وليست حقيقة، لكن إذا كنت أحس إذا خرجت من الصلاة -فعلاً- أحس بانتعاش بقلبي، وأحس بيقظة، وأحس بحرارة من الإيمان ولو شيئاً قليلاً، فهذا دليل على أن الصلاة فيها شيء من الحقيقة، ولو بعض الحقيقة.

    انظروا أيها الإخوة: المسلمون كانوا يصلون صلاة الخوف وهم في وجه العدو، ويركعون، ويسجدون، أو يومئون، مما يوحي أن الصلاة أمر عظيم لا يشغل عنه شيء، فكيف بالإنسان منا وهو يصلي بحال الأمن والاطمئنان، وتوفر كل ما يحتاجه، ومع ذلك لا تجتمع الهموم والهواجس عند الإنسان إلا في الصلاة، وهذا مصداق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان إذا أقيمت الصلاة أقبل حتى يحول بين الإنسان وبين صلاته، يقول له: اذكر كذا، اذكر كذا} هذا هو الحاصل، يحول الشيطان بينك وبين صلاتك حتى إنك -أحياناً- لا تستذكر الصلاة إلا عند التسليم أو قرب التسليم، وأحياناً يتذكر الإنسان أنه غافل عن الصلاة وهو -مثلاً- في التشهد الأخير، فيقول: هذه الصلاة انتهت، ليس هناك فائدة أن أخشع فيها، لكن في الصلاة القادمة.

    أقول: لا، حتى لو لم تمتثل بالخشوع في الصلاة إلا قبل التسليم وأنت تدعو بالدعاء: (أعوذ بك من عذاب جهنم) حاول أن تستدرك الباقي، وحاول أن تستحضر معنى ما تقول: فهذا ميزان لا يخطئ في الفرق بين الحقيقة والصورة، الأعمال الحقيقية تترك أثراً على الإنسان والأعمال الصورية لا تترك أثراً.

    زيادة الإيمان ونقصانه

    السؤال: من نعم الله تعالى علينا أننا نتأثر بما يقال، ولكن هذا التأثير قد يكون وقتياً عند بعضنا، فما هو الطريق إلى المحافظة على هذا التأثير وفقك الله؟

    الجواب: أما الطريق للمحافظة على هذا التأثر، فكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {لما جاء حنظلة إلى أبي بكر فقال: يا أبا بكر نافق حنظلة، قال أبو بكر: وما ذاك؟

    قال: والله إنا نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حال نسمع القرآن والذكر؛ فإذا خرجنا من عنده خالطنا الأولاد، والأموال، والضيعات ونسينا كثيراً، فقال أبو بكر: وأنا والله كذلك، فذهبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: لو تكونوا في كل حال كما أنتم عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات أو في أفواه السكك }.

    فالإنسان لا يمكن أن يستمر على حال من الإشراق والارتفاع، الإنسان له خط -كما يسمونه بياني- أحياناً يرتفع وأحيان ينخفض، وهذا أمر يجب أن لا نتضايق منه، بل قد قرره الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال:{لكل عابد شرة -الشرة هي الحدة والارتفاع- ولكل شرة فترة} يعني: كل عابد له حالة يرتفع فيها ويلين قلبه ويشرق، وله حالة فترة يفتر فيها ويضعف ويتحول إلى حال طبيعي أو أضعف من حال طبيعي، {فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى بدعة فقد هلك} المهم أن يكون عندك حد أدنى لا تنـزل عنه أبداً، فإذا وجدت من نفسك خفة فاستجب لها واعبد الله واقرأ، وإذا رأيت من نفسك فتوراً أيضاً لا تتضايق، حاول أن ترفع نفسك قدر ما تستطيع، وتدرك أن هذا أمر طبيعي.

    ومما يعين الإنسان على أن يكون قوياً في كل حال أن يكثر من مجالس الذكر، فما دام أن الله رزقك قلباً متقبلاً للخير، فيجب أن تكثر من سماع الذكر، وسماع الوعظ، وسماع القرآن، بحيث يكون الغالب عليك هو أن تكون نفسك مرتفعة، وقابلة للخير، ومتأثرة مما تسمع.

    المداراة وعدم تطبيق الحقائق

    السؤال: كثير من الناس يردد أن هذا العصر هو عصر الماديات وليس عصر الحقائق، وأن الحقائق لا تنفع في هذا الوقت، بل لا بد من المجاملة في جميع نواحي الحياة، ويصعب تطبيق الحقائق؛ لأن المرء يفقد مقوماتٍ كثيرة في مقومات الحياة؟

    الجواب: بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه (باب: ما جاء في مداراة الناس) فنحن بدلاً من كلمة المجاملة قد نجد كلمة المداراة، كلمة أدق في التعبير، ووضع تحت هذا الباب حديثاً عن عائشة رضي الله عنها { أن رجلاً من الأعراب استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، بئس أخو العشيرة هو! فلما دخل الرجل، هش الرسول صلى الله عليه وسلم في وجهه واستقبله ورحب به، فلما خرج قالت عائشة: يا رسول الله! قلت في هذا الرجل ما قلت، ثم بششت في وجهه! فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يا عائشة! إن من شر الناس من تركه الناس أو من ودعه الناس مخافة شره}.

    فمداراة الناس مطلوبة ولا تنقض الحقائق، والإنسان لا بد أن يكون حكيماً في تصرفاته، ولا شك أن الناس في هذا الزمان ابتعدوا عن الخير والحق، وضعف إيمانهم، وكثرت الانحرافات عندهم، فلو جاء إنسان يريد أن يحمل الناس على طريق لا ينحرف قيد أنملة، ربما لا يستفيد من الناس؛ بل ربما أنه ينفرهم.

    فالمطلوب من الإنسان أن يحرص على تنمية نفسه وترقيتها، وفيما يتعلق بالناس يأتيهم بالأسلوب اللين الحكيم اللبق، وإذا كان مطلوباً المجادلة بالتي هي أحسن مع غير المسلم فمن باب أولى مع المسلم أن تلاينه، وتلاطفه، وتأتيه شيئاً فشيئاً.

    فمثلاً: لو لاحظت على إنسان معصيتين، إحداهما: صغيرة، والأخرى: كبيرة، قد يكون من غير المناسب أن تأتي له وتقول له: يا أخي! أنت عندك كذا، وعندك كذا، فتسرد عليه مجموعة من المعاصي، وكأنك تقول له: إنك مجموعة من الأخطاء، فربما لا يقبل منك شيئاً أبداً، لكن اذهب إليه وتحدث معه، وأثنِ عليه ببعض الخصائص التي فيه، وكل إنسان لا يخلو من خير ولو خصلة من خير، امدحه بالخصلة هذه، اثنِ عليه بالخصلة هذه، أو بموقف طيب له، فإذا شعر أنك قد أنصفته ذكرت له الخصلة الكبيرة التي وقع فيها، فإذا استجاب لك، بعد فترة يمكن أن تذكر له الخصلة الصغيرة وهكذا، فالمداراة والأسلوب اللين لا شيء فيه، والحقيقة يمكن يكون قصد السائل أمراً آخر غير هذا، فما فهمت من السؤال إلا هذا.

    الاستمرار على المجاهدة

    السؤال: فضيلة الشيخ، أنا أحمد الله على المحافظة على الصلوات، ولكن الصلاة صورة، وأقول بعد الانتهاء من الفريضة: سوف أجعل الصلاة القادمة حقيقة، ولكن بدون فائدة؟

    الجواب: قلت قبل قليل: لا تيأس، وموضوع المجاهدة ليس بالأمر البسيط؛ لأنه أمر يتعلق بالقلب، والتعامل مع القلب ليس بالسهل، وليس بإمكاني أن أحشو قلبي علماً، وإيماناً، وإخلاصاً، وإلا كان كل واحد منا ملأ قلبه بهذا، ولكن تجاهد كثيراً وتحصل على شيء، قد يكون في مقياسك قليل، لكنه في الحقيقة عظيم جداً، يعني قطرة من إيمان في قلب واحد منا قد تسعد هذا الإنسان في دنياه وأخراه.

    انتزاع النفس من البيئة الفاسدة

    السؤال: فضيلة الشيخ! إذا حدثتني نفسي في فعل معصية، فما هو السبيل لكبت هذا التفكير وإبعاده؟

    أرجو الجواب بوضوح وجزاكم الله خيراً؟

    الجواب: إذا همت النفس بالمعصية فَتَذكَّرَ أن الله يراك حيثما كنت، ولست مستطيعاً أن تعصي الله إلا في أرض الله، ولن تستعمل هذه المعصية بجوارحك إلا بما خلق لك الله ووهبك، تذكَّر أن الله عز وجل قادر عليك وعلى الانتقام منك في هذه المعصية، فحينئذ ستجد نفسك تقلع عن هذه المعصية.

    لكن قد يكون تفكيرك بهذه الأشياء ما وصل إلى أعماق القلب، وقد يكون الدافع إلى المعصية أكبر، إذا كان الدافع إلى المعصية كبير والرادع عنها من الإيمان ضعيف، تغلبت جيوش المعاصي على جيوش الإيمان، وهذا أمر بدهي معروف، ولابد أن تفكر لماذا انتصرت نفسك عليك؟ لماذا انتصر الشيطان عليك ودعاك إلى الوقوع في هذه المعصية لنقص إيمانك.

    إذاً: اعمل على زيادة هذا النقص في الإيمان، كما أن هناك أنواعاً من المعاصي يدرك الإنسان لماذا دعته نفسه للوقوع فيها.

    فمثلاً: الإنسان -أحياناً- يعرض نفسه للمعصية، قد يجلس أحياناً مع أناس يحرضونه عليها، قد يضع نفسه في مواضع تدعوه إلى الإثارة، فهذه الأنواع من المعاصي، لا بد أن تنـتـزع نفسك من البيئة الفاسدة.

    الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أراد أن يتوب، كان من ضمن الوصية التي أوصاها له العالم: هناك أناس بأرض كذا فاذهب إليهم، فذهب إليهم ومات في الطريق، ما هو الهدف من كون هذا العالم أوصاه أن ينتقل من بلده إلى بلدة فلان، فإن فيها قوماً يعبدون الله، لماذا؟

    ليبتعد؛ لأن هذا الإنسان قتل تسعه وتسعين نفساً مما يدل أن عنده شيئاً من الجريمة المتأصلة في نفسه، فما دام هو في أرض سوء فإنه لا يستطيع أن يتخلص منها.

    لكن لو انتقل من هذه الأرض إلى أرض أخرى يعبد الله فيها لساعده الجو على الخروج من هذا المأزق.

    والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756269873